السقوط١

ترتيب الجلوس
أ (الزعيم)
ت (مدير المخابرات) ب (وزير الخارجية)
ج (وزير التجارة الخارجية) ث (أمين عام الحزب)
خ (كبير المنظِّرين) ح (وزير الصناعة الثقيلة)
ذ (وزير الزراعة) د (وزير الدفاع)
ز (وزير النقل والمواصلات) ر (الرئيس)
ش (وزير البريد) س (وزيرة التربية)
ض (رئيس مجموعات الشَّبيبة) ص (وزير الذرَّة)

بعد البوفيه البارد المكوَّن من البيض المَحْشوِّ والجامبون والتوست والكافيار والشنابس والشمبانيا، والذي اعتاد أعضاء الأمانة السياسية العامة للحزب تناوُلَ طعامهم منه في قاعة الاحتفالات قبل بدء الاجتماع، كان «ش» أول مَن دخَلَ غرفة الاجتماعات. منذ اختياره عضوًا في أعلى هيئة سياسية لم يكُنْ يشعُر بالأمان إلا في هذه الغرفة، رغم أنَّه لم يكُنْ سوى وزيرٍ للبريد، ورغم أنَّ الطوابع التي صدَرَتْ بمناسبة مؤتمر السلام نالتْ إعجاب «أ»، كما تناهى إلى سمعه عبْرَ شائعاتٍ ترددتْ في الدائرة المحيطة ﺑ «ث»، أو إذا شئنا الدقَّة، كما عَرف من «ج»؛ إلا أنَّ أسلافه اختفوا داخل جهاز الدولة رغم مكانة البريد الثانوية. وحتى إذا كان مدير جهازِ المخابرات «ت» يتعامل معه بلُطفٍ؛ فلَمْ يكُنْ ممَّا يُنصح به البحث عن المُختَفِين. قبل دخول قاعة الاحتفالات، وقبل دخول غرفة الاجتماعات، كانت الأيدي قد تحسَّستْ «ش»؛ في المرة الأولى قام بالتفتيش الملازم أول الرياضي الذي كان يفعل ذلك دائمًا، وفي المرة الثانية فتَّشَه عقيدٌ أشقر لم يرَه «ش» قبل ذلك قَط. كان العقيد الذي اعتاد أن يتحسَّسَ جسده قبل الجلسة أقرع، ولا بد أنَّه في إجازة، أو ربما يكون نُقِل، أو طُرِد من وظيفته، أو جُرِّد من رُتبته، أو قُتل رميًا بالرصاص. وضَعَ «ش» حقيبته على طاولة الاجتماعات وجَلَس. بجواره جَلَس «ز». غرفة الاجتماعات كانت طويلة، ولكنها لم تكُنْ أعرضَ كثيرًا من طاولة المُباحثات. الجدران مكسوَّة حتى نصفها بالخشب البُنيِّ، أمَّا الجزء غير المكسو من الجدران والسقف فكان أبيضَ اللون. كانوا يجلسون وفقًا للقاعدة الهرمية التي تحكم النظام. جلَسَ «أ» على القمَّة. فوقه، على الجزء الأبيض من الحائط، عُلِّقتْ راية الحزب. أمامه في نهاية الطاولة لا يجلس أحد، وفي الخلف النافذة الوحيدة في غرفة الاجتماعات. النافذة عالية، مقوَّسة في أعلاها، ومقسَّمة إلى خمسةِ ألواح زجاجية، وبلا ستائر. كان «ب»، و«ث»، و«ح»، و«د»، و«ر»، و«س» يجلسون (من منظور «أ») على الجانب الأيمن من الطاولة. ومقابلهم «ت»، و«ج»، و«خ»، و«ذ»، و«ز»، و«ش». وبجوار «ش» يجلس رئيس مجموعات الشَّبيبة ض، وبجانب «س» يجلس وزيرُ الذرَّة «ص». غيرَ أنَّ ض، و«ص» لم يكُنْ لهما حقُّ التصويت. كان «ز» أكبرَ أعضاء الهيئة سنًّا، وقد مارَسَ فترةً — قبل أن يتولى «أ» قيادة الحزب والدولة — المهامَّ التي يضطلع بها «ث» الآن. «ز» كان حدَّادًا قبل أن يُصبح ثوريًّا، وهو ضخمٌ وعريضُ الكتفَين دون أن يكون سمينًا. تقاطيعُ وجهه ويداه تتَّسم بالغِلظة، شعره الأشيب المقصوص ما زال كثيفًا. لم يكُنْ يحلق لحيته قَط. بدلتُه الغامقة تُشبه الزيَّ الذي يرتديه عاملٌ في أيام الآحاد. لم يربط يومًا ربطةَ عنقٍ حول عنقه. ياقةُ قميصه الأبيض مزرَّرة دائمًا. يتمتع «ز» بالشعبية في الحزب ولدى الشعب، نُسجت الأساطير حول ما فعَلَه أثناء «تمرُّد يونيو»؛ غير أنَّ أعوامًا وأعوامًا مرَّتْ على تلك الفترة، حتى إنَّ «أ» كان يُطلِق عليه «النُّصُب التِّذكاري». كان يُنظر إلى «ز» باعتباره عادلًا وبطلًا، ولهذا لم يكُنْ تآكُل سُلطته سقوطًا مُدويًا مُثيرًا للانتباه، بل هبوطًا مستمرًّا على سُلَّم السُّلطة. ولأنَّه كان يعلم أنَّ سقوطه آتٍ لا ريب، فلَمْ يكُنْ يَهابُ المُحاكَمة. كان ثمِلًا معظمَ الوقت مثلَ المارشال «د» والمارشال «ر»، ولم يكُنْ يُفيق من سُكره حتى عندما يجيء إلى اجتماعات الأمانة العامة للحزب. في هذه الجلسة كانت تفوح من فمه أيضًا رائحةُ الشنابس والشمبانيا، لكنَّ صوتَه الغليظ كان هادئًا، وعيناه الدامعتان المحمرَّتَان كانتا تنظُران بتهكُّم: «يا رفيق»، قال متوجِّهًا بكلامه إلى «ش»، «لقد انتهينا. «ص» لم يأتِ». لم يردَّ «ش»، بل لم تندَّ عنه أيُّ حَرَكة. كان يدَّعي اللامبالاة. ربما كان إلقاءُ القبض على «ص» مجرَّدَ شائعة، ربما كان «ز» مخطئًا، وإذا كان «ز» مخطئًا فإنَّ وضْعَ «ش» ليس ميئُوسًا منه قياسًا إلى وضْعِ «ز» الذي كان مسئولًا عن النقل والمواصلات. إذا حدَثَ خطأٌ في قطاع الصناعة الثقيلة أو في المجال الزراعي (ودائمًا ما تحدُث أخطاءٌ)؛ فإنَّ اللوم يُلقى فورًا على وزير النقل والمواصلات. أعطال، تأخيرات، تعثُّرات. البلاد متراميةُ الأطراف، وجهاز الرقابة والتفتيش مترهِّل.

دخَلَ «ث»، أمين عام الحزب، والوزير «ذ» الغرفة. الأمين العام بدينٌ وضخمٌ وذكي. يرتدي الزيَّ العسكري التفصيل، وبذلك كان نسخةً من «أ»؛ فعَلَ ذلك خنوعًا كما يظنُّ البعض، أو تهكُّمًا كما يعتقد آخرون. «ذ» نحيلٌ أحمرُ الشَّعر. بعد أن تولَّى «أ» السُّلطة في البلاد شغَلَ منصب المدَّعي العام، وكان يتميَّز بالجرأة الشديدة. في أول عمليةِ تطهيرٍ كبيرةٍ صمَّم على تنفيذ أحكامٍ بإعدام الثوريين القُدامى، لكنه ارتكب خطأً في أثناء ذلك؛ بناءً على رغبة «أ» طالَبَ بإعدام زوج ابنة «أ». ولكنْ عندما تدخَّل «أ» على غير توقُّع للعفو عن زوج ابنته؛ كان الأخير قد فارَقَ الحياة رميًا بالرَّصاص. هذه الهفوة لم تكلِّفْ «ذ» وظيفته مُدعيًا عامًّا فحسب؛ الأسوأ أنَّه ترقَّى واقترب من السُّلطة، فعُيِّن عضوًا في الأمانة السياسية، وبذلك وضَعُوه بأكثرِ الوسائل سهولةً على قائمة الذين يمكن التخلُّص منهم. لقد وصَلَ إلى منصبٍ يُتيح لهم أن يقضوا عليه لأسبابٍ سياسية، وما أسهلَ العثورَ على أسبابٍ سياسية. وفي حالة «ذ» كانتْ متوافرةً بالفعل. صحيحٌ أنَّ أحدًا لم يعتقد أنَّ «أ» جادٌّ في إنقاذ زوج ابنته. وبالتأكيد لم يتعارضْ إعدامُ زوج الابنة مع مكنون نَفْسه (ابنة «أ» كانت في تلك الأيام تضاجع «ض») إلا أنَّ «أ» كانت لديه الآن حجَّةٌ يستطيع أن يستخدمها علانيةً للتخلُّص من «ذ» إذا أراد التخلص منه. ولأنَّ «أ» لم يَدَع يومًا فرصةً تمرُّ دون أن يتخلَّص من شخص؛ فإن الجميع اعتقد بانتهاء «ذ». كان «ذ» يعلم ذلك، لكنَّه سلَكَ سلوكَ مَن لا يعرف، وإنْ على نحوٍ غيرِ مُقنِع. الآن أيضًا كان يحاول بطريقةٍ مفضوحةٍ إخفاءَ قلَقِه. راح يحكي لأمين عام الحزب عن عرضٍ قدَّمتْه فرقةُ الدولة للباليه. في كلِّ جلسة يحكي «ذ» عن الرقص مُنهالًا فوق رءوس الحاضرين بمصطلحاتِ الباليه، خصوصًا منذ أن أُرغم على تولِّي وزارة الزراعة، رغم أنَّه رجلُ قانونٍ لا يَفقَه شيئًا في الزراعة. إلى ذلك، ربما كانت وزارةُ الزراعة ملأى بالأفخاخ أكثرَ من وزارة النقل والمواصلات، ومع مرور الوقت يُصاب كلُّ مَن يعمل فيها بالضرر، فالحزب محكومٌ عليه بالفشل الحتميِّ في قطاع الزراعة. من المستحيل إعادةُ تربية الفلَّاحين. إنَّهم أنانيُّون وكُسالى. من جانبه كان «ش» يَكرَه الفلَّاحين أيضًا، لا يَكرَهُهم بحدِّ ذاتهم، ولكنْ كمشكلةٍ مُستعصِية على الحلِّ، كصخرةٍ تحطَّمتْ عليها حلولُ المُخطِّطين؛ ولأنَّ الفشل خطرٌ، عاقبته الموت. أحسَّ «ش» بكراهية مزدوَجة تجاه الفلَّاحين، وانطلاقًا من كراهيته استطاع أن يفهم سلوك «ذ»: هل ثمَّة مَن يريد التحدُّث عن الفلَّاحين؟ وحده وزير الصناعة الثقيلة «ح» — الذي نشأ وترعرع في قرية، واشتغل مثل والده معلِّمًا في مدرسة القرية ثم حصَلَ على تدريبٍ ناقصٍ وبدائيٍّ وفجٍّ في معهد المعلِّمين الريفي — كان يبدو فلَّاحًا ويتحدَّث كفلَّاحٍ، ويحكي في الأمانة السياسية للحزب عن الفلَّاحين، ويُشنِّف آذانهم بحكاياتِ الفلَّاحين التي لم تكُنْ تُدخل السرورَ إلى نَفْس أحدٍ سواه، مردِّدًا الأمثال الشعبية للفلَّاحين التي لم يفهَمْها أحدٌ غيره، في حين يجِدُ رجلُ القانون المثقَّف «ذ» نَفْسه مجبرًا على التعامل مع الفلَّاحين. كان اليأس يمزِّقه بسبب غبائهم، وحتى لا يتكلَّم عنهم، كان يلوك حكاياته عن الباليه، مُصيبًا كلَّ مَن يسمعه بالملل، لا سيما «أ» الذي أَطلق على وزير الزراعة لقبَ «البالارينا» (فيما قبل أطلق عليه «القانوني الصاعد إلى السموات») رغم ذلك كان «ش» يحتقر المدعي العام السابق، ويكره وجهه الحقوقيَّ البغيض الذي يغطِّيه النَّمَش. لقد تحوَّلَ بسرعةٍ فائقة من جلَّادٍ عريقٍ إلى خانعٍ ذليل. على خلاف ذلك أثار سلوكُ «ث» إعجابَ «ش». رغم كلِّ سُلطته في الحزب، ورغم كلِّ ذكائه السياسي، كان الخنزير البريُّ — كما وصفه «أ» — يشعُر حتمًا بالخوف، إذا كان خبرُ عدمِ ظهور «ص» صحيحًا. غير أنَّ «ث» سيطَرَ على مشاعره، ولم يفقد لِلَحظةٍ هدوءه. حتى في أوقاتِ الخطَرِ كان أمينُ عام الحزب يظلُّ على هدوئه واسترخائه. غيرَ أنَّ مصيره مجهول. ربما يؤدِّي اعتقالُ «ص» — إذا لم يكُن محضَ شائعةٍ تسبَّبَ عدمُ ظهوره في إطلاقها — إلى شنِّ الهجوم على «ث»؛ لأنَّ «ص» كان في الحزب تحت رئاسة «ث». وربما يكون هدف الاعتقال إسقاطَ كبيرِ المنظِّرين «خ»؛ إذ إنَّ «ص» كان ينظُر إليه باعتباره صنيعةَ «خ». إنَّ تصفية «ص» — إذا حدثتْ — تهدِّد «ث» و«خ» في الوقت نَفْسه. هذه الاحتمالية كانت في حدِّ ذاتها ممكِنة، لكنَّها — تقريبًا — غير مُحتمَلةِ الحدوث.

دخَلَ كبيرُ المنظِّرين «خ» غرفةَ الاجتماعات. كان أعسَرَ، أمام عينَيه نظَّارةٌ مُغبَّرة بدون إطار، رأسه المُتعالِم ذو الشَّعر الأبيض الكثيف مائلٌ بعضَ الشيء. كان يعمل في السابق معلِّمًا في مدرسةٍ ثانوية في الأرياف. أطلَقَ «أ» عليه قديس الشاي. كان «خ» منظِّر الحزب، يحيا حياةَ زهدٍ وتقشُّف، رجلٌ نحيلٌ منطوٍ على نَفْسه، يرتدي صَنْدلًا في قدمَيه حتى في فصل الشتاء. إذا كان أمينُ عام الحزب «ث» شخصًا حيويًّا مستمتِعًا بالحياة والنساء؛ فإنَّ كلَّ خطوةٍ من خطوات كبيرِ المنظِّرين «خ» كانت محسوبةً بدقَّة نظريَّة، وليس نادرًا أن تقود إلى اللامعقول وإلى سفك الدماء. سَادَت العداوة بين الاثنين. وبدلًا من أن يكون كلُّ طرفٍ مكمِّلًا للآخر؛ كان كلٌّ منهما يتشاحَنُ مع الآخر، وينصب له الفخَّ تلو الفخِّ محاوِلًا إسقاطَه؛ أمين عام الحزب كمهندسٍ للسُّلطة مقابل كبيرِ المنظِّرين وأيديولوجي الثورة. كان «ث» يريد الدفاع عن سُلطته بجميع الوسائل، بينما كان «خ» يريد الحفاظ على نقاء السُّلطة بكلِّ الوسائل، وكأنَّه مِشْرطٌ مُعقَّم في يد النظريات النقيَّة. كان وزير الخارجية «ب» ووزيرة التربية «س» يشعُران بالمودة تجاه الخنزير البريِّ ووزير النقل والمواصلات «ز»، أمَّا قديس الشاي فكان يقِفُ في صفِّه وزيرُ الزراعة «ذ» ورئيسُ الدولة «ر»، وكذلك وزيرُ الصناعة الثقيلة «ح» الذي لم يكُنْ يقلُّ عن «ث» وحشيةً وعنفًا، غيرَ أنَّه انتمى إلى معسكر «خ» بسبب النفور الذي يشعُر به مهووسٌ بالسُّلطة تجاه مهووسٍ آخرَ بالسُّلطة، رغم أنَّ المعلِّم الريفيَّ السابق كانت تُثقله مشاعرُ الدونية والنقص تجاه المعلِّم السابق في المدارس الثانوية، وربما كان يُكنُّ له كُرهًا دفينًا.

