هذا القرن

انتصف الليل، وخيَّم السكون، وشمل الصمت الدُّور والطُّرقات، وانتشرت أنوار المصابيح الباهتة كأنها تؤنس وحشة الأشجار المغروسة في الأفاريز.

وقد مزَّق السكون الآمن بوق سيارة أتت مسرعةً من مبتدأ شارع العبَّاس، ثم وقفت أمام الباب الحديدي المغلق لفيلا آية في الأناقة والجمال. ونفخ السائق في البوق مرَّات، فخرج البوَّاب من كوخه الخشبي وفتح الباب، واندفعت السيارة إلى داخل الحديقة التي لا يبدو منها إلا أشباح الأشجار، ودارت دورةً غير كاملة، وصعدت منحدرًا ثم وقفت أمام الباب الداخلي للقصر، ونزل السائق مُسرعًا، وضغط على مِفتاحٍ كهربائي على كثب من الباب فأضاء مصباحًا وأرسل نورًا أزرق هادئًا، ثم فتح باب السيارة ووقف كالتمثال.

وانتظر لحظات وثوانيَ ودقائق، ثم أخذه العَجب فأرسل ناظرَيه إلى داخل السيارة، فرأى الباشا وزوجه مُستغرقين في نومٍ ثقيل، وكانت السيدة مُلقيةً برأسها إلى الركن، وجسمها الضخم الهائل ممدودًا، يبدو في الفستان اللامع المُلتصق به، كفرس البحر؛ وكان الباشا مُسندًا رأسه إلى كتفها يحسبه من رآه لضآلة جسمه ونحافته وقِصَر قامته غلامًا صغيرًا، لولا شاربه الغليظ الطويل الذي يرسم مع جسمه الدقيق صورةَ صليب مُتساوي الأطراف على وجه التقريب.

ولم يرَ السائق بدًّا من إيقاظ سيده، فقال بصوتٍ خافت: سعادة الباشا .. سعادة الباشا.

فلم يبعث نداؤه فيهما أيَّ أثر للحياة، فرفع الرجل صوته قائلًا: سعادة الباشا.

واستطاع نداؤه في هذه المرة أن يوقظه فتحرَّك رأسه، واضطرب شاربه كأنه جَناحا نَسرٍ يخفقان، قال بلسانٍ ثقيل مُتلعثِم: من؟

– وصلنا يا صاحب السعادة.

– وماذا تريد؟

– عفوًا یا صاحب السعادة، تفضَّل بالنزول لتصعد إلى مخدعك.

ففتح الباشا عينَيه المحمرَّتَين وكأن النور اللطيف الذي يُنير المكان آذاهما، فأغمضهما بسرعة وتحسَّس بيده ذراع زوجه العاري كأنه قِربةٌ مملوءة بالمياه، وقال بصوته الثقيل: يا هانم .. زينب هانم.

فشهقت المرأة شهقةً قوية لو أصاب تيَّارها الباشا لابتلعته، وقالت بتبرُّم وسخط: من؟

– وصلنا.

– وماذا تريد يا باشا؟

– تفضَّلي لنصعد إلى مخدعنا.

– أصعد؟! .. أنا لا أستطيع أن أتحرَّك، فكيف لي بالصعود؟!

– ما العمل؟ .. هل نقضي الليل في السيارة؟

– ولمَ لا؟ .. المقعد وثيرٌ ليِّن كالفِراش، وهاك ضجعة مُريحة، فما معنی التعب؟

فقال الباشا للسائق وهو ما يزال مُغمِض الجفنَين: يا حسن .. اذهب أنت .. سننام ها هنا.

فارتبك السائق وقال بتحرُّج: العفو يا صاحب السعادة .. هذا غير طبيعي، وسيَرى البواب في الصباح ويرى الخدم.

فانثنى إلى زوجه قائلًا: يا هانم هذا غير طبيعي، وسيَرى البواب في الصباح ويرى الخدم.

