إلى المَنَار

يَكْمَدُ ظلُّ الزيتونة ويَجْلِس الرجل على مقعد حافظًا لعينيه من الشمس بحافَة خُوَيْذَته، فلم يعتِّم أن أبصر غيرَ مُحْتَشِمٍ ما يَلْمَعُ على سطح البحر الغربيِّ من لونٍ ورديٍّ، وفروعُ ذُروة الشجرة وحدَها هي التي لم تَزَلْ تَسْطَع بلونٍ أخضرَ رَماديٍّ غَضٍّ مُنَارةً بأشعة الشمس المائلة عند الغروب، ويُسْفِر وجه الرجل عن أساريرَ منقوشةٍ بصرامة، والرجلُ بَحَّارٌ عُصْلُبِيٌّ،١ والرجلُ كهلٌ ما فَتِئَ يَنْظُر إلى الشمس وهي تَغِيب منعكسةً على البحر.
والشجرةُ قديمة، وقد تكون بالغةً من القِدَم ثلاثة قرون، وهي قد بَرَزت في هذا المكان من بلدٍ شبهِ همجيٍّ نتيجةَ بَذْرٍ أَتَتْ به الريح من الغرب، وهي قد نَشِبت بالشاطئ فوق هُوَّة وَعِرَة، وفي صُدُوعِ صخورٍ كِلْسِية عالية سَهُل عليها أن تشقَّها مع الزمن لتنال أغذيتها من أعماقها حين نُمُوِّها في الفضاء، وتقوم الساق الرَّمادية المُخْضَرَّة بالأُشْنَة٢ والمُغَضَّنةُ بألف فَلْعٍ على تلك الصخور مع مَيْلٍ، وتَتَّخذ الشجرة وَضْعَ رجلٍ عظيم فتبقى في شَقِّها العميق غيرَ ملتوية على الرغم من العواصف والزوابع، وذلك مع فَيْضِ أغصانها الفَتِيَّة الباديةِ من بعيد على الصخر.

وذلك لأن شجرة الزيتون من جَذْرِها إلى ذُروتها، حين تنقسم إلى أزواجٍ متعاقبةٍ يكون لأقدمها غِلَظُ الساق، تُمثِّلُ، على شكلٍ ملموس، نَسَبَ فصيلةٍ مُسِنَّة يُمْسِكُ أجدادُها بأجيالها فتتعاقب هذه الأجيالُ فَتِيَّةً خفيفةً مُهَذَّبةً مقدارًا فمقدارًا، وفي الأسفل، وبالقرب من المَقْعَد، حيث يُمْكِن مَسُّ قشرِها الخَشِنِ المتشقِّقَ لم تَظْهَرْ غيرَ أثرِ فَتَاء، وفي الأعلى، وعلى الأطراف، حيث تميل إلى البحر، تتمايل على مَهْلٍ كما لو كانت حَيَّةً، كما لو كانت غَضَّةً! وفي أطراف فروعها الفتية الخُضْر الضاربة إلى بياضٍ تهتز ثمارُها الصغيرةُ السُّودُ الجاهلةُ حقيقة الساق التي تَحْمِلُها جهلًا تامًّا، والشجرةُ وحدَها هي التي تَشْعُر في عروقها القديمة بجَرَيان العُصارة الحية التي تُنْضِجُ الثمارَ في أقصى أطرافها.

ويلوح أن الرجلَ، كان يتأمل البحر جالسًا تحت الزيتونة منحنيَ الكَتِفين مُتَوَكِّئَ الذراعين، قد كُوِّن من جوهر الشجرة والمَقْعَد، والآن يَنْهَض متثاقلًا مُقَرَّنًا كالمَلَّاح، ثم يَنْفُضُ حِذاءَه الأيسر تخليصًا له من وُرَيْقاتٍ سقطت عليه ولَصِقَت به لَصْقًا خفيفًا.

ويَمُرُّ متأنِّيًا ببيتٍ أبيضَ صغيرٍ متوجهًا إلى برجٍ عالٍ، وهنالك، على طرف رُوَاقٍ غيرِ مُنْتَسِق وذي صَنَوْبَرٍ على جانبيه مُنْحَنٍ بفعل الرياح، يَبْرُز مَنَارٌ على سطح البحر النَّيِّر، أبيضُ كالبيت، ولكن مع قوة وإحكامٍ، ولكن مع اختلافٍ غريب عن بُرْجِ جَرَسٍ، ولكن مع خطوطٍ طويلة ونوافذَ منضودةٍ، أُنْشِئ من أَجْل ما يَحْمِل في ذُروته، وكان ذلك بيتًا مُدَوَّرًا زُجاجيًّا خياليَّ المنظر، وكان يُتَوِّج البرجَ الطويلَ المسدس الأضلاع، وكان مُغَطًّى بسَقْفٍ على شكل مِظَلَّة ذات التماعٍ أحمرَ، لا ريب، حين فَتَاء البُرْج والصَّنَوْبَر.

