الخسوف١

في عزِّ الشتاء، وقبل بداية العام الجديد بأيام، كانت سيارة كاديلاك فارهةٌ تشقُّ طريقها بصعوبة في الشوارع المغطَّاة بالثلوج في قريةِ فلوتنجن الواقعة على أطراف وادي فلوتنباخ، ثم توقفتْ أمام ورشة سيارات. بجهدٍ بالغٍ حاوَلَ فالت لوتشر — وهو عملاق يبلغ المترين تقريبًا، شَحَنَ نَفْسه مع سيارته بالطائرة من كندا إلى كلوتن — أن يخرج من السيارة. لوتشر ضخمُ البدن، مفتولُ العضلات، في الخامسة والستين، شَعره رَماديٌّ مجعَّد، ولحيته المنفوشة شيباءُ تتخلَّلها خصلاتٌ سوداء. كان يرتدي مِعطفًا من الفرو وحذاءً برَقَبة من الفرو أيضًا. «سلاسل للسير على الجليد»، أمر لوتشر صاحبَ الورشة، ثم سأله بلهجةِ أهل المنطقة عمَّا إذا كان ابن فيلو جرابر. إنَّه أصغر أبنائه، أجاب صاحب الورشة مبهوتًا لأنَّ المسافر يتحدث لغةَ منطقة بيرن، ليس هذا فحسب، بل أيضًا لهجةَ أهل فلوتنباخ، ثم أضاف أن جرابر تُوفِّي منذ ما يزيد على 30 سنة. هل كان يعرف والده؟ «عرفتُه أيام كان تاجرَ درَّاجات»، أجاب لوتشر. تطلَّع إليه صاحبُ الورشة مستريبًا، ثم سأله في النهاية: «على فين العزم؟»

– «إلى أعلى الوادي»، أجاب لوتشر. «لن تستطيع السيارة الصعود إلى أعلى، حتى إذا استخدمت السلاسل»، قال صاحب الورشة مزمجرًا، «الصيادون واللصوص الذين يعيشون هناك يمانعون في شراء كاسحة جليد، حتى سيارة البريد لا تصعد إليهم». «رغم ذلك، ركِّب السلاسل على الإطارات»، قال لوتشر وهو يخبط قدمَيه فوق الجليد، بينما انصرف صاحب الورشة إلى تنفيذ ما طُلب منه. بعد أن دفَعَ لوتشر الأجر، ركبَ السيارة وقادها صاعدًا إلى الوادي مارًّا بأطفالٍ يلهون بزحَّافات الجليد، ثم انزلقت السيارة بسرعة، وترَكَ لوتشر آخر بيوت الفلَّاحين خلفه. كلما انبسط الطريق أمامه، زاد السرعة، إلى أن اصطدم من الجانب بعمود تليفونات انكسر على الفور، غير أن الكاديلاك عادتْ مرةً أخرى إلى الطريق الصاعد مُخترِقةً غابة، إلا أنَّها انزلقتْ في أحد المنحنيات رغم السلاسل؛ فهبطتْ على التلِّ المُنحدِر، وانغرزت وسط الثلوج المتراكِمة أمتارًا عاجزةً عن مواصلةِ السَّير. بذَلَ لوتشر جهدًا كبيرًا للخروج من السيارة وسط الثلوج التي عاقتْه عن فتْحِ الباب. وقَفَ بين الثلوج التي وصلتْ إلى كرشه، وشقَّ طريقه للوصول إلى الشارع، لكنَّه انزلَقَ ثانيةً، فحاول أن يجِدَ طريقه مرةً أخرى، إلى أن وقَفَ في الشارع ينفض ثيابه؛ فتساقَطَ الثلج من فروه. واصَلَ الخوض في الثلوج. في بعض الأحيان لا يمكن التَّعرف على الشارع. أشجارُ التَّنُّوب البيضاءُ ذاتُ الأغصان الثقيلة المائلة تكوِّن معًا كتلةً جليديةً لا هيئة لها. غاص المسافر في الثلوج وكأنه في مجرًى جليدي. السماء فوقه ذاتُ لونٍ فضِّي مُبهِر.

تعثَّر لوتشر في شيءٍ، وقَعَ، ونهَضَ، ثم نزَعَ ما تعثرتْ فيه قدمَاه، فأمسَكَ بين قبضتَيه بجثَّة، هزَّها، فحملق فيه؛ رجلٌ طاعِنٌ في السنِّ ذو لحيةٍ نابتةٍ شيباءَ وسطَ الوجه المغطَّى بالثلوج. ترَكَ الجثَّة تهوي، ثم واصَلَ شقَّ طريقه، إلى أن وصَلَ إلى منطقةٍ تخلو من الأشجار. على هامات أشجار التَّنُّوب البعيدة سطَعَ ضوءٌ دموي، الشمس تغرب خلف أحد الجبال السوداء، ولكن ما زالت السماء تُبهِر البَصَر، بين أشجار التَّنُّوب فقط يلاحِظ المرءُ أن لونها أزرقُ داكن. قطعتْ غزالةٌ الطريقَ، وحتى هي وجدتْ صعوبةً وسط الثلوج، ثم ظهرتْ غزالةٌ أخرى، نظرتْ له بعيونٍ مِلؤها الخوف المميت. لوتشر قريبٌ منها للغاية، لكنها سرعان ما عادت للغابةِ مرةً أخرى.

اعترضت الغصون التي أثقَلَها الثلجُ طريقَهُ، غير أن لوتشر أجبَرَ نَفْسه على المرور من تحتها، ثم وقَفَ مثل عملاقٍ من الجليد، نافِضًا الكُتَل الثلجية التي انهمرتْ عليه. غطَّى الغَبَش كلَّ شيء؛ الثلوج على التَّنُّوب. كانت السماء مُبهِرةً زجاجية، والآن أظلمتْ بسرعة، انزلقتْ قدمَا لوتشر، فوجَدَ نَفْسه يهبط أحدَ المنحدرات، ثم اصطدم بشجرةٍ مُحدِثًا فرقعةً، فعاوَدَ الثَّلجُ هطولَهُ فوق رأسه. احتاج إلى أكثرَ من نصف ساعة حتى وصَلَ إلى الطريق من جديد. تمطَّى لوتشر شاعرًا بأنفاسه تتحوَّل إلى بخار، الظُّلمة الآن دامسة، شقَّ طريقه وسط الثلوج التي لم يعُدْ يراها، وفجأةً شعَرَ بالتحرُّر. تباعدتْ أشجار التَّنُّوب، ولمعتْ في السماء نجوم. في كبِدِ السماء تقريبًا كان النَّجم كابيلا يسطع، أمَّا الجوزاء فهو شِبه متوارٍ خلْفَ حافةٍ مدبَّبة. لوتشر خبيرٌ بالنجوم. نهضتْ أمامه صخرةٌ هائلةٌ غيرُ واضحة المعالم، كأنها منزل، راح يتحسَّس طريقَهُ بحذرٍ حولها، إلى أن وصَلَ إلى الطريق مرةً أخرى، ظهرتْ أضواءٌ: عمودُ نورٍ، ثلاث أو أربعُ نوافذ مُضاءة.

فجأةً خلا الشارع من الثلوج، وتناثرتْ فوقه حبَّات المِلح. دخَلَ لوتشر فندق وحانة «الدب»، سار عبْرَ الممرِّ الضيِّق، وفتَحَ الباب الذي حمَلَ لافتة «مطعم»، ثم وقَفَ على العتبة مُتلفِّتًا حوله، على المائدة بجوار صفِّ النوافذ الصغيرة جلَسَ فلَّاحو القرية الجبليَّة وشُرطيٌّ بدينٌ وصاحبُ «الدب»، وفي نهايةِ المائدة تحت صورةِ الجنرال جلَسَ أربعة. دون أن يخلع مِعطفه الفَرو جلَسَ لوتشر إلى المائدة بجانبِ الساعة الكبيرة التي ترتكز على الأرض، ثم قال: إنَّ ميتًا ملقًى وسطَ الثلوج على الطريق في غابة فلوتنباخ. «إنَّه العجوزُ إيبجر»، قال صاحب «الدب» مُشعِلًا لنَفْسه سيجارًا. طلَبَ لوتشر لترًا من البِتسي. أرسلت الفتاة التي تقوم على خدمة الزبائن نظرةً متسائلة إلى المائدة الطويلة. نهَضَ صاحبُ «الدب»، وهو رجلٌ بدين يميل إلى القِصَر، قميصه بدون ياقة، وصدريته مفتوحة. سار إلى لوتشر قائلًا: «لا نقدِّم هنا لترًا من البِتسي، عندنا تسفاير فقط». سدَّد لوتشر ناحيته نظرةً متأمِّلة. «سيبو شلاج إنهاوفن هو صاحب الفندق الجديد إذن. وبالتأكيد عُمدة البلد أيضًا، هه؟» فأجاب صاحبُ «الدب»: «أعتقد ذلك. هل تعرفني؟» «فكِّر قليلًا!» جاوَبَه لوتشر. «يا إلهي!» يتذكر صاحب «الدب» فجأةً، «ألستَ فاوتي لوخر؟» «كنتَ دائمًا بطِيءَ الفَهم»، يقول لوتشر، «هل ستُحضر الآن لترًا من البِتسي أم لا؟» بإشارةٍ من صاحب الفندق أحضرت الساقية ما طلَبَه، وصبَّتْ له كأسًا. أفرغ لوتشر — لا يزال يرتدي مِعطفه الفرو المبلل والمغطَّى بالثلوج — كأسَ الشنابس٢ في جوفه، ثم صبَّ لنَفْسه كأسًا ثانية. «اللعنة، من أين أتيتَ إذن؟» سأله صاحبُ «الدب». «من كندا»، أجاب لوتشر صابًّا لنَفْسه كأسًا، ثم كأسًا أخرى. أشعَلَ صاحبُ «الدب» سيجارًا قائلًا: «ستتعجب كلاري عندما تعرف ذلك». «كلاري مَن؟» سأله لوتشر. «كلاري تسوربروجن»، أجابَهُ صاحبُ الفندق، «التي أخَذَها منك دوفو ماني». «آه»، قال لوتشر صابًّا لنَفْسه مرةً أخرى، «كلاري تسوربروجن الآن زوجة دوفو ماني. لقد نسيتُ ذلك تمامًا». «رغم أن كلاري كانت حاملًا منك آنذاك، فإنَّها أصبحتْ زوجةَ ماني». اعترتْ لوتشر الدهشةُ للحظةٍ، ثم واصَلَ الشرب. «وماذا ولدتْ؟» سأل بعد بُرهة. «صبي. الآن في الأربعين من عمره. إنَّه يجلس هناك تحت صورة الجنرال غيسان». لم يوجِّه لوتشر حتى نظرةً إلى ذلك الاتجاه. «وماذا أصبحتَ في كندا؟» سأله صاحبُ «الدب» وهو يُنفص دخانَ سيجاره. «أصبحتُ فالت لوتشر». تعجَّبَ صاحبُ «الدب» وصاح بلهجةِ أهل المنطقة: «فولت لاتشر؟ اسمٌ غريب».

– «هكذا ينطقون اسم لوخر هناك.»

– «ولماذا عُدتَ؟» سأله صاحبُ «الدب» مستريبًا فجأةً في أمره، دونَ أن يعرف السبب.

– «حالتُكم هنا كما كانت: زفت»، قال لوتشر مبتسِمًا. ورغم أنَّه كان يحتسي «البِتسي» كالماء فإنَّه لم يعْرَق في مِعطف الفرو الذي يرتديه. أجابه صاحبُ الفندق بأنَّ هذا هو الحال في منطقة كهذه لا تعرف إلا الأمطار والثلوج. لقد فات الوادي اللَّحاق بقطار العصر الحديث، لقد نزَلَ معظم السُّكان ليعيشوا في السهل، ولم يبقَ في الحقيقة إلا الأغبياء الذين لا يهمُّهم أن يظلُّوا في فقر مُدقِع. حالتُه أيضًا لم تتحسن كثيرًا. ناهيك عن أنَّه ليس ممَّا يشرِّف أن يكون عُمدةً لأكثرِ القُرى بُؤسًا في المنطقة. إضافةً إلى ذلك فقَدْ واجَهَه سوءُ الحظِّ. زوجته الأولى، إيمي أوكسنبلوت، ظلَّت سنواتٍ وسنوات لا تُنجب، إلى أن ساعدها طبيبٌ عبقريٌّ في أبينتسل، فولدت سيمو، ولكنها على ما يبدو كانت تقدَّمتْ في العمر جدًّا، ولذلك ماتت بعد الوضع مباشرة. بعدها بعامٍ تزوَّجَ امرأةً شابَّة من فلوتجن، ولدتْ له إيني، لقد تناولتْ قبل فترةٍ قصيرة الأسرارَ المقدَّسة لأول مرة، غيرَ أنَّ أمَّها لم تتجاوز الثانية والثلاثين، وهو قد شاخ مقارنةً بامرأةٍ رائعةٍ فاتنة مثلها، عليه أن يأخذ حذره ليلَ نهار. في تلك الأثناء كان لوتشر يحتسي الشنابس دون أن تبدو على وجهه علامةٌ تُشير إلى اكتراثه أو عدم اكتراثه بثرثرةِ صاحب «الدب». «في كندا»، قال بلهجةٍ حيادية، «أملكُ منطقةً أكبر من مرتفعات بيرن كلِّها. يورانيوم، بترول، حديد». ثم سأل صاحب الفندق: «كم عائلةً ما زالتْ تعيش هنا في الجبل؟» «١٦ عائلة. البقيَّة كلُّها هاجرتْ». فسأله لوتشر: «ومن أين يأتي المعلِّم والشرطيُّ؟» «المعلِّمة من العاصمة، والشرطيُّ من كونيجن. إنَّه أيضًا يحرس الغابات». «لا يجب أن نحسب المعلِّمة والشرطي»، قال لوتشر، «إذن، ١٤ عائلةً. إنني أهبُكم ١٤ مليونًا». «١٤ مليونًا؟» ردَّد صاحب الفندق مندهشًا، ثم ضحِكَ قائلًا: «ولكنك لا تملك هذا المبلغ». فأجابه لوتشر: «إنني أملك أكثرَ بكثير». انتاب صاحبُ «الدب» شعورٌ غيرُ مريح، فسأله: «١٤ مليونًا؟ هكذا ببساطة؟» فأجاب الآخر: «لا. عليكم أن تقتلوا دوفو ماني». «دوفو ماني؟» لم يصدِّق صاحبُ الفندق أذنَيه. كرَّر لوتشر: «دوفو ماني». فسأله صاحبُ الفندق: «قَتْل؟ ذلك الرَّجُل؟» ثم لم يعرف بمَ يُجيب. «لا تنظُر ببلاهة هكذا» قال لوتشر. «لقد أقسمتُ فيما مضى أن آخذ بثأري. لقد تذكَّرتُ ذلك الآن فجأةً، وأنا ألتزم بقَسَمي». حملَقَ صاحبُ الفندق في لوتشر: «أنت تخرف.»

– «لماذا؟» تساءل لوتشر.

– «لقد شربتَ أكثرَ من اللازم»، أجابه صاحبُ الفندق الذي شعَرَ فجأةً بالبرد.

– «أنا لا أشربُ أبدًا أكثر من اللازم»، قال لوتشر صابًّا لنَفْسه كأسًا أخرى من البِتسي.

– «كلاري ماني امرأةٌ عجوز»، قال صاحبُ الفندق متأمِّلًا.

– «القَسَم قَسَم.»

– «أنت مجنون، يا فوت لاتشر»، قال صاحبُ الفندق، ثم أحضَرَ لنَفْسه أيضًا كأسًا من «البِتسي»، وجلس. «أنت مخبول.»

– «حتى الخبل أستطيع أن أسمح لنَفْسي به.»

– «ومِمَّن تريد أن تأخذ بثأرك؟» تساءل صاحبُ الفندق الذي أشرق عليه ببطءٍ الإدراكُ بأن الآخر جادٌّ فيما يقول، «من كلاري أم من دوفو؟»

تمعَّنَ لوتشر في السؤال، ثم قال أخيرًا: «نسيتُ. لكنني لم أنسَ أن عليَّ الثأر لأنني أقسمتُ على ذلك.»