– ومن الذي يُكلِّمك؟

– السائق.

– أف .. لا تُضايقني .. ماذا يهمُّنا من البواب أو الخدم أو السائق؟

فقال الباشا للسائق بنفس اللهجة: أف .. لا تُضايقني … ماذا يهمُّنا من البواب أو الخدم أو السائق؟

فسكت الرجل، ولكن لم تُطاوعه نفسه على الذهاب فوقف ينتظر، أما الباشا فأخرج مِنديله وجفَّف عَرقه، وقال وهو يفكُّ ربطة عنقه: الدنيا شديدة الحرارة.

فاعتدلت المرأة في جلستها، ولم تلبث أن صاحت: يا لطيف!

– ما لك؟

– المقعد يَمِيد بي كأني في أرجوحة!

وأرادت أن تُمسِك بشيء، فوقعت يدها المُتخبِّطة على شارب الباشا فتألَّم الرجل، ونزع شاربه من كفها وهو يقول ضاحكًا: دعي شاربي .. وهل تحسبينه حبل الأرجوحة؟

– أنا في غاية التعب.

– شربت كثيرًا يا زينب هانم .. شربت أكثر مما ينبغي لك!

– وماذا كنت أستطيع أن أفعل سوى ذلك؟ الكل كان يشرب رجالًا ونساءً .. أنت نفسك شربت كثيرًا يا باشا.

– أنا مُتعود على الشرب يا هانم .. أنا أستطيع أن أشرب حانةً كاملة في ليلةٍ واحدة!

– ومع ذلك لم تتمالك أعصابك الليلة .. وعلا صوتك بالضحك على غير عادتك، بل وضحكت مني أنا يا ناقص!

– كيف ذلك؟ .. هذا مستحيل.

– مُستحيل! ألا تذكُر ساعةَ خروجنا من البوفيه؟ .. كنت تسيرُ ورائي فنظرت إلينا عديلة هانم، تلك المرأة الوقحة، وقالت: «كان الله في عون إبراهيم باشا؛ فهو زوج ومُروِّض.» وضحك جميع المدعوِّين، وضحكت أنت أيضًا!

– أنا لا أذكُر هذا.

– طبعًا لأنك لم تكُن في وعيك، ومع ذلك فأنت تزعم أنك تستطيع أن تشرب حانه في ليلةٍ واحدة .. أليس كذلك؟ ولكني انتقمت منك فضحكت منك مع الضاحكين بعد ذلك مباشرةً.

– وكيف كان ذلك؟

– كان جماعة من الحاضرين يتعجَّبون لنحافة قدك، فاعتذر الأميرالاي فتحي بك عن صِغر حجمك بقوله: «إن شاربك الثقيل يعوق جسمك عن النمو.» فضحكت مع الضاحكات والضاحكين .. واحدة بواحدة.

– يا له من ضابطٍ وقِح!

– أنت المسئول عن جعلنا أضحوكة في كل مكان .. لماذا لا تقصُّ شاربك؟

– أقصُّ شاربي! هل جُننت يا هانم؟!

– وما وجه الجنون في هذا؟! .. إنه حِملٌ ثقيل على جسمك الرقيق.

– أيكون الرجل رجلًا بجسمه؟!

– أیکون رجلًا بشاربه؟

– معلوم، انظري إلى مثلك، فأنتِ امرأة ولك جسم فيل .. ولكن هل توجد امرأة بشارب؟

– الحق أقول لك إني هممت مرةً بقص شاربك في أثناء نومك .. لولا الخوف!

– وما الذي أخافك؟

– أشفقت من أن يصبح زواجنا لاغيًا.