لم يعُدْ «خ» في الواقع يُلقي التحيَّة على «ث». أن يُلقي الآن كبيرُ المنظِّرين بالتحية على أمين عام الحزب — كما لاحَظَ «ش» مرعوبًا — فهذا يُشير إلى خوف «خ» من أن يكون اختفاء «ص» أمرًا يمسُّه هو شخصيًّا، ثم أنَّ «ث» ردَّ التحية، وهو ما يُظهِر خوفه من الخطر الذي يهدِّده. أن يتملَّك الخوف الاثنَين معًا يعني أنَّ «ص» قد اعتُقِل فعلًا. ولكنْ، لأنَّ قديس الشاي ألقى تحيةً دافئة، بينما كانت تحيةُ الخنزير البريِّ مهذَّبةً فحسب؛ فإنَّ ذلك يُشير إلى أنَّ الخطَرَ الذي يهدِّد كبيرَ المنظِّرين كان ملموسًا أكثر — ولو بدرجةٍ طفيفة — من ذلك الذي يهدِّد أمين عام الحزب. تنفَّسَ «ش» الصُّعَداء. إنَّ سقوط «ث» سيصيب «ش» أيضًا بالحرج؛ إذ إنَّ «ش» عُيِّن عضوًا يحقُّ له التصويت في الأمانة السياسية العامة للحزب بناءً على اقتراح الخنزير البريِّ، وكان «ش» يُعتبر صنيعةَ «ث»، وهي وجهةُ نظَرٍ من الممكن أن تُمسي خطيرة، حتى وإنْ كانت لا تنطبق تمامًا على الحقيقة؛ فأولًا: لم يكُنْ «ش» ينتمي إلى أيِّ مجموعة، وثانيًا: لم يكُنْ كبيرُ المنظِّرين — الذي كان من المدافِعين عن وزير الطاقة «ص» — يتوقَّع أن يَقترح أمينُ عام الحزب قبل الانتخابات رَبيبَه رئيسًا لمجموعات الشَّبيبة. غيرَ أنَّ الخنزير البريَّ أدرك أنَّ انتخابَ مرشَّحٍ محايدٍ في أمانة الحزب سيكون أسهلَ من انتخابِ أحدِ أنصار الحزب أو أحدِ خصومه، إلى ذلك فإنَّ ابنة «أ» كانت في تلك الأثناء قد انفصلتْ عن ض كي تضاجع أحدَ الروائيين الذين كرَّمَهم الحزب، إثرَ ذلك تخلَّى «ث» عن مرشَّحه مقترحًا «ش»، وبذلك تمَّ تجاوُز قديس الشاي الذي أُرغم على التصويت لصالح «ش»، وثالثًا: لم يكُنْ «ش» سوى متخصِّصٍ في مجاله، وغير ضارٍّ بالنسبة ﻟ «ث» و«خ». كان عديمَ الأهمية في نظَرِ «أ» إلى درجة أنَّه لم يحصُل حتى على لقب.

ينطبق ذلك بالطبع على وزير التجارة الخارجية «ج» الذي دخَلَ الغرفة في أعقاب «خ»، ثم جلَسَ على الفور. بينما كان كبيرُ المنظِّرين ما زال يقِفُ بجانب أمين عام الحزب الذي ارتسمتْ على وجهه ابتسامةٌ صفراء غيرٌ مُبالية. علَتْ وجهَ كبير المنظِّرين ابتسامةٌ مُرتبِكة وهو ينظِّف نظَّارته المستديرة التي يرتديها عادةً المعلِّمون ونُظَّار المدارس، شاعرًا بالضِّيق من ثرثرةِ وزير الزراعة «ذ» عن راقص مُنفرِد. «ج» رَجلٌ طاف العالم، أنيقٌ، يرتدي بدلةً إنجليزية، وحولَ عُنُقه يلفُّ منديلًا حريريًّا دون أن يربطه جيدًا، ويُدخِّن سجائرَ أمريكية. كان وزيرُ التجارة الخارجية، مثل «ش»، عضوًا رغم أنفه في الأمانة السياسية للحزب. الصراع حول السلطة داخلَ الحزب دفَعَه هو أيضًا تلقائيًّا إلى صفوف القيادة. آخرون — أكثر طموحًا منه — سقَطُوا ضحيَّةَ الصراع حول الأماكن المتقدِّمة؛ أي سقَطُوا ضحيَّةَ أنْفُسِهم، وهكذا نجا «ج» من كلِّ عمليةِ تطهيرٍ باعتباره رَجلًا متخصِّصًا، وهو ما جعَلَ «أ» يمنَحُه لقبَ «اللورد إيفرجرين».٢ وكما غدا «ش» رغمًا عنه الرَّجُل رقم ١٣ في صفوف أقوى أقوياء الدولة، هكذا أضحى «ج» رغمًا عنه خامسَ أقوى رجلٍ في الإمبراطورية. لم يعُدْ ثمَّة طريق للتراجُع. سلوكٌ خاطئ أو جملةٌ غيرُ حذِرة قد تعني النهاية، الاعتقال، التحقيق، الموت، ولذلك كان على «ج» و«ش» أن يُظهرا اللُّطف مع الأقوى منهما أو المماثِل لهما في القوة. عليهما التصرُّف بذكاء، أن يستفيدا من الفُرص، وفي حالة الضرورة التنصُّل من المسئولية والاستفادة من ضعْفِ الآخرين. كانا مجبَرَين على أشياءَ مُهينةٍ وسخيفة.

بالطبع يتمتع رجالُ الأمانة السياسية العامة للحزب الثلاثة عشر بسُلطةٍ هائلة. إنهم يُمسكون بدفَّة القيادة في المملكة المترامية الأطراف. ما أكثر الأشخاص الذين أرسلوهم إلى المنفى أو السجون أو الموت. إنَّهم يتدخَّلون في حياة الملايين، يشيِّدون المنشآت الصناعية، يحرِّكون عائلاتٍ وشعوبًا، يأمرون ببناء المُدُن العملاقة، يجيِّشون الجيوش التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، بكلمةٍ منهم تشتعل الحرب أو يسود السلام. ولكنْ، لأنَّ غريزة البقاء أرغمتْهم على التربُّص ببعضهم البعض؛ فإنَّ مشاعر المودة والنفور — التي يتبادلونها فيما بينهم — كانت تؤثر عليهم تأثيرًا أكبرَ بكثيرٍ من الصراعات السياسية والتطورات الاقتصادية التي كانوا يواجهونها. كانت السُّلطة، أي الخوف من الآخرين، ضخمةً جدًّا، أضخم من أن تسمح لهم بممارسة السياسة فحسب. أمَّا العقلانية فلَمْ تستطعْ أن تغيِّر من الأمر شيئًا.

من بين الأعضاء المتغيِّبين دخَلَ الغرفةَ الآن المارشالان، وزير الدفاع «د» ورئيس الدولة «ر»، كلاهما عائمٌ في الدُّهن والشحم، كلاهما متحجِّرُ الملامح، وكلاهما مغطى الصدر بالنياشين والأوسمة، كلاهما طاعنٌ في العمر، يتفصَّد عرَقًا، وتفوح منهما عفونةُ التبغ والخمر وعطرُ الدانهيل، كيسان معبَّآن عن آخرهما بالدُّهن واللَّحم والبول والخوف. يجلسان في اللحظة نَفْسها متجاوِرَين دون أن يوجِّها التحية لأحد. اعتاد «د» و«ر» أن يدخُلا معًا. أطلَقَ عليهما «أ» — مُلمِّحًا إلى المشروب المفضَّل لكليهما — «جِن-كيز خان». كان المارشال «ر»، رئيس البلاد وبطل الحرب الأهلية، يغفو في جِلسته. أمَّا المارشال «د» — وهو صفرٌ في الشئون العسكرية، إلا أنَّه استطاع بصلابته الحزبية والسياسية أن يرتقي السُّلَّم حتى وصَلَ إلى رُتبة المارشال، ووسيلته في ذلك هي القبض على الوزراء السابقين له وزيرًا وزيرًا، باعتبارهم من الخائنين للوطن، ثم يُسلِّمهم إلى «أ» الطيب الذي يصدِّق ما يُقال له — فقد استجمَعَ قُواه مرةً أخرى وصرَخَ قبل أن يُحملِق في الفراغ أمامه: «فلْيسقط الأعداء داخلَ الحزب!» مُعترِفًا بذلك أنَّه يعرف خبَرَ اعتقال «ص». ولكنَّ أحدًا لم يُعرْهُ انتباهًا. تعوَّدوا على خوفه الذي كان يُجبره على قول هذه الجملة أو تلك. في كلِّ اجتماعٍ للأمانة السياسية كان يرى سقوطه قريبًا؛ فكان يَشرَع يرثي ذاته مهاجِمًا بعنف أحدَ الحاضرين دون أن يحدِّد مَن يعني بهجومه.

حدَّقَ «ش» في وزير الدفاع «د» الذي كانت قطراتُ العرَقِ تتلألأ على جبينه، شاعرًا بالعرَقِ يُندي جبينه هو أيضًا. فكَّر في زجاجات البوردو التي كان يريد إهداءها إلى «ح» دون أن يستطيع ذلك؛ لأنه لم يكُنْ قد اقتناها بعدُ. بدأ الأمرُ على النحو التالي: يحبُّ رئيس الحزب «ث» نبيذَ البوردو، وقبل ثلاثة أسابيع استطاع «ش» أن ينظِّم عدَّة طلبياتٍ من النبيذ بمناسبة المؤتمر العالمي لوزراء البريد في باريس. كان الزميل الباريسي يحبُّ الشنابس المحليَّ الذي قام «ش» بتوريده إليه في المقابل. ليس معنى ذلك أنَّ «ش» هو الوحيد الذي يستطيع تزويدَ «ث» ذي النفوذ بنبيذِ البوردو. يقوم وزير الخارجية «ب» بالشيءِ نَفْسه. غيرَ أنَّ لُطفَ «ش» كانت عاقبتُه أنَّه حصَلَ هو أيضًا من «ب» على زُجاجاتِ بوردو هديةً؛ لسببٍ بسيط وهو أنَّ «ش» — حتى لا يبدو أنه خطَّطَ لكلِّ شيء — ادَّعى أنَّه هو أيضًا يعشق البوردو، رغم أنَّه لا يحبُّ النبيذ. وعندما اكتشَفَ «ش» أنَّ «ح»، بطل الدولة في شُرْب الشنابس، المُسيطِرَ على الصناعة الثقيلة في البلاد، والذي منحه «أ» لقَبَ «ماسح الأحذية»؛ لا يستهلك خفيةً إلا البوردو، وذلك بناءً على نصيحةِ أطبَّائه بسبب إصابته بالسكري، فقد تردَّد طويلًا قبل أن يُهدي «ح» نبيذ البوردو أيضًا؛ لأنه بذلك يعترف أنَّه يعرف بمرض «ح». غيرَ أنَّه قال لنَفْسه: بالتأكيد يعرف أعضاءٌ آخرون في الأمانة ذلك. لقد استمدَّ معلوماته من مدير المخابرات «ت»، ولم يكُنْ مرجِّحًا أنَّ الأخير لم ينشُر الخبر بين بقيَّة الأعضاء. لذلك قرَّر أن يترك ﻟ «ح» صندوقًا من «اللافيت ٤٥». وسرعان ما قام وزير الصناعة الثقيلة بردِّ الهدية. كانت هدايا ماسحِ الأحذية تتمتع بالشُّهرة. لم يحترسْ «ش» وفتَحَ الطَّرد على مائدةِ الطعام مع العائلة. كان الطَّرد يحتوي على بَكرةِ فيلم، أمَرَ «ش» — عن جهلٍ بمحتواها وبعد أن ضلَّله العُنوان «مشاهد من الثورة الفرنسية»، واستجابةً لرجاء زوجته وأطفاله — بوضْعِها في جهاز العرض السينمائي المنزلي. كان فيلمًا إباحيًّا. عرَفَ «ش» فيما بعدُ أنَّ الأعضاء الآخرين في الأمانة السياسية يتلقَّون هُم أيضًا أحيانًا هدايا مُماثِلة. مع أنَّ الكلَّ يعرف أنَّ «ح» لم يكُنْ يَهوَى البورنوغرافيا. كان يُهدي الأفلام الإباحية حتى تتوافر بين يدَيه وسيلةُ ضغط، مُتظاهِرًا بأنَّ متلقِّي الهدية يحبُّ البورنو. «قُل لي، هل أعجَبَك الفيلم القصير القَذِر؟» سأل «ش» في أحد الأيام التالية، «صحيحٌ أنَّه ليس على ذوقي أنا، لكنني أعرف أنَّك تحبُّ مثلَ هذه الأشياء». لم يَجرُؤ «ش» على الاعتراض. ثم أرسل إلى ماسح الأحذية على سبيل الشكر صندوق «شاتو باب كليمنت ٣٤». وهكذا كانت الأفلام البورنوغرافية تتراكم لدى «ش»، الذي لم يكُنْ يَسكَر ولا ينغمس في الشهوات الإيروتيكية إلا باعتدال، وفي الوقت ذاته كان يرى نَفْسه مُجبَرًا على اقتناء المزيد من البوردو؛ إذ إنَّ الشحنات الباريسية لم تكُنْ تأتيه إلا مرتَين في السنة، والزجاجات التي كان يحصل عليها من «ب» هديةً، لم يكن يجرُؤ على إرسالها إلى «ح». صحيحٌ أنَّ العَلاقة بين وزير الخارجية ووزير الصناعة الثقيلة اتَّسمتْ بالعداوة، ولكنْ من الممكن أن يحدُث انتقالٌ من جبهةٍ إلى أخرى. ما أكثرَ ما انقلبتْ عداواتٌ غير شخصيةٍ إلى صداقاتٍ حميمة عبْرَ مصالحَ مشترَكةٍ ظهرتْ فجأة. كان «ش» مُكرَهًا على التقرُّب من وزير التجارة الخارجية «ج» وكسْبِ ثقته. ثم اتَّضح أنَّ الأخير يُهدي كلًّا من الخنزير البريِّ وماسح الأحذية نبيذَ البوردو. صحيحٌ أنَّه كان يودُّ مساعدةَ «ش» عبْرَ علاقاته التجارية الخارجية، ولكنْ ليس على الدوام. ظنَّ «ش» أنَّ ثمَّة آخرين يقومون بإرسال الهدايا إلى «ث» و«ح»؛ فيكافئهم «ح» بأشياءَ يمكن أن تُستخدم ضدَّهم.

أمام «ش» جلستْ «س»، «مُلهِمة الحزب». كانت وزيرة التربية شقراءَ وقويةَ البِنية. في أثناء جلسةِ الهيئة السياسية علَّق «أ» ذات مرة على نَهدَيها واصفًا إياهما بسلسلةِ جبالٍ عالية، ثم تنبَّأ بأنَّ رئيس الحزب سيسقط من القمَّة ويَلقَى حتفه. بدتْ مُلهِمة الحزب آنذاك في مظهرٍ بالِغِ التأنُّق، وبنِكَاتِه الفجَّة الخارجة عن الأعراف، راح «أ» يهدِّد الخنزير البري. كانت الشائعات تحوم حول «ث» باعتباره عشيقًا ﻟ «س». ومنذئذٍ لم تكن «س» ترتدي عندما تذهب إلى جلسات الأمانة السياسية العامة للحزب إلا فستانًا بسيطًا طويلًا رَماديَّ اللون. ولأنَّها ظهرت اليومَ بفستانِ سهرةٍ أسودَ قصيرٍ وذي فتحةِ صدرٍ واسعة؛ فقَدْ أصيب «ش» بارتباك، لا سيما وأنَّها كانت ترتدي حُليًّا. لا بد أنَّ هناك مناسبةً خاصة. لا بد أنَّها كانت تعرف أيضًا خبَرَ اعتقالِ «ص». ولكنَّ السؤالَ المطروح هو: هل تريد مُلهِمة الحزب أن تُبدي بفستانها التحفُّظ تجاه «ث»، وذلك بأنْ تسلك سلوكًا غيرَ مبالٍ، أم أنَّها كانت تهدف بجرأةِ اليائسين إلى استعراض كونها عشيقته؟ لم يحصُل «ش» على ردٍّ من رئيس الحزب «ث»؛ إذ بدا أنَّ «ث» لا يُبالي ﺑ «س». كان يجلس الآن في مكانه مُستغرِقًا في دراسةِ أحَدِ التقارير.

ازداد الالْتباس في معنى اختيار «س» لملابسها عندما دخَلَ الغرفة ماسح الأحذية، «ح» وزير الصناعة الثقيلة البدين القصير. توجَّه مُسرِعًا دون أن يهتمَّ بالآخرين إلى مُلهِمة الحزب صائحًا، يا له من فستان! ساحر، رائع، شيء مختلف عن تلك الأزياء المملَّة التي يرتديها أعضاء الحزب. فلْتذهب الأزياء الرسمية إلى الجحيم. حملَقَ الجميع في «ح» الذي واصَلَ شارحًا السببَ الحقيقي لقيام الثورة التي قضتْ على حُكم الأثرياء ومصاصي الدماء وشنَقَت الإقطاعيين على أشجارِ الكرز. «حتى ينتشر الجَمال»، صاح وهو يَحضُن وزيرةَ التربية ويقبِّلها كأنَّها عاهرةٌ ريفية. «فليحيا العُمال!» قالها ثم جلَسَ بين «ث» و«د» اللَّذينِ ابتعدا بمقعدَيهما عنه قليلًا؛ لأنهما ظنَّا — مثل «ش» — أنَّ وزير الصناعة الثقيلة يُطلق دعاباته الدموية لأنَّه كان يعرف أن اختفاء «ص» لكمةٌ في وجه كبير المنظِّرين، أيْ في وجهه هو شخصيًّا. رغم أنَّه من الممكن أيضًا أن يكون تعجرُفُ «ح» ليس مُصطنَعًا؛ لأنَّه يعرف الخبرَ اليقين، يعرف أنَّ من المتوقَّع سقوطَ أمين عام الحزب.