ويَرْقَى الحارسُ في المنار رويدًا رويدًا، وأولُ ما يُعْنَى به قَبْلَ خِدْمة الليل هو فَحْصُ المِصْباحُ الذي هو رُوح الجميع، وتَطِنُّ أعقابُه٣ على الدَّرَج الحَجَرية، ويَغْدُو صوتُ خُطُواته وارتفاعُ الدَّرَج أمرًا مألوفًا لديه في غضون السنين العشرين التي قام فيها بتلك الخدمة بعد مغامراته في أثناء الحرب العالمية.
وفي الأعلى تؤدي مرقاةٌ حديدية ذاتُ ستَّ عشرةَ دَرَجةً حَلَزُونيةً إلى البيت الزُّجاجيِّ، ولا يزال هذا البيت غارقًا في فَوَرانٍ من الشَّفَق أحمرَ وأصفرَ مع ألف انعكاسٍ عابثٍ في عَدَسةِ وجه المِصْباح الذي يستدقُّ في أعلاه وفي أسفله كالكُمَّثْرَى، ولا يكاد الجسر الضيِّق المستدير حول المِصباح يَدَعُ ممرًّا للحارس، وهو يبدو نذيرًا له بألَّا يَسْمَن مع حياته الحَضَرِية، ويؤدي ما في الجِذْل٤ من انحرافٍ خفيف إلى نفوذ رأسه وذراعيه في فضاءٍ داخل القفص الزجاجيِّ الذي رُفِع في وَسَطه، وفوق حَلَقٍ من النحاس الأصفر، مِصباحٌ كهربيٌّ عَظيمٌ كامد فاتر منتظرٌ قيامَه بخدمة، ولو تُرِكَ هذا المِصباح وشأنه ما كان له نُورٌ أقوى من نور مِصباحِ سيارة على قارعة الطريق، ولكنه يَبْلُغ بما يُعَلَّل به من المواشير٥ قوةَ ١٥٠٠٠٠ شمعة فيُرَى من بعيدٍ، يُرَى من نحو عشرة فراسخَ.

ومع ذلك يظهر النهارُ غيرَ راغب في ترك حقوقه، ومع ذلك يظهر النهارُ راغبًا في جعل نوره مائةَ ضِعف، وتضيء الوجوه الألفُ للعَدَسة الضَّخْمة وجهَ الحارس بأشعتها المحرقة الملونة بألوانِ قوسِ قُزَح، وتتحول يدُه إلى طَيْفٍ سحريٍّ كثيرِ الألوان حينما يَرْفَعها لفحص حَلْقَةٍ تحت المِصباح، والآن يُخرِج رأسَه من القفص البِلَّوْرِيِّ حَذِرًا، وهو يُحَقِّق، بنَظَراتٍ يُلْقيها، جَلَاءَ الألواح الزُّجاجية المُجَوَّفةِ وسطحَها السليم، وهو يَنْفُخ في موضعٍ دَفْعًا لخيط، ثم يقوم بجَوْلة أخرى حول الجسر الضيِّق بين المِصباح والنوافذ الخارجية.

ويَشْعُر الرجل الذي يَرْفَعه بمجيئه منذ زمنٍ طويل، وهو يقابل بين مذكراته وأدواتِ النور والأَدِلَّاء والصَّفَّارة البخارية واللاسلكيِّ، وهو يَفْحَص الجِهازَ الطَّنَّان الذي يتصل المِصباحُ به آليًّا عند وقوفه أو انكساره فَجْأَةً.

وترانا في المنار الكبير القائم بإحدى جُزُر إِيِرْس والذي يَرْقبُ ساحل البحر المتوسط الفرنسيِّ من وَسَطه في جَنوب طُولُونَ الشرقيِّ، وذلك منظرٌ جَافٍ روائيٌّ، واليوم، في شهر أغسطس، يبدأ عمل الليل في الساعة السابعة، حتى في النهار، حين لا يُشْعَلُ المِصباحُ، لا بُدَّ من وجود حارس هنا لتسجيل الضَّباب والزوابع وللإجابة عن الاستعلامات باللاسلكيِّ، والآن يأخذ الحارس خُوَيْذَته قبل أن ينصرف كما يأخذ من المِنْضدة كتابَه الذي كان يُمْسِكه في ساعات العمل.