– ولِمَه؟ هل أنت زوجي أم زوج شاربي؟

– الحقيقة أنك بغير هذا الشارب تغدو غلامًا لم يَبلُغ السن القانونية للزواج؟

– هذا هذرُ سكارى، والأولى بك أن تُنحِّفي جسمك الهائل؛ فضخامته الشاذَّة هي المَدعاة الحقيقية إلى السخرية .. ألم ترَي صديقاتك الليلة؟ .. كلهن نحيفات اللهم إلا راضية هانم، وهي على كل حال لا تزن نِصف وزنك.

– أنت المسئول عن وزني.

– أنا؟!

نعم .. لأنك كنت دائمًا تؤكد لي أنك تحب اللحم العجَّالي والبقري .. وأنت تحتقر الوزن «الهايف»! .. وها أنت ذا تتملص من تبعاتك كما تفعل وأنت وزير!

– ما شاء الله! .. هذا قول أعدائي السياسيين، وأرى أني أُجحَد في بیتي كما جُحدت من قبلُ في ميدان السياسة الملعون، وأني خسرت الدنيا جميعًا.

– بل ربحت شيئًا مؤكَّدًا.

– وما هو؟

– أنك صاحب مَقام رفيع!

– يا هانم أنتِ في سُكْرك كالحشَّاشين، والحق أنك تستأهلين رتبة .. ولكن لا أدري أي رُتبة تُناسبك .. فلْأُفكر قليلًا .. ما رأيك في لقب الصدر الأعظم؟!

وهنا قطع حديثَ الزوجَين طَرقٌ عنيف على باب القصر الخارجي، وشقَّ الصمتَ المُخيِّم صوتٌ مُنکر يصيح: يا بوَّاب .. يا عم محمد.

فسكت الزوجان دهشةً واعتدلا قليلًا في جلستهما وأرهفا السمع، وخفَّ السائق مُسرعًا إلى الباب ليرى ما هناك.

•••

كان الشُّرطي المُكلَّف بالحراسة الليلية يسير الهُوَينى في شارع العباس، ولما بلَغ قصر الباشا سارَ بحذائه وعرَّج مُلازمًا للسور إلى شارع الإلهامي، وانتبه من سهوه إلى حركة في أعلى السور، فنظر إلى مصدرها فرأى رجلًا يَقفز من الحائط ويسقط على بُعدِ ذراع منه، وقد تولَّاه الذُّعر لظهور الشُّرطي المُفاجئ، فتسمَّرت قدماه بالأرض .. وأسرع الحارس إليه وقبض على ذراعه بقسوة وهو يصيح به: يا ابن الملعون، أتحسب البلد بلا حكومة؟

وكان المقبوض عليه أفنديًّا أنيق الملبس، كشف نور المصباح الخافت في وجهه عن ملامح وديعة ونظرةٍ أدنى إلى الرقَّة والجُبن منها إلى الشر أو التحدي، ففحصه الشُّرطي بنظرةٍ شديدة وهو يتحسَّس جيوبه، وقال له مُتهكِّمًا: إخالك لم تسرق سوى هذه البذلة!

فقال الشاب وهو يلهث من الاضطراب والخوف.

– اترکني یا حضرة الشاويش، أنا لست لصًّا كما تتوهم.

– عفارم عليك .. فمن تكون یا مولانا؟

– أُقسم بالله العظيم أني لست لصًّا .. ولم أسرق في حياتي قط، وهاك جيوبي فتِّشها كما تشاء.

– آه .. هل كنت في القصر زائرًا إذَن؟

– أنا .. من أهل القصر؟

– فهمت یا سیدي فهمت .. أنت ابن الباشا بلا شك، وما قفزك من السور إلا رياضة بدنية كنت تقوم بها في هذه الساعة المُتأخرة من الليل!

– بل أردت أن أخرج بسرعة.

– وما الذي يدعو إلى الخروج بعد منتصف الليل؟

– سفر لا يَقبل التأجيل.

– أوَليس للقصر باب؟

– لم أجد وقتًا لإيقاظ البواب.