ثم ظهَرَ «ب» (لم يَلحَظ «ش» إلا الآن أنَّ ض، رئيس مجموعات الشَّبيبة، قد جلَسَ منذ فترةٍ بجانبه؛ رَجلٌ حزبيٌّ مُجتهِد، خوَّافٌ، شاحبُ اللون، ذو نَظَّارة، يجيء ويذهب دون أنْ يلاحِظَه أحد). بهدوء سار «ب» إلى مكانه، ووضَعَ حقيبةَ أوراقه على الطاولة، ثم جلس. عندئذٍ جلَسَ أيضًا كبيرُ المنظِّرين ووزير الزراعة «ذ» اللذان كانا لا يزالان واقفَين. لم يكُنْ هناك شكٌّ في قوة وزير الخارجية «ب» وهيبته، رغم كراهيتهم له جميعًا. كان متفوقًا على الجميع. في الحقيقة كان «ش» يكِنُّ له الإعجاب. إذا كان أمين عام الحزب يتميز بالذكاء والقدرة التنظيمية، وإذا كان وزير الصناعة الثقيلة يمارس العنف بالغريزة والاحتيال، وإذا كان كبير المنظِّرين هو مؤسس نظريات الحزب؛ فإن وزير الخارجية عنصرٌ لا يمكن تعريفه في هيئة السُّلطة إلا بالكاد. يجمعه ﺑ «ج» و«ش» الإتقان التام لفرع اختصاصه. كان وزير خارجية مثاليًّا. ولكن، خلافًا ﻟ «ج» و«ش»، كان قد أصبح ذا سُلطة في الحزب دون أن يتورط في صراعاتٍ داخلية مثل «ث» و«خ». كما أنه يتمتع بالنفوذ خارج دائرة الحزب. لم يكُنْ يعرف سوى واجبه. هذا ما منَحَه السلطان. لم يكُنْ خائنًا، غير أنَّه لم يرتبط بأحد، حتى على الصعيد الشخصي، لذا ظلَّ أعزب. معتدلٌ في طعامه وشرابه؛ في الولائم كأس شمبانيا، هذا هو كلُّ شيء. يتحدث الألمانية والإنجليزية والفرنسية والروسية والإيطالية بطلاقةٍ تامة، دراسته عن جوليه مازاره وعرضه للممالك الهندية المبكِّرة تُرجمت إلى لغاتٍ عديدة، وكذلك مقالته عن نظام الأعداد لدى الصينيين. كما شاعتْ ترجماتٌ قام بها لأشعارِ ريلكه وشتفان غيورغه. ولكنَّ أشهرَ ما نشَرَه كتابُ «دروس في علم الانقلابات» ولذلك أطلقوا عليه «كلاوزفيتس الثورة».٣ الاستغناء عنه مستحيلٌ؛ ولهذا كانوا يكرهونه، لا سيما «أ» الذي أطلق عليه «المخصي»، وهي تسميةٌ أخَذَها عنه كل الأعضاء. ولكن حتى «أ» لم يكن يجرُؤ في حضور «ب» على مناداته بتلك التسمية. عندئذٍ كان «أ» يطلق عليه «الصديق «ب»» فحسب، أو — إذا كان عاجزًا عن السيطرة على نَفْسه — «عبقري الحزب». خلافًا لهم كان «ب» يبدأ الكلام الذي يوجهه إلى أعضاء الأمانة العامة ﺑ «سيداتي، سادتي»، وكأنه يتحدث في جمعيةٍ بُرجوازية. «سيداتي، ساداتي»، هكذا بدَأَ حديثَه اليوم أيضًا بمجرد جلوسه، وعلى خلاف عادته راح يتكلَّمُ دون أن يَطلُب منه أحدٌ: «سيداتي، سادتي، ربما من المهمِّ أن نسجل أن وزير الذرَّة «ص» لم يَظهَر». ران الصمت. تناوَلَ «ب» من حقيبته عددًا من الأوراق، ثم شرَعَ يقرؤها، ولم يتفوَّه بكلمةٍ بعد ذلك. شعَرَ «ش» كيف بدأ الخوفُ يَسري في أوصال الجميع. اعتقال «ص» لم يكُنْ شائعةً إذن. لم يقصد «ب» بكلامه شيئًا آخر. كان يعلم دومًا أن «ص» خائن، أعلَنَ رئيس الدولة «ر»، ثم أضاف أن «ص» مثقف، وكل المثقفين خوَنَة، فصرَخَ المارشال «د» مرةً أخرى: «فلْيسقط الأعداء داخل الحزب!». لم يصدُر ردُّ فعلٍ إلا من «الجِنكيزخانَين»، أمَّا الآخرون فتصنَّعوا عدمَ الاكتراث، فيما عدا «ث» الذي أطلَقَ على الجميع بصوتٍ مسموع: «أغبياء»، ولكن بدا أنَّ الآخرين لم يُلاحظوا ذلك. فتَحَتْ ملهِمة الحزب حقيبةَ يدها وبدأتْ في مسحِ وجهها بالبودرة. راح وزير التجارة الخارجية ينظُر في الملفات، بينما تطلَّع وزير الصناعة الثقيلة إلى أظافره، وأخَذَ وزير الزراعة يُحملِق أمامه، واستغرَقَ كبير المنظِّرين في تدوين ملاحظاته، أمَّا وزير النقل والمواصلات فبدا في تلك اللحظات مستحقًّا تمامًا للَقَبه: النُّصُب التِّذكاري الراسخ.

دخَلَ «أ» و«ت» غرفة الاجتماعات. ليس عبْرَ الباب الذي يقع خلْفَ وزير الصناعة الثقيلة ووزير الدفاع، بل عبْرَ الباب الموجود خلْفَ كبيرِ المنظِّرين ووزير الزراعة. كان «ت» يرتدي كالمعتاد بدلةً زرقاءَ رثَّة، أمَّا «أ» فيرتدي زِيَّه الرسمي، ولكنْ بدون أوسمة. جلَسَ «ت»، وظلَّ «أ» واقفًا خلْفَ مقعده وراح يحشو غَليُونه بعناية. بدأ نجم «ت» المِهنيُّ يسطع في أثناء عمله في منظمات الشَّبيبة، ثم شقَّ طريقه حتى وصَلَ إلى كُرسي الرئيس، عندئذٍ أُقصي عن منصبه. ليس لأسبابٍ سياسية، الشكاوى كانت من نوعٍ آخر. بعد ذلك ظلَّ مختفيًا. تقول الشائعات إنَّه عاش عيشةَ الكلاب في أحد المعسكرات العقابية، لم يعرف أحدٌ تفاصيل أكثر، وفجأةً ظهَرَ من جديد، وتبوَّأ منصب مدير المخابرات. كان من الثابت أنَّه متورِّط الآن أيضًا في فضائح شذوذٍ جنسي. كان «أ» وحشيًّا عندما أطلَقَ عليه «خالة الدولة»، ولكنَّ أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض على اختياره. كان «ت» فارِعَ القامة، أصلعَ ويميل قليلًا إلى البَدانة. إنَّه أساسًا موسيقيٌّ، حائزٌ على دبلوم في الحفلات الموسيقية. إذا كان «ب» ممثِّلًا لطبقة النبلاء في الأمانة العامة؛ فإنَّ «ت» يمثِّل البوهيمية. ظلَّ الظلام يخيِّم على بداياته في الحزب. وحشية أساليبه كانت مشهورةً، والإرهاب الذي كان ينشُرُه واضحٌ للعيان. إنه مسئول عن مصرع عددٍ لا يُحصى، تحت قيادته اكتسَبَ جهاز المخابرات مزيدًا من السُّلطة، وانتشرتْ أعمال الرقابة والتنصُّت أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. كثيرون اعتبروه ساديًّا، عديدون اعترضوا على ذلك. كانوا يدَّعون أنه ليس أمام «ت» أيُّ اختيارٍ آخر؛ إذ إن «أ» يُحكِم قبضته عليه، وإذا لم يقدِّم «ت» فروض الولاء والطاعة؛ فإن المحكمة في انتظاره. إنَّ مدير المخابرات، هكذا يقولون، يحبُّ في الحقيقة الجمال، ويحتقر وظيفته، ويكره الوسط الذي يعمل فيه، لكنه مرغَم على ممارسة عمله إنقاذًا لحياته وحياة أصدقائه. «ت» لطيفُ المعشَر وودودٌ على الصعيد الشخصي. كان يبدو لطيفًا، بل في كثيرٍ من الأحيان خجولًا. بدا «ت» — الذي كان يمارس مهامَّه داخل الحزب والدولة بقسوةٍ لا تَرحم — الرَّجُل الخطأ في المكان الخطأ؛ وربما لذلك كان الاحتياج إليه كبيرًا.

على العكس منه كان «أ» يتَّسم بالبساطة. في بساطته تكمُن قوَّته. نشَأَ وترعرع في البراري، أصله من البدو الرُّحَّل، لم ينظُر إلى السُّلطة باعتبارها مشكلةً، أمَّا العنف فهو شيءٌ طبيعي. يحيا منذ سنواتٍ في بِنايةٍ بسيطةٍ تُشبه الخندق، تختفي في غابةٍ خارجَ العاصمة، تحرسه سريةٌ عسكرية، وتقوم على خدمته طبَّاخةٌ عجوز، هي والعسكر من المنطقة التي يتحدَّر منها «أ». لم يكُنْ يخرج من منزله إلا لزيارةِ رؤساء الدول الأجنبية أو رؤساء الأحزاب، أو للذهاب إلى جلسات الأمانة السياسية للحزب. لم يكُنْ يذهب إلى حفلات الاستقبال إلا قليلًا، غير أنَّ كلَّ عضوٍ من أعضاء الأمانة كان عليه أن يزوره ثلاثَ مرَّاتٍ في مقرِّه السكني لتقديم التقارير؛ عندئذٍ يستقبل «أ» الشخصَ المعنيَّ، صيفًا في شُرفته المزودة بالمقاعد المصنوعة من الخيزران، وشتاءً في مكتبه الذي لم يكُنْ يحوي سوى جداريَّةٍ ضخمةٍ تُصوِّر قريته، مسقط رأسه. صورةٌ ميتةٌ لا يبثُّ الحياةَ فيها إلا عددٌ من الفلَّاحين. عدا الصورة لم يكُنْ في الغرفة سوى مكتبٍ أكثرَ ضخامة، وخلْفَه يجلس «أ»، أمَّا الزائر فيتحتَّم عليه أن يظلَّ واقفًا. سبق ﻟ «أ» الزواج أربع مرَّاتٍ. وافت المَنيَّة ثلاثًا من زوجاته، أمَّا الرابعة فلَمْ يكُنْ يعرف أحدٌ ما إذا كانت على قيد الحياة، أو مكانَ إقامتها إذا كانت لا تزال حيَّةً. لم يُنجب سوى ابنةٍ واحدة. في بعض الأحيان كان يأمُرُ بإحضار فتياتٍ من المدينة، وكان يُومئ لهنَّ فحسب، ولا يطلُب منهنَّ سوى أن يشاهدْنَ معه أفلامًا أمريكية لساعاتٍ طويلة. عندئذٍ كان يستغرق في النوم على كُرسيِّه ذي المساند، ويُسمح عندئذٍ للفتيات بالانصراف. مرةً في الشهر كان يأمر بإغلاق أبواب المتحف الوطني، ثم يتجوَّل ساعات في قاعاته. لم يتفرجْ يومًا على أعمالٍ من الفنِّ الحديث. كان يقِفُ خاشعًا أمام الأعمال البُرجوازية التاريخية الضخمة، أمام اللوحاتِ التي تصوِّر المعارك، أو أمام القياصرة المتجهِّمين الذين كانوا يحكمون على أولادهم بالإعدام، يتأمَّل الحفلات الماجِنَة العِربيدة للفُرسان السُّكارى، والزحَّافات التي تجرُّها الخيل مسرِعةً في البراري والذئاب في أعقابها. كان ذوقه الموسيقي يتَّسم كذلك بالبدائية. إنَّه يعشق الأغاني الشعبية العاطفية التي كان في عيد ميلاده يأمر كورالَ قريته بإنشادها بزِيِّه التقليدي.

أخَذَ ينفخ دُخان غَليُونه متأمِّلًا وجوهَ الجالسين. كان العَجَب يستولي على «ش»؛ لأن «أ» في الحقيقة نحيفٌ ولا يَلفتُ النظر إطلاقًا، غيرَ أنَّه كان يبدو في الصور وعلى شاشة التلفزيون عريضًا قصيرَ القامة. جلَسَ «أ» وشرَعَ يتحدث ببطءٍ وصعوبة، متلعثِمًا ومكرِّرًا ما يقوله. حديثُه منطقيٌّ على نحوٍ يغيظ. بدأ بتأمُّلٍ عامٍّ للوضع. جلَسَ أعضاء الأمانة السياسية الاثنا عشَرَ والمرشَّح ض متخشِّبين في أماكنهم، متربِّصين، على الوجوه قناعٌ شمعي. لقد تلقَّوا التحذير. عندما يخطط «أ» لشيءٍ، فإنه يبدأ كلامه بتأمُّلاتٍ معقَّدة عن تطوُّر الثورة. بدا وكأنَّه يريد الرجوعَ إلى الوراء كثيرًا، حتى يصوِّبَ في النهاية ضرباته القاتلة. وهكذا راح يستفيض في الشرح بلهجةِ معلِّم. إنَّ هدف الحزب هو تغيير المجتمع، ما تمَّ التوصُّل إليه هائل، كما أنَّ الحزب نجَحَ في تنفيذ المبادئ التي جعَلَت النظام الجديد ممكِنًا، ولكنَّ الناس لم يعتادوا عليها بعدُ، لقد أُرغموا على اعتناقها، ما زال الشعبُ يفكِّر بالعقلية القديمة، ما زال سجينَ خرافاته وأحكامه المُسبقة، مصابًا بجرثومةِ الفردية، وما زال يحاول كسْرَ طوقِ النظام الجديد للوصول إلى شكلٍ جديدٍ من أشكال الأنانية. لم تتمَّ تربيةُ الشعب بعدُ، ما زالت الثورةُ لا تعني إلا القلائل، لا تعني إلا العقول الثورية، وما زالتْ بعيدةً عن الجماهير؛ صحيحٌ أنَّ الجماهير بدأتْ بالسَّير على طريق الثورة، ولكنْ ما أسهلَ أن ترتدَّ عنه! ما زال النظام الثوري يستطيع الدفاع عن نَفْسه بالقوة، وما زالت الثورة تستطيع فرْضَ نَفْسها عبْرَ طُغيان الحزب، ولكنْ حتى الحزب سيتفكَّك وينحلُّ إذا لم يكُنْ منظَّمًا من أعلى إلى أسفل، ولذلك كان تأسيسُ الأمانة السياسية حتميَّةً تاريخية. توقَّفَ «أ» عن شرحه، وانهمَكَ في إشعال غَليُونه مرةً أخرى. المحاضرة التي راح «أ» يُلقيها، فكَّر «ش»، كانت من مبادئ الحزب الشائعة، فلماذا أخذ «أ» يتحدَّث وكأنَّه في مدرسةٍ حزبية، قبل أن يأتي على ذِكر الشيءِ المهمِّ، الخطير؟ أينما ذهَبَ المرءُ، فإنَّه لا يسمع سوى العباراتِ النمطية المحفوظة. مثلَ صلاةٍ لا تنتهي تُكرَّر المبادئ السياسية، وبالارتكاز عليها، وباسم الحزب، راح «أ» يوطِّد أركانَ سُلطته. في تلك الأثناء كان «أ» قد وصَلَ إلى لُب الموضوع. أخَذَ يستعدُّ الآن لتوجيه الضربة. كلُّ تقدُّمٍ تمَّ تحقيقُه في اتجاه الهدف النهائي — واصل «أ» محاضرته وكأنَّه يقول كلامًا عاديًّا، دون أن يغيِّر من نبراتِ صوته — يتطلَّب تغييرًا في هيكل الحزب. لقد رسَّخت الدولة الجديدة مكانتها، الوزاراتُ مقسَّمة وَفقَ المجالات المختلفة، إلا أنَّ الدولة الجديدة تقدُّمية في جوهرها، دكتاتورية في شكلها. إنَّها تعبيرٌ عن الحتميَّة العملية التي يواجهها الحزبُ خارجيًّا وداخليًّا؛ لكنَّ الحزبَ كأداةٍ أيديولوجية لا بد أنْ يقوم — إذا حان الوقت — بتغيير الدولة، ورغم الاحتياجات العملية التي تتعارض مع ذلك؛ إن الدولة — كدولة — لا تستطيع تثويرَ نَفْسها، الحزب وحده هو القادر على ذلك، الحزب المسيطِر على الدولة. الحزب فقط يستطيع أن يفرض تغيير الدولة وفقَ احتياجات الثورة؛ ولهذا السبب تحديدًا يجب على الحزب ألَّا يتجمَّد وألَّا تُشلَّ حركته، على هياكله أن تتغيَّر وفقَ المرحلة الثورية التي تمَّ التوصُّل إليها. في اللحظة الراهنة ما زال هيكل الحزب يتَّسم بالهرمية، وما زالتْ قيادته تتمُّ من أعلى، وهو ما يتطابق مع فترة الكفاح والنضال التي مرَّ الحزب بها؛ غيرَ أنَّ تلك الفترةَ انتهتْ وولَّت. لقد انتصَرَ الحزبُ، وهو يُمسك الآن بزِمام السُّلطة، الخطوة التالية هي دمقرطة الحزب، وهو ما يعني بَدء عملية الدمقرطة في الدولة كلها؛ ولكن الحزب لا يمكن دمقرطته إلا إذا تمَّ إلغاء الأمانة السياسية، ومنْحُ سُلطتها إلى برلمانٍ حزبي موسَّع؛ لأن الهدف الوحيد من الأمانة السياسية هو استخدام الحزب كسلاحٍ ماضٍ في وجه النظام القديم، وهي المهمة التي أُنجزت، فلَمْ يعُدْ للنظام القديم قائمة؛ ولهذا يُمكن الآن تصفية الأمانة السياسية.