– «جنون! هذا ببساطة جنون!» قال صاحبُ «الدب» هازًّا رأسه.

– «ممكن»، جاوبه لوتشر. لزمَ صاحبُ «الدب» الصمت، واحتسى من كأسه. ثم اقترح عليه مترددًا: «٣٠ مليونًا.»

– «١٤»، أصرَّ لوتشر وواصَلَ الشرب. «لن تعرفوا على أية حالٍ ماذا تفعلون بها.»

– «متى؟»

– «بعد عشرة أيام.»

– «سأدعو غدًا إلى اجتماع عامٍّ للقرية»، قال صاحبُ الفندق مقترِحًا، «بدون الشرطي.»

– «افعل ذلك.»

– «سيرفضون»، ادَّعى صاحبُ «الدب».

فضحك لوتشر ثم قال: «سيقبلون. حتى دوفو ماني، إنني أعرف هذا الخنزير». ونهض قائلًا: «أحضرْ لي الزجاجة إلى الغرفة.»

– «فريدا، أعدِّي الغرفة رقم ١٤»، قال صاحبُ «الدب» آمرًا.

أسرعت الفتاة صاعدةً الدَّرَج، وتبعها لوتشر ببصره. فقال صاحبُ الفندق: «خادمةٌ جيدة، أكبرُ بنات بينجو كوبلر»؛ فردَّ لوتشر مرتقيًا الدَّرَج: «أهمُّ شيءٍ أنها فارعةُ القَوام». تبعه صاحبُ الفندق، وسأله: «أليس معك حقائب؟» «في السيارة»، أجاب لوتشر، «المغروزة وسط الثلوج بالقرب من فلوتجن على حافة الغابة، في الأسفل عند المنحدَر. وبداخلها ١٤ مليونًا. رِزَم من فئة الألف». دخلا الغرفة، فيما فريدا منهمِكة في إعداد الفِراش. رمى لوتشر بالمِعطف في أحد الأركان، وفتَحَ أحدَ الشُّباكَين، فهبَّ الثلج داخل الغرفة، وقَفَ في الغرفة مرتديًا بدلةً رياضيةً زرقاءَ داكنة وبشريطَين من اللون الأصفر، ثم خلَعَ «البوت». في إطار الباب ظهَرَ شابٌّ طويلُ القامة، لكنه بدينٌ قياسًا إلى سِنِّه. قال صاحبُ الفندق مقدِّمًا إيَّاه: «هذا ابني سيمو، ٢٨ سنة». خلَعَ لوتشر البدلة الرياضية الزرقاء، التي كان يَلبَس تحتها بدلةً حمراءَ بشريطَين من اللون الأبيض، وخلَعَ البدلة الحمراء أيضًا، ثم سار عاريًا إلى الطاولة الصغيرة بجانب السرير وعليها زجاجة الشنابس. أدار غطاءها، وشرِبَ، هبَّت الثلوج مرةً أخرى ودخلت الغرفة. لوتشر عملاقٌ، بدون سِمنة، بشرته داكنةٌ من الشمس، غير أنَّ الشَّعر الأشيب ينمو بكثافةٍ في كلِّ مكانٍ من جسمه. في إطار الباب وقَفَ صاحبُ «الدب»، بينما راح سيمو يُحملِق في الزائر، وبرأسٍ منكَّسٍ أخذتْ فريدا ترفع غطاءَ السرير المفروش بمُلاءاتٍ جديدة. «فريدا، اخلعي ملابسكِ»، أمرها لوتشر، «أنا لا أنامُ أبدًا بدون امرأة»، فاعترض سيمو قائلًا: «لكن …»

– «امشِ اطلعْ برَّه!» صرخ في وجهه صاحبُ الفندق وأغلق الباب. «تعالَ!» أصدَرَ ضجيجًا في أثناء نزوله الدَّرَج. «يا غبي!» قال لابنه. «اربط الزحَّافات في الحصانَين، وقلْ لمكسو أوكسنبلوت أن يأتي بحصانَيه أيضًا. علينا أن نجرَّ سيارة فاوتي لوخر. أنت لا تعلم أيَّ فرصةٍ ستضيع منا لو لم نفعل! ستندم إلى الأبد لو لم تَدَعه ينَمْ مع صديقتك فريدا». بالأحصنة الأربعة نجحا في جرِّ السيارة، صحيح أن حصانًا من أحصنة أوكسنبلوت انزلَقَ كالريح محدِثًا ضجةً عظيمة في أحد شِعاب فلوتنباخ، ولكنْ في الصباح كانت الكاديلاك تقف في فِناء فندق «الدب». سماءٌ زرقاء، شمسٌ لاسعة. وفي المطبخ جلستْ زوجة صاحب «الدب» مع ابنتها إيني، كما جلستْ فريدا إلى المائدة شاحبةً من السهر وقلة النوم. صبَّ صاحب «الدب» لنَفْسه فنجانًا، وراحوا يشربون جميعًا القهوة بالحليب. على واحدةٍ أن تصعد إليه، قالت فريدا وهي تدهن شريحةَ خبزٍ بالزبدة. إنَّها اليوم في إجازة، قال صاحب «الدب» يمكن لزوجته أن تقوم على خدمته. ولكنه يريد واحدةً جديدة، قالت فريدا بإصرارٍ وهي تقضم شريحة الخبز. رشف صاحبُ «الدب» رشفةً من القهوة بالحليب، ثم عقَّب: على فكرة، لوخر اسمه الآن لاتشر، فوت لاتشر. لاذت النساء بالصمت. ما الحكاية؟ سألت زوجته. لقد جاءت الفرصة، الفرصة الهائلة، صاح صاحبُ الفندق، ثم نهض صاعدًا الدَّرَج في ضجةٍ، وفتَحَ الباب. الشُّباك مغلق، وفي الفِراش كان لوتشر يتناول بيضًا مقليًّا مع جامبون، ويشرب من فنجانٍ كبير قهوةً بالحليب. زجاجةُ الشنابس فارغة. لقد جرُّوا السيارة إلى هنا»، قال صاحبُ الفندق. وماذا فعلوا بالميِّت؟ تساءل لوتشر. لقد أحضروه أيضًا، إنَّه إيبجر العجوز، قال صاحبُ «الدب»، ولكن لماذا يُهتم بأمر الميت إلى هذا الحد؟ المرءُ لا يعرف أبدًا ما يخبئ له المستقبل، أجاب لوتشر، هل ما زال مفتاحُ التشغيل في السيارة؟ مجموعةٌ كاملة من المفاتيح، أجاب صاحبُ الفندق. مفتاح التشغيل يفتح أيضًا حقيبة السيارة، قال لوتشر، عليه أن يُحضر الحقيبة إليه، كما أن صاحبَ الفندق يعرف ما عليه أن يُحضره أيضًا. قفَزَ صاحبُ «الدب» في الغرفة، ثم هبط الدَّرَج كالعاصفة، مُسرِعًا إلى السيارة، وبعد لحظاتٍ عاد بحقيبةٍ قديمةٍ كبيرة، صعد الدَّرَج كالعاصفة، ووضَعَ الحقيبةَ أمام لوتشر على المائدة تحت الشُّباك الصغير في مواجهةِ الفِراش، فتَحَها، ثم حملَقَ في رِزَم الأوراق النقدية من فئة الألف. كم في الحقيبة؟ تساءل لاهثًا. ١٤ مليونًا بالتمام والكمال، قال لوتشر.

يعني كان يعلم أحوالهم في القرية، قال صاحبُ «الدب» وقد أشرَقَ عليه نورُ الفهم. إنَّه يعرف دائمًا آخرَ الأخبار، ردَّ لوتشر. فتَحَ صاحبُ الفندق الباب، وصاح: «إيني، إيني»، ربما عَشْر مرَّات. ظهرتْ إيني في الطابق الأرضي أمام الباب بعيونٍ متَّسعة؛ ماذا يريد؟ عليها أن تصعد. وفورَ صعودها دفَعَ بها إلى غرفةِ لوتشر. «هناك، هناك»، صرَخَ مشيرًا إلى الأوراق من فئة الألف، هذه هي الفرصة، عليها أن تخلع ملابسها وتضطجع بجانب «لاتشر». احتجَّتْ إيني: لقد تناولت قبل فترةٍ قصيرة الأسرار المقدَّسة لأول مرة. «يعني؟» ومرَّ بيده على فمها قائلًا إنها نامتْ مع شريجو هنترشراخن، كما أنَّ أمَّها كانت تنام مع الرجال قبل تناولها الأسرارَ المقدَّسة. خلعتْ إيني ملابسها، ثم شرع صاحبُ «الدب» — مُعطيًا ظَهْره للفِراش — في عدِّ الأوراق النقدية من فئة الألف. خلْفَه تصاعدتْ صرخاتُ إيني.

أخَذَ صاحبُ «الدب» يعدُّ ويعدُّ، كلُّ الرِّزَم حوتْ أوراقًا من فئة الألف، سطَعَت الشمس عبر النافذة على وجهه تمامًا، يعدُّ ويعدُّ، وخلْفَه تلهث إيني. في الجزء السفلي من زجاج النافذة — الذي كان كالمرآةِ بسبب سقْفِ منزل الجار — رأى ظهْرَ إيني العاريَ يرقص صاعدًا هابطًا. واصَلَ العدَّ، حتى الآن أحصى خمسمائة ألفٍ، يريد أن يعرف على وجه الدِّقة، الآن يتكوَّر خلْفَه الجسَدُ العملاق، يدفع نَفْسه إلى الأمام، ثم إلى الخلف، وكأنَّه قاطرةٌ بخارية من اللحم تضبط مكانها قبل الوقوف. إنه يعدُّ ويعدُّ. إيني تصرخ. هو يعدُّ، أخيرًا وصل إلى المليون، ما زال أمامه ١٣ مليونًا، لا بدَّ أن يرى كلَّ ورقةٍ من فئة الألف. أمَرَ لوتشر قائلًا إنَّه يريد فريدا الآن. قالت إيني لاهثةً إنَّها لم تشبع بعدُ. فضحك لوتشر: إذن سأُريكِ. يتأرجح السرير يمينًا ويسارًا. يقف الآن مائلًا في الغرفة، صاحبُ «الدب» يعدُّ ويعدُّ، اختفت الشمس من النافذة، الألواح الزجاجية تُمسي شيئًا فشيئًا كالمرايا، مليونان. لا تستطيع أكثر من ذلك، صرخت إيني. أحضروا فريدا، يأمر صاحبُ «الدب»، وعلى إيني أن تأتي ﺑ «إويسي أوكسنبلوت». كما أنه يريد الحصول على عرقٍ مرةً أخرى، قال لوتشر مشتكيًا، بينما راح صاحب «الدب» يعدُّ ويعدُّ، ثم بدأ الأمر من خَلْفه مرةً أخرى، في البداية ببطءٍ، ثم بسرعةٍ متزايدة، ليست فريدا فقط على الفِراش، إيني أيضًا.

هل ستأتي أويسي أوكسنبلوت، سأل صاحبُ «الدب» وهو يعدُّ ورقةً من فئة الألف تلوَ الأخرى. ستُحضرها الأم، قالت إيني لاهثةً، متقطِّعةَ الأنفاس، متأوِّهة. وعلى الأم أن تُحضر أيضًا تسوزي هاكر، وأخذ يعدُّ ويعدُّ، ورعشةُ أصابعه تزداد شيئًا فشيئًا، وعندما كان يظنُّ أنَّه أخطأ العدَّ؛ يُحصي الرِّزمة من أوَّلها. مرَّتْ ساعاتٌ، وأظلمت السماءُ، فأضاء النور حتى يستطيع العدَّ بشكلٍ أفضل، منذ ساعاتٍ والهدوءُ يعمُّ خلْفَه، لا لهاثَ، لا طقطقة، لا تأرجُح يمينًا ويسارًا، ولا رقص صاعدًا هابطًا، وهو يعدُّ ويعدُّ. وفجأةً يعاودُ ظَهرٌ عارٍ الرقص الصاعد الهابط على اللوح الزجاجي، أويسي أوكسنبلوت أو تسوزي هاكر، وهو يعدُّ ويعدُّ، هبَطَ الليل في الخارج، ومن خَلْفه تتصاعد وتتزايد التأوُّهات واللهاث والحشرجات والصرخات. وفجأةً انتفض صاحبُ «الدب»، «١٤ مليونًا بالتمام والكمال»، ثم صرخ، «بالتمام والكمال»، وعدا من الغرفة هابطًا الدَّرَج.

في الحانة كان الفلَّاحون يجلسون مُجتمِعين، صاحبُ «الدب» عائم في عَرَقه، يلهث، يكاد يتعثَّر في ثلاثةِ أشخاصٍ جلسوا على آخر درجتَين في السُّلَّم. اتَّجهَ إلى المائدة الطويلة، وجلَسَ بجانب هيجو هنتركراخن، كاتب البَلَدية. جلَسَ الفلَّاحون في كلِّ مكان، وإلى كلِّ الموائد. هل عليه أن يبدأ تسجيلَ وقائع الجلسة، سأل هيجو. هل جُن؟ قال صاحب «الدب» ثائرًا، ليس هناك ما يُكتب هنا، ثم سأل ابنه — الذي جلس إلى المائدة الطويلة مع يوجو ماني وماكسو أوكسنبلوت وميجو هاكر — تمامًا مثل الليلة السابقة: هل انتهى من موضوع الشرطي؟ أجاب سيمو: أعطيتُه سلَّة من «الأحمر»، وهو الآن سكران طينة وفي سابع نومة. هل يمكن أن ندخل في الموضوع؟ سأل هيرمنلي تسوربروجن؛ فالأمر يتعلق بغراب البين، زوج أخته، دوفو ماني، لقد كان دومًا ضدَّ هذه الزِّيجة، أحسن شيء لو ضربناه حتى الموت خلف «الدب»، ثم ندفنه في مدافن فلوتنباخ، ١٤ مليونًا يعني ١٤ مليونًا. والآن على أحدهم أن يذهب إلى المعلِّمة حتى لا تظهر مصادفةً لزيارة زوجة صاحب الفندق، فليذهب مثلًا يوجو ماني، فهي تحبُّه، وعلى يوجو أن يطلب منها أن تقرأ له شيئًا منظومًا، فهي دائمًا تنظم. وأين هي المعلمة؟ سأل صاحب «الدب». تعزف على الأرغن في الكنيسة، وهو أمرٌ يستغرق على الأقل ساعتَين، قال روفو أوكسنبلوت، شقيق ماكسو أوكسنبلوت. جميل، إذن نستطيع أن نبدأ، ثم فكَّر صاحبُ «الدب» وقال إنه يعتقد أنَّ دوفو ماني بالذات له الحقُّ في الكلام، فهُمْ يحكمون وفقًا لقواعد الديمقراطية. ليس لديه ما يقوله على الإطلاق، قال ماني، وهو فلَّاحٌ نحيلٌ مقوَّس الظَّهر قليلًا، بل حتى عندما وقَفَ كان مائلَ القامة، إنَّه — مثل كل سكان القرية — بحاجةٍ إلى المال، ليس غبيًّا حتى لا يُدرك ذلك، حتى إذا كلَّفه الأمر حياته، وعلى كلٍّ فالحياةُ لم تعُدْ تعرف طَعْم الفرحة منذ زمنٍ طويل، عليهم بتنفيذ الأمر، أفضلُ شيءٍ أن ينفِّذوا اقتراح هيرمنلي تسوربروجن، الآن، على الفور. ثم جلس ماني.