– يا مُغيث .. هذا حقًّا عصر السرعة .. وليس ببعيدٍ أن أرى غدًا من يقفز من نافذة الطابق الثالث أو الرابع؛ لأنه ليس لديه متَّسَع من الوقت يهبط فيه السلَّم .. عُوفیت یا سیدي عُوفیت.

– أراك لا تُصدِّقني يا حضرة الشاويش .. أؤكد لك أني من أهل القصر .. غير أني استسهلت أن أقفز على هذا السور الصغير.

– معلوم .. معلوم .. وليس الذنب ذنبك .. ولكن ذنب من يُحتِّم تعليم الألعاب الرياضية والتدريب العسكري .. على أني أجد نفسي مُضطرًّا إلى تأخيرك يومًا أو عدة أيام وربما عدة أشهُر.

قال ذلك ودفعه أمامه .. ولكن الشابَّ ألصق قدمَيه بالأرض وقال يتوسل: لست لصًّا .. لست لصًّا والله .. أنا من أهل القصر.

– إذا كان ما تقوله حقًّا فما عليك إلا أن تدخل القصر مرةً ثانية فأصدِّقك.

– حسن، اترك ذراعي وستَرى.

– ادخل البيت من بابه .. تعالَ.

وساقه إلى باب القصر، وطرقه وهو يُنادي البواب.

وأتى السائق على صوته مُسرعًا وأيقظ البوَّاب، فقام الرجل ساخطًا وفتح الباب، وأحدث ظهور الشرطي والمقبوض عليه دهشتهما، ونظرا إليهما مُتسائلين، فقال الشرطي: قبضت على هذا الشاب وهو يقفز من سور القصر، فادَّعى أنه من أهل الدار، فهل تعرفانه؟

فأضاء البوَّاب المِصباح الكهربائي، ونظر السائق إلى وجه الشاب الشاحب وقال مُسرعًا: هذه هي المرة الأولى التي تقع عليه عيناي.

وسأل البوَّاب الشرطي: هل وجدت معه شيئًا؟

– سيُفتَّش في القسم.

وفي تلك اللحظة سمع صوت الباشا الثَّمِل يصيح في سكون الليل: یا حسن، من عندك؟

فهُرِع السائق إلى الباشا، وطمع الشرطي في سماع كلمة ثناء من صاحب السعادة، فساق الشاب أمامه وتبع السائق، وقال حسن لسيده: قبضوا یا صاحب السعادة على لصٍّ يقفز من سور القصر.

فقام الباشا واقفًا وغادَر السيارة وهو يقول: كيف؟ دي لولو كانت في البيت وحدها.

وهُرِع نحو الباب الداخلي، وتبعته زوجته في تعثرٍ ظاهر، وكان الباشا يصيح: لولو .. لولو!

وفتح الباب، وظهرت غادةٌ جميلة في لباس النوم الأبيض الشفَّاف، أشرقت في الظلماء كالشمس ناشرةً في الجو عطرًا يفعل في الأعصاب فِعل الموسيقى العذبة، فصاح الوالدان: الحمد لله .. هل أنت بخير يا لولو؟

فأجابت بصوت له في الأذن وقعُ العطر في الأنف: نعم يا ماما، ماذا حدث؟

فقال الباشا: قبضوا على لصٍّ يقفز من سور القصر.

فخفق قلب الفتاة، وقالت بصوتٍ مُتهدِّج: لص!

– ألم تسمعي حركة؟

– كلا.

– الحمد لله.

وسار الباشا إلى حيث يوجد اللص والشرطي والسائق والبواب، وتبعته زوجته ولولو، ورأت الفتاة وجه المقبوض عليه على ضوء المصباح الهادئ فاشتدَّ خفقان قلبها، وزاغت عيناها، وخفضت بصرها ذاهلةً مُضطربة.

وقال الشرطي: يدَّعي هذا المُجرِم أنه من أهل البيت يا صاحب السعادة.