أدرك «ش» الخطر. إنَّه يُهدِّد الجميعَ على نحوٍ غيرِ مباشِر، ولا يهدِّد أحدًا مباشرةً. أتى اقتراح «أ» مفاجئًا. لم تكُنْ هناك أيُّ بوادر في الأفق تُشير إلى أنَّ «أ» سيقترح شيئًا مشابِهًا. الاقتراح ثمرةُ تكتيكٍ هدفُه مفاجأة الخصم بغيرِ المتوقَّع. كان شرحُ «أ» المُسهَب مُلتبِسًا، أمَّا هدفه فواضحٌ وجلي. كان خطابه منطقيًّا في الظاهر، ألقاه بالأسلوب الثوري التقليدي، خطابٌ شُذِّب وهُذِّب خلال اجتماعاتِ فترة النضال التي لا تُحصى، السرِّيَّة والعلنية. ولكن الخطاب تضمَّن في الواقع تناقُضًا، وفي هذا التناقض تكمُن الحقيقة: يريد «أ» تجريد الحزب من سُلطته عبْرَ دمقرطته، وهي عمليةٌ تُتيح له إسقاطَ الأمانة السياسية، وتنصيبَ نَفْسه سُلطةً أحاديَّة، مموِّهًا نيته عبْرَ برلمانٍ وهمي، إنه يريد نفوذًا أكبرَ من أيِّ يومٍ مضى، ولذلك تحدَّث في البداية عن حتميَّة العُنف. لم يكُنْ من المؤكَّد حدوثُ عمليةِ تطهيرٍ جديدة. ولكنَّ حلَّ الأمانة السياسية العامة للحزب لا يمكن أن يحدث دون تطهير. بَيدَ أنَّ «أ» ينزع إلى تصفية كلِّ عنصرٍ يشتبه في أنَّه سيُهدِّد — بالمقاومة — سُلطته الأحادية. من المرجَّح بعد اعتقال «ص» أن يظنَّ «أ» أن هذه العناصر موجودةٌ في الأمانة السياسية. ثم سأل «ش» نَفْسه: هل يمثِّل خطرًا على «أ»؟ وإلى أيِّ حدٍّ سيعني حلُّ الأمانة السياسية سقوطَهُ هو وزيرًا للبريد (لم يكُنْ يستطيع أن يتذكَّر في تلك اللحظة شيئًا في صالحه سوى طوابعِ مؤتمر السلام)؟ قبل أن يستطيع الإجابةَ عن هذه الأسئلة؛ حدَثَ شيءٌ غير متوقَّع.

أفرغ «أ» غَليُونه ودقَّ عليه، وهي علامةٌ على أنَّه يَعتبر جلسةَ الأمانة السياسية قد انتهتْ، وأنَّه لا يرغب في نقاشات. عندئذٍ بدأ وزير المواصلات «ز» يتكلم دون أن يَطلب الإذنَ بالكلام. نهَضَ وزير المواصلات بجهدٍ جهيد. يبدو أن سُكره قد استفحل. أشار — بلسانٍ ثقيلٍ متلعثِم — إلى غيابِ «ص»، ولهذا ما كان لجلسة الأمانة السياسية أن تبدأ على الإطلاق. يا لَخسارةِ الخُطبة العظيمة، ولكنَّ اللوائح هي اللوائح، وهي تسري حتى على الثُّوَّار. عقَدَت الدهشة لسانَ الجميع، فحملَقُوا في النُّصُب التِّذكاري الذي مال على الطاولة وارتكَزَ عليها بذراعَيه، ورغم ذلك ظلَّ يتأرجح، ثم سدَّد نظراتٍ متفحِّصَةً إلى «أ» تشيع منها روح النزال. كان وجهه — ذو الحواجب البيضاء الكثيفة وشَعر الذقن الأشيب النابت — شاحبًا مثل قناع. حجة «ز» بَلهاء، وإن كانت صحيحةً شكلًا؛ فالحجة لا معنى لها. من خلال خطاب «أ» المسهَب بدأت الجلسةُ بالفعل، كما أنَّ وزير النقل والمواصلات تصرَّفَ باعتراضه وكأنَّه لا يعرف شيئًا عن أمْرِ «ص» وعن اعتقاله — هو شخصيًّا — المحتمَل وشيكًا. ولكنَّ ما أدهش «ش» هو النظرة السريعة التي أرسلها «أ» — بعد أن حشا غَليُونه ثانيةً — إلى «ت». وشتْ نظرةُ «أ» باندهاشٍ غريب، وهو ما حمَلَ «ش» على الظنِّ بأنَّ «أ» هو الوحيد الذي لا يعرف أنَّ الجميع يعرفون خبرَ اعتقالِ «ص»، وهو ما يطرح السؤال التالي: هل منشأ خبرِ اعتقال «ص» مديرُ المخابرات نَفْسُه، وضِد رغبة «أ»؟ وهل عقَدَ وزير الخارجية «ب»، الذي ذكَرَ أمام جميع أعضاء الأمانة السياسية أن «ص» لم يَظهَر، تحالُفًا مع «ت»؟ إنَّ ظنون «ش» لم يتمَّ دحضها دحضًا تامًّا عبْرَ ردِّ «أ» الذي قال، وهو ينفث سحاب تَبْغه الإنجليزي، Balkan Sobranie Smoking Mixture: ليس من المهم إطلاقًا إذا ظهَرَ «ص» أو لم يظهر، كما أنَّ سبب عدم حضوره لا يَعني أحدًا، إنَّ «ص» محضُ مرشَّح للعضوية لا يحقُّ له التصويت، والجلسة الحالية ليس لها سوى أن تُقرِّر حلَّ الأمانة السياسية، وهو ما قرَّرتُه؛ إذ لم يعترضْ أحدٌ، ولإصدار هذا القرار ليس هناك ضرورةٌ لحضور «ص».

أراد «ز» أن يغوص في مقعده مرةً أخرى، بعد أن فقَدَ جسارته فجأةً وشعَرَ بالتعب كما هو معتادٌ لدى السُّكارى، عندئذٍ قال مديرُ المخابرات بنبرةٍ جافَّة: إن وزير الذَّرَّة، كما هو واضحٌ، لم يستطع الحضورَ لمرَضِه. أكذوبةٌ مفضوحة، لم يكُنْ لها من غرضٍ — إذا كان «ت» هو الذي نشَرَ بالفعل خبر اعتقال «ص» — سوى إثارةِ أعصاب «ز» مرةً أخرى تمهيدًا لاعتقاله. «مريض؟» هكذا صرَخَ «ز» على الفور، مستنِدًا على ساعده الأيسر وضاربًا بقبضته اليمنى على الطاولة: «مريضٌ، فعلًا مريض؟» «ربما»، كرَّر «ت» ببرودٍ ثم أخَذَ يرتِّب بعض الأوراق. خفَّفَ «ز» من قوة ضربات قبضته على الطاولة، وجلَسَ — وقد أخرسه الغضب — في إطار الباب، خلْفَ «ح» و«د». ظهَرَ العقيد، وهو أمرٌ خالَفَ كلَّ ما تعوَّدوا عليه؛ إذ لم يكن يحقُّ لأيِّ إنسانٍ أن يدخُل الغرفة في أثناء انعقاد جلسة للأمانة السياسية. لا بد أنَّ ظهور العقيد يعني شيئًا خاصًّا، إشارةٌ تحذيرٌ، مصيبةٌ، نبأٌ عظيمُ الأهمية. ولذلك كانت المفاجأة أكبرَ عندما عرفوا أن العقيد لم يأتِ سوى ليطلُب من «ز» أن يخرج معه لأمرٍ شخصي مُلحٍّ. «اغرُبْ عن وجهي»، صرَخَ «ز» في وجه العقيد الذي أطاع متردِّدًا، بعد أن تبادَلَ النظر مع مدير المخابرات، وكأنَّه ينتظر منه مساعدةً، لكنَّ «ت» لم يزلْ مشغولًا بأوراقه. ضحِكَ «أ» وقال بطِيبةٍ وسُخرية، وبِلُغته الخشِنَة: إنَّ «ز» أفرَطَ مرةً أخرى في الشراب. كان يستخدم هذه اللغة عندما يكون مزاجه رائقًا. إنَّ على «ز» أن يخرج ويقضي شئونه الخاصة، فربما وضعتْ إحدى عشيقاته طفلًا. انفجَرَ الجميع في القهقهة، ليس لأنَّهم وجدُوا كلماتِ «أ» مضحكةً، بل لأنَّ التوتُّر بلَغَ ذِروته، ولذلك كان كلٌّ منهم يبحث عن متنفَّس، كما أنَّهم بشعورٍ لا واعٍ أرادوا أن يسهِّلوا على «ز» طريقَ الرجوع. عبْرَ الهاتف الداخلي طلَبَ «أ» من العقيد الدخول مرةً أخرى. ظهَرَ العقيد من جديد، فسأله «أ» عمَّا أحضره، فأجاب بعد أداء التحية العسكرية أنَّ زوجةَ وزير النقل والمواصلات ترقُد على فِراش الموت. فأمَرَه «أ» بالانصراف مرةً أخرى. فمضى العقيد. «اذهب يا «ز»!» قال «أ» مضيفًا: «ما قُلتُه عن العشيقات كان مزاحًا ثقيلًا. إنني أسحب ما قلتُ. أعرفُ أن أمْرَ زوجتكَ يُهمُّك. اذهبْ إليها؛ فالجلسة قد انتهتْ على كلِّ حال». رغم أن كلمات «أ» بدتْ مفعَمة بالإنسانية؛ فإنَّ خوفَ وزير النقل والمواصلات كان هائلًا، لذا لم يصدِّق ما سمِعَ. في يأسه وسُكره لم يعرف النُّصُب التِّذكاري إلا شيئًا واحدًا: الهروب إلى الأمام. صرَخَ قائلًا — بعد أن استند واقفًا — إنَّه ثوريٌّ قديم، صحيحٌ أن زوجته ترقد في المستشفى، ولكنَّ هذا شيءٌ يعلَمُه الجميع، وهو لن يسقط في الفخ. إنَّه عضوٌ في الحزب منذ البداية، قبل «أ» وقبل «ت» وقبل «ب» الذين ليسوا سوى متسلِّقين بائسين. لقد خدَمَ الحزب عندما كانت العضوية أمرًا خطيرًا يهدِّد حياة الإنسان. لقد سُجن في سجونٍ بائسةٍ عفِنَة، قُيِّد فيها بالسلاسل كالحيوان. الجرذانُ كانت تلعق أطرافَ قدمه الدامية. جرذان، صرَخَ المرةَ تلوَ الأخرى، جرذان! لقد دمَّر صحته في خدمة الحزب، وبسببه حكَمَ على نَفْسه بالموت. «كانت فرقة الإعدام قد انطلقت، يا رفاق»، قال باكيًا، «كانت تقِفُ أمامي». بعد الهرب، واصَلَ بلسانٍ متلعثِم: اختفى عن الأنظار، المرةَ بعد الأخرى، إلى أن قاد الثوريين بمسدس وقنبلةٍ يدوية وداهموا القصر. «بمسدس وقنبلةٍ كتبتَ فصلًا في كتاب التاريخ، تاريخ العالم»، زأَرَ وزير النقل والمواصلات وقد فقَدَ السيطرةَ على نَفْسه. كان يأسه وغضبه يُثيران شعورًا بالعَظَمة، رغم سُكرِه وتدهورِ حاله بدا وكأنه قد غدا الثوريَّ القديمَ الشهير الذي كانَهُ يومًا. لقد حارب نظامًا فاسدًا وكاذبًا، مضحِّيًا بحياته في سبيل الحقيقة. واصَلَ خطبته العَصمَاء الفوضوية: لقد غيَّر العالم للأفضل، لم يكترث بالمعاناة والجوع والملاحقة والتعذيب، كان فخورًا بذلك؛ لأنه كان يعلم أنه يقِفُ في صفِّ الفقراء والمنهوبين. كان شعورًا رائعًا أن تقِفَ في الجانب الصحيح، ولكن الآن، وبعد أنْ نالوا النصر، وبعد أن تولَّى الحزبَ دفَّةُ السُّلطة، الآن لم يعُدْ فجأةً يقِفُ على الجانب الصحيح، فجأةً أصبح هو أيضًا يقِفُ في صفِّ ذوي النفوذ والسلطان. ثم صاح: «لقد أغوتْني السُّلطة يا رِفاق. كم من الجرائم تكتَّمتُ عنها؟ وكم من الأصدقاء خُنتُ، ووشيتُ بهم إلى المخابرات؟ هل أُواصل الصمت؟». لقد اعتقَلُوا «ص» — تابع كلامه وقد شحبَ وجهُه فجأةً وخفتَ صوتُه ونال منه التعبُ والإنهاك — هذه هي الحقيقة المعروفة للجميع، ولن يغادر الغرفة لأنَّهم سيعتقلونه أمام الباب؛ لأنَّ ما يُشيعونه عن احتضار زوجته مجرَّدُ أكذوبةٍ كي يخرج من غرفة الاجتماعات. وبهذه الكلمات التي أفصحتْ عن اشتباهٍ كانت أسبابه مفهومةً للجميع، انهَارَ على مقعده.