واصَلَ الفلَّاحون احتساءَ «الأحمر» ولزموا الصمت. إنه يسحب ما قاله عن غراب البين، قال تسوربروجن، لقد تصرَّف ماني حسب الأصول، حسب الأصول تمامًا، والآن عليهم أن يختاروا مَن منهم يقتله بالمِعول خلف «الدب». عندئذٍ ارتفع صوتُ فتاةٍ عند الدَّرَج قائلةً إن فولت لاتشر يخبرهم أن عليهم أن يفعلوا ذلك في ليلة اكتمال القمر. إنها ماريانلي هنتركراخن، تقف على الدَّرَج كما ولدتْها أمُّها، الجالسون أمامها يلتفتون مبهوتِين، ولكنها سرعان ما تختفي في الغرفة العُلوية. إنَّ لديه ابنةً مكتملةَ القَوام أيضًا، قال ميجو هاكر لكاتب القرية، ثم خلط أوراق اللعب. اخرس، ردَّ عليه كاتب القرية وهو يُشعل سيجارة «بريساجو»، ثم أضاف: إن ابنة ميجو كانت كذلك في الغرفة العلوية. راح سيمو يرتِّب أوراق اللعب في يديه قائلًا إن عروسه لم تعُدْ تريد مُطلقًا مغادرةَ غرفة فاوتي لوخر، هذا هو اسمه الحقيقي، وليس لاتشر. ثم أضاف أن ما يحدث في القرية أصبح فجأةً يشبه قصص المجلات الألمانية التي يشتريها المرء من الأكشاك، ثم أضاف متمعِّنًا في ورق اللعب: بستوني. لا يمكن تنفيذ ذلك قبل اكتمال القمر. أمعَنَ صاحبُ «الدب» في التأمُّل والتفكير برويَّة، وإلا سيكون لديهم ميتٌ، ولا يدفع لوخر فرنكًا واحدًا. يومٌ أسودُ هذا، أعليهم الانتظار حتى يُمسي القمرُ بدرًا؟ تساءل فلَّاحٌ عجوزٌ طاعنٌ في العمر، ضئيلُ البدن، خصلاتُ شَعْره شيباءُ، بلا لحيةٍ، ملامحُ وجهه حائرةٌ مضطربة، وكأنه تعدَّى المائة. لا يعرف، ردَّ صاحبُ «الدب». في البداية قال لوخر بعد عشرة أيام، والآن يقول عندما يكتمل القمر، غريب؛ البدر سيطلع يوم الأحد، وتحديدًا الأحد بعد التالي، بعد عشرة أيام بالضبط، قال الفلَّاح محتسيًا من شرابه «الأحمر»، إنهم يقامرون بأرواحهم. فاوتي لوخر يعرف متى سيطلع البدر، ليس هذا فحسب، بل أول بدر في العام الجديد؛ ولكنه هو أيضًا يعرف ذلك، ولن ينجح فاوتي في خداعه. ارتقى هيرمنلي تسوربروجن الدَّرَج بسرعة. إنه يعرف كذلك أن نوبي جايسجرازر «أبو العريف»، وأنَّه يظنُّ أنَّ الشيطان وحماته وراء كلِّ شيء، ولكنَّ كلَّ ذلك لا يعنيه مطلقًا. لن يأخذ فرنكًا من المال، أجاب العجوز، ولا فرنكًا واحدًا. «أحسن يا أبي»، صرَخَ لودي جايسجرازر — ابنه الذي شارف السبعين — في وجه الأب، عندئذٍ سيأخذ كلَّ شيء، وليذهب هو إلى الجحيم كما كان يتمنى أن يحدُث له، لابنه، ولحفيده. ومن المائدة التي جلَسَ إليها أعضاء العائلة الثمانية تصاعدتْ أصواتُهم كأنَّهم في كورال: سيأخذون كلَّ شيء. صمتٌ. ثم ردَّ العجوز على ابنه قائلًا إن عليه أولًا أن يلاحظ شيئًا. فما كان من الابن سوى الضحك، ثم قال إنه لن يلاحظ أيَّ شيء، بل على الوالد أن يخرس تمامًا، وإلا سيذهب إلى الحاكم في أوبرلوتيكوفن ويحكي له مَن هو أبُ الطفلَين غير الشرعيَّين المصابَين بالبله، اللذَين أنجبتْهما أخته، ومَن الذي أحبل ابنته الصغرى بابي؛ إذا كان هناك مذنبٌ عريقٌ في الذنب فهو نوبي، الفحل العجوز. بينما هم، إذا قتلوا ماني فإنهم يفعلون ذلك فقط لأنهم في أمسِّ الحاجة إلى المليون. هل يريد أحد أن يضيف شيئًا؟ تساءل صاحب «الدب» ماسحًا عرقه. «إذن»، قال ماني سائرًا إلى الباب وهو يشقُّ طريقه بين الفلَّاحين، «إذن، وداعًا». ثم خرج. صمتٌ. لا بد أن يقوم أحدٌ بحراسة ماني حتى لا يهرب، والأفضل أن يفعل ذلك اثنان يتبادلان الحراسة، قال ماكسو أوكسنبلوت. عليهم تنظيم ذلك، قال كاتب القرية.

ساد الصمت مرةً أخرى. على الدَّرَج العلوي تظهر فريدا عاريةً مثل ماريانلي، وتطلُب بأنفاسٍ متقطِّعة زجاجةَ عرق. على سيمو أن يُحضر بِتسي، يأمُر صاحب «الدب» ويجلس راضيًا أسفل الخِزانة الزجاجية التي تضمُّ الكأس الفضيَّ من نادي المصارعة الذي هجَرَ القرية منذ فترةٍ طويلة، ولذلك يُصارع آخرُ مصارعٍ في القرية، روفو أوكسنبلوت، في نادي المصارعة في فلوتنجن. غمغَمَ بينجو كوبلر وهو يحملق في فريدا: أليست هذه ابنته؟! ولكن سرعان ما ارتفع تصفيق الجميع عندما أعطى سيمو خطيبته العارية تمامًا زجاجة الشنابس منحنيًا أمامها في تهذب. إن ما فعله سيمو هو للصالح العام. سارتْ فريدا متأرجِحةً إلى فوق. لم يصدُر صوتٌ عن أيِّ شخص، إلا من رس شتيرير — فلَّاح بدين بشاربٍ أحمرَ ويدَي جزَّار — الذي أعلَنَ فجأةً كاسرًا الصمت الذي عمَّ مرةً أخرى؛ أن الأمر لا بد أن يبدو كحادث. على ماني أن يجلس تحت شجرة تَنُّوب، ثم يُسقطوا الشجرة. «تحت شجرةِ زان»، قال كاتب القرية مقترِحًا، ثم أضاف بموضوعية، حسب الأصول. والأفضل أن يحدث ذلك تحت زانةِ بلوتلي. لقد وعدوا القسَّ منذ فترةٍ طويلة بعروقٍ خشبيةٍ للسَّقف. إذن لا بد أن يقوم أحدٌ بعملٍ تمهيديٍّ ويبدأ في نشْرِ زانةِ بلوتلي، وإلا انتظروا طويلًا قبل أن تسقط. عرَضَ روفو أوكسنبلوت أن يفعل ذلك مع أخيه ماكسو. ومَن الذي سينهالُ بالفأس على الشجرة؟ تساءل كوبلر. الكلُّ، أجاب صاحبُ «الدب»، ثم سأل عمَّن يؤيد اقتراحه، فرفعوا جميعهم الأيدي باستثناء جايسجرازر الأب. إذا ذهب نوبي إلى الشرطة، ولم يكُن صاحب «الدب» بحاجةٍ إلى مواصلة كلامه. إنَّه لا يمنع أحدًا من الذهاب إلى الجحيم، أجاب الفلَّاح العجوز. عندئذٍ أضاف صاحبُ «الدب»: لقد كاد ينسى أن يقول إنَّ عليهم ألَّا يدفنوا العجوز إيبجر قبل أن ينتهوا من الأمر، فالناس ينجذبون إلى الجنازات كما ينجذب الذباب إلى الزبالة الطازجة، وإيبجر له أقارب عديدون في فلوتنجن وأماكن أخرى. لا مشكلة، إنَّ الجثة متجمِّدة تمامًا، وداخل صندوقٍ مُغلَق بالمسامير حتى لا تهاجمها الذئاب، قال فريدو إيبجر. أعلَنَ صاحب «الدب» رغبته في إنهاء الجلسة، وعندئذٍ رأوا، لدهشتهم، ماني، الضحية، يقف على باب المطعم، لقد فكَّر في الأمر مرةً أخرى، قال وهو يتمخَّط في منديلٍ كبير مخطَّط بالأحمر. حملقُوا فيه جميعًا مرعوبين، إنَّ عليهم أن يقتلوه حالًا، فكَّر صاحبُ «الدب» كالمشلول. طوى ماني المنديل بعناية، ووقَفَ مائلًا في إطار الباب، نحيفًا ومحني الظَّهر قليلًا. البدر سيطلع الأحد بعد القادم، هكذا قال نوبي، وفي اليوم الذي يسبقه، يوم السبت، سيقام المعرض الزراعي في لوتيكوفن العليا، يريد أن يذهب إليه، وهناك ربما ينصح ابنَيه، يوجو وألكس، بما يستطيعان شراءه عندما يحصلان على المال الوفير، كان دائمًا يفكر أن حياته ستختلف تمامًا لو كان بنى زريبةً جديدة واشترى جرَّارًا جديدًا. ثم اعتصم ماني بالصمت محرجًا. ضحِكَ جايسجرازر الابن ضحكةً صبيانيةً عصبية، بينما أفرغَ هيرمنلي تسوربروجن كأس الشنابس، لا يدري، لا يدري، قال مغمغِمًا، غير أن كاتب القرية وصاحب «الدب» أفرغا كأسَيهما أيضًا، وقال الأخير مقرِّرًا: «فلنذهب جميعًا يوم السبت إلى لوتيكوفن العليا، قبل طلوع البدر يوم الأحد.»

وذهبوا. في غبش الفَجر كانوا يشقُّون طريقهم عبْرَ الثلوج هابطين الشارع في اتجاه قريةِ فلوتنجن عند نهاية الوادي. ماني دوفو بين صاحب «الدب»، سيبو شلاج إنهاوفن، وروفو أوكسنبلوت الذي احتلَّ المركز الثالث في ذيل قائمة المتصارِعين في آخر مسابقةٍ أُقيمت في برينتس، ثم استقلُّوا القطار المتَّجه إلى لوتيكوفن العليا. ماني ما زال محاصَرًا، لن يَدَعوه يهرب، فغدًا يكتمل القمر. خلال قاعاتِ المعرض الزراعي قَادَهم رجلٌ قصير بشاربٍ صغير وصلعةٍ ورديَّة اللون، يرتدي بدلةً اسكتلندية، «بنو فون لافريجن» قال معرِّفًا بنَفْسه، بألمانيةٍ فصيحة، وبكعبَين مضمومَين، «سويسري، أعيش خارج البلاد». قادهم لافريجن في البداية عبْرَ المروج، حيث رأَوا بقرةً من البلاستيك تقف على قاعدةٍ مرمرية من البلاستيك، وأمامها كانت فرقةٌ ريفية تعزف، ثم قادهم إلى الحظائر النموذجية التي ترعى فيها أبقارٌ حقيقية. أشار فون لافريجن لأهالي فلوتنباخ كي يتحلَّقوا حوله. قال شارحًا إنَّ الحظائر الحديثة تضمُّ أنواعًا مختلفة لتربيةِ العجول. هناك حظائر تُربط فيها العجول، وأخرى تتمتع فيها العجول بحريَّةِ الحركة، وثالثة في الهواء الطَّلق. عند بناء الحظائر الجديدة ينبغي مراعاة إمكانية استخدامها لأنواعٍ أخرى من المواشي أيضًا دون إجراء تغييراتٍ مكلِّفة في البناء. «هذا الرَّجُل، لافريجن، يصيب بالصداع»، قال هيرمنلي تسوربروجن. وبذلك — قال فون لافريجن مواصِلًا شرْحَه ومعدِّلًا من وضْعِ ربطة عنقه — يستطيع المُزارع أن يتكيَّف مع حالة السوق وصناعة اللحوم. الحظائر التي تُربط فيها المواشي هي الأكثر شيوعًا في أوروبا. في تلك الحظائر تقف المواشي المربوطة في صفٍّ واحد أو في عِدَّة صفوفٍ رأسية بجانب بعضها البعض، وكي تُلائِم تلك الحظائر الغرَضَ؛ تكون متَّسعةً ورحْبَة حتى يُمكن للمُزارِع أن يقود سيارته خلالها لإفراغ العلف الجافِّ أو الأخضر في أجران العلف. «إفراغ»، قال ماني متحمِّسًا، «لا بد أن نشتري سيارةً مثل هذه أيضًا». بصوتٍ أقرب للفحيح طلَبَ منه ابنه يوجو الواقف خلفه أن يلزم الهدوء. إزالةُ الروث يمكن أن تتمَّ يدويًّا أو آليًّا، أضاف فون لافريجن شارحًا. أمَّا الحظائر التي تمشي فيها البهائم بحريَّة فتكاليف بنائها أقلُّ. في تلك الحظائر تقِفُ الماشية بدون أن تُربط في حظيرةٍ كبيرة أو أكثر. إذا أَخرجتْ إحدى الأبقار شيئًا فإن هذا السويسري التافه الذي يعيش في الخارج سيُدفن تحت روثها، عقَّب ميجو هاكر. السِّباخ يتم جمعه آليًّا في الربيع أو الخريف، قال فون لافريجن مؤكِّدًا، ثم راح يتمخَّط في منديلٍ حريريٍّ أبيض؛ العمل اليومي قليلٌ جدًّا كما ترون، ليس على المُربِّي سوى الرش، أمَّا الحَلْب فيتمُّ في مكانٍ آخر مخصَّص لذلك، وهناك تحصل الأبقار الحلوب حسب احتياجاتها على العلف المقوِّي المناسب.

«العلف المقوِّي، يا ألكس»، قال ماني، «لا بد أن تشتروا هذا العلف أيضًا»، قال ماني وهو يسير ببطءٍ خلف السويسري المقيم في الخارج، محشورًا بين صاحب «الدب» وروفو أوكسنبلوت.

في أغلب الأحيان تُستخدم تلك الحظائر لتسمين المواشي، قال فون لافريجن وهم يدخلون حظيرةً جديدة. تصاعَدَ خُوار بقرةٍ. ثم سمِعُوا خريرًا خافتًا لشيءٍ يتساقط. أكثرُ أنواع الحظائر سهولةً هي الحظائر المُقامَة في الهواء الطَّلق، وهي حظيرةٌ تنفتح ناحية الجانب الأكثر مناسبةً للمناخ، وهو ما يُتيح للمواشي حرية الحركة بصورةٍ دائمة. يسمعون مرةً ثانية خُوارًا وخريرًا. في الناحية الأخرى كانت هناك حظيرةٌ مُغلَقة. قُسِمت المساحة التي تقِفُ فيها المواشي إلى مساحةٍ طوليةٍ أمامية، ثم مساحةٍ في المنتصف، ومساحةٍ قصيرة في الخلف. «اتبعوني من فضلكم». مرةً أخرى سمِعُوا خُوارًا وخريرًا. «في كلِّ مرةٍ ينفذ بجلده»، قال ماكسو أوكسنبلوت. يتواصل الشرح في حظيرةٍ جديدة. ولأن عملية إزالة الرَّوث أصبحت ميكانيكية، يُفضَّل في الحظائر الجديدة تخصيص مساحاتٍ صغيرةٍ للمواشي، المساحة هنا أقلُّ من طول الماشية بعشرة إلى عشرين سنتيمترًا، وهناك مجرًى للرَّوث ملحَقٌ بأماكن الوقوف، هذا المجرى منخفضٌ قليلًا، ويُنظَّف باستخدام مجاريف تُحرَّك بواسطة رافعة أو جرَّارٍ صغير. «رائع»، هتَفَ ماني مندهِشًا. عند إفراغ الرَّوث باستخدام المجاريف، واصَلَ فون لافريجن شارحًا، فإنَّ الرَّوث المخلوط، أي المختلِط بالتبن وبقايا العلف، ينتقل على دفعاتٍ إلى سلسلةٍ متحرِّكةٍ تنقل السِّباخ إلى كومة السِّماد. في السنوات الأخيرة اكتسبتْ طريقةُ إفراغِ الروث بالتعويم أهميةً متزايدة لأنها تتطلَّب جهدًا أقل. بهذه الطريقة يتمُّ الاستغناء كليةً عن نثر التبن في الحظائر، وتُركَّب شبكةٌ حديدية في أماكن تسمين الماشية، «اقترِبُوا من فضلكم»، وتحت الشبكة هناك مجرًى للرَّوث ينحدر انحدارًا خفيفًا، ويصبُّ في خزَّانٍ يُفرَغ في حفرة السِّباخ خارج الحظيرة. لقد آنَ الأوان لكي نُلقي بهذا الثرثار في حفرة السِّباخ، يقترح هيرمنلي تسوربروجن بلهجته الجبلية، إلا أنَّ فون لافريجن لا يفهمه. ينساب خليطُ البراز والبول ويصبُّ في حفرة السباخ، يُضيف شارحًا، وبالتالي فإنَّ البهائم لا ترقد فوق التبن، بل على الأرضيَّة الجيدةِ العزل التي تكون إمَّا من مادة اصطناعيةٍ أو من الخشب، ومن الممكن أن تكون من الحَجَر أيضًا. وبذلك تُصبح المحافظة على نظافة الحظائر أمرًا غايةً في السهولة، كما تسهُل مكافحةُ مسبِّبات الأمراض. البهائم تقِفُ في مكانٍ أكثر نظافة، وبالتالي فإنَّ الحَلْب يتمُّ في ظروفٍ أكثرَ صحيَّة. إنَّه يثرثر على الدوام عن البقر، رغم أنه لا يستطيع التفرقة بين العنزة والعجل، يقول هيجو هنتركراخن مشعِلًا سيجارًا. وبجانب ميكنة الحظيرة، يواصل فون لافريجن إلقاءَ محاضراته، يحتلُّ نقْلُ السِّماد من الحظيرة أهميةً قُصوى؛ لأن إفراغ الرَّوث باليد عمليةٌ شاقَّة جدًّا، وليس هناك فلَّاح يرغب في القيام بها. السِّباخ الذي يسيل في الحفرة بطريقةٍ ذاتية، يختلط في الخزَّان اختلاطًا قويًّا، فتهبط الأجزاء الثقيلة إلى أسفل، بينما تسبح الأشياء الخفيفة على السطح، مكوِّنةً ما يُسمَّى بالغِطاء العائم، ولذلك لا بد من خلْطِ السِّباخ آليًّا، إمَّا باستخدام الهواء المضغوط أو هيدروليكيًّا.