فأنعمت زينب هانم النظر في وجه الشاب بعينَين أطفأت الخمر نورهما وقالت: كذب .. هذا لصٌّ جريء.

ولكن ساوَرها الشك في صحة بصرها، فمالت إلى زوجها وسألته بصوتٍ خافت: أليس كذلك يا باشا؟

فنظر الباشا إلى الشاب بعينَين ذاهلتَين كعينَي زوجه وقال: بلى .. بلى .. هذا لص ولا شك.

ثم مال على أُذنِ لولو وسألها: أليس كذلك يا لولو؟

ولم تُجِب الفتاة، أو على الأصح لم تسمع السؤال، فسأل الباشا السائق: هل تعرف هذا الشاب یا حسن .. هل هو من أهلنا؟!

وكان السائق يختلس من لولو نظراتٍ مُلتهِبة ويُراقبها بارتياب، فقال بانفعال: هذا لصٌّ مُجرِم يا صاحب السعادة.

فقال الباشا للشاب بلسانٍ مُتلعثِم ثقيل: كيف تُسوِّل لك نفسك ادعاء قرابتي؟!

– لست لصًّا يا صاحب السعادة.

– فما كنت تفعل هنا؟

– لا أدري یا صاحب السعادة.

– ما شاء الله .. هل سقطت من طائرة في حديقتي؟

– كلَّا يا سعادة الباشا .. ولكني وجدت نفسي بغتةً في الحديقة .. لا أدري كيف ساقتني قدماي إلى هنا!

فقال الشرطي: ستجد نفسك في السجن إن شاء الله.

وغضب الباشا لمقاطعة الشرطي، وقال له بعنف: یا عسکري .. لا تقطع عليَّ التحقيق.

فقال الشرطي بسرعة: حاضر يا أفندم.

وسأل الباشا الشاب: ما الذي جاء بك إلى هنا؟

– أنا آسف يا صاحب السعادة، كنت سکران، وقادتني قدماي إلى هنا من غير أن يراني أحد، ونِمت على الحشائش بضع ساعات، ثم استيقظت في حالةٍ أدنى إلى الوعي والانتباه، فأدركت خطئي، وحاولت إصلاحه بالهروب فوقعت في يدَي الشرطي .. لست لصًّا .. فتِّشوني فلن تعثروا على شيء.

– وماذا شربت؟

وكان السائق في حالةٍ سيئة من الغيظ والحنق فقال: هذا لصٌّ كذَّاب یا صاحب السعادة، وينبغي أن نسوقه إلى القسم.

ولكن الباشا انتهره قائلًا: لا تُقاطع التحقيق.

وسأل الباشا وهو يهزُّ رأسه بدهاء: ماذا شربت؟

– ويسكي يا صاحب السعادة.

فسألته زينب هانم: بالصودا؟

– نعم.

فمالت المرأة على زوجها وهمست: انظر إلى فِعل الويسكي بالصودا.

فردَّ عليها بصوتٍ خافت: نعم .. الويسكي بالصودا شرابٌ ملعون.

ثم دنا من الشاب وهو يقول: دعنا نُفتِّشك أولًا.

فاستسلم الشاب إليه، ودسَّ الباشا يدَيه في جيوبه، ولم يجد سوى حافظته، فأراد تفتيشها، ولكن الشاب لم يُمكِّنه منها، وأثارت مقاومته شكوك الحاضرين، فقبض الشرطي على يدَيه بقسوة وأخذ الباشا الحافظة، وكانت لحقت به زوجته وابنته، وأخرج محتوياتها، وكان بها ورقة من ذات الجنيه وعدة بطاقات وصور صغيرة، ولاحت منه نظرةٌ عارضة إلى الصور، فأيقظت انتباهه وشحذت بصره، فنظر إليها بإمعان فرأى صورة لولو، ولولو بذاتها، هل يصدِّق عينَيه .. أم إنها الخمر؟ .. ونظر إلى زوجته يستعين بعينَيها، فرأى بهما دهشة وإنكارًا، والتفت إلى لولو فرآها تتسحب بخفَّة وتعود إلى القصر تسير بخطواتٍ متَّئدة غير مُبالية بشيء.