بينما كان «ز» يستهلك نقمته واعتراضه بعنادٍ مجنون، واعيًا بأنَّ وضْعَه ميئُوسٌ منه، متجاوِزًا كلَّ أشكالِ الحذَرِ التي بدتْ له عقيمة؛ وبينما تابَعَ الجميعُ بوجوهٍ متحجِّرةٍ هذه المسرحيةَ المرعِبة التي قدَّمَها عملاقٌ قبل سقوطه؛ وبين فتراتِ الصمت التي فصلتْ بين الجُمل الرهيبة المندفِعة من فم «ز»، استولى الخوفُ البائسُ على المارشال «د»، لقد خشي أن يجرفَهُ النُّصُب التِّذكاري في طريقه بعد انهياره، فلَمْ ينقطع عن الصياح: «فلْيسقط الأعداء داخل الحزب!» ثم تحدَّثَ رئيسُ الدولة أخيرًا، المارشال «ر»، وأعطى تصريحًا مفخَّمًا عن وفائه الأبدي ﻟ «أ»؛ وفي أثناء كلِّ ذلك استغرَقَ «ش» في التفكير، محاوِلًا التكهُّنَ بسلوك «أ». كان «أ» يجلس مسترخيًا يدخِّن غَليُونه. لم يلاحِظْ أحدٌ عليه شيئًا. ولكنْ حتمًا كان شيءٌ ما يعتمل داخله. صحيحٌ أنَّ «ش» لم يكُنْ يعرف إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يمثِّل اعتراضُ «ز» تهديدًا ﻟ «أ»، غيرَ أنَّه شَعرَ أنَّ أفكار «أ» ستكون حاسمةً بالنسبة إلى مستقبله ومستقبل الحزب، وأنَّهم على أعتاب نقطةِ تحوُّل، ولكن «ش» لم يعرف: أي تحوُّل؟ كما لم يعرف: كيف يتجرَّأ على التنبُّؤ بما سيفعله «أ»! كان «أ» داهيةً في التكتيك، لا يُناظره أحدٌ في مهارته المدهِشة في تحريك قِطَع شطرنجِ السُّلطة، ولا حتى «ب». بالفطرة كان خبيرًا بطبائع البَشَر، يعرف نقاطَ الضَّعف في كلِّ خَصم، ويعرف كيف يستغلُّها، كان صيَّادًا للناس ومطارِدًا لهم، لا يجاريه في ذلك أحدٌ داخل الأمانة السياسية، لكنه لم يكُن الرَّجُل الذي يخوض مبارزةً علنيَّة، إنَّه بحاجة إلى الصراع الخفي، إلى الهجوم من حيث لا يَظنُّ أحد. الكمائن ينصبها في أدغال الحزب ذي الألف قِسم وفرع وشعبة ولجنة ومجموعة؛ تناقُضٌ صريح، لا بد أنَّه لم يخضْ منذ وقتٍ طويل نِزاعًا وقَفَ فيه وجهًا لوجهٍ أمام خصمه. السؤال هو: هل سيخرج «أ» عن طَوره؟ هل سيفقد الرؤية؟ هل سيتعجَّل في ردِّ فعله؟ هل سيعترف بالاعتقال؟ أم أنَّه سيواصل الإنكار؟ هذه كلُّها أسئلةٌ ليس بمقدور «ش» أن يُجيب عنها؛ لأنَّه هو نَفْسه لا يعرف ماذا كان سيفعل لو كان مكان «أ». غيرَ أنَّ الوقتَ لم يُسعفْ «ش» كي يواصِلَ تكهُّناته حول سلوك «أ» المحتمَل، فبمجرد أن توقَّفَ المارشال «د» ليلتقط أنفاسه، ويستجمع قُواه، كي يأخذ نبرةً أكثرَ حماسيةً في إعلان ولائه وخضوعه أمام «أ»؛ قاطعه «ح» الذي لم يلاحِظْ — أو لم يُردْ أن يلاحِظ — أنَّ «د» يلتقط أنفاسه. كان أسرع منه. استهلَّ كلامه قبل أن ينهض، ثم وقَفَ بثباتٍ، قصيرُ القامة، بدينٌ، قبيحٌ إلى أقصى درجة، بندباتٍ في الوجه، فَرَدَ كفَّيه أمام كرشه كأنَّه فلَّاحٌ جلْف يؤدِّي الصلاةَ بملابسِ يومِ الأحد، ثم راح يتحدَّث ويتحدَّث. على الفور عرَفَ «ش» السبب. كان هدوءُ وزير الصناعة الثقيلة خادعًا. إنَّ تصرفاتِ ماسحِ الأحذية تنبع من الرُّعب الذي أصابه من جرَّاء ما فعَلَه «ز»، لقد رأى نقمة «أ» وهي تهبط على الجميع؛ إذ إن اعتقال جميع أفراد الأمانة السياسية أصبح وشيكًا. كان على ماسح الأحذية، ابن معلم القرية، أن يكدَّ ويكدح في الأرياف حتى يرتقي السُّلَّم. انضمَّ إلى الحزب مبكِّرًا، وأصبح عُرضة لتهكُّم الجميع، لم يأخذْه أحدٌ مأخذَ الجِدِّ، لقي الإهانة بمختلف أشكالها، عمِلَ خادمًا في أسفلِ السُّلَّم، إلى أن استطاع الصعودَ (وهو ما دفَعَ ثَمَنَه كثيرون)، لم يكُنْ لديه كبرياء (إذ لم يكُنْ بمقدوره أن يتحلَّى بالكبرياء)، لم يكُنْ لديه إلا الطُّموح. ولأنَّه كان قادرًا على فِعْل أيِّ شيء؛ أصبَحَ قادرًا على فِعْل كلِّ شيء. قام بأقذَرِ الأعمال (وأكثرها دمويَّةً)، مُطيعًا طاعةً عمياء، ومُبديًا استعدادَهُ لكلِّ أنواع الخيانة، في كثيرٍ من الأوجه كان هو الأفظَعَ داخل الحزب، أفظع من «أ» نَفْسِه الذي كان فظيعًا بأفعاله، ولكنْ مُهمًّا بشخصه. لم يكُنْ «أ» مشوَّهًا، لا من خلال الصراع، ولا عبْرَ السُّلطة. كان «أ» مثلما كان، قطعةً من الطبيعة، تعبيرًا عن حتميَّة السُّلطة. شكَّل ذاته بذاته، ولم يشكِّله أحدٌ. أمَّا «ح» فكان فظيعًا فحسب، ذليلًا، لقد بقي الذلُّ عالقًا به، ولم يكُنْ بمقدوره أن ينفضه عن بدنه، حتى «الجِنكيزخانان» كانا يبدوان أمامه كأرستقراطيَّين، بل حتى «أ» الذي كان يحتاجه، كان يُطلق عليه علانيةً ليس فقط «ماسح الأحذية»، بل أيضًا «لاحس الأطياز»؛ ولهذا كان خوفه الآن أعظمَ من خوف الآخرين. لقد فعَلَ «ح» كلَّ شيء حتى يصعد إلى القمَّة. والآن، عند الهدف، رأى جهوده الكريهة اللاإنسانية مهدَّدة بعد أن استمع إلى سِباب «ز» المجنون. اكتشَفَ أنَّ الإنكار العبثيَّ لذاته أمسى عديمَ المعنى، وأنَّ تزلُّفَه المفضوح ذهَبَ أدراجَ الرياح؛ إلى هذا الحدِّ تمكَّنَ منه الخوفُ وزلزل كِيانه، حتى إنَّه — بعد أن ذهَبَ الرُّعب بلُبِّه — قاطَعَ «أ» في أثناء كلامه (وفقًا لقناعة «ش») إلا أنَّ «ح» كان يريد على وجه السرعة — وكأنَّ في ذلك خلاصَه — أن يُتبع إعلانَ الولاء والخضوع الذي صرَّح به «ر» بإعلان ولائه هو، وبالطبع على طريقته. لم يمتدح «أ»، كما فعَلَ رئيس الدولة من غير حساب، بل هاجم «ز» هجومًا كاسحًا من غير حساب. على عادته استهلَّ كلامه بأمثالٍ ريفية يحفظها عن ظَهْر قلبٍ ويتلوها، سواءٌ ناسَبَت المقامَ أم لا. قال: «قبل أن يبدَأَ الثعلبُ بالهجوم، تتملَّك الوقاحةُ الدجاجَ». وقال: «الفلَّاحُ لا يحمِّم امرأته إلا إذا كان النبيلُ يرغب في مضاجعتها». وقال: «الوَلوَلة تسبق المشنقة». وقال: «حتى الإقطاعي يمكن أن يسقط في بئر السِّباخ». وقال: «الخادمةُ تحبل من الفلَّاح، والفلَّاحة تحبل من العبد». بعد ذلك تطرَّق إلى جِديَّة الموقف، ولكنه — لحكمته — لم يتطرَّق إلى جِدية الموقف السياسي الداخلي، الذي كان بصفته وزير الصناعة الثقيلة متورِّطًا فيه حتى العُنُق، بل تطرَّق إلى الموقف السياسي الخارجي، فهناك يرى «خطرًا مُميتًا يوشك أن يَدْهم وطننا الحبيب»، هو أمرٌ مدهِش لا سيما أنَّ السياسة الخارجية شَهدَت انفراجًا كبيرًا بعد مؤتمرِ السَّلام. ها هي الرأسمالية العالمية تستعدُّ مرةً أخرى لقَطْف ثمار الثورة، بل لقد نجَحَت في زرْعِ جواسيسها عبْرَ أنحاء البلاد. بعد السياسة الخارجية تطرَّقَ إلى حتميَّة الانضباط، ومن حتميَّة الانضباط خلُصَ إلى حتميَّة الثِّقة. «أيها الرِّفاق، كلُّنا أخوة، وأبناءُ الثورة الواحدة العظيمة!» ثم ادَّعى أنَّ هذه الثقة الضرورية قد انتهَكَها «ز» بلا ضرورة؛ لأنَّه شكَّكَ في كلماتِ «أ»، وذلك باعتقاده — على عكس تأكيدات «أ» — أن «ص» المريض قد اعتُقل. نعم، إنَّ سوءَ ظنِّ وزير النقل والمواصلات، «هذا النُّصُب التِّذكاري الذي أضحى منذ زمنٍ بعيد نُصبًا للهوان والعار»، تعدَّى كلَّ الحدود، إنَّه لا يجرُؤ حتى على مغادرة غرفة الاجتماعات كي يشدَّ من أزْرِ زوجته المُحتضَرة، يا لها من وحشيَّةٍ تصيب بالعارِ كلَّ ثوريٍّ ما زال الزواجُ مقدَّسًا بالنسبة له! ومَن فينا لا يقدِّس الزواج؟ إنَّ اشتباهًا مثلَ هذا لا يُهين «أ» فحسب، بل يوجِّه ضربةً قاسية في وجه الأمانة السياسية. (راح «ش» يفكِّر: إن «أ» لم يقُلْ حرفًا عن مرض «ص» المزعوم. لقد أطلَقَ وزير الأمن «ت» هذه الأُكذوبة، ولكن «ح» ينسبها إلى «أ»، وبذلك يرتكب خطأً آخر لا يمكن تفسيرُهُ سوى بالخوف البائس الذي تملَّكَ وزيرَ الصناعة الثقيلة، غيرَ أنَّ ظنًّا خامَرَ «ش» في تلك اللحظة: ماذا لو كان مرض «ص» هو الحقيقة، بينما اعتقاله هو الأُكذوبة التي تمَّ نشْرُها لإرباك الأمانة السياسية؟ غيرَ أنَّ «ش» تخلَّى عن هذا الظنِّ في اللحظة نَفْسها). في تلك الأثناء كان ماسِحُ الأحذية، دون تبصُّر، قد سلَّمَ نَفْسه إلى محاولةِ الوصول إلى برِّ الأمان، فهاجَمَ عدوَّه اللدود «ث»؛ حتمًا لأنَّه اعتقد أنَّ «ث» سيسقط تلقائيًّا مع سقوط وزير النقل والمواصلات «ز»، دون أن يفكِّر في أنَّ الجميع ينظُر إلى وزير النقل والمواصلات باعتبار أمره منتهيًا منذ فترةٍ طويلة، بينما لا يستطيع أحدٌ أن يزحزح «ث» من مكانه دون أن يُحدِث هزَّةً عنيفة في الحزب والدولة. ولكن يبدو أنَّ الزلزال كان بالنسبة ﻟ «ح» حقيقةً واقعة، وإلا لكان انتَبَه إلى أنَّ وزير الدفاع «د» ظلَّ على هدوئه في أثناء هجوم «ح»، ولم يقدِّم له أيَّ دعم. صرَخَ ماسحُ الأحذية: الفلَّاحون يجوعون بينما يزداد القسيس سِمنةً، وصرخ: إذا شعَرَ النبيل بالبرد في قدمَيه، فإنَّه يشعل النار في قرية بأكملها. ثم ادَّعى أنَّ «ث» خان مبادئ الثورة عندما أهمَلَها، وعندما حوَّل الحزب إلى نادٍ بُرجوازي. في شجاعته اليائسة خَطَا «ح» خطوةً أخرى إلى الأمام، فهاجَمَ بعد «ث» حلفاءه، وسخِرَ من وزيرة التربية، إنَّ الفتاة تدخل منزلَ تاجر الخيول عذراءً وتخرج منه عاهرةً، مَثَلٌ فلَّاحيٌّ قديم، أمَّا وزير الخارجية «ب» فيناسبه المَثَل القائل: إنَّ مَن يتصادق مع الذئب الأجرب يُصبح هو نَفْسه ذئبًا أجرب. ولكن، وقبل أن يستشهد «ح» بمَثَلٍ فلَّاحيٍّ آخر، وقبل أن يشرح المقصود من اتهاماته؛ قاطَعَه العقيد. دخَلَ الضابطُ الأشقر لدهشة الجميع غرفةَ الاجتماعات مرةً ثانية، أدَّى التحية العسكرية، وقدَّمَ لوزير الصناعة الثقيلة ورقةً، ثم أدَّى التحية العسكرية بقامةٍ منتصِبة، وغادَرَ غرفة الاجتماعات.

فقَدَ «ح» ثقته بنَفْسه بعد أن فُوجئ بالمقاطعة، واستولى عليه الخوف من هذه المسرحية العسكرية. ألقى نظرةً سريعة على الورقة ثم كوَّرها وألقى بها في جيبه الأيمن، إنه لم يقصد ما فهموه، ثم جلَسَ وقد انقضَّ عليه فجأةً سوءُ الظنِّ، هكذا شعَرَ «ش»، ثم اعتصم بالصمت. لم يحرِّك الآخرون ساكنًا. كان ظهور العقيد مرةً ثانية أمرًا خارجًا عن المألوف. بدا وكأنَّه جزءٌ من المسرحية. شعروا بالتهديد. «س» وحدها — التي كان «ح» يصوِّب إليها نظراتٍ فاحصةً في أثناء خطابه — تصرَّفتْ وكأنَّ شيئًا لم يكُنْ. فتحتْ حقيبةَ يدها ونثرتْ بعض المساحيق على وجهها وهو ما لم تجرُؤ على فِعْله خلال الجلسة قَط. ظلَّ «أ» على صمته، عازفًا عن التدخُّل، وبدا غيرَ مبالٍ بما يحدُث. راح «ب» و«ت»، اللذان يجلسان متواجهَين بجانب «أ»، يتبادلانِ النظرات، نظرات سريعة تبدو كأنَّها غيرُ مقصودة، كما لاحَظَ «ش»، في أثناء ذلك كان وزير الخارجية يمسح على شاربه المحفَّف بعناية. عدَّلَ مدير المخابرات من وضْعِ ربطةِ عُنُقه الحريرية وسأل ببرودٍ عمَّا إذا كان «ح» قد انتهى من هُرائه؛ إذ إنَّ على الأمانة العامة أن تواصِلَ عمَلَها. تمعَّنَ «ش» في الأمر من جديد: هل يربط «ب» و«ت» تحالفٌ سرِّي؟ كان يُنظَر إليهما باعتبارهما عدوَّين، إلا أنَّهما كانا يشتركان في أمورٍ عدَّة: التعليم والتفوق والانتساب لعائلاتٍ معروفة في البلاد. كان والد «ت» وزيرًا في حكومة بُرجوازية، أمَّا «ب» فكان الابنَ غيرَ الشرعيِّ لأحَدِ الأمراء، كما أنَّ البعض يعتبر كليهما من مثليي الجنس. احتماليةُ اتفاقٍ سرِّي بين الاثنين خطرتْ على بال «ش» مرةً أخرى للسبب التالي أيضًا: عندما يوجِّه «ت» أصابع الاتهام إلى وزير الصناعة الثقيلة؛ فإنه بذلك يقدِّم مساعدةً واضحة إلى وزير الخارجية «ب»، وليس فقط إليه؛ إنَّه بذلك يدعم أيضًا «ث» و«س» وحتى «ز». أصاب الارتباك «ح» بسبب هذه الهزيمة، لا سيما أنَّه اعتقَدَ أنَّ «ت» يقِفُ في صفِّه؛ لذلك قال بصوتٍ خفيض إنَّ عليه أن يتَّصل بالوزارة، لأمرٍ ملِحٍّ، أمرٍ مُخجِل؛ فهناك قضيةٌ تعيسة لا بد أن يُصدِر في شأنها قرارًا. نهَضَ «أ» وذهَبَ بخطًى متَّئِدة إلى البوفيه خلْفَه، وصبَّ لنَفْسه بعنايةٍ كأسًا من الكونياك، وظلَّ واقفًا. ثم قال ﻟ «ح»: يمكنه أن يتَّصل من الغرفة الأمامية. أيضًا على «ز» أن ينصرف بسرعة، أو على الأقلِّ أن يتَّصل بالمستشفى، إنَّه يأمر باستراحةٍ لمدَّة خَمس دقائق، صحيحٌ أنَّ لائحةَ نظام الحزب لا تُبيح إيقاف الجلسة بسبب هذا الهجوم الصبياني والشخصي، ولكنه يفعل ذلك؛ لأنه لا يريد إزعاجًا بعد الاستراحة. ثم تساءل: ومَن هذا الحمار برتبة عقيد؟ إنَّه ينوب عن العقيد العجوز لأنَّه في إجازة، أجاب مديرُ المخابرات، ولكنه سيقوم بإخبار الرَّجُل باللازم. ثم نادَى على العقيد عبْرَ الهاتف الداخلي. أمَرَ «ت» العقيد — الذي دخَلَ مؤدِّيًا التحية العسكرية — بأنْ ينصرف وألَّا يزعجهم مهما حَدَث. انسحَبَ العقيد خارجًا. لم يغادر «ح» أو «ز» الغرفة، ظلَّا جالسَين وكأنَّ شيئًا لم يحدُث. ابتسم «ث» لوزير الصناعة الثقيلة ابتسامةً صفراء، ثم نهَضَ واقترب من «أ»، وصبَّ لنَفْسه كذلك كأسًا من الكونياك، ثم تساءل: لماذا لم يذهب «ح» إلى الغرفة الأمامية بحقِّ الشيطان؟ عندما تُسبِّب وزارةُ الصناعة الثقيلة إزعاجًا لجلسة الأمانة السياسية؛ فلا بد أنَّ القيامة هناك قد قامت؛ صحيحٌ أنَّه من الجدير بالثناء اهتمامُ صديقه «ح» بمصلحة الدولة والثورة، ولكنَّ هذه المصلحة تحديدًا تتطلَّب أن يهتمَّ أخيرًا بواجبه، وأن يتَّصل على وجه السرعة بمكتبه، فلَنْ يكون في مصلحة أحدٍ أن تسود الفوضى وزارةَ الصناعة الثقيلة.

استغرق «ش» في التفكير. بدا له أنَّ أهمَّ شيءٍ هو أنَّ «أ» قد حسَمَ أمره فجأةً وقرَّر مواصلة جلسةِ الأمانة السياسية. الإشارةُ إلى لائحة نظامِ الحزب كانت محضَ عبارةٍ فارغة، هذا شيءٌ واضح لكل ذي عينَين. لم يحدُث حتى اليوم قَط أنْ تمَّ التصويتُ على شيء، كانوا يوافقون في صمْتٍ، ميزانُ القُوى بين المجموعتَين المتعاديتَين داخل الأمانة السياسية كان في حالةِ توازُنٍ تام. كان بإمكان «أ» أن يطرح في أيِّ وقتٍ الأمرَ أمام مؤتمر الحزب، وبذلك يقوم بتصفيةٍ علنية للأمانة السياسية المكروهة. لا بد أنَّ هناك أسبابًا أخرى لقرار «أ». لا بد أنَّه رأى بوضوحٍ أنَّه ارتكَبَ خطأً عندما قرَّر تطهير الأمانة السياسية وإلغاءها، أو إلغاءها أولًا ثم تصفية كلِّ عضوٍ على حِدَة. الآن يواجه جبهةً موحَّدة. لقد أرسَلَ إشارةَ تحذيرٍ متعجِّلة للكلِّ عندما أمَرَ باعتقال «ص». إنَّ امتناع «ز» و«ح» عن مغادرة الغرفة مؤشِّرٌ على خوفِ الجميع. أمام مؤتمر الحزب كان «أ» يتمتع بالحرية والسُّلطة، أمَّا داخل الأمانة السياسية فهو — مثل كلِّ الأعضاء الآخرين — سجينُ النظام. إذا كانوا يشعرون بالخوف من «أ»؛ فلا بد أن «أ» — لن نقول يشعُر بالخوف لأنَّه لا يعرف الخوف — يتملَّكُه سوءُ الظنِّ؛ فالدعوة إلى انعقاد مؤتمرٍ حزبيٍّ تستغرق وقتًا، وفي أثناء ذلك سيظلُّ أعضاء الأمانة السياسية يتمتعون بالنفوذ والقدرة على الفعل. وهكذا تحتَّمَ على «أ» أيضًا أن يبادر بفعلِ شيء. كان عليه أن يجسَّ النبض من جديدٍ ليعرف على مَن يستطيع الاعتماد، ثم يخوض المعركة. ولكنَّ احتقار «أ» العميق والأصيل للبَشَر أدَّى إلى سيادة الفوضى على الجبهات المختلفة. ليس هذا فحسب؛ إنَّ مناورته يمكن أن تنقلب، من حيث لا يدري، إلى معركةٍ مصيرية.