«كلُّ هذا جميلٌ ورائع»، يقول ماني المحشور بين صاحب «الدب» وأوكسنبلوت، ولكنه يريد الآن أن يرى الجرَّارات الزراعية، هذا هو أهمُّ شيء، حِلْم حياته، فلن يستطيع أن يقرِّر ما إذا كانوا سيحتاجون إلى زريبةٍ جديدة إلا إذا امتلكوا جرَّارًا. «تفضَّلوا معي إذن»، قال لافريجن، ثم سار بهم إلى قاعةِ عرْضِ الماكينات الزراعية مرورًا بالبقرة البلاستيكية والجوقة الموسيقية. من مكانٍ ما تصاعدتْ أصواتُ كورال الرجال. الجرَّار أهمُّ ماكينةٍ في المزارع الحديثة، بدأ فون لافريجن محاضرةً جديدة، ماسحًا عرَقَ جبينه، فبجانب وظيفته كآلةِ سحْبٍ، يُستخدم الجرَّار كمصدرِ طاقةٍ للآلات الموصولة به. لو كنتُ أستطيع أن أفهَمَ اللغة الفصحى أفضل من ذلك، قال رس شتيرر متذمِّرًا. لماذا أرسلوا لهم هذا الأزعرَ الأجنبي؟ إنَّه لم يسمع أبدًا عن سويسري اسمه «فون لافريجن»، زعَقَ لودي جايسجرازر زعيقًا عاليًا وبلا حَرَج، بينما راح جايسجرازر الأب — الذي أتى معهم — يشكو من الانحدار الذي تعيشه سويسرا. غير أنَّ فون لافريجن واصَلَ شرْحَه قائلًا إنَّ الجرَّار به ما يُسمَّى بموجات المنبع، ومنها يتمُّ الحصول على الطاقة، والجرَّار الحديث، أضاف فون لافريجن، به ثلاثةُ مصادر للطاقة: اثنان في نهاية صندوق التُّروس أسفلَ ذراعِ التوصيل، وباستخدام عمود الكردان يمكن سحب الطاقة من الجرَّار إلى ماكينةٍ موصولةٍ به، أمَّا المنبع الثالث فيبرز أمام صندوق التروس، وهو مخصَّص لتشغيل ماكينات الحشِّ والحصد. يريد أن يرى ماكينةً مثل هذه، يطلب ماني، فيما روفو وصاحبُ «الدب» يُحكمان الحصار عليه وقد تملَّكهما الخوف، ثم يتفرجون جميعًا على الماكينات الزراعية التي يمكن توصيلها بالجرَّار، كي يتمَّ سحْبُ الروافع والمحاريث وكلِّ الآلات الزراعية الأخرى التي تستخدم في المُنحدَرات. لا بد أن يشتروا شيئًا كهذا، يقول ماني لولدَيه يوجو وألكس، وعندئذٍ يتركون فون لافريجن ويغادرون المعرض. وهم في طريقهم إلى محطة قطارات لوتيكوفن العليا، مرُّوا بحانة «الراهب» حيث كانت جمعية الأزياء الشعبية تحتفل بمرور مائةِ عامٍ على تأسيسها. واصَلُوا السَّير مارِّين ﺑ «الاتحاد»، ثم «الأسد»، ثم «أيجر»، و«العذراء»، و«بلومليسالب»، و«الدوَّامة المجنونة»، ثم إلى «الرَّجُل المتوحِّش». كلُّ الحانات مكتظَّة، لذا تابعوا طريقهم إلى المحطة، ثم وصلوا مرةً أخرى إلى «الراهب». كانت زوجةُ رئيس الجمعية، كريستينا إبليج، تقف مستقيمةَ القامة في الشُّرفة، فأخذتْ تنادي عليهم تجاه «شارع المحطة».

ها هو رس شتيرر يأتي، ولم تمرَّ لحظاتٌ حتى كانوا في القاعة الكبيرة يشاركون في الرقص. أخَذَ سيمو وميجو هاكر وهيرمنلي تسوربروجن يتقافزون كالحيوانات البريَّة، وأيضًا رس شتيرر. أمَّا ماني — الذي جلَسَ محشورًا خلْفَ إحدى الموائد بين صاحب «الدب» وروفو، متكئًا معهم إلى حائطٍ خشبي — فلَمْ يكُن بمقدوره أن يتزحزح من مكانه. أمامه على المائدة لترٌ من «الأحمر». سيطَرَ التعجُّب على ماني لأنَّ شتيرر البدين ما زال قادرًا على الرقص بهذا الشكل. وعندما اقتربت كريستينا من الثلاثة سائلةً عمَّا يجعلهم يجلسون متخشِّبين هكذا بجوار الحائط، قال صاحب «الدب» إنَّ حالة ماني ليست على ما يُرام، هذا هو كلُّ ما في الأمر، وهُمْ جميعًا أصدقاء، «في صِحَّتك يا دوفو»، قال شاربًا نخْبَه. كيف حال كلاري؟ سألتْ كريستينا؛ فأجاب ماني أنَّ حالتها طيِّبة. في تلك اللحظات جاء من اﻟ «أيجر» بعض الأشخاص الذين يعيشون في فلوتنجن السُّفلى، ومعهم ابن إيمي هنتركراخن غير الشرعي الذي يعيش في لوتيكوفن الوسطى، ثم انضمُّوا إليهم في «الراهب». كانوا في حالةِ سُكرٍ بَيِّن، هناك شِجار دمويٌّ وتقتيلٌ في جمعية أزياء لوتيكوفن العليا، ثم اقتربت جماعةٌ من لوتيكوفن العليا قادمين من «بلومليسالب»، وازداد الصِّراع ضراوةً. قذَفَ أحدهم برميلَ بيرة على رأس روفو أوكسنبلوت، لكنَّه لم يحرِّك ساكنًا، بل لم يمسح حتى الدمَ المُنساب من جَبينه. المهمُّ ألَّا تجيء الشُّرطة، قال في سِرِّه، المهمُّ ألَّا تجيء الشرطة. ولكن ما حدَثَ كان أسوأ. من القاعة العلوية، حيث تناولوا طعامهم، اقترَبَ ناحيتهم إتي، مستشار البلدية الذي يتحدَّر من لوتيكوفن العليا، واسمه بالكامل إتي هيردو. في صحبته كان مستشارُ الحكومة شافروت ورئيس البلدية إميل موترلي. تخشَّبَ أهالي مناطق لوتيكوفن السفلى والوسطى والعليا، ما أعظمَ الشرفَ الذي نالوه! عليهم مواصلة التضارُب والتقاتُل، يقول مستشار البلدية. ضحكات. «إتي السوبرمان»، صرَخَ أحدهم، وفي أعقاب ذلك جلَسَ الجميع، واستمرَّ احتفال الأزياء الشعبية. لم يخترْ مستشارُ البلدية ومستشار الحكومة ورئيس البلدية مكانًا إلا أمام صاحب «الدب» وروفو وبينهما ماني. قام صاحب «الراهب» على خدمة الزبائن بنَفْسه، فطلَبَ ضيوفُ الشرف الثلاثة زجاجةَ «ديزاليه»، ثم توجَّه مستشار البلدية — وهو فلَّاحٌ ضخمُ البنية لم يبلغ، كما قد يعتقد المرء، الأربعين بعدُ، إلا أنَّه في الحقيقة من أنجحِ المحامين في البلاد، كما أنَّه أمهر السياسيين في المقاطعة — إلى الثلاثة المتَّكئين إلى الحائط سائلًا إياهم مِن أين هم، فهُمْ بالتأكيد ليسوا من لوتيكوفن العليا. هذا هو صاحب «الدب» من وادي فلوتنباخ، يردُّ موتيرلي مشيرًا إلى شلاج إنهاوفن، ولأول مرةٍ يراه مُغلقَ الفم، فهو عادةَ يتحدث بملء فمه.

هكذا إذن، الرجال من وادي فلوتنباخ، أوووه، لقد سمِعَ مَن يقول في إدارته إنَّ سكَّان الوادي لا يريدون أن ينظِّفوا الطريق من الجليد، عيني يا عيني، منذ مُدةٍ طويلة وهو لم يسمع عن موقفٍ عنيدٍ كهذا. ليس الذنْبُ ذنبه، أجاب صاحب «الدب» في النهاية وقد سيطَرَ عليه الخوفُ من أن يتحدَّث ماني. إنهم ليسوا بهذا الغباء، سيارة البريد تتبع هيئة البريد، ولذلك على السيد مستشار الحكومة أن يدفع تكاليف كاسحةِ الجليد. ولكنَّ الطريقَ لا تحتاجه إداراتُه فحسب، بل البلدية والقرية كلُّها، ردَّ المستشار. إنَّ الأمر سيَّان لديهم، يقول صاحب «الدب»، فقهقَهَ المستشار قائلًا: إذن، عليهم أن يبقَوا طويلًا مغروزين في الثلوج؛ فهو لن ينظِّف الطريق من الجليد على حساب المقاطَعة من أجل جمال عيونهم. ثم فجأةً تملَّكه الغضب فقال: ولكنه سيأمر بكسْحِ الجليد، وسيرسل إليهم الفاتورة ومعها الغرامة المالية. ضحِكَ مستشار البلدية إتي، وصبَّ الخمر في كئُوس الرجال الثلاثة من فلوتنباخ، طالبًا زجاجةَ «ديزاليه» أخرى. لو كان في مكان شافروت، فإنَّه لن يدخل — وهو الاشتراكي — مع الفلَّاحين في نِزاع، إذا كانوا لا يريدون كاسحةَ جليد، فلْيَدَعهم في حالهم. وفي الحقيقة، لماذا سيحتاج أهالي فلوتنباخ إلى كاسحة؟ إنهم فلَّاحون أُصلاء من الجبال، ما زال واديهم كما كان سابقًا، والحمد لله، بينما عربات التِّلِفريك هنا في لوتيكوفن العليا تنقل الناس من تلٍّ إلى آخر، بل إنَّ إميل موترلي، الذي يجلس بجانبه، يريد أن يفرض رأيه، ويُركِّب مِصعَدًا في أودهورن للوصول إلى ذِروة الجبل؛ لأنَّ حالتهم زفت، ليس هذا مستغرَبًا، وهو يدَّعي أنَّ آلاف السُّياح سيصعدون إلى الجبل برُفقة المرشِدين السِّياحيِّين، وسيسقط بالعشرات أولئك الذين يحاولون الصعود بمفردهم، فاعتلاء قمَّة جبل أودهورن أصبحَ مُوضة. لماذا أضحى هردو إتي فجأةً معارِضًا للتقدُّم؟ تساءَلَ رئيسُ البلدية موترلي مستغرِبًا. لستُ معارِضًا، قال مستشار البلدية، ولكنه بدأ يشمئز من كَونِ الناس لم يعُدْ في رُءُوسهم سوى المال، وأنَّ الإدارة الفيدرالية لا تفكِّر إلا في المال والترف والإجازات والأشياء القذِرة. إنَّ ما تكسبه المُومِس شيءٌ لا يصدِّقه عقل، أكثرُ من راتبِ مدرِّس ثانوي؛ ولكن إذا أراد فلَّاحون بُسطاء من الجبال — كهؤلاء الثلاثة — ألَّا يشاركوا في الطَّواف حول العِجل الذهبي والمحافظة على عاداتهم البسيطة النظيفة وعلى جمال الوادي — وهل هناك ما هو أكثر جلالًا وسموًّا من قريةٍ تغطِّيها الثلوج؟ — عندئذٍ تأتي الحكومة بسرعةٍ وتقمَعُهم. ولكنْ، عليهم الآن الذهاب إلى أهالي لوتيكوفن السفلى، وإلا سالَ الدمُ أنهارًا. ينهض الثلاثة ويودِّعون الجالسين؛ فيشعُر صاحبُ «الدب» بانزياحِ الهمِّ من صدره، لدرجةِ أنَّه يطلُب زجاجة «ديزليه» أخرى، ثم زجاجتَين، ثم قهوةً وشنابس، قائلًا إنَّ الطلبات كلَّها على حسابه.

عندما عادوا بقطار الفَجر من لوتيكوفن العليا إلى قريتهم، كان الصُّبح قد نشَرَ ضياءه. وبينما هم يمرُّون على الكنيسة ومقرِّ القسِّ، صاعدين الشارعَ الوحيد الذي يخلو من الجليد في القرية، فُوجِئوا بالقسِّ يقِفُ في مواجهتهم. أهكذا إذن، أيها المتهرِّبون، قال القسُّ لأنَّهم كانوا يتملَّصون من دفْعِ نصيبهم في تكاليف كسْحِ الجليد، والآن عليه أن يسير على قدمَيه إليهم حتى يُلقي عِظَته الشهرية. فأجاب صاحبُ «الدب»، ولكنَّهم — في المقابل — سيقطعون الليلة شجرةَ الزَّان في بلوتلي لاستخدام خشبها في سقف الكنيسة. أخيرًا يقومون بعملٍ مسيحي، قال القسُّ متهلِّل الأسارير، وهو ينوي أن يردَّ لهم جميلهم، إنَّه ينوي اليوم أن ينهض بأعبائه الرعوية على خير وجه، ولهذا سيزور كلَّ عائلة، يريد أن يستمع إلى همومهم وشكاواهم، كما أنَّه يريد أن يرى أحوال الفتيات اللائي تناولن الأسرار المقدَّسة على يدَيه لأول مرة، إنيلي شلاج إنهاوفن وإيزلي أوكسنبلوت وتسوزلي هاكر وماريانلي هنتركراخن، تلك الفتيات كنَّ فيما مضى يتميَّزنَ بالبهجة والورع، كما أنَّه يريد أن يتناوَلَ طعامًا جيدًا في مطعم «الدب»، صحن «بيرن»، وفي المساء بيضًا مقليًّا وبطاطس «روستي»، لديه وقت، فاليوم بدر، وهو سعيدٌ بأنَّه سيتجوَّل مرةً أخرى تحت أشعته الرقيقة هابطًا الوادي.

