تعقيب

فريدريش دورنمات: القضايا الكبرى بأسلوبٍ مشوِّق

يحتلُّ الكاتب السويسري فريدريش دورنمات (١٩٢١–١٩٩٠م) مكانةً مرموقة في الأدب الألماني المعاصر، بل في الأدب العالمي كلِّه. وليس من قبيل المبالغة أنْ نقول إنَّه أكثرُ أهميةً وعُمقًا وإمتاعًا مِن بعض مَن نالوا جائزة نوبل.

دورنمات أديبٌ «كلاسيكي» كونيٌّ، يتناول بشكلٍ مشوِّق القضايا الكبرى التي شغلت الإنسان على مرِّ العصور، حتى إذا كان ما يكتُبه «ليس إلا» قصةً بوليسية. في أعماله يبتعد دورنمات ابتعادًا تامًّا عن السيرة الذاتية وعن التناوُل المباشِر للأحداث التاريخية، وهو بذلك يختلف عن معظم أدباء جيله، سواءٌ من موطنه سويسرا، مثل ماكس فريش، أو في ألمانيا، مثل جونتر جراس وهاينريش بُل وكريستا فولف.

دورنمات — وكما نرى بوضوحٍ في القِصص الثلاث التي تضمُّها هذه المجموعة — هو شاعرُ الكوارث البشرية، الكاشف عن الأعماق الإنسانية المظلِمة، والمتنبِّئ بالجنون العالمي المدمِّر. لا تمنح قصص دورنمات ومسرحياته الأمل الكاذب، بل تفتح عينَ القارئ على اتِّساعها ليرى العالم كما هو، أو ربما أبشعَ ممَّا هو.

تحتوي قصص هذه المجموعة على كلِّ ملامح أدب دورنمات النثري. في القصة الأولى يعود الكاتب إلى مسرحية «زيارة السيدة العجوز»، وهي المسرحية التي ارتبط اسمه بها طويلًا. وربما ظلَّت فكرة هذه المسرحية تشغله حتى وفاته، فكتَبَ لها عدَّة صياغاتٍ نثرية، نُشرت آخرها عام ١٩٩٠م تحت عنوان «الخسوف». في المسرحية تعود امرأةٌ ثريَّة إلى قريتها لتنتقم من خطيبها السابق الذي تخلَّى عنها، أمَّا في «الخسوف» فيرجع «السيد العجوز» إلى قريته ومسقط رأسه لينتقم من الجميع. في «الخسوف» يتناول دورنمات، مرةً أخرى، أحدَ موضوعاته الأثيرة متأمِّلًا في ماهية العدالة، ومسلِّطًا الضوء على غرائزَ إنسانيةٍ أزليَّة، مثل الرغبة في الانتقام والتشفِّي وكذلك النَّهم والطمع الذي لا يعرف شبعًا. وفي قصة «السقوط» (١٩٧١م) يرسم دورنمات «بورتريهًا» بارعًا لمجموعةٍ من المتعطِّشين إلى السُّلطة والمتشبِّثين بها، وهي مجموعةٌ يسيطر عليها رعبُ فقدان السُّلطة. أمَّا قصته الكابوسية «حرب التيبت الشَّتوية» فيُصوِّر فيها نهايةَ العالم، أو العالمَ بعد نهايته، بعد الحرب العالمية الثالثة، الحرب الذرِّية التي ستبيد الجميع، وهي أُمثولةٌ عن الطبيعة البشرية وشهوةِ السُّلطة والقوة، والمتاهة البشرية التي نعيش فيها. الإنسان هنا ذئبٌ بالنسبة لأخيه الإنسان وعدوُّه، وهو ضائعٌ في «متاهة» السُّلطة الأبدية، نظرته محدودةٌ بمنظور النفق الذي لا يجِدُ مخرجًا منه، أمَّا وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده فهي القتل. في هذا النصِّ يقدِّم دورنمات رؤيته لفترة الحرب الباردة، لكنه — كمعظم نصوص الأديب السويسري — نصٌّ متعدِّد الطبقات، يحتاج إلى أكثر من قراءةٍ لكي يُبصر القارئ طريقَه في هذه المتاهة القصصية الجميلة.

سمير جريس
برلين – يناير ٢٠١٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