للوهلة الأُولى لم يحدُثْ شيءٌ. لم يُقدِم أحدٌ على فعْلِ شيء. بقي «ح» جالسًا، وكذلك وزير النقل والمواصلات الذي دفَنَ وجهه بين كفَّيه. كان «ش» يودُّ أن يمسح العرَقَ المتفصِّد على جبينه، لكنه لم يجرُؤ. بجانبه فرَدَ ض يدَيه، فبدا وكأنَّه يصلِّي كي ينفد بجِلده سليمًا من هذا المأزق، وإنْ كان من المستبعَد تمامًا أنْ يصلي أيُّ عضوٍ من أعضاء الأمانة السياسية. أشعَلَ وزيرُ التجارة الخارجية «ج» واحدةً من سجائره الأمريكية، ونهَضَ وزيرُ الدفاع «د»، وسار متأرجِحًا إلى البوفيه حيث وجَدَ زجاجة «جِن»، فزرَعَ نَفْسه بين «أ» و«ب»، وقرَعَ نخبه على نحوٍ احتفالي، ثم قال له: «تعيش الثورة!» ثم غلَبَه الفُواق، ولم يلاحظ في خَدَره أنَّ «أ» لم يُعِره انتباهًا. تناولتْ «س» علبةَ سجائرَ ذهبيةً من حقيبةِ يدها؛ فسار «ث» نحوها مقدِّمًا ولَّاعته الذهبية، وظلَّ واقفًا خلْفَها. «والآن، عليكما أن تجيباني»، قال «أ» بهدوء، «هل صحيح أنكما تمارسان الجنس معًا؟» فأجاب «ث» بكلِّ وقاحة: «كنَّا في السابق نمارس الجنس معًا». فضحك «أ» قائلًا إنَّه أمرٌ جيد أنْ يسود التفاهُم بين العاملين معه، ثم توجَّه إلى «ح»: «هيا يا ماسحَ الأحذية»، قال بلهجةٍ آمِرة، «هيَّا يا لاحسَ الأطياز، اتصلْ بالتليفون!» ظلَّ «ح» جالسًا. «لن أتَّصل من الخارج»، قال بصوتٍ خافت. فضحِكَ «أ» مرةً أخرى. كانت الضحكةُ المعتادة البطيئة التي تكاد تكون لطيفةً؛ ضحكةً اعتاد أنْ يُطلقها سواء كان يمزح أم يهدِّد، ولذلك لم يَكُن المرءُ يعرف أبدًا ما يَعنيه. إنَّه يعتقد حقًّا أنَّ الخوف استولى على الرَّجُل، قال ملاحِظًا. «صحيح»، أجاب «ح»، «أنا خائفٌ، أشعُرُ بالرهبة». حملَقُوا كلُّهم في «ح» صامتين، كان أمرًا رهيبًا أن يعترف بخوفه. «كلُّنا خائفون»، أضاف وزير الصناعة الثقيلة ناظرًا بهدوء إلى «أ»، «وليس أنا فقط أو وزير النقل والمواصلات، كلُّنا». «هُراء»، جاوَبَه كبيرُ المنظِّرين «خ»، ثم نهَضَ وتمشَّى إلى النافذة. «هُراء، هُراءٌ سخيف»، قال مرةً أخرى مديرًا ظهْرَه للجميع. «إذن غادر الغرفة»، طلَبَ منه «ح». استدار كبيرُ المنظِّرين وحملَقَ بارتيابٍ في «ح»، وسأله: وماذا يفعل خارج الغرفة؟ إنَّ كبيرَ المنظِّرين لا يجرُؤ أيضًا على مغادرة الغرفة، لاحَظَ «ح» بهدوء. إنَّ «خ» يعلم تمامَ العِلم أنه ليس في مأمنٍ إلا هنا. «هُراء» ردَّ «خ» مرةً أخرى، «هُراء، هُراءٌ سخيف». ظلَّ «ح» على عناده: «إذن، غادر الغرفة» طلَبَ مرةً ثانيةً من قديس الشاي. بقي «خ» واقفًا عند النافذة. توجَّهَ «ح» مرةً أخرى بالكلام إلى «أ»: «أرأيت؟ كلُّنا خائفون». ثم جلَسَ مستقيمَ الظَّهر واضعًا كفَّيه على الطاولة، وعلى حين غِرَّة فارَقَه كلُّ القبحِ الملازِم له. إنَّ «ح» مخبول، قال «أ» واضعًا كأس الكونياك على البوفيه مرةً أخرى، ثم عاد إلى الطاولة. «مخبول؟» تساءل «ح»، «حقًّا؟ هل أنت متأكد؟» تحدَّثَ بصوتٍ خافت وهو ما لا يفعله قَط. باستثناء «ز» فإنَّ الأمانة السياسية لا تضمُّ أيًّا من الثوريين القُدَامى، أضاف، أين هم الآن؟ ثم تلا أسماءَ الذين تمَّت تصفيتُهم، بعناية وبطء تلا الأسماءَ كاملةً، ذاكرًا رجالًا كانوا يومًا مشهورين، الرجال الذين أسقطوا النظام القديم. لأول مرةٍ منذ زمنٍ بعيد تُتلى هذه الأسماء. اقشعرَّ بدَنُ «ش». شعَرَ فجأةً كأنَّه في أحد المدافن. «خونة»، صرخ «أ»، «أولئك خونة، أنت تعلم ذلك تمامًا أيها الملعون، لاحس الأطياز». ثم صمَتَ، واسترجَعَ هدوءه، وسدَّدَ نظراتٍ متفحصةً ومتأمِّلة إلى ماسح الأحذية، ثم قال بعد ذلك على نحوٍ عابر: «إنَّك أيضًا واحدٌ من أولئك الخنازير». عرف «ش» على الفور أن «أ» قد ارتكب خطأً آخر. بالطبع كانت قراءة أسماء الثوريين القُدَامى استفزازًا له، ولكن «ح» أصبح خصمًا بعد أن اعترف بخوفه، وكان على «أ» أن يتعامل مع هذا الخصم بجِدِّية. ولكن «أ» اندفع وقام بتهديده، بدلًا من أن يهدِّئ من رَوعه. بكلمةٍ لطيفة أو بمزحةٍ كان «ح» سيعود إلى تعقُّله، ولكنَّ «أ» يحتقر «ح»، ولأنه يحتقره، لم يرَ خطَرَه، وتصرَّفَ برعونة. أمَّا «ح» فلَمْ يعُدْ بإمكانه الرجوع. لقد قامَرَ بكلِّ شيءٍ في لحظةٍ يائسة، مفاجئًا الجميعَ بصلابة شخصيته. لقد تحتَّم عليه أن يحارب، وأصبح الحليفَ الطبيعي لوزير النقل والمواصلات الذي — ببلادته — لم يفهم ما يحدُث. ثم صاح «أ»: «لا بد من تحطيم مَن يقِفُ في طريق الثورة. كلُّ مَن حاول ذلك تحطَّم». بثباتٍ تساءل ماسحُ الأحذية عمَّا إذا كانوا قد حاولوا حقًّا، إن «أ» نَفْسه لا يصدِّق ما يقول. إنَّ الرجال الذين تلا أسماءهم ولقُوا مصرعَهم هم الذين أسَّسوا الحزب وقاموا بالثورة. لقد أخطئُوا في أشياءَ كثيرةٍ، هذا صحيح، لكنَّهم ليسوا خونة، كما أنَّ وزير النقل والمواصلات ليس خائنًا. «لقد اعترفوا وأدانتهم المحكمة»، ردَّ «أ». «اعترفوا!» قهقَهَ «ح» ثم واصل: «اعترفوا! وكيف اعترفوا؟ فلْيَحكِ لنا مديرُ المخابرات عن ذلك!» إنَّ الثورة — أجاب «أ» بخبثٍ — دموية، هناك مذنبون أيضًا في صفوف الثوريين، وويلٌ للمذنبين! إنَّ التشكيك في هذه الحقيقة هو في حدِّ ذاته خيانة. ثم أضاف متهكِّمًا أنَّ هذه المناقشة ليس من ورائها طائل، فمن الواضح أنَّ رأس ماسح الأحذية محشوٌّ بالكتابات القذِرة التي يوزِّعها على زملائه، والتي يدَّعي فيها بكلِّ صراحةٍ أنَّ الحزب ماخور. إنَّ على «أ» أن يطلُب من صديق «ح»، كبير المنظِّرين «خ»، أن يفكِّر جيدًا في أمْرِ مَن يتعامل معهم. بهذا التهديد الانفعالي وغير المبرَّر أمام قديس الشاي — ربما بدافعِ الغضب؛ لأنَّ كبير المنظِّرين لم يجرُؤ هو أيضًا على مغادرة الغرفة — رجَعَ «أ» إلى مقعده وجلَسَ. كذلك فعَلَ الذين كانوا واقفين، وكان «خ» آخِرَهم. ثم افتتَحَ «أ» الجلسة مرةً أخرى.

لم يتأخَّر قديس الشاي في الأخذ بالثأر، ربما لاعتقاده أنَّه قد غدا مع «ح» من المغضوب عليهم، أو لأنَّ تأنيب «أ» غير الحذِر أشعَرَه بالإهانة. مثل ناقدين عديدين لم يكُنْ «خ» يتحمَّل النقد. وهو بعدُ معلمٌ في المدرسة الثانوية، شرَعَ قديس الشاي ينشُر في مجلاتٍ ريفية نكِرَة مقالاتٍ في النقد الأدبي كانت صارخةً في الْتزامها الحزبي، حتى إن «أ» — الذي كان يحتقر معظم كُتَّاب البلاد باعتبارهم محضَ متذاكِين بُرجوازيين — أمَرَ في بداية الحملة التطهيرية الكبيرة الثانية بإحضاره إلى العاصمة حيث تولَّى «خ» القسم الثقافي في الصحيفة الحكومية، وفي أقصر وقتٍ نجَحَ بنشاطٍ محموم في أن يهدم صرْحَ الأدب والمسرح في البلاد، عبْرَ اعتناقه الأيديولوجية القائلة: إنَّ الكتَّاب الكلاسيكيين أصحَّاء وإيجابيون، أمَّا كُتَّاب الحاضر فهُمْ مرضَى وسلبيون. ورغم البدائية الفظيعة للفكرة الأساسية في نقده، فقَدْ كان يكسوها شكلًا فكريًّا منطقيًّا؛ إذ إنَّ قديس الشاي كان يكتُب على نحوٍ أكثر تعقيدًا من خصومه في الأدب والسياسة. كان قديرًا متمكِّنًا. الكاتب الذي يغدو هدفًا لنقد «خ» ينتهي أمره، وليس من النادر أن يختفي وراءَ الأسلاك الشائكة أو وراء الشمس. أمَّا في حياته الشخصية فإنَّ «خ» بُرجوازي ضيِّق الأفق لا يمكن أن ينافسه أحدٌ في ذلك. كان يعيش حياةً زوجيةً سعيدة، متفاخِرًا بذلك أمام كلِّ شخص، والِدُ ثمانية أبناء جاءُوا إلى الدنيا على فتراتٍ مُنتظِمة. كان مكروهًا داخلَ الحزب، ولكنَّ «أ» — بما يتميز به من براجماتيةٍ عظيمة، وهو الذي يحبُّ أن يدَّعي التنظير — مكَّنَ المدرسَ الثانوي من الحصول على منصبٍ أوسع نفوذًا؛ إذ جعَلَه «أبَ الاعتراف» الأيديولوجي داخلَ الحزب، ولذا لم يكُنْ لأعضاء الأمانة السياسية حولٌ ولا قوة أمام محاضراتِ «خ» المستفيضة، وإنْ سخِرَ منها البعض علانية، مثل «ب» الذي قال مرةً بعد محاضرةٍ طويلةٍ للغاية ألقاها قديس الشاي حول السياسة الخارجية: إنَّ على كبير المنظِّرين أن يعمل على أن تبدو القرارات السياسية للأمانة مبرَّرة ومقبولة في الخارج، ولكن ليس عليه أن يطلُب من أعضاء الأمانة أن يصدِّقوا تبريراته. ولكنْ يحسُن بالمرء ألَّا يقلِّل من قدْرِ «خ». كان قديس الشاي نهِمًا للسُّلطة؛ إذا اقتنَصَ منصبًا، فإنه يدافع عنه بكلِّ الوسائل. وهو ما أدرَكَه «أ» الآن؛ لأن «خ» كان أولَ مَن طلَبَ الكلمة. شكر «أ» على كلامه في بداية الجلسة، هذا الكلام الذي يشِي بقدراتِ رجُلِ دولةٍ عظيم. إنَّ التحليل الذي قدَّمه عن وضْعِ الثورة وحالة الدولة رائعٌ، أمَّا النتيجة التي توصَّل إليها فهي مُلزمة — أيْ حَل الأمانة السياسية بعد أن وصلتْ إلى هذه النقطة. ولكنْ لديه، كمنظِّر، تعقيبٌ واحد — كما بيَّن «أ»؛ فإننا نواجه صراعًا معيَّنًا، ليس فقط لأنَّ الثورة أصبحتْ في تناقُضٍ مع الدولة، بل لأنَّ الحزب أيضًا أضحى يتناقض في الحقيقة مع الثورة. إنَّ الثورة والحزب شيئان مختلفان، وليس كما يعتقد البعض شيئًا واحدًا. تتميز الثورة بالديناميكية، بينما الحزب كيانٌ ينزع إلى الإستاتيكية. الثورة تغيِّر المجتمع، فيما الحزب يقوم بالتوفيق بين المجتمع المتغيِّر والدولة. ولهذا فإنَّ الحزب حاملُ لواء الثورة، وفي الوقت نَفْسه حاملُ لواء سُلطة الدولة. هذا التناقُض الداخلي يُغوي الحزب بأنْ يرجِّح كِفَّة الدولة على كِفَّة الثورة، وهو ما يُجبر الثورة على تثوير الحزب مرةً بعد أخرى؛ فالثورةُ تندلع بسبب التقصير البشري الذي تكمُن بذرتُه في الحزب باعتباره كِيانًا إستاتيكيًّا. وهكذا يحدُث أنْ تجِدَ الثورةُ نَفْسها مجبَرةً على ابتلاع أولئك الذين أصبحوا باسْمِ الحزب أعداءً للثورة. إنَّ الرجال الذين تلا وزيرُ الصناعة الثقيلة أسماءهم كانوا في الأصل ثوريين بحقٍّ، لا أحدَ يشكُّ في ذلك بالتأكيد، ولكنَّهم ارتكبوا خطأً عندما اعتبروا أنَّ الثورة انتهت، وبذلك أمْسَوا أعداءً للثورة، فتحتَّم سَحْقُهم. هذا هو الحال اليوم أيضًا: لأنَّ الأمانة السياسية العامة للحزب تستحوذ على السُّلطة كلِّها، أضحى الحزب عديمَ الأهمية، ولم يعُدْ قادرًا على حمْلِ لواء الثورة، كما أنَّ الأمانة السياسية فقدتْ قدرتَها على القيام بهذه المهمَّة؛ لأنَّها أصبحتْ على صلةٍ بالسُّلطة فقط، وفقدت كلَّ صلتها بالثورة. لقد انفصلت الأمانةُ السياسية للحزب عن الثورة؛ لأنَّ الحفاظ على السُّلطة كان أهمَّ بالنسبة لها من تغيير العالم؛ إذ إنَّ السُّلطة، كُل سُلطة، تنشد الاستقرار: استقرار الدولة التي تحكمها، واستقرار الحزب الذي تسيطر عليه. ولذلك لا مَهرَب من محاربة الأمانة السياسية العامة للحزب كي تستمر الثورة. على الأمانة السياسية أن تدرِك هذه الحتميَّة، وتقرِّر حلَّ نَفْسها. ثم قال مختتِمًا خطابه: إنَّ الثوري الحقيقي يصفِّي نَفْسه بنَفْسه. كما أنَّ الخوف من التطهير الذي استولى على عددٍ من أعضاء الأمانة السياسية العامة للحزب دليلٌ على حتميَّةِ تصفيةٍ كهذه، ودليلٌ على أنَّ زمن الأمانة السياسية قد ولَّى وانقضى.

كان خطاب «خ» يتَّسم بالغدر. تحدَّث قديس الشاي وفقًا لعادته بلهجةٍ مدرسية جافَّة تخلو من أيِّ دعابة. لم يدرك «ش» خدعةَ «خ» إلا شيئًا فشيئًا. عبْرَ جُملٍ نظريةٍ مجرَّدة كان يهدف إلى تكرار ما يهدف إليه «أ»، ولكنْ على نحوٍ أكثرَ حدَّةً واحتدامًا حتى يجِدَ كلُّ عضوٍ في الأمانة السياسية نَفْسه مرغَمًا على الدفاع عن نَفْسه. لقد صوَّر قديس الشاي التطهيرَ الذي كان يخشاه الجميع على أنَّه عمليةٌ حتميَّة بدأتْ فعلًا. لقد صوَّر انهيارَ الحرس القديم، وكلَّ تلك القضايا الملفَّقة، وتلطيخَ سمعة الأبرياء، وإعدامَ الخصوم، على أنَّه مبرَّرٌ سياسيًّا، وبذلك قدَّم تبريرًا للتطهير الآتي. لقد وضَعَ قرارَ التطهير في يدِ الضحايا المحتمَلين لهذه العملية، موقِظًا بذلك خطَرًا حقيقيًّا يهدِّد «أ».