حاد الفلَّاحون المتحلِّقون حول القسِّ من «شارع القرية» إلى طريق «وادي فلوتنباخ» الذي ما زالت الثلوج الكثيفة تغطِّيه. بجانب صاحبِ «الدب» كان القسُّ يجرُّ قدمَيه في الثلوج، وبين صاحب «الدب» وأوكسنبلوت سار ماني منطويًا على نَفْسه وغارقًا في أفكاره كأنَّه مُعتقَل. إنَّه، في الحقيقة، لا يفهم سرَّ ارتياب الجميع في أمره، إنَّه موافق؛ أمَّا القسُّ فرَاحَ يفكِّر في حُسْن حظِّه هذا الصباح؛ لأنَّ هذه القرى تكون في المعتاد صليبًا ثقيلًا على كاهل القسِّ، مثل جبل الجلجثة بالنسبة للمسيح، إنَّ هؤلاء الناس بدائيون للغاية، ولكن الآن، من الممكن اكتساب بعض الشعبية، للأسف الشديد ما زال المُنظِّر اللاهوتي فوندربورن يفتخر بأنَّه كان يومًا قسًّا محبوبًا في أوميسفيل. في أوميسفيل، في هذه القرية النائية المتزمِّتة تحديدًا، والآن يعِظُ فوندربورن داعيًا إلى علم لاهُوتٍ بدون إله. ولكنْ على القسِّ الذي يَخلُفه أن يتمتَّع بالشعبية، ومن الأفضل أن يكون راعيَ كنيسةٍ في قريةٍ جبلية، هذا هو الشرط الأساسي. يقتربون الآن من الغابة، بينما راح صاحبُ «الدب» يفكِّر فيما ينبغي فِعْله مع القسِّ، هذه العِظَة الملعونة، ثم الزيارات المنزلية، إذا فتَحَ أحدُهُم فمَهُ بكلمةٍ ضاعت الملايين، دون رَجْعة، بينما كان ميجو هاكر يفكِّر في أن يتخلَّص من القسِّ بإلقائه ببساطةٍ في الترعة؛ ترعة فلوتن، عندئذٍ سيخرس الآخرون.

كانت أشعَّة الشمس تنفذ عبْرَ غصون أشجار التَّنُّوب المغطَّاة بالثلوج، وكان شعورٌ طاغٍ بالسعادة يملأ جوانح القسِّ. كتابه «البهجة كأساس» ظهَرَ حديثًا في أربعة أجزاء، وهو بالفعل «خبطة» موفَّقة في علم الإلهيات، هكذا أدرَكَ الآن، إنَّ الألفية الثالثة على الأبواب، كما كتَبَ نيدرهاور في صحيفة «روندشاو»، تحيَّة احترامٍ لنيدرهاور، ولكنَّ المشكلة، كما يقول بارث، في كتابه عن بلوخ، وكلاهما — إذا أخذنا في الاعتبار أعمال سوله سولترمان وجلويبريش — تتغذَّى روافدهما من هيجل. إن المشكلة هي آخرُ المهام التي يواجهها علمُ اللاهُوت في القرن العشرين، وهو — قس الكنيسة الجبلية الصغيرة في فلوتنجن — قام بحلِّ هذه المشكلة، من المستحيل أن يتجاوَزَه الآن فوندربورن. هل هناك، أصلًا، إلهٌ مُحبٌّ؟ تساءَلَ ماني فجأةً وظلَّ واقفًا. توقَّف روفو أوكسنبلوت، وتوقَّف القسُّ. صاحب «الدب» وحده واصَلَ سَيْره؛ لأنَّه كان مستغرِقًا في التفكير — وكأنَّه كان يعلم أفكار ميجو هاكر — ماذا يحدُث لو ألقَوا بالقسِّ من عَلٍ، بإمكانهم أن يقولوا عندئذٍ إنَّ قدَمَه انزلقتْ؛ غير أنَّ نظرةً إلى الخلف — إذ إنه وجد نَفْسه فجأةً يغوص بقدمَيه في الثلوج — أوضحتْ له أن القسَّ، وقد هاله أن يرى ذلك، يقِفُ بجانب ماني بعد أن زلزله السؤال: إنَّ نجمَ القرن العشرين يوشك على الأفول وما زال الفلَّاحون لا يفقهون شيئًا في اللاهُوت على الإطلاق، بمرارةٍ يكتشف ذلك، وهو الذي يريد أن يكتسب شعبيةً عند أهالي هذه المنطقة! يقترب الفلَّاحون ويتلاصقون حول القسِّ، سيتكلم ماني، هكذا يشعُرون جميعًا بالغريزة، وحتى إذا كانوا بحاجةٍ إلى حوالي ساعة حتى يصِلُوا قريتهم، لا بد من قطْعِ الطريق الآن على القسِّ، حتى لا يعرف المزيد. تبرُق عيونهم. غير أنَّ القسَّ يبدأ في الكلام، أكثر غضبًا ممَّا يريد: «أيها الفلَّاح»، يقول القسُّ — سواءٌ أكان اسمه لوخر أو أوكسنبلوت أو أيَّ اسمٍ آخر — ومَن يستطيع أن يحفظ هذه الأسماء التي تشبه أبطال الروايات الروسية؟! — هل يوجِّه له بجدٍّ هذا السؤال الغبي؟ «الرب» — هذه الكلمة لم يعُد القسُّ يستطيع سماعها. هل عليه أن يردِّد الأسطورة التي تقول إن رجلًا عجوزًا بلحيةٍ بيضاءَ يجلس على ذروة جبلٍ «أيجر» أو «فترهورن» أو «بلومليسالب»، على قمَّة «فينسترارهورن» أو «أودهورن»، ومِن هناك يحكم العالم؟ المهمُّ هو البهجة، أيها الفلَّاح، إذا كان الإنسان يشعُر بها؛ فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يسأل كما يسأل الأطفال. إنهم جاءُوا من المحطة، فرحين، سعداء، بعد أن رقصوا في لوتيكوفن العليا، هذا شيءٌ واضح، وقبلها زارُوا المعرض الزراعي وكلُّهم بهجةٌ وإعجاب، ولكنهم ما كادوا يرون قسيسهم حتى ضاعتْ منهم بهجتُهم؛ لأنه يذكِّرهم بأسئلةٍ معيَّنة، مثلًا: إذا كان هناك إله، وإذا كان المسيح حقًّا هو ابن الله، وهل قام من الأموات؟ وهل سيقومون هم من الأموات؟ هذه الأسئلة تثير اكتئابَ المرء، ولكن عندما يرى الإنسان شيئًا جميلًا بسيطًا، عِجلًا صغيرًا وُلِد لتوِّه، فتاةً حسناء، أو هذه الغابة الرائعة أو البدر في تمامه، عندئذ سيشعرون بالبهجة من جديد، وهكذا هو الحال بالنسبة للمسيحية، إنَّها البهجة ذاتها، ولأنَّها البهجة نَفْسها، فإنَّ كلَّ تلك الأسئلة المطروحة للنِّقاش تختفي ولا تُطرح مرةً أخرى، هذه الأسئلة تفقد معناها أمام البهجة.

وبينما راح القسُّ يواصل حديثه هذا عن البهجة كأساسٍ متين، يشعُر صاحب «الدب» بالبهجة؛ إذ خطرتْ على باله فجأةً فكرةٌ، فيظل واقفًا، إلى أن يمرَّ به الآخرون ويصِلَ ميجو هاكر الذي لا يزال عاقدًا النيَّة على إلقاء القسِّ في الترعة. «ميجو»، يناديه صاحبُ «الدب»، «القسُّ يثرثر ويثرثر»، وهكذا — لحُسنِ الحظِّ — لن تتاح لماني الفرصة كي يبوح بشيء، على ميجو أن يجري إلى القرية ويُخلي الكنيسة ولا يَدَع أحدًا يدخُلُها. انطلَقَ ميجو بمجردِ سماعه تلك الكلمات، فمرَقَ بجوار الفلَّاحين صاعدًا الوادي، أمَّا القسُّ — الذي ما زال مهمومًا بالبهجة — فلَمْ يلحظْ ذلك إطلاقًا. عندما وصلوا مشارفَ القرية يشكُر ماني القسَّ على شرحه، ثم يسير إلى داره بجوار مخزنِ غِلال أوكسنبلوت. تفرِّق الطُّرق بين الفلَّاحين الآخرين أيضًا، ويقف القسُّ وحده مع صاحب «الدب» أمام «الدب». لقد حان وقت الذهاب إلى الكنيسة، يقول القس، النساء والآنسات في انتظاره. إنه يتفهم عدم مجيء الرجال اليوم، غير أنَّه يتعجَّب من مرور إحدى الفتيات بسرعةٍ أمامهما داخلةً «الدب» دون أن تُلقي التحيَّة. أليستْ هذه تسوزلي هاكر؛ طفلته العزيزة التي ناولها الأسرار المقدَّسة؟ يتساءل القسُّ، متعجِّبًا غايةَ التعجُّب من أنَّها دخلت «الدب» بدلًا من أن تكون في الكنيسة. ولكن الآن، لقد حان وقتُ العِظَة، وهو يتشوَّق من الآن — بعد أن يقوم بالزيارات المنزلية الأولى — لتناوُلِ صحن «بيرن» عنده.

وهكذا يتوجَّه إلى الكنيسة الصغيرة التي تقع بين «الدب» ومزرعة شتيرر، وحيدةً على المنحدَر، إلا أنَّه يقِفُ مندهِشًا فورَ دخوله، الكنيسةُ خاوية، ليس إلا الآنسة كلاودينه تسبفل، المعلمة، تجلس على الأرغن فوق المدخل، وهي أيضًا في غاية الاضطراب. ماذا حدَثَ؟ ولماذا لم يأتِ أحدٌ؟ يتساءَلُ القسُّ مُتلعثِمًا، ولماذا لم يدقَّ أحدٌ جرَسَ الكنيسة؟ (لم يلتفت إلى ذلك إلا الآن). طيب، إذن … إذا كان يريد أن يعرف، قال صاحبُ «الدب» الواقف خلْفَ القسِّ بعد أن تبِعَه إلى الكنيسة، إنَّ الكنيسةَ خاليةٌ لأنَّ المصلِّين يئسوا منه. نعم، عندما صعدوا الوادي معًا، سأله ماني إذا كان هناك إله. وهو، السيد القس، أجاب قائلًا: ليس ذلك مُهمًّا، كلُّ ما عليه أن يفعله هو أن يفرح، ولكنَّ السكَّان هنا لا يريدون أن يسمعوا ما يعِظُ به السيد القسُّ منذ أن جاء إلى قريتهم، كلامه لا ينفعهم، إنَّهم يريدون ثانيةً ربَّهم، إلهَهُم الحبيب، المخلِص، يريدون القيامة. ثم أضاف صاحبُ «الدب»: ماذا عليه أن يفكِّر عندما تَحين ساعته الأخيرة؟ أو ماني، إذا قضى نحبه تحت شجرة تَنُّوب أثناء إسقاطها، أو تحت شجرةِ زان؟ إنَّهم، باختصار، يُطالِبون بعِظاتٍ أخرى، عِظات كلُّها تقْوَى، وإلا فإنَّهم سيتحوَّلون إلى الكاثوليكية، لأنَّ السيد القسَّ عاجزٌ عن إلقاء تلك العِظات، ولأنه لا يعتقد حتى في وجود الإله الحبيب. إنَّهم لا يريدونه قسًّا لكنيستهم هنا. الكنيسة — لهذه الأسباب — خاويةٌ. وهو ذاته، عمدة البلد، سيكتُب رسالةً بهذا المضمون إلى مجلس الكنائس.

أدار صاحب «الدب» ظَهْره للقسِّ وسار تجاه بوَّابة الكنيسة خارجًا إلى الثلوج. لوهلةٍ اعتقَدَ القسُّ أنَّه سيسقط مغشيًّا عليه، بسبب فودربورن، إنَّه يريد أن يتولَّى منصبه في الجامعة، وهو لن يحصل على كرسيِّه إلا إذا نال الشعبية كقسٍّ، مثلما فعَلَ فودربورن في أوميسفيل. للحظةٍ ظلَّ يتأرجح، ثم سأل كلاودينه تسبفل إذا كان من الممكن أن تساعده في ارتداء الزيِّ الكهنوتي، لأنَّ زيجريست — كما يبدو — ليستْ موجودة، وبعد أن ساعدتْه كلاودينه تسبفل وبعد أن ربطتْ حول عنقه الوشاح، صرَفَها القسُّ صاعدًا إلى المنبر، وفتَحَ الكتاب المقدَّس، ثم قلَّبَ في صفحاته، وبدأ عِظَته بصوتٍ أضحى فجأةً مبحوحًا: «سأقرأ من أعمال الرُّسل، الإصحاح الثالث والعشرين، آية ٢٦: كلوديوس ليسياس يهدي سلامًا إلى العزيز فيلكس الوالي. أيتها المقاعد العزيزة، أيتها المعمودية العزيزة، أيها الأرغن العزيز، أيتها النافذة العزيزة، أيتها الأسوار العزيزة، أيتها العروق الخشبية العزيزة، أيها السقف العزيز، أيتها الكنيسة العزيزة الخاوية. إن كلمات الكتاب المقدَّس التي استمعتم إليها، هي بداية رسالة. المرسِل هو كلوديوس ليسياس، وفيلكس الوالي هو مستلم الرسالة، والسلام والبهجة هي التحية. إذا شرحت لكِ الآن من هو كلوديوس ليسياس، ومَن فيلكس الوالي، فإنَّ كلوديوس ليسياس هذا، وفيلكس الوالي، أو حتى الرَّجُل الذي كُتبت الرسالة من أجله، أي الرسول بولس، كلُّ هذه الأسماء لا تعني لكِ — وبحقٍّ — أيَّ شيء؛ إذ كيف للخشب والأسوار أن تُدرك مَن هم هؤلاء الأشخاص، ولكن — وكما يحدُث عادةً في الأحد الأخير من كلِّ شهر — إذا كان الفلَّاحون والفلَّاحات يجلسون عليكِ، أيتها المقاعد العزيزة، كَم سيتملَّكهم الفضول، لأنهم منذ الأزل، لا يهتمُّون في قُراهم الجبلية إلا بالأشياء الثانوية. ولكنَّ أهمَّ الأشياء، أهم من كلِّ ما هو زائل، ما يعيش في الماضي والحاضر وإلى أبد الآبِدين، ما لا يشعُر به الفلَّاحون والفلَّاحات، جوهر الجوهر؛ هذا ما تشعُرين به الآن أيتها الكنيسة الخاوية: السلام والبهجة. إنكِ تختبرين الآن هذه البهجة، البهجة الأزليَّة، تختبرينها بشكلٍ ملموس. لن تمتلئي اليوم بما يتصاعد من أولئك الفلَّاحين والفلَّاحات من إفرازاتٍ، وهو ما يحدُث عادةً، كما لن تشعُري أيتها المقاعد بثقلِ أبدانهم، ولن تُردِّدي أيتها الجدران شخيرَهم وترتيلَهم البائس الذي تجِدُ نَفْسكَ، أيها الأرغن، مجبَرًا على مصاحبته. لقد تحررتِ، أيتها الكنيسة الخالية، ولأنكِ متحرِّرة، تُدركين أيضًا — وأنتِ بخشبكِ وحجارتكِ ومعدنكِ وزجاجكِ لستِ إلا ترابًا — تُدركين كُنْه كاتب الرسالة، كلوديوس ليسياس، وسبب كتابته الرسالة، أعني بولس الرسول، والوالي مستلم الرسالة، إنَّهم كلَّهم أصبحوا ترابًا، وأنا أيضًا سأصبح في يومٍ ما ترابًا، مثلما سيغدو الفلَّاحون والفلَّاحات، بل إنَّهم الآن ترابٌ دون أن يعلموا. ولكن، لأنَّ الترابَ يفهم التراب، فإننا نتعرَّف كلُّنا على بعضنا البعض، مرآة في مرآة، ونعترف: السلام والبهجة إلى الوالي، والأمر سواءٌ، مَن هو الوالي المقصود أو ما اسمه، سواءٌ إذا كان اسمه فيلكس، كما يذكُر سِفر أعمال الرسل، أو الله، أو الكون، المهمُّ أنَّ التراب والخشب والحَجَر والدود والدواب والإنسان والأرض والشمس ونظام درب التَّبَّانة، المهمُّ أنَّها كلَّها تهلِّل فرحًا نحو اللاشيء: السلام والبهجة! ولهذا — أيتها الكنيسة الخالية — لأننا تراب، ترابٌ من تراب، وذرَّةُ ترابٍ خُلقتْ من ذرةِ ترابٍ لتعيش زمنًا محدودًا، عِدَّة سنوات، عدة شهور، عدة ساعات، بل عدة ثوانٍ أو حتى عدة جزيئات من واحدٍ على المليون من الذرَّة، بضع جزيئات من الثانية لا غير، حتى هذه الجزيئات تهلِّل فرحًا وابتهاجًا! ليس هناك أساسٌ لكلِّ هذه وتلك إلا أساسٌ واحد: البهجة؛ لأنَّ البهجة وحدها لا تُسأل، البهجة لا تحمل الهمَّ، والبهجة وحدها لا تمنح عزاءً؛ لأنَّ وحدها البهجة ليست بحاجةٍ إلى عزاء؛ فهي السابقة، البهجة تسبق كلَّ شيء. آمين.»