ويَنْظُر الحارس الجديد إلى الساعة الدَّقَّاقَة، ويَفْحَص الألواحَ الأربعة أو الخمسة الموضوعة على المِنْضَدة، ويُلْقي نَظْرةً على العَتَلة والإبَر والساعات الدقاقة والهاتف واللاسلكيِّ، ثم يُسَجِّل في دَفْتَرٍ وقتَ بَدْئه العملَ؛ أي الساعةَ السابعة والدقيقةَ الثالثة والعشرين، وكونَ الجَوِّ جليًّا وكونَ سرعة الريح ضعيفةً، فيلوح سكونُ الليالي على البحر المتوسط في أول الأمر، وتلك مصلحةٌ لا تتطلب غيرَ حضور الرجل المسئول وسهرِه في ذلك المكان بين الأجهزة التي تَعْمَل بلا ضوضاء.

ويُلْقي نَظْرةً أخرى على جميع الأجهزة، ثم يذهب إلى المكتب الكبير، ويُدير عاكسَ التَّيَّار الصغير، فبعد هُنَيْهَة تُبْصِر شعاعًا قويًّا من النور يُلْقَى، بحركاتٍ بطيئة مستديرة، على المنظر الذي لا يزال يُنيرُه النهار إنارةً ضعيفة، وتُسْفِر ضغطةُ يدٍ عن إضاءة المِصباح في الأعلى، ويدور شُعاع النور الثاقبُ المصنوعُ حَوْلَ نفسه أحمرَ أبيضَ أزرقَ في فَتَرَاتٍ قصيرة، في كلِّ أربع ثوانٍ، وذلك هو فنارُ٦ الجزيرة الذي تعرفه جميع السفن من الخارج أو تسجل أمرَه في يوميتها حينما تبحث عن مكانٍ لها، ويكفي مِصباحٌ واحدٌ كذلك ينعكس نورُه بوجوه العدسة العظيمة ليرى المَلَّاحون ألوانَها المتقلبة على مَسافةِ عشرةِ فراسخَ من جميع الأطراف، وهذا اختراعٌ فرنسيٌّ تَمَّ في أواخر القرن التاسعَ عشرَ، واليوم لا تزال فرنسة تُنتج تلك العَدَساتِ حتى من أجلِ مناورِ كاليفورنية.

ويستوي الحارس على مقعده مُرَفَّهًا، ويضيءُ المنضدةَ مصباحُه الصغيرُ فيستطيع بذلك أن يَرْقُب كلَّ شيء، وماذا يصنع الآن؟ يقرأ، وهذا ما يقضي به حُرَّاسُ المَنَاور لياليَهم في جميع العالم، ومن النادر أن يقرءوا رواياتٍ، وهم يطالعون تاريخًا في بعض الأحيان، وكُلُّهم يأتون من البحر، وكانوا كلُّهم مَلَّاحين، ويملأ البحرُ قراءاتِهم كما يملأ خيالاتِهم، ولو عَدَلوا عن رُكُوب البحر، وهذا الفرنسيُّ، الذي كان قد طاف في جميع البحار، هو من مواليد هذا الساحل الجَنوبيِّ، وكان أجدادهُ من البروفنسيين.

واليوم يتناول الكتابَ الذي تركه له رفيقه، وهو يُقَلِّبُه غيرَ مرة عن عدم دِرايةٍ كمن يَبْدُو فاحصًا ثِخَنَه وثِقَله مع وجود البِرْمِيل بين الصُّوَر، ثم يفتحه من صفحة الحارس، ويَتَّكئُ على الكرسيِّ ويبدأ بالمطالعة.

وفي الكتاب خبرٌ عن مصاير البحر الذي يَرْقُبه في مكانٍ معيَّن، ومن عَلٍ، منارُه الدَّوَّار، وهو، وإن كان يُنْقَلُ بالكتاب إلى ماضٍ بعيد، لا يَلْبَث أن يَعْرِف كونَ البحث خاصًّا ببحره؛ أي بالبحر المتوسط.

١  العصلبي: القوي العظيم من الرجال.
٢  الأشنة: شيء نباتي يتكون على الشجر والصخور.
٣  الأعقاب: جمع العقب، وهو مؤخر القدم.
٤  الجذل من الشجرة: أصلها الباقي بعد ذهاب فروعها.
٥  المواشير: جمع الموشور، وهو مجسم من بلور تكون قاعدته مثلثة الأضلاع.
٦  Fanal.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