نظرةً واحدة إلى «أ» كانت كافيةً ﻟ «ش»: لقد أدرَكَ «أ» الفخَّ الذي نصَبَه «خ» له. ولكنْ قبل أن يشرع «أ» في الردِّ حدَثَ شيءٌ عارض. انتفضتْ وزيرة التربية «س» التي كانت تجلس بجانب رئيس الدولة «د» صارخةً أنَّ المارشال «د» خنزيرٌ حقير. كان «ش» — الذي كان يجلس أمام رئيس الدولة بمَيلٍ — قد لاحَظَ أيضًا أنَّ حذاءه قد تبلَّلَ بالماء. لقد بال رئيسُ الدولة، الشيخ المريض. تملَّكت العدوانية من «جِن-كيز خان» المترهِّل العجوز، فزأَرَ: ماذا حَدَث؟ ثم سبَّ «س» قائلًا إنَّها شمطاءُ تفرِط في تكلُّف الحشمة، هل يعتقدون أنَّه من الغباء بحيث يخرُجُ ليتبوَّل؟! إنَّه لا يريد أن يُلقى القبضُ عليه، ولن يغادر هذه الغرفة قَط، إنَّه ثوريٌّ قديم، لقد ناضَلَ من أجل الحزب وانتصَرَ، ابنُه سقَطَ شهيدًا خلال الحرب الأهلية، بينما تعرَّضَ زوجُ ابنته وجميع أصدقائه القُدَامى للوِشاية والخيانة على يدِ «أ» الذي سحَقَهم كلَّهم، حتى إذا كانوا — مِثله — من الثوريين الأطهار المؤمنين بالثورة؛ ولهذا فإنَّه يبول متى شاء وأينما شاء.

لم يكُن ردُّ فِعْل «أ» الجامح، الذي أعقب هذا الحادث المحرِج والغريب، مفاجئًا ﻟ «ش» بسبب الحماسة التي هاجَمَ بها «أ» رئيسَ الدولة. كلَّا، ما فاجَأَه هو أنَّ هجوم «أ» كان طائشًا أهوج، هكذا شعَرَ به؛ وكأنَّ ما يهمُّ «أ» ليس أنْ يهاجِم شخصًا بعينه، بل أنْ يهاجِم أيَّ شخص، أو الشخص الذي يقدِّم له الفرصة. ما لم يَفهَمه «ش» أنَّ كلام «أ» الهجومي لم يكُنْ موجَّهًا ضدَّ «ح» أو «خ» أو «ر»؛ بل ضدَّ «ت» الذي يَدين له بالكثير، بل بأكثرِ الأشياء، فكيف له أن يَحكم بدون معونة مدير المخابرات؟ رغم ذلك، اتَّهم «أ» فجأةً «ت» بأنَّه أمَرَ باعتقال «ص» دون علمه، ثم أمَرَ بأنْ يرُدَّ لوزير الذرَّة اعتباره إذا كان ذلك ما زال ممكِنًا، فربما يكون قد أطلَقَ عليه الرصاص منذ فترةٍ حسبما تعوَّد «ت» أن يفعل. ثم تقدَّم «أ» خطوةً أخرى، وطالَبَ مديرَ المخابرات بالاستقالة. لقد حان وقتُ إنشاء لجنةِ تحقيقٍ في نزعاته الشاذة. هذا أمرٌ كان لا بد فِعْله منذ زمن. «إنَّني آمِرٌ باعتقالك حالًا»، أرغى «أ» وأزبَدَ، ثم صرَخَ مناديًا العقيد من الخارج عبْرَ الهاتف الداخلي. صمْتُ القبور. بقي «ت» محافِظًا على هدوئه. الكلُّ يترقَّب. دقائق تمرُّ. لم يَظهَر العقيد. «لماذا لا يأتي العقيد؟» سأل «أ» «ت» بلهجةٍ آمِرة. «لأننا أمرناه ألَّا يَظهَر مرةً أخرى تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف»، أجاب مدير المخابرات بهدوء، ثم نزَعَ كابل الهاتف الداخلي من الحائط. «اللعنة»، جاوبه «أ» بهدوءٍ مماثِل. «أنت الذي وضعتَ نَفْسك في مأزقٍ يا «أ»» قال وزير الخارجية «ب» خالعًا سُترته الجيدةَ التفصيل، «أنت الذي أمرتَ العقيد بألَّا يعود مرةً أخرى». «اللعنة»، غَمغَم «أ» مرةً ثانية، ثم دقَّ على غَليُونه من جديد رغم أنَّه ما زال مشتعِلًا، وأحضَرَ غَليُونًا آخرَ من جَيبه، غَليُونًا معقوفًا ماركة دانهيل، ثم أشعَلَه قائلًا: «معذرةً يا «ت»» «العفو، العفو»، قال «ت» — خالة الدولة — والابتسامةُ تعلو وجهَهُ. أدرَكَ «ش» أن «أ» قد انتهى. كانت حالتُهُ شبيهةً بنمرٍ تعوَّد على الصراع في الأدغال، وفجأةً وجَدَ نَفْسه في الأحراش يُحاصِره قطيعٌ ثائرٌ من الجاموس. لم يعُدْ «أ» يمتلك أيَّ أسلحةٍ أخرى. أمسى معدومَ الحيلة. لأول مرةٍ لم يعُدْ سرًّا في عينَي «ش»، لم يعُدْ عبقريًّا أو «سوبرمان»، بل إنسان سُلطة، ليس إلا نِتاجًا لبيئته السياسية. نِتاجُ السُّلطة هذا كان متخفِّيًا خلْفَ التمثال الهائل الذي كانَهُ، تمثال الأب الفلَّاح الذي يراه المرءُ معروضًا في كلِّ فترينة، وفي كلِّ مصلحةٍ حكومية، التمثال الذي يَظهَر في كلِّ صحيفةٍ أسبوعية أو يومية، الذي يقوم بحضورِ العُروض العسكرية، ويقوم بجولاتٍ تفقُّدية في ملاجئ الأيتام وبيوتِ المسنِّين، ويدشِّن السدود والمصانع، ويحتضن رؤساءَ الدول ويمنح الأوسمة. لقد كان رمزًا وطنيًّا في عيون الشعب، تجسيدًا للاستقلال وعظَمَة الوطن. كان يمثِّل قدرةَ الحزب المطلَقة، أبَ البلاد الحكيم المبجَّل، يقرأ الجميعُ كتاباتِه (التي لم يكتُب منها حرفًا) ويحفظونها عن ظَهْر قَلْب؛ وكلُّ خطابٍ يُلقى وأيُّ مقالةٍ تؤلَّف لا بد أنْ تُشير إلى تلك الكتابات؛ ولكنَّه في الحقيقة نكِرَة. لقد وضعوا كلَّ الفضائل في «أ»، وبذلك أفقدوه سماته الشخصية. لأنَّهم حوَّلوه إلى معبودٍ للجماهير؛ فقَدْ منَحُوه تصريحًا يسمح له بفِعْل كلِّ شيء، فسمَحَ لنَفْسه بكلِّ شيء. ولكنَّ الظروفَ اختلفتْ. إنَّ الرجال الذين قاموا بالانقلاب فرديُّون؛ تحديدًا لأنهم يحاربون الفردية. كان الاستياء دافِعَهم، والأملُ يشعِل نارَ حماستهم، وكلاهما كان حقيقيًّا ويُفترض وجود ثوريين فرديين؛ ليس الثوريون منفِّذين، إنَّهم يحاولون أن يضطلعوا بهذا الدَّور، غيرَ أنَّهم يفشلون في أثناء ذلك. كانوا قساوسةً هاربين من مِهنتهم، منظِّرين اقتصاديين سُكارى، نباتيين متعصِّبين، طَلَبة مفصولين من مدارسهم، محامين هاربين من القضاء، صحفيين فقَدُوا وظائفهم، كانوا يعيشون في المخابئ والأوكار، ملاحَقين، ثم مسجونين، كانوا ينفِّذون الإضرابات وعمليات التخريب والاغتيالات، يؤلِّفون المنشورات والكتيِّبات السرِّية، يُقيمون التحالفاتِ التكتيكية مع خصومهم، ثم يُنهونها بمجرد انتصارهم. لقد أَرسَت الثورةُ عبْرَ النظام الاجتماعي الجديد دعائمَ الدولة الجديدة أيضًا، التي غدتْ سُلطتها أعظمَ وأكثرَ نفوذًا بما لا يُقارَن مع النظام القديم والدولة القديمة. لقد ابتلَعَت البيروقراطية حركَتَهم التمرُّدية، وانتهت الثورة إلى مشكلةٍ تنظيمية سيفشل الثوريون حتمًا في حلِّها، لأنَّهم كانوا ثوريين. إنَّهم — بعد أن فقَدُوا قوَّتهم — يواجِهون الآن الرجال الذين يحتاجون إليهم. لم يكونوا على مستوى النِّديَّة مع رجال التكنوقراط، ولكنَّ فشَلَهم كان الفرصةَ التي سنحتْ ﻟ «أ». وبنَفْس القَدْر الذي تضخَّمتْ فيه سُلطة جهاز الإدارة في الدولة، كان لا بد من إبقاء الثورة كوَهمٍ؛ فليس هناك شعبٌ سيتحمَّس لجهازٍ إداري، لا سيما وأنَّ الحزب قد أمسى ضحيةَ البيروقراطية. مع «أ» حصلتْ ماكينةُ السُّلطة التي لا سماتَ لها على وجهٍ وملامح، بَيْد أنَّ الزعيم الكبير لم يكتفِ بالتمثيل، لقد شرَعَ باسْمِ الثورة في سحْقِ الثوريين. وهكذا دارت الدائرةُ على الحرَسِ القديم، باستثناء رئيس الدولة «ر» والوزير «ز». ولم تتمَّ تصفيةُ أبطال الثورة فحسب، بل تمَّت أيضًا تصفيةُ أولئك الذين أمسكوا بعدها بدفَّة السُّلطة واقتربوا من دائرة الأمانة السياسية بعد مرور فترةٍ ما، كما كان مديرو المخابرات — الذين احتاجهم «أ» لإجراء عملية التطهير — يتعاقبون على مناصبهم، وهُمْ أيضًا لم ينجُوا من حبل المِشنقة. ولهذا تحديدًا كان «أ» يتمتَّع بالشعبية. كانت أحوال الشعب سيئةً، كثيرًا ما كانوا يفتقرون إلى الأساسيات، الملابس والأحذية ذات نوعيةٍ بائسة، المساكن القديمة متداعِية، ومِثلها المساكن الجديدة. أمام محلَّات البقالة تقِفُ الطوابير. الحياةُ رَمادية، بينما كان رجالُ الحُكم في الحزب يتمتعون بامتيازاتٍ تحوم حولها تقاريرُ خيالية. كانوا يملكون فِيلَّاتٍ وسياراتٍ وسائقين، يشترون احتياجاتهم من محلَّات مخصَّصة لهم؛ حيث تتوافر جميع السلع الفاخرة. لم ينقُص سوى شيءٍ واحد: الأمن. كان من الخَطَر أن تتمتَّع بالنفوذ. بقي الشعبُ مطمئنًّا؛ لأنَّه — في بَلادته وعدمِ شعوره بكارثيَّةِ وضْعِه — لم يكُنْ يخشى أن يفقد شيئًا؛ إذ إنَّه لا يملك شيئًا. أمَّا أصحابُ الامتيازات فإنَّهم يخافون أن يفقدوا كلَّ شيءٍ؛ لأنَّهم يملكون كلَّ شيء. رأى الشعبُ أصحابَ السلطان يصعدون السُّلَّم إذا بارَكَهم «أ»، ويسقطون إذا غَضِب. كان يشارك بدور المتفرِّج في المسرحية الدموية التي تقدِّمها السياسة. لم يَسقُط صاحبُ سُلطةٍ يومًا بدون محكمةٍ علنيَّة، بدون مسرحيةٍ راقية، أو دون أن تتصدَّر العدالةُ المشهدَ الفخم، دون أن يعترف المتَّهم بذنبه اعترافًا احتفاليًّا. كانوا في عيون الجماهير مجرمين ينبغي إعدامُهم، مخرِّبين، خونة؛ هم المسئولون عن فقر الشعب لا النظام، سقوطهم يبعث أملًا جديدًا في النفوس، أملًا في مستقبلٍ أفضلَ وعَدُوهم به كثيرًا، سقوطهم يُظهر أنَّ الثورةَ مستمرَّة، وأنَّ قائدها الحكيم هو رَجُل الدولة «أ» العظيم الخيِّر العبقري الذي يخدعه رِفاقه المرةَ تلوَ الأخرى.

للمرة الأولى استطاع «ش» أن يَفهَم كيف تعمل ماكينة السياسة التي يُديرها «أ» ويتحكَّم فيها. تبدو الماكينة ظاهريًّا فحسب معقَّدة، ولكنَّها في الحقيقة بسيطةٌ للغاية. لم يكُنْ «أ» يستطيع أن يحافظ على استبداده إلا إذا تصارَعَ أعضاءُ الأمانة السياسية فيما بينهم. هذا الصراع هو الشرط اللازم ﻟ «أ» كي يحافظ على سُلطته. الخوف وحده يدفع كلًّا منهم إلى التقرُّب من «أ» والتودُّد إليه عبْرَ الوشاية بالآخرين. وهكذا تكوَّنتْ مجموعاتٌ، مثل تلك التي تحلَّقتْ حول «ث»، تسعى إلى دفْعِ الثورة إلى الأمام، بينما كان موقف «أ» الأيديولوجي ملتويًا ومبهَمًا بحيث إنَّ كلا الحزبَين يعتقدان أنَّهما يتصرَّفان باسمه. كان «أ» دمويًّا في تكتيكه، إلا أنَّه تراخى بمرور الوقت. كان يمثِّل دورَ الثوري فحسب إذا بدا له ذلك مفيدًا، لم يكترثْ سوى لسُلطته، كان يسود من خلال الإيقاعِ بينهم كلِّهم، ولكنَّه كان يعتبر نَفْسه في مأمن. نسي أنَّه لم يعُدْ يتعامل داخل الأمانة السياسية للحزب مع ثوريين مقتنِعين، بحتميَّة، بالثورة؛ ثوريين يقرُّون في كثيرٍ من الأحيان بذنبهم في المحاكمات الملفَّقة التي تُقام لهم، مفضِّلين أن يفقدوا حياتهم على أن يفقدوا إيمانهم بمعنى الثورة. نسي أنَّه محاطٌ بمتعطِّشين للسُّلطة، أيديولوجية الحزب بالنسبة لهم ليست سوى وسيلةٍ للترقِّي. نسي أنَّه عزَلَ نَفْسه، فالخوف لا يقسم فحسب، الخوف يجمِّع أيضًا، هذا هو القانون الذي سيؤدِّي به إلى التَّهلُكة. فجأةً أصبح عاجزًا مرتبِكًا مثلَ هاوٍ يقِفُ أمام زُمرةٍ من محترفي السُّلطة. لقد أراد أن يرسِّخ سُلطته عبْرَ حلِّ الأمانة السياسية، ولكنه هدَّدَ الجميع عندما هاجَمَ وزير الأمن واتَّهمه بإلقاء القبض على «ص»، وبذلك صنَعَ لنَفْسه عدوًّا جديدًا. لقد فقَدَ «أ» شعوره الفطري الذي كان يقوده؛ فانقلبتْ ماكينة السُّلطة ضدَّه. كما أنَّ إفراطه بدأ يثأر منه، وانفتح الباب أمام حالاتٍ لم تُتحْ لها الفرصة للثأر قبل الآن، لأنَّ ساعة الثأر لم تَحِن قبل الآن. كان «أ» متقلِّب المزاج، يستخدم سُلطته بلا معنى، يُصدر أوامرَ تسبِّب الإهانة للآخرين، رغباته كانت غريبةً وهمجيَّة تنبع من احتقاره للبَشَر ومن مَرَحه الوحشي، كان يعشق الدعابات الشريرة التي لم يستمتع بها غيرُه، الجميع كان يخشاها ولا يرى فيها سوى كمائنَ غدَّارةٍ. رغمًا عنه راح «ش» يفكِّر في حادثةٍ لا بد أنَّها أهانت «ث»، الأمين العام للحزب ذا النفوذ الواسع. كان «ش» يعتقد دومًا أنَّ «ث» لا بد أن يردَّ الضربة يومًا. لم ينسَ «ث» الإهانة، وهو من الذين يستطيعون الصبر. لا بد أنَّ فرصة الثأر حانت الآن. كانت الفضيحةُ غريبةً ومرعِبة. آنذاك تلقَّى الخنزير البرِّي تكليفًا مذهِلًا من «أ» بأنْ يُحضر له فرقةً موسيقية من النساء يعزفْنَ له — عاريات — ثُمانيَّة شوبرت. لا بد أنَّ «ث» هاج وماج بسبب هذا الأمر الأحمق، غيرَ أنَّه كان جبانًا ولم يستطعْ أن يرفضه؛ لذلك توجَّه إلى وزيرة التربية والثقافة، وتوجَّهتْ مُلهِمة الحزب وقد استولى عليها الغضب وشلَّها الجُبن — تمامًا مثل «ث» — إلى الكونسرفتوار ومدارس الموسيقى؛ فالمطلوب من الفتيات ليست الكفاءة الموسيقية فحسب، بل أيضًا القامة الفارعة. حدَثَت انهياراتٌ وكوارثُ، صرخاتٌ متشنِّجة ونوباتٌ انفعالية. إحدى أكثر عازفات التشيلو موهبةً أقدمتْ على الانتحار، بينما تكالبتْ أخرياتٌ على قبول التكليف، غير أنَّهُن كنَّ قبيحاتٍ للغاية. وأخيرًا استطاعوا تكوينَ أوركسترا، ولكنْ كانت تنقُصهنَّ عازفةُ المزمار. بحَثَ الخنزير البرِّي وملهمةُ الحزب عن المشورة لدى خالةِ الدولة. في لمْحِ البصر أمَرَ «ت» بإرسال عاهرةٍ رائعةِ الجَمال، ضخمةِ الأرداف، من أحد السُّجون إلى كونسرفتوار الدولة، غيرَ أنَّ المرأة الباهرة كانت عديمةَ الموهبة موسيقيًّا، بَيْد أنَّها، عبْرَ عمليةِ تلقينٍ غير آدمية، تعلَّمت اللازم كي تعزف الناي في ثُمانيَّة شوبرت، وهو ما ينطبق على الفتيات الأخريات أيضًا اللائي تدرَّبنَ على العزف باعتباره مسألةَ حياةٍ أو موت. وأخيرًا جلسنَ عارياتٍ في صالة الفيلهارموني ثلجيةِ البرودة وهنَّ يحتضنَّ الآلات الموسيقية. بمِعطف فروٍ ووجهٍ متحجِّر جلَسَ «ث» ومعه «س» في الصفِّ الأول من الصالة في انتظار «أ»، لكنه لم يأتِ. وبدلًا من مجيئه، امتلأت الصالةُ الباروكيةُ الطراز بمئاتٍ من البُكم والصمِّ الذين راحوا يحملِقون بشهوانيةٍ وبَلاهةٍ في العازفات العاريات اليائسات. في الجلسة التالية من جلسات الأمانة السياسية انطلَقَ «أ» يضحك دون رادعٍ على ذلك الحفل الموسيقي، واصفًا «ث» و«س» بالعَبْط؛ لأنهما استجابا لأمرٍ كهذا.