بهذه الكلمات أغلق قسُّ فلوتنجن الكتاب المقدَّس الضخم الثقيل محدِثًا دويًّا، وهبَطَ بجلالٍ من المنبر متوجِّهًا إلى غرفة الكهنة، وهناك فكَّ الوشاح، وخلَعَ الزيَّ الكهنوتي، ثم طواه، وعندما أراد الخروج من الغرفة وجَدَ نَفْسه يقِفُ أمام كلاودينه تسبفل. تقِفُ المعلمة وهي تتألَّق بعيونٍ متَّسعة، إنَّ القسَّ كان عظيمًا، قالت متلعثِمة، لقد استمعتُ إلى العِظة كلها. حملَقَ القسُّ في كلاودينه تسبفل، وتملَّكه غضبٌ هائل وحنَقٌ عظيم تجاه العالَم كلِّه، تجاه فودربورن، وتجاه زوجته من عائلة رامس أير التي لا تفعل شيئًا يزيد من شعبيته، ومَن الذي يهتمُّ بالدورات التي تُقيمها للمتزوِّجين؟ يجتذب كلاودينه تسبفل إلى حِضنه، «سلامًا وبهجة»، ثم ينهال عليها تقبيلًا، بعد غدٍ ستكون زوجته في كونيجن مع دورتها للمتزوِّجين، يزأرُ بصوتٍ هائل، حتى إنَّ الصدى يتردَّد في الوادي: لقد أعطيتُهم ما يستحقُّون! ثم يعدو القسُّ، تاركًا خلفه كلاودينه تسبفل وهي تشعُر بسعادةٍ غامرة بعد أن قبَّلها، يمرُق أمام «الدب» هابطًا الوادي، دون أن يلتفتَ وراءه سوى مرةٍ واحدة عندما وصَلَ إلى غابة فلوتنباخ، فردَّد وهو يهزُّ قبضته: «سلامًا وبهجة». يبتسم صاحبُ «الدب» ابتسامةَ نصر، لقد تخلَّصوا من القسِّ، وعندما عاد إلى الحانة سأل سيمو عن الفتاة الموجودة الآن عند لوخر. فريدا مرةً أخرى، قال سيمو حانقًا. وماذا في ذلك؟ بصفتها ابنةَ كوبلر سترث الآن مبلغًا محترمًا، عليه ألَّا يكون غبيًّا، إيني أيضًا، وكلُّ النساء يضاجعن فاوتي. ثم أعطى سيمو زجاجةَ «بِتسي» قائلًا: «خُذ، اصعد بها إليه»، وعليه أيضًا أن يُحضر للشرطي أربع زجاجات «جزائري»، حتى لا يسبِّب لهم إزعاجًا هذه الليلة عندما يكتمل القمر، عندئذٍ سيمرُّ كلُّ شيء سريعًا، إنَّه يعتقد أنَّ الآخرين يفكِّرون تفكيرًا مشابِهًا، ولهذا فقط ظلُّوا في مزارعهم، بدلًا من الجلوس في حانته لتناول الطعام. إنَّهم كلَّهم مضطرِبون بعضَ الشيء.

أخيرًا انتصَفَ النهار، ثم اقترب العصر الذي لا يريد أن ينتهي. بدت السماء مثلَ جداريةٍ ضخمةٍ داكنة الزُّرقة، لا نسمة هواء، لا حركة، ليس إلا البرودة القارسة. ذات مرةٍ سمِعُوا جعجعةَ الرَّعد الآتية من أرض الجورجلين، حممٌ بركانية، ثم حوالي الخامسة أتى ماني من نواحي غابة فيلش، يرتدي ما يرتديه دومًا من ثياب، دون كُوفيةٍ أو طاقية، وعلى بُعد أمتارٍ يتبعه رس شتيرر وابنه شتوفو. أمام منزله وضَعَ ماني العصا مُستنِدةً على إطار الباب، ثم سار عبْرَ المطبخ إلى غرفة الجلوس حيث جلَسَ إلى المائدة يوجو وألكس، وبجوار النافذة وقفتْ زوجة ماني متطلِّعةً إلى الخارج تجاه غابة مانيرين، بينما جلَسَ شتيرر الأب في الخارج على دكَّة، أمَّا الابن فراح يتمشَّى خلْفَ المنزل. لقد تمشَّى قبل قليل، قال ماني، إلى شلَّال المياه، إنَّه متجمِّد تمامًا، وقبل دقائقَ غربت الشمس خلْفَ جبل تسولنجرات. «كبيرة جدًّا وحمراء». بعد يومٍ أو يومَين سيهطل الثلج ثانيةً، قال ألكس، بينما رأى يوجو أن السيد ماني كان عليه أن يرتدي مِعطفًا في هذا البرد، وإلا سيصاب ببردٍ مرةً أخرى. لماذا يناديه فجأةً ﺑ «السيد ماني»؟ يسأله الفلَّاح. لأنَّ فاوتي لوخر أبوه، أجاب يوجو. أهكذا، هذا هو ما حكاه فاوتي ليوجو إذن، ردَّ ماني بلهجةٍ تقريرية موجِّهًا كلماتِه إلى زوجته الجالسة مُقابِلَه. لكنَّها لم تنطق بكلمة. نهَضَ يوجو، وهو فلَّاح فارعُ الطول، طيِّبٌ وبشوش في المعتاد، ثم قال غاضبًا إنَّه عندما حملتْ منه وأراد لوخر أن يأخُذَها معه إلى كندا؛ فإنَّ أمَّه، هذه النعجة، تزوجتْ ماني بمزرعته الصغيرة. لو كانت تزوجتْه، لكان يوجو يعيش اليوم في كندا مالكًا الملايين، بدلًا من بقائه هنا خادمًا لزوجِ أمِّه، لا يحصل إلا على ما يُقيم الأَوَد، ولا يستطيع حتى أن يتكفَّل بزوجة. سيحصلون الآن على مليون، أجاب ماني.

إنَّه يعترف بأنَّ الأوضاع في القرية كانت صعبةً، المنزل ومباني المزرعة تُشبه بالأحرى الأكواخ، ولكنَّ كلَّ شيءٍ سيتحسن، وسيكسبون أكثر بعد تحديث الزرائب وشراء الجرَّار، لن يتحسن وضعُ زوجته فقط، بل أيضًا حال يوجو وألكس سيتحسن، بل القرية كلها. لكنَّه لن يقتسم المليون مع ألكس، قال يوجو، إنَّها له، كما أنه لا يفكِّر مطلقًا في بناء زريبةٍ حديثة وشراءِ جرَّار، سيرحل إلى كندا بالمليون، وسيتحدَّث مع لوخر ليُعطيه حفنةً من الملايين. فهو أبوه في نهاية الأمر، وكلُّ الناس يقولون إنَّه يُشبهه. هذا صحيح، فتَحَ ألكس فمه أخيرًا، كلُّ هذه التجديدات الزراعية كلامٌ فارغ، ولكنَّه لن يستغني عن نصف المليون، إنَّه الآن في الثامنة والثلاثين، ويستطيع بنصف مليون أن يحيا في المدينة حياةً أفضل من حياته هنا. مَن يتحدَّث عن نصف مليون، أو مليون، أجاب ماني، العائلةُ كلُّها ستحصل على المليون، زوجتُه ستأخذ الثُّلث، وسيحصل كلٌّ من يوجو وألكس على ثلث مليون.

لن آخذ من النقود شيئًا، قالت الزوجة فجأةً، ثم دارتْ حول المائدة ونظرتْ في وجه زوجها. لقد أنهَكَها العمل طوال السنوات، ومع ذلك فهي تبدو أصغرَ كثيرًا من عمرها، رغم أن شَعرها أبيضُ كالثلج، ولكنَّها ما زالتْ فارعةَ القامة وفي صحةٍ جيدة. «آنذاك تزوجتُك يا ماني»، أضافت، «لأنَّك رجلٌ طيِّبٌ ومستقيم، ولأنَّك أردتَ أن تتزوَّجني رغم حَملي. كنتُ أعرف آنذاك أنَّه ليس بإمكاني الاعتماد على لوخر. وأنت ترى الآن، كم كنتُ محقَّةً في اعتقادي. إنَّه لم يرجع كي يثأر منك، كما قد تتوهَّم، لا، لقد سمَحَ لنَفْسه بأنْ يلعب بنا، نحن الفقراء، لأنَّه يحتقرنا، اليوم، وآنذاك. مصيرنا أيضًا يسلِّيه: أهالي القرية سيتشاجرون فيما بينهم، وأنت ترى شِجار ألكس ويوجو، فهناك عائلاتٌ لديها عددٌ كبير من الأطفال، كما هو الحال لدى جايسجرازر، وأخرى لا تتكوَّن إلا من فردَين، مثل شتيرر وزوجته. إنني أقول لك يا ماني، بعد أن يقتلوك، ستنقلب هذه القرية إلى جحيم، كلُّ واحدٍ سيحاول أن يهجم على الآخر، كالذئاب، لكنَّ أحدًا لن يجرُؤ على فِعْل شيء، خوفًا من أن يفتح الآخرون فمَهُم. ولكن، ما هذا الذي أقوله. أنت الذي ستموت، لستُ أنا. ولكن، لأنَّني مُرغَمةٌ على أن أودِّعك إلى الأبد، فلا بد أن أقول لك يا ماني: لقد ظللتَ الإنسانَ الطيِّب المستقيم الذي تزوجتُه، ولن أبكي لأنَّهم سيُسقطون الزانة فوق رأسك، أنا فرحانةٌ لأنَّني لن أضحك على غبائك، لأنَّهم هم الحَمقى للغاية. كل هذه السنوات وأنت تعمل ليلَ نهار، كما عملنا كلُّنا، يوجو وألكس وأنا ربما أكثرَ من الآخرين، والآن يأتي هذا المتباهي من كندا ومعه الملايين، وماذا تفعل أنت؟ أنت تضحِّي بنَفْسك! لماذا؟ هل سينوبك شيء من المال؟ لو كان للأمر معنًى عند أهل القرية، لقبلناه. ولكن ليس للأمر أيُّ معنًى، وها هم كلُّهم يتصرَّفون كالعاهرات، وليس فقط البنات. في كلِّ يوم كان بإمكانك أن تُنقذ نَفْسك، فليس هناك مَن يعرف طُرُق القرية وشوارعها وحواريها مثلك. هل أخبرتَ الشرطي بما سيحدث؟ ولا حتى هذا فعلتَه، إنَّ صاحب «الدب» يعرف جيدًا لماذا يجب تكتُّم الأمر أمامه؛ لأنَّه لن يتوقَّف عندئذٍ عن ابتزازهم. وفي «الراهب» في لوتيكوفن السفلى، هل فتحتَ فمَك أمام مستشار البلدية ومستشار الحكومة أو عمدة القرية؟ لم تنطق بكلمة. لقد تجوَّلتم في أنحاء فلوتنجن، ولم تصرُخ قائلًا: «يا ناس، إنهم يريدون قتلي مقابل ١٤ مليونًا»، رغم أنَّهم كلَّهم كانوا سكرانين طينة، كان بإمكانك أن تهرُب ببساطة، الأمر كان في غاية السهولة، أيضًا لم تقُل للقسِّ كلمة. في الغابة كانت الفرصة قد فاتتْ؛ إذ كان بإمكانهم أن يرموا به في الترعة. ولماذا لم تدافع عن نَفْسك؟ سأقول لك: لأنَّك كنتَ دائمًا تحلُم بذلك، طوالَ عُمرك، أن تكون لديك زريبةٌ حديثة وجرَّار، ولأنَّك توهمتَ أن يوجو وألكس يريدان ذلك أيضًا. لهذا لم تدافع عن نَفْسك، والآن ها أنت ترى، لا أحد يريد زريبةً حديثة وجرَّارًا، لا ألكس ولا يوجو، ولا أحد في القرية. كلُّهم لا يريدون إلا المال. لا أحد يمكن أن يساعدك يا ماني دوفو.»

– «خلاص، يا امرأة»، قال ماني، «هذا هو ما حَدَث». في إطار الباب وقَفَ صاحبُ «الدب» قائلًا إنَّ الساعة قد حانتْ، ثم تحدَّثَ مع روفو أوكسنبلوت خلْفَه قائلًا إنَّ من الأفضل أن يظلَّ هنا. «مع السلامة»، قال ماني لزوجته التي لزمت الصمت. ثم سار الجمع — باستثناء روفو — مع ماني، مارِّين ﺑ «الدب»، ثم قصدوا الوادي مباشرةً، وهناك عبروا الترعة المتجمِّدة نحو غابةِ مانيرين. فوق جبل بالتسن هوبل رأَوا القمر يسير في اتجاه جبل أودهورن الذي لا يُرى إلا من غابة مانيرين، انتشَرَ ضياءُ القمر الساطع حتى كاد يُحيل الغابة نهارًا؛ صعدوا بمشقَّة طُرُق الغابة المغطَّاة بالثلوج، ووصلوا إلى منطقة بلوتلي التي تخلو من الأشجار باستثناء شجرة زانٍ واحدةٍ ضخمةٍ تنتصب في وسطها، زانةُ بلوتلي. تحلَّقَ الفلَّاحون حولها، وفي يدِ كلِّ منهم بَلطةٌ كبيرةٌ طويلةُ الذراع، ومن فَمِهم تصاعدتْ أنفاسهم كالبُخار. هل نشروا جزءًا من الزانة، تساءل صاحبُ «الدب»، فأجاب مكسو أوكسنبلوت أنَّهم قاموا بذلك عصرَ اليوم. «اجلس يا ماني»، قال صاحبُ «الدب». كوَّم ماني الثلوج في جانب الزانة التي يسطع البدر فوقها وجلَسَ مُعطيًا ظَهْره للزانة، وتحديدًا في المكان الذي نشروا جزءًا منه.

«فلْنبدأ»، قال صاحبُ «الدب»، وفي إثر ذلك شرَعَ كلٌّ من شريجو هاكر ونوبي جايسجرازر في الضرب بالمِعول على زانة بلوتلي، غير أنَّ المِعول ارتدَّ بعد مُلامَسَته الجذعَ الصُّلبَ كالحديد، فتردَّد صدى الضربات في الوادي، حتى إنَّه كان يُسمع بصوتٍ عظيم في القرية، شيئًا فشيئًا ينغرز المِعول، والآن ينهالُ رس شتيرر وبينجو كوبلر على الزانة، فيما صاحبُ «الدب» يرمُق ماني المرتكِزَ على الشجرة وقد شرعتْ شفتَاه تتحركان. أصدَرَ صاحبُ «الدب» إشارةً، فتوقَّفَ كوبلر وشتيرر عن الضرب. وانحنى صاحبُ «الدب» على ماني وسأله عمَّا إذا كان يُريد شيئًا.

«البدر»، أجاب ماني بعيونٍ متَّسعة. «البدر»، تساءل صاحبُ «الدب» ناظرًا إلى القمر دون أن يفهم. «ماذا تقصد؟» ثم الْتفت إلى الرجلَين المُمسِكَين بالمعاول: «لا شيء، وَاصِلا». «لا أعرف»، قال بينجو، وأضاف رس: «انظرْ إلى البدر مرةً أخرى». فحدَّق صاحبُ «الدب» في البدر، وبعد بُرهة قال: «إنَّه غيرُ كاملِ الاستدارة». فتصاعَدَ من خَلْفه صوتُ سيمو الخائف: «تنقُصه قطعةٌ صغيرة». عندئذٍ أدرَكَ صاحبُ «الدب» ما يرى، وقال شارحًا: «كُسوف. يحدث هذا كلَّ شهر». «شيءٌ لم تسبق لي رؤيته»، زعَقَ هيرمنلي تسوربروجن، فتساءل صاحبُ «الدب»: وهل سبَقَ لهما أن تأمَّلوا القمر أو النجوم؟ إنَّهم يجلسون كلَّ ليلة في حانته، وعندما يرجعون إلى بيوتهم لا يرَون القمر من فرط سُكْرهم، خسوفُ القمر شيءٌ يكاد يحدُث كلَّ أسبوع، كثيرًا ما رأى الهلال متآكِلًا كقطعةِ جُبن، والخسوف يمرُّ وينتهي خلال دقائق. «لكنَّه يزيد»، قال بينجو، «القمر يتناقص». لزموا الصمت جميعًا، ثم أتى من حافة الغابة العجوزُ جايسجرازر مُقترِبًا ناحية الفلَّاحين، وكأنَّه شبحٌ في ضوء القمر الذي راح — دون أن يُلاحظوا — يضعُف ويشحُب. «يا بهائم، هل أدركتُم الآن لماذا غرَّرَ فاوتي لوخر بكُمْ بملايينه كي تقتلوا ماني في ليلة البدر هذه؟» قال العجوز مُنتقِدًا في شماتة، «لأنَّ القمر سينفجر الليلة، لأنَّه بدأ يتوهَّج من الداخل، وسترون ما يحدُث. لقد شاهدتُ ذلك عدَّة مرَّات، ولكنني لم أرَه قَط في يومِ أَحد. سيسقط القمر ويتناثر حُطامًا على الأرض، وكلُّ جزءٍ منه سيكون أكبرَ من أوروبا، وستكون في ذلك نهايةُ الأرض والعالَم. ولهذا يَمنح لوخر ملايينه، لأنَّها لن تُفيده بشيء». قهقَهَ العجوز، وقفَزَ فرحًا وسطَ الثلوج، إلا أنَّ ابنه لودي صرَخَ فيه قائلًا: «اخرس، ولا كلمة». أخَذَ بينجو يضرب ببَلطَتِه على الزانة كالمجنون، ثم الْتحق به رس، بجنونٍ وعنادٍ مُماثِلَين، وبسرعةٍ محمومة. «توقَّفا»، صرَخَ صاحبُ «الدب» مُرتاعًا، «القمر يختفي». حدَّقَ الاثنان ومعهما الآخرون في القمر. «إنَّه لا يختفي»، قال رس شتيرر، «بل ثمَّة شيءٌ بنيٌّ صَدِئ يغطِّيه». بعد بُرهةِ تفكير قال بينجو كوبلر: «إنَّها الشمس». فصاح سيمو تسوربروجن: «أعتقد أنَّها أستراليا. أعتقد أنني تعلمتُ ذلك في المدرسة». «كلامٌ فارغ»، يقول رس، «الأرض مستديرة، لا يمكن أن يكونوا في نَفْس الوقت فوق، وإلا كان باستطاعتهم في أستراليا أن يتمشَّوا فوق سطح القمر، كلامٌ فاضٍ». أخَذَ الفلَّاحون يحملِقون ويحملِقون.

ازداد إظلام القمر وخسوفه؛ فتغيَّر لونه من البُني الطيني، إلى البُني الصَّدِئ. فيما النجوم المشتعِلة التي لم تكن موجودة من قبل، تحيط به؛ إلى أن أمسى في النهاية عينًا متآكلة متوهِّجة، تغطِّيها البُثور والدمامل البَشِعة، عينًا تفيض شرًّا، تنظر إلى الثلوج المصطبغة بالأحمر القاني، وتُحدِّق في الفلاحين الذين يُمسكون بالمعاول التي تبدو ملطَّخة بالدماء. «اهرُب يا ماني»، يزعق صاحبُ «الدب»، «اهرُب»، ثم خرَّ على رُكبتَيه. «أبانا الذي في السموات»، بدأ الصلاةَ وفي إثره باقي الفلَّاحين، «ليتقدَّس اسمك». وحده العجوز جايسجرازر ظلَّ يتمرَّغ في الثلوج، سينفجر القمر من الداخل، وسيكتسح صديده وقَيحه كلَّ شيء، ثم ينتهي العالَم؛ راح العجوز يصيح ويهلِّل ويُقهقِه، أمَّا الفلَّاحون فواصلوا الصلاة: «ليأتِ ملكوتك». لم يبدُ على ماني أنَّه أدرَكَ أنَّه صار حرًّا؛ إذ ظلَّ يجلس بلا حَرَاك في مكانه. «لتكنْ مشيئتك، كما في السماء، كذلك على الأرض». أخيرًا نهَضَ ماني، وفي تلك اللحظة بزغَتْ شرارةٌ بيضاءُ خلْفَ الدُّمَّل المتوهِّج في السماء بلونٍ أحمرَ كالنيران.

«لقد عاد مرةً ثانية»، صرَخَ هيرمنلي تسوربروجن. «القمرُ يعود، القمر». نهَضَ الفلَّاحون بسرعة، وسُمعتْ صرخةُ ابتهاجٍ عظيمةٌ، خوفهم يقلُّ، كلما نَمَت الشرارةُ المتوهِّجةُ متحوِّلةً إلى قطعةٍ من البدر الذي عهِدُوه. «اقطعوا الشجرة»، صرَخَ صاحبُ «الدب»، وعلى الفور انهال رس وبينجو بالضرب على الشجرة، بسرعةٍ رهيبة غرَزُوا المعاول في الجذع الذي اتَّكأ عليه ماني، جالسًا، مفرشِحًا قدمَيه وسط الثلج الذي فقَدَ لونه الأحمر القاني الشبحي، ثم عاوَدَ نوبي وميجو الضرب من جديد، ازداد بهاء القمر خلْفَ الدُّمَّل الدامي الذي راح يتحلَّل إلى لا شيء، واختفت النجوم. أخَذَ هنتركراخن وتسوربروجن الأب وإيبجر وفزر وإلين وبودلمان أيضًا ينهالون على جذع الشجرة بالمعاول. ثم كلُّ الفلَّاحين، وكذلك صاحبُ «الدب»، كلٌّ منهم يتقدَّم ويضرب، ثم التالي. عندما سقطتْ زانة بلوتلي كان القمر في تمامه، مثلما كان قبل الخسوف، كبيرًا، مستديرًا، وديعًا، رقيقًا، وغرقت السماء في ضوءٍ فضِّي. ليس علينا الآن سوى أن نُخرجه من تحت جذع الزانة السميكة، قال صاحبُ «الدب» آمِرًا، لقد دُهس ماني، سُحق سحقًا، هذا إذا كان بالإمكان رؤيته، ليس إلا عصيدة. ولهذا أُصيب صاحب «الدب» بالإحباط في صبيحة اليوم التالي، في الثامنة، عندما قال لوتشر إنَّه لا يريد أن يرى الجثَّة، وإنَّه يصدِّق أنَّ ماني قد لقي مصرعه في الحادث، ثم تساءل: وما الذي يجعله يتفرَّج على الجثَّة؟

لأول مرة، منذ تلك الليلة التي دخَلَ فيها الحانة وسطَ ظلَام الشتاء، نزَلَ لوتشر من غرفته. كان يرتدي مِعطفه الفرو والبُوت. جلَسَ إلى المائدة الطويلة وراح يشرب قهوةً بالحليب من فنجانٍ كبير، بينما جلستْ أمامه فريدا وإيني. اعتقد صاحبُ «الدب» أن يدَي لوخر ترتعشان، كما بدا في عينَيه أكبرَ سنًّا، والوجه أكثرَ شحوبةً وشيبًا. النقود فوق، قال لوتشر. صعِدَ صاحبُ «الدب» الدَّرَج بضجةٍ كبيرة، ثم فتَحَ باب غرفة لوتشر بقوة، ما زالت الحقيبة على المائدة تحت النافذة، بدون قُفْل، ففتَحَها، ووجَدَها مكتظَّةً بالأوراق النقدية. على الفِراش كانت زوجته ترقد. لقِيَ ماني مصرعه تحت زانةِ بلوتلي، قال محملِقًا في النقود، الكنيسة بحاجةٍ إلى عروق خشبية. لقد سمِعُوا الضربات، تُجيبه ليزته. راح يحدِّق في الرِّزَم النقدية من فئة الألف، وأخَذَ يعدُّ، عشرة آلاف، عشرة آلاف، عشرة آلاف، ثم شعَرَ أنَّ هناك خطأ ما، عشرة آلاف، تسعة آلاف، عشرة آلاف، ثمانية آلاف. «أيتها النساء! لقد سرقتنَّ عشرات الآلاف، كلُّكن سرقتنَّ أوراقًا من فئة العشرة آلاف». ضحكتْ ليزته: «نحن أيضًا لنا سعرنا؛ وإذا لم يَكُن الأمر يناسبكم، لدينا ما نَحكِيه». أغلَقَ صاحبُ «الدب» الحقيبة، ثم حمَلَها إلى غرفة النوم، وأراد أن يُغلق الباب بالمفتاح، ثم تذكَّر أنَّ زوجته معها مفتاحٌ ثانٍ، وهكذا نزَلَ الدَّرَج حاملًا الحقيبة. لم يعُدْ لوتشر يجلس في الحانة. وهو على الدَّرَج سأل صاحبُ «الدب» إيني عن فاوتي، فأجابتْ بأنها لا تعرف، وعندما أمَرَها بالذهاب إلى المطبخ وغسْلِ الصحون، ردَّت إيني أنَّها لا تنوي ذلك، وأن ليس لديها ما تفعله في المطبخ، وعندما صرَخَ في وجه فريدا أنَّ عليها أن تقوم بعملها بدلًا من القعود هكذا، ردَّت عليه باستقالتها؛ إنَّها ابنة مليونير وقريبًا ستكون زوجةَ ابن مليونير، أيْ صاحب «الدب»؛ فهي ستتزوج سيمو، ولهذا فهي لن تعمل بعد اليوم. يسيل العَرَق على وجه صاحب «الدب». عبْرَ النوافذ الصغيرة يلمح السيارة الكاديلاك وهي تمرُق. تنزلق السيارة تاركةً القرية وراءها، هابطةً الوادي، وعند الصَّخرة، قبل أن تنحرف إلى طريق الغابة، تصِلُ إلى زوجة ماني الميت.

بعد حوالي أربعين سنة يرى كلاري تسوربروجن مرةً أخرى. كانت تحمل حقيبة. توقفت الكاديلاك. واصلت المرأة سَيرها. أنزَلَ الزُّجاج، وأخرَجَ رأسه من شباك السيارة قائلًا: «كلاري، اركبي». ظلَّت واقفةً متأمِّلة فيه، ثم قالت: «طيب، ما دمتَ تدعوني يا فاوتي لوخر». فتَحَ لها باب السيارة الأيمن، فوضعتْ حقيبتها على المقعد الخلفي وجلستْ جانبها قائلةً: «تبدو وكأنَّك بلغتَ المائة». «كلُّنا كَبِرنا»، أجاب لوخر، ثم سألها بعد أن وصَلَ إلى الغابة: «إلى أين تريدين الذهاب؟» «إلى لوتيكوفن العليا لأبحث عن عَمَل». بحذرٍ تنساب السيارة على الشارع الهابط إلى الوادي. وقبل أن يصِلَ إلى شِعاب الوادي انحرَفَ لوخر بالمِقود بقوة، ثم أوقَفَ السيارة في عُرض الطريق، وأطفأ المحرِّك. لزِمَ الصمت مرسِلًا نظَرَه إلى الأمام. وبعد بُرهة قال: «كلاري، لقد أخفيتِ عنِّي أنَّكِ حامل». «ماني وأنا كنا نريد الزواج، كان ذلك شأننا نحن، ولا يخصُّك في شيء». سألها: «ألَمْ يُزعج ذلك ماني؟» «الطفلُ طفل»، أجابتْ. صمَتَ متأمِّلًا، ثم قال في النهاية: «كان من الأفضل أن تتزوجي ماني. نحن الاثنان من نَفْس الطينة. ولم نَكُن لنتوافق». ثم فتَحَ مِعطفه الفرو، وشدَّ سحَّابات البدلة الرياضية الزرقاء والحمراء، معرِّيًا عُنُقه. «لقد عاوَدَني الألم. نَفْس الألم الذي جاءني من نصف عام». اتَّكأ إلى الخلف، تاركًا ذراعَيه تهويان. «لقد خرجتُ من المستشفى قبل أيام. انسدادٌ في شرايين القلب.»

خيَّمَ الصمت على كليهما. فوق أشجار التَّنُّوب البيضاء انتشَرَ اللون الرَّمادي الحليبي في السماء، وفي مكانٍ ما تكاثَفَ مُكوِّنًا كتلةً مضيئة لا شكل لها، ولكن دون أن تَظهَر الشمس. بيده اليمنى راح يَدلُك صَدْره ببطءٍ وانتظام تحت البدلة الرياضية. «أعترف، آنذاك، لمَّا تركتُ القرية، شعَرتُ بغضبٍ هائل، ولكن فور وصولي إلى الغابة هنا، كنتُ نسيتُ غضبي؛ إذ تملَّكني فجأةً الشوق لترك كلِّ شيء، هذا البلد، وأوروبا السخيفة هذه. نعم، لقد اغتنيتُ هناك، بطُرُق مشروعة وغير مشروعة، لا تسأليني كيف. لم أهتمَّ بذلك يومًا، ولا تسأليني أيضًا عن النساء على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي اللعين، ولا تسأليني عن ابني الذي سيرث كلَّ شيء، هذا الوغد الذي أصبَحَ أضخم منِّي عشر مرَّات. أمَّا أنتم في واديكم التعيس هذا فقد نسيتكم منذ فترةٍ طويلة، حتى أكون صادقًا: فور انطلاق القطار من فلوتنجن، لم أفكِّر فيكم يومًا، مُحِيتُم من ذاكرتي مَحوًا». لاذ بالصمت متحسِّسًا الباب الأيسر بيده اليمنى في مشقة، وكأنَّ ذراعه اليسرى مشلولة، وبلا صوتٍ هبَطَ زجاجُ النافذة، أحاط بهما الهواء البارد الرطب، بجانب الرَّجُل الذي طَعَن فجأةً في السنِّ بَدَت المرأةُ شابَّة. «الألم يجيء من وسط الصدر»، قال لا مُبالٍ، «ويصعد إلى الذقن، والذراع اليسرى، من الإبط حتى أطراف الأصابع». صمَتَ مرةً أخرى، ولم تتحرك المرأة التي جلستْ بجانبه ساكنة، إنَّه حتى لا يعرف ما إذا كانت أصغتْ لمَا قاله. «ثم أُصبتُ بانسدادٍ في شرايين القلب»، قال لوتشر، «ليس شديدًا كما هو الآن، ولكنه كان خطيرًا بما فيه الكفاية. عندما لزمتُ الفِراش عدَّة أسابيع، تذكَّرتُ القرية فجأةً، لم أتذكَّر أيَّ شخص، فقط القرية. أو بالأحرى: فقط هذه الغابة. ثم طلبتُ بعض المعلومات عن القرية؛ كانت المرةَ الأولى التي أرى فيها القنصل السويسري. بعد ذلك هبطتْ طائرتي في زيورخ، وقمتُ بسحب ١٤ مليونًا من أحد حساباتي الجارية». صمَتَ متأمِّلًا. «ربما بدافعٍ من الطِّيبة. حتى تنهضوا على قدمَيكم. ما قيمة ١٤ مليونًا؟ ولكن، عندما قال لي صاحبُ «الدب» إنَّكِ كنتِ آنذاك حاملًا، تملَّكَني الغضب الهائل الذي شَعَرت به آنذاك، فاشترطتُ عليهم، كما تعلمين، أن يقتلوا ماني أولًا. كان عليهم في الحقيقة أن يقتلوكِ أنت، ولكنَّ غضبي لم يكُنْ هائلًا إلى هذه الدرجة، وهكذا اعتقَدَ ماني أنَّ عليه أن يموت؛ ولكن الآن، عندما أفكِّر فيما حدَثَ في تلك الأمسية مع صاحب «الدب»، لا أعرف، هل كان ذلك غضبًا بالفعل؛ أم أنَّ الطمع الهائل هو الذي سيطَرَ عليَّ؟ أن أعيش مرةً أخرى، والاقتراح كان جزءًا من الطمع؛ إذا أراد الإنسان أن يعيش، فإنَّه يريد أن يقتل، إلا إذا كان يريد أن يظلَّ طيلةَ عمره في أحضان النساء، ما أكثر اللواتي جئن إلى فِراشي في الأيام السابقة كي يسرقن ورقةً أو عِدَّة ورقات من فئة العشرة آلاف، كان الأمر بالنسبة لي سواء، كما كان سواء مَن هو القتيل. كان من الممكن أن يقتلوا شخصًا آخر غير ماني، فأنا لم أرَ الجثَّة، وحتى لو لم يقتلوا أحدًا، لكنتُ أعطيتُهم المال.»