حانت الآن ساعة «ث». تمَّت عمليةُ إسقاط «أ» ببساطةٍ وموضوعية، بلا جهْدٍ، وفي الوقت نَفْسه ببيروقراطية. أمَرَ الخنزير البرِّي بإغلاق الأبواب. ونهَضَ النُّصُب التِّذكاري بجهدٍ جهيد، ثم أغلَقَ أولًا الباب الكائنَ خلْفَ ماسحِ الأحذية و«جن-كيز خان» الصغير، ثم الباب الكائن خلْفَ قديس الشاي والبالارينا. بعد ذلك ألقى بالمفتاح على الطاولة بين الخنزير البرِّي واللورد إيفرجرين. وعاد النُّصُب التِّذكاري ليجلس في مكانه. عندئذٍ عاد عددٌ من أعضاء الأمانة السياسية الذين انتفضوا من أماكنهم وكأنهم يريدون إعاقةَ النُّصُب التِّذكاري، ولكنْ دون أن يتجرَّءُوا على ذلك. جلَسَ الجميع، وأمامهم على الطاولة الحقائب التي تحوي الملفات. نظر «أ» إلى الواحد تلوَ الآخر، ثم اتَّكأ إلى الوراء، وسحَبَ نَفَسًا من غَليُونه. لقد تخلَّى عن اللعب. نواصل الجلسة، قال الخنزير البرِّي، سيكون من الشيِّق أن نعرف الآن مَن أمَرَ باعتقال «ص». «لا يمكن أن يكون قد أصدر الأمر سوى «أ»» ردَّ «خالة الدولة»؛ إذ إنَّ «ص» لم يكن على القائمة، وهو كمديرٍ المخابرات لا يرى أيَّ سببٍ على الإطلاق لاعتقال «ص» الذي لم يكُنْ إلا عالِمًا مشتَّتَ الذهن. إنَّ «ص» وزيرٌ متخصِّص لا يمكن تعويضه، والدولة الحديثة في حاجةٍ إلى رجال العِلم أكثرَ من حاجتها إلى رجال الأيديولوجيا. هذا شيءٌ لا بد أن يفهمه حتى قديس الشاي. «أ» وحده على ما يبدو هو الذي لا يفهم أبدًا. لم تنقبض ملامح قديس الشاي، بل طلَبَ بلهجةٍ موضوعيةٍ القائمة، «ستوضِّح لنا القائمةُ الأمور». فتَحَ «خالة الدولة» حقيبته، وأعطى ورقةً إلى اللورد إيفرجرين الذي أزاحها بعد أن ألقى عليها نظرةً خاطفة إلى قديس الشاي. شحب وجه قديس الشاي. «اسمي على القائمة»، غَمغَم بصوتٍ خافت، «اسمي على القائمة. مع أنني كنت دائمًا من الثوريين الذين يشعُرون بالولاء لخطِّ الثورة اسمي على القائمة»، ثم صرَخَ قديسُ الشاي فجأةً: «لقد كنتُ أكثركم ولاءً لخطِّ الثورة، والآن تتم تصفيتي؛ كأنني خائن!»

لقد اعوجَّ الخط المستقيم، رد عليه «ث» بلهجةٍ جافَّة.

أعطى قديسُ الشاي القائمةَ إلى البالارينا، كان من الواضح أنَّ اسمه ليس عليها، فسلَّمها على الفور للنُّصُب التِّذكاري. حملَقَ النُّصُب في القائمة، وأعاد قراءتها المرةَ تلوَ الأخرى، ثم صرَخَ في النهاية: «لستُ على القائمة، لستُ على القائمة. الخنزير لا يريد حتى أن يصفِّيني، أنا الثوري القديم!» ألقى «ش» نظرةً خاطفة على القائمة، اسمه لم يكُنْ عليها. فناوَلَها إلى رئيس مجموعاتِ الشَّبيبة. مأخوذًا وقَفَ عضو الحزب شاحب الوجه وكأنَّه في امتحان، ثم نظَّفَ نظَّارته. «لقد عُيِّنتُ رئيسًا للنيابة العامة»، قال متلعثِمًا. انفجروا جميعًا ضاحكين. «اقعد يا غلبان»، قال الخنزير البريُّ بلهجةٍ تنمُّ عن طيبة، فأضاف ماسحُ الأحذية أنَّهم لن يفترسوا القديس التقيَّ الذي يرأس مجموعات الشَّبيبة. جلَسَ ض وأزاح الورقة — ويَدُه ترتعش — عبْرَ الطاولة إلى مُلهِمة الحزب. «اسمي مكتوب»، قالت مُزيحةً القائمة إلى «جن-كيز خان» الكبير الذي أخذتْه سِنةٌ من النوم، ولذلك تناوَلَها «جن-كيز خان» الصغير. «اسم المارشال «ر» ليس مكتوبًا»، ثم أضاف: «ولكن اسمي أنا على القائمة»، وسلَّمَ الورقة إلى ماسح الأحذية. «أنا أيضًا»، قال «ح»، وهو ما كرَّره الخنزير البري. كان المخصي آخِرَ من استلم القائمة. «لستُ عليها»، قال وزير الخارجية مُزيحًا القائمة إلى «خالة الدولة» مرةً أخرى. طوى مدير المخابرات الورقة بعناية ووضَعَها في حقيبته ثم أغلَقَها. «ص» لم يكُنْ بالفعل على القائمة، قال اللورد إيفرجرين مؤكِدًا. لماذا أمر «أ» إذن باعتقاله؟ تساءل البالارينا متعجِّبًا ومسدِّدًا نظرةً مستريبة إلى «خالة الدولة». ردَّ الأخير قائلًا إنَّه لا يعرف؛ لقد افترض أنَّ «ص» مريض، ولكن «أ» اعتاد أن يفعل ما يحلو له. «لم آمر باعتقال «ص»» عقَّب «أ». «لا تلفِّق الحكايات»، صاح فيه «جِن-كيز خان» الصغير، «وإلا كان قد حضَرَ إلى هنا». لزم الجميع الصمت، وسحب «أ» بهدوء نفَسًا من غَليُونه الدانهيل. «لقد فات وقتُ التراجُع»، قالت مُلهِمة الحزب بلهجةٍ جافَّة، القائمة واقعٌ وحقيقة. لقد تمَّ إعدادها فقط للطوارئ، قال «أ» مفسِّرًا، دون أن يدافِع عن نَفْسه. راح يدخِّن في هدوء، وكأنَّ حياته ليستْ متعلِّقة بالأمر، ثم أضاف أنَّ القائمة كانت معدَّة لتنفيذها في حالة مقاومة الأمانة السياسية لحلِّ نَفْسها بنَفْسها. «وهو ما حَدَث»، ردَّ قديس الشاي بجفاف، «إنها تقاوم». ضحِكَ المخصي. وعلا صوت ماسحِ الأحذية مرةً أخرى بمَثَل فلَّاحي قائلًا: إنَّ البرق يُصيب أغنى الفلَّاحين أيضًا. تساءل الخنزير البرِّي: هل يُعلن أحدٌ استعداده طواعيةً؟ توجَّهتْ أبصارُهم جميعًا إلى النُّصُب التِّذكاري. نهَضَ النُّصُب قائلًا: «تنتظرون منِّي أن أقتل الرَّجُل». فردَّ الخنزير البرِّي: «يكفي أنْ تعلِّقه في النافذة». فأجاب النُّصُب: «لستُ جلَّادًا. أنا حدَّاد مخلِص لمهنته، وسأقوم بالأمر على طريقتي». أمسَكَ النُّصُب التِّذكاري بمقعده ووضَعَه بين الشُّباك ونهاية الطاولة الشاغرة. «تعالَ يا «أ»» أمَرَه النُّصُب التِّذكاري في هدوء. نهَضَ «أ». كان يولِّد انطباعًا بالهدوء والثقة كالمعتاد. وبينما كان يتوجَّه إلى نهاية الطاولة الأخرى، أعاق سَيره قديس الشاي الذي سنَدَ مقعده على الباب الكائن خلْفَه. «معذرة!» قال «أ»، «أعتقد أنني لا بد أن أمرَّ من هنا». زحزَحَ قديس الشاي مقعده إلى الطاولة، وترك «أ» يمرُّ حتى وصَلَ إلى النُّصُب التِّذكاري. «اجلسْ»، قال النُّصُب. أطاع «أ». «يا رئيس الدولة، ناولْني حِزامك»، أمَرَ النُّصُب. لبَّى «جِن-كيز خان» الكبير الأمرَ بآليةٍ دون أن يدرك ما ينويه النُّصُب التِّذكاري. أمَّا الآخرون فحملَقُوا أمامهم في صمتٍ دون أن يتفرَّجوا حتى على ما يحدُث. فكَّرَ «ش» في الحفل الرسمي الأخير الذي ظهرتْ فيه الأمانة السياسية أمام الرأي العام. في عزِّ الشتاء. كانوا يدفنون «طاهر اليد»، أحد آخر كبار الثوريين. بعد سقوط النُّصُب التِّذكاري تولَّى طاهرُ اليد منصبَ رئيس الحزب. ثم أصبح من المغضوب عليهم. أزاحه الخنزير البرِّي من طريقه. غيرَ أنَّ «أ» لم ينظِّم محاكمةً لطاهر اليد، كما فعَلَ مع الآخرين. كان سقوطه مُريعًا. أعلن «أ» أنَّ طاهِرَ اليد مريضٌ عقليًّا، وأمَرَ بإيداعه مستشفى المجانين حيث ترَكَ الأطباء حالته تسوء عبْرَ سنواتٍ إلى أن سُمح له بالموت. على العكس من ذلك كانت جنازته الرسمية احتفاليةً فخمة. على الأكتاف حمَلَ أعضاء الأمانة السياسية — باستثناء مُلهِمة الحزب — النعشَ المغطَّى بعَلَم الحزب، سائرين به على أرضِ مدافن الدولة بين التماثيل الرخامية وشواهد القبور المغطَّاة بالثلوج. شقَّ الرجال الاثنا عشر، الأكثر نفوذًا في الحزب والدولة، طريقهم عبْرَ الثلوج. حتى قديس الشاي ارتدى حذاءً برقبة. تساقطتْ نُدَف الثلج الكبيرة من سماءٍ بيضاء. بين القبور وحول المقبرة المفتوحة تزاحَمَ رجال الحكومة في معاطفهم الطويلة وقبَّعات الفرو الدافئة. وعندما أنزلوا التابوت إلى القبر على أنغام فرقةٍ عسكرية ترتعش بردًا كانت تعزف أنشودة الحزب، همَسَ النُّصُب التِّذكاري: «اللعنة، المرة القادمة سيكون الدور عليَّ أنا». لكنَّه لم يَكُن التالي. «أ» كان التالي. تطلَّعَ «ش» إلى ما يحدُث. لفَّ النُّصُب التِّذكاري حزامَ «جِن-كيز خان» الكبير حول عنُقِ «أ». «مستعد؟» سأله النُّصُب. «ثلاثة أنفاس فقط»، أجاب «أ»، ونفَخَ بهدوءٍ ثلاث مرَّات دُخان غَليُونه، عندئذٍ وضَعَ الغَليُون المعقوف أمامه على الطاولة، قائلًا: «مستعد». ضيَّقَ النُّصُب التِّذكاري عليه الحزام. لم ينِدَّ عن «أ» صوت، صحيح أن جسده تمرَّدَ على عقله، كما جدفتْ ذراعاه من حوله عدَّة مرَّات من غير هدف، لكنه سرعان ما جلَسَ دون حَراك فاغرًا فمه على اتساعه: لقد ضيَّق النُّصُب التِّذكاري الحزام عليه بقوةٍ هائلة. تحجرتْ عينا «أ». مرةً أخرى بال «جِن-كيز خان» الأكبر. لم يُزعج ذلك أحدًا. «فليسقط الأعداءُ داخل الحزب، وليحيا «أ»، رَجُل الدولة العظيم!» هتَفَ المارشال «د». لم يخفِّف النُّصُب التِّذكاري من قبضته إلا بعد مرور خَمس دقائق، فوضَعَ حزام «جِن-كيز خان» الكبير إلى جانب الغَليُون الدانهيل على الطاولة، ثم عاد إلى مكانه وقعَدَ. كان «أ» يجلس ميتًا في المقعد أمام الشُّباك، وجهه إلى السقف، الذراعان متدلِّيتان. سدَّدَ الآخرون نظراتٍ صامتةً إليه. أشعَلَ اللورد إيفرجرين سيجارةً أمريكية، فثانيةً، فثالثةً. انتظَرَ الجميع زُهاءَ رُبع الساعة.

حاوَلَ أحدٌ من الخارج أن يفتح الباب بين «ح» و«د». نهَضَ «ث» وسار إلى «أ»، تأمَّله بدِقَّة، ثم تحسَّسَ وجهه. «إنَّه ميت» قال «ث»، «أعطني المفتاح يا «ج»» أطاع وزير التجارة الخارجية صامتًا، ففتَحَ «ث» الباب. على العتبة كان يقِفُ وزير الذرَّة «ص» الذي قدَّمَ اعتذاره عن التأخير. لقد أخطأ في الموعد. ثم أراد أن يذهب إلى مكانه، وفي تعجُّله سقطتْ منه حقيبته، وعندما رفَعَها من الأرض رأى «أ» «المشنوق»، فحملَقَ فيه. «أنا الرئيس الجديد»، قال «ث»، ثم صاح عبْرَ الباب المفتوح مناديًا العقيد. أدَّى العقيد التحية العسكرية دون أن تتغير ملامحُ وجهه أو تنقبض. أمَرَه «ث» بإخراج «أ» من الغرفة. عاد العقيد مع جنديَّين، وهكذا أصبح المقعد شاغرًا من جديد. أغلق «ث» الباب بالمفتاح. كانوا قد نهضوا كلُّهم. «نواصل جلسةَ الأمانة السياسية»، قال «ث»، «فلْنحدِّد الترتيبَ الجديد للجلوس». وجلَسَ على مقعد «أ». على يمينه ويساره جلَسَ «ب» و«ث». بجانب «ب» جلَسَ «ح»، وبجانب «ث» جلَسَ «ج». وإلى جوار «ح» جلستْ «س». عندئذٍ نظَرَ «ث» إلى «ش» وأشار إليه يدعوه للجلوس. مرتعِدًا جلَسَ «ش» بجوار «ج»؛ لقد أصبح سابعَ أقوى رَجُل في الدولة. وبدأ الثلج يهطل من السماء.

ث (أمين عام الحزب)
ت (مدير المخابرات) ب (وزير الخارجية)
ج (وزير التجارة الخارجية) ح (وزير الصناعة الثقيلة)
ش (وزير البريد) س (وزيرة التربية)
خ (كبير المنظِّرين) د (وزير الدفاع)
ذ (وزير الزراعة) ر (الرئيس)
ز (وزير النقل والمواصلات) ص (وزير الذرَّة)
ض (رئيس مجموعات الشَّبيبة)
١  نُشرتْ هذه القصة عام ١٩٧١م. (المترجِم)
٢  Lord Evergreen أي اللورد دائمُ الخُضْرة. (م)
٣  كارل فيليب كلاوزفيتس (١٧٨٠–١٨٣١م): جنرالٌ برويسي ومنظِّرٌ عسكري، كتَبَ عدَّة مؤلفاتٍ من أشهرها «عن الحرب»، وبهذا المرجع أصبح مؤسِّسًا لعلم الحروب الحديثة. وترتكز نظرياته على دراسة وتحليل المعارك التي قادها فريدريش الأكبر ونابليون. ومن بين مَن تأثَّرَ بمؤلفات كلاوزفيتس الزعيمُ الروسي لينين. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