ثم ران الصمت. حطَّ طائرٌ أسودُ كبيرٌ على الباب الأمامي بجانب لوتشر. «العَقَاعِق تأتي دائمًا إليَّ، حتى في الأيام الخوالي كانت تأتي دائمًا إليَّ»، قال لوتشر، فيما الطائر الأسود يقفز داخلًا السيارة، ثم توقَّف على يده اليمنى فوق المِقود. قالت له: «لمَّا زاروا المعرض الزراعي، كان عليَّ أن أذهب إلى فلوتنجن وأقدِّم بلاغًا ضدَّك». «لكنكِ لم تفعلي»، ردَّ بنبرة تقريرية. لزِمَت الصمت، ثم أضافتْ: «كنتُ عندئذٍ سأحتقر ماني». فقال بلا اكتراث: «لا يفيده هذا في شيء؛ إنَّه ميت». صمتتْ ثانية، وبعد بُرهة قالت بلا اكتراثٍ أيضًا: «والآن أحتقر نَفْسي». «وماذا يعني ذلك؟ لقد احتقرتُ نَفْسي دائمًا». أخَذَ العَقْعَق يتقافز على الباب الأمامي. «لا بد أنْ أمشي، وإلا فاتني القطار المتَّجه إلى لوتيكوفن العليا». لم يُجِب لوتشر.

طار العَقْعَق إلى السماء الصباحية التي انتشَرَ فيها اللون الحليبي. ثم هبطتْ نُدَف ثلجٍ خفيفةٌ. فتحتْ باب السيارة وأخَذَت الحقيبة من المقعد الخلفي، وشقَّت طريقها في الثلوج حول مقدمة السيارة، واستمرَّت هابطةً الشارعَ الأبيض. مرَّت بالمنطقة التي تخلو الغابة فيها من الأشجار، ثم واصَلَت سَيْرها بين أشجار التَّنُّوب الكبيرة، النُّدَف الثلجية تحوم في الهواء وكأنَّها لا تستطيع الهبوط، نُدَف كبيرةٌ هشَّة كأوراق الزهر. كانت تُمسك الحقيبة أحيانًا بيُسراها، وعندما وصلتْ إلى فلوتنجن توقفت النُّدَف عن الهبوط. مرَّت بالكنيسة، ثم وصلتْ إلى محطة السكك الحديدية، لكنَّ القطار كان قد انطلق. اشترتْ تذكرةً، وجلَسَت على الدَّكَة بجانب كُشْك التحويلة. يُقرع الجرَسُ، ويخرج ناظر المحطة بِرتشي من غرفته. «السيدة ماني، القطار التالي إلى لوتيكوفن العليا لن يأتي قبل ساعةٍ وعشر دقائق. ستتجمَّدين من البرد». إنَّها لا تشعُر بالبرد أبدًا، أجابتْ. وظلَّت جالسةً دون حَراك، فيما كان الطقس يزداد برودةً. على أحد عواميد الضغط العالي جلَسَ أحد العَقَاعِق، لا يكاد يلاحظه أحدٌ أمام جبل أودهورن الأسوَدِ الذي ينهض في ضخامة. مرَّ القسُّ في صُحبة زوجته، انعطَفَ القطار القادم من لوتيكوفن العليا حول غابة ريزر، ثم توقَّف، قفَزَ المحصِّل من القطار صارخًا: «فلوتنجن»، قبَّل القسُّ زوجته، صعِدَت، لوَّح القسُّ، واستدار عائدًا، رأى السيدة ماني، أراد إلقاء التحية، غير أنَّه لم يفعل، وانصرف. دقَّت أجراس الكنيسة العاشرة. من مبنى المدرسة تعالتْ صرخاتُ الأطفال، الاستراحة الكبيرة، واصَلَ العَقْعَق طيرانه في اتجاه غابةِ فلوتنباخ. في عُمق الغابة، بعد وقتٍ طويل، استعاد لوتشر وَعيَه فجأةً. ما زالت الشبابيك مفتوحة. الثلوج متراكِمة داخلَ السيارة، على المِعطف، على البدلة الزرقاء والحمراء. اعتقد لبُرهة أنَّ البرودة قارسة، شيءٌ دافئ، حلوٌ، أسودُ، يتدفَّق من فمه، ولكنه لا يشعُر بألم، هدوءٌ عظيم يغمره. مدَّ يده بشكلٍ ميكانيكي إلى لوحة القيادة، زمجَرَ المحرِّك، اتجهتْ يده إلى الدبرياج الآلي دون أن ينتبه إلى حركات يده، سارت العَرَبة مسرِعةً إلى الخلف، ثم إلى الأمام، ثم هبَطَت الشارع مخترِقةً الثلوج المتراكِمة، وسقَطَت في أحضان التَّنُّوب. بلا صوتٍ وقعتْ في الثلوج العميقة، ثم استقرَّت بالعرض في الغابة الكثيفة.

من وسط الثلج المُظلِم حوله برَقَ ضوءٌ غريب. ومن الشارع سمِعَ صوتًا يغني: «طلَعَ القمر، والنجوم الذهبية الصغيرة تسطع في السماء الصافية». مُستغرِبًا ينتبه إلى أنَّ شخصًا يعبُر الطريق فوقه، وأنَّ الليل قد أقبل، ثم تذكَّر الصباح قبل ذلك، وتذكَّر أن شخصًا ما كان يجلس معه، غير أنَّه لم يعُدْ يعرف مَن. «ما أعمقَ الهدوءَ في العالم! ما أجملَ الغروبَ وما أعذبَه!» راح صوتٌ نسائيٌّ يشدو، ثم شعَرَ وكأنَّ الترنيمة تبتعد وتبتعد، ثم تقترب، ثم تبتعد بعيدًا جدًّا، وتخفُتُ حتى تغيب.

لا يتبقَّى إلا تسجيلُ التالي: كلاودينه تسبفل، التي كانت تخترق الغابة المغطَّاة بالثلوج وهي تشدُو هابطةً الطريق الوعِر المؤدِّي إلى فلوتنجن؛ لم تكُنْ بحاجةٍ إلى قطْعِ الطريق عائدةً إلى القرية سيرًا على الأقدام في الصباح التالي كي تعلِّم التلاميذ والتلميذات القلائل. عند طلوع النهار، في حوالي الثامنة، عندما تسلَّلتْ من الباب الخلفي لبيت القسِّ دون أن يلاحظها أحد، تاركةً قسًّا مستغرِقًا في النوم العميق من فرط الإنهاك، وهي تشقُّ طريقها من حافة الغابة إلى الشارع، ولأنَّها لا تَلفت انتباهَ أحد؛ كادت تَلقى حتفها؛ إذ إنَّ جرَّافة الجليد الضخمة كانت تشقُّ الطريق الصاعد، وفي إثرها كاسحةُ ثلوج وسيارة صِهْرِيج وأخرى لإذابة المِلح المرشوش على الشوارع، وحولها جيوش من العُمَّال بمعاطفهم البرتقالية يجرفون المخلَّفات. فُوجئت المرأة بالكُتَل الجليدية التي كانت الجرَّافة تُلقي بها ناحيتَهَا، دُفنتْ كلاودينه تسبفل تحت الثلوج، دفُنتْ دفنًا تامًّا، وكادت أن تختنق وتَلفِظ أنفاسها الأخيرة لو لم يتبع تلك القافلة من الآلات والبشر مستشارُ البلدية، الدكتور ميشائيل إتي، في سيارته اللاندروفر ومعه مستشار الحكومة شافروت، وباعتباره ابنَ المنطقة لم يتوقَّف عن إصدار أوامر التوجيه وإشعال حماس العُمَّال. لولا أنَّه لاحَظَ الحادث، وأمَرَ بالحفر؛ لمَا أُنقذت المعلِّمة التعيسة. ملفوفةً بالبطاطين الصوفية جلستْ بين مستشار البلدية ومستشار الحكومة، وراحتْ تُغمغِم شيئًا عن القطار الباكر الذي أتتْ به إلى فلوتنجن، والآن ها هم يصعدون بها الوادي كأنَّها في حُلم. سارت القافلة ببطءٍ بالغ؛ فالكتل الثلجية تجعل المهمَّة شِبه مستحيلةٍ أمام الجرَّافة الهائلة، رغم أنها كانت تعمل بعنفٍ شديد، مسبِّبةً انهياراتٍ ثلجيةً كانت من الضخامة بحيث إنَّها دَفَنتْ أثناء مرورها السيارة الكاديلاك التي كانت ترقد في مكانٍ ما على حافة الغابة دفنًا تامًّا؛ وعمومًا كان من الصعب التعرُّف عليها وسط أدغال التَّنُّوب والثلوج. ولكن، مهما كانت المعركة شاقَّةً ضدَّ كُتَل الجليد والثلوج، ورغم أنَّ الثلج بدأ يهطُل بغزارةٍ تُهدِّد بصراعٍ مماثِل في رحلة العودة؛ فإنَّهم نجحوا أخيرًا في الوصول إلى القرية حيث كان الأهالي متجمِّعين، وبينهم الشرطي الذي لم يَرَه أحدٌ منذ ما يزيد على أربعة عشر يومًا بعد أن أفاق أخيرًا من سُكره. كلُّهم يتفرجون مَشدُوهين على الماكينات الهائلةِ الضخامة، ولهذا استطاعتْ كلاودينه تسبفل التسلُّل دون أن يلاحظها أحد إلى المدرسة، سعيدةً أنَّها لن تجِدَ هناك أيَّ تلاميذ. لم يلفتْ غيابُها انتباهَ أيِّ شخص، خاصةً عندما سار مستشارُ البلدية الدكتور إتي — بينما وقَفَ إلى جواره مستشارُ الحكومة شافروت بوجهٍ بشوش — في اتجاه صاحبِ «الدب» القَلِق، وحوله تحلَّقَ الفلَّاحون ذوو الوجوه الكئيبة، وصافَحَه موضِّحًا له أنَّه بصفته مستشارًا للبلدية، ولأنه معجَبٌ بصلابة أهل فلوتنباخ في المحافظة على واديهم بِكرًا كما هو، وكما اقتنَعَ شخصيًّا في «الراهب» في لوتيكوفن العليا؛ فإنَّه قرَّر أن يفعل شيئًا: إنَّ التخفيف من قسوة قَدَرهم من واجب البلدية، ولا بد من التضامُن معهم كما يقضي التحالفُ الفيدرالي، ولهذا فإنَّه استدعَى على الفور، في صباح يوم الأحد، أعضاءَ المجلس الاستشاري الاتحادي وإدارة التأمينات، وانتزع السادة من فِراشهم كي يشرح لهم أن فلوتنباخ هو الوادي الجبلي الوحيد في البلاد الذي لم تشوِّهه البِنايات السياحية ومصاعد التليفريك، إنَّه الوادي الذي ما زال محتفِظًا ببَكَارته البيئية، هنا ما زال على المتزلِّجين أن يصعدوا جبال الألب أو الجبال الأخرى حتى يمارسوا فنونهم الجليدية؛ ولهذا، فإنه لا بد من إنشاء مركزٍ حيوي للرياضات الشَّتوية هنا؛ لصحة الشعب. مركزٌ مزوَّد بنادٍ صحيٍّ، وصالاتِ ألعاب، ومحطة سكك حديدية، وحمامات سباحة مغلقة، وفنادق ومستشفى، وربما أيضًا بعض مصاعد التليفريك لأولئك الذين لا تسمح لهم صحتهم بالاستفادة من المركز الحيوي للرياضات الشَّتوية. وبالطبع لا بد من استكمال بناء شارع فلوتنباخ ووصْلِه بالطريق السريع. باختصار، إنَّه مشروعٌ يُقنع كل شخص، بل إنَّه يُثير التحمُّس، خاصةً وأن الأموال اللازمة — عشرة ملايين من الاتحاد الفيدرالي، وخمسة ملايين من الولاية، وخمسة وعشرون مليونًا من شركات التأمين — قد تمَّت الموافقة عليها من البرلمان والهيئات المختلفة منذ وقتٍ طويل، قبل أن يتَّفقوا على مكانِ إنشاء المركز، ولهذا فهو لا يحتاج إلا أن يقول: إنَّهم — أيضًا في هذه القرية الجبلية المعزولة — ينتظرهم مستقبلٌ أفضلُ ومشرِق. بهذه الكلمات أنهى مستشار البلدية كلمته التي أثارت الانفعالاتِ المتنامِية في نفوس أهالي فلوتنباخ كلِّهم؛ فهم كانوا ينتظرون خطبةً أخرى تمامًا، لقد رأوا أنفسهم جالسين في قَفَص الاتهام في محكمة المحلَّفين في لوتيكوفن العليا. وانتهت الخطبة والانفعالات بصمتٍ عميقٍ لم تخترقْه سوى صيحةِ عَقْعَقٍ ظلَّتْ تحوم فوق رُءُوس الصامتين، الذين انتبهوا إليها في صَمْتهم، فيما تهلَّلتْ أسارير عمدةِ القرية وصاحبِ «الدب»، شلاج إنهاوفن. وبعيونٍ مُغرورِقةٍ بالدموع التي لم تُسبِّب له الخجل، شكَرَ مستشار البلدية بتلقائيةٍ وحرارة، وبكلماتٍ بسيطةٍ رفَعَ فيها الكُلفة قائلًا: «إتي، نشكُرك. لقد حَصَلنا على بَرَكة الرب.»

١  هذه القصة معالجةٌ نثرية لأشهر مسرحيات دورنمات: «زيارة السيدة العجوز» التي كتبها عام ١٩٥٦م. وقد نُشرت القصة لأول مرة عام ١٩٨١م، ثم ظهرتْ في طبعةٍ أخرى منقَّحة عام ١٩٩٠م. وتعتمد هذه الترجمة على القصة المطبوعة ضمن المختارات القَصصية لدورنمات التي صدرتْ عن دار ديوجنيس في عام ١٩٩٢م. (المترجِم)
٢  تُطلَق كلمة «الشنابس» Schnaps على جميع المشروبات الروحية المقطَّرة ذات النسبة العالية من الكحول (نحو ٤٠٪)، وهو يشبه العَرَق، لكنَّه لا يُصنع من اليانسون والعنب (كما في بلاد الشام) أو من البَلَح (كما في مصر والسودان)، بل في المعتاد من الفواكه المختلفة، كالتفاح والبرقوق والكُمَّثْرى. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