وسمع الشرطي يسأل بصوته الغليظ: هل وجدت بها مسروقات يا صاحب السعادة؟

فردَّ محتويات الحافظة إلى موضعها، وأعادها إلى صاحبها وهو يقول بلسانه المُتلعثم: کلا، ما بها يخصُّه دون غيره.

وكان السائق على بُعدٍ قريب من مولاه، فاستطاعت عيناه الحادتان أن تريا، فارتدَّ إلى حالةٍ جنونية من الغضب والغيظ، وقال لسيده بصوتٍ مُتهدِّج: إن عدم العثور على شيء معه لا يُبرِّئه بحال، وهو ولا شك قد حاوَل السرقة فلم يُفلح.

فقال الباشا: سأتحقَّق مما إذا كان سكران.

ومال على فم الشاب يشمُّه ثم قال: الآن حَصحص الحق .. هذا الشابُّ سکران بغير شك.

فكاد السائق يُجَن، وقال بغضب: العفو يا صاحب السعادة، العادة أن الإنسان إذا كان شاربًا لا يشمُّ الخمر في أفواه الآخرين!

فانتفخ الباشا غضبًا، وفتل شاربه بغطرسة، وصاح بالسائق: أنا شارب يا كلب!

– العفو يا صاحب السعادة .. أنا أعني …

– لا أقبل منك كلامًا يا سفيه، لقد قضت سفاهتك على أسباب رزقك في هذا البيت. يا عسکري، دع هذا الشاب لي الآن وخذ هذا الوقح خارجًا.

وصدع الشُّرطي بما أُمِر، وخلا المكان إلا من الباشا وزوجته والشاب.

قال الباشا للشاب بلهجةٍ تنمُّ عن التهديد والوعيد: ألا تعرف من أنا؟

– أعرف طبعًا يا صاحب السعادة.

– فكيف إذَن تُسوِّل لك نفسك انتهاك حُرمة بيتي؟

– أنا غايتي شريفة يا صاحب السعادة.

– وهل يوجد شرفٌ بعد منتصف الليل؟

وسألته السيدة: ما صناعتك؟

– موظف.

– هذا يعني أنك صعلوك.

– صعلوك!

– نعم .. إن الكاتب الحقير الذي لا يجد له وظيفةً تُشرِّفه يطبع على بطاقته كلمة موظف، وهي لا تعني في الواقع إلا أنه كاتبٌ حقير .. أليس كذلك؟

– …؟

– في أي وزارة؟

– المساحة.

– ما شاء الله؟ .. وما هي مؤهِّلاتك؟

– …!

– ما هي مؤهِّلاتك؟ أجِبني!

– البكالوريا.

– يا خبر أسود .. وماهيَّتك؟

– …!

– وماهيتك .. أتوسَّل إليك أن تُجيبني؟

– ستة جنيهات!

– عال .. ولماذا تحب ابنة الباشا؟

– سيدتي …

– لماذا لم تحب ابنة كلب من طبقتك.

وتنهَّد الباشا من قلبٍ مكلوم وقال للشاب: تفضَّل مع السلامة.

وصعد الزوجان إلى مخدعهما وقد نال التعب منهما كل منال، فارتمى الباشا على «الشيزلنج»، واستلقت السيدة على الفِراش، وكانا واجمَين حزينين.

وتنهَّد الباشا وقال لها: أيُعجبك هذا؟

– أنت دائمًا تُلقي عليَّ تبعة كل شيء.

– أنا رجل ينوء بعبءٍ ثقيل، سواء في الوزارة أو مجلس الشيوخ أو الشركات؛ فأنت وحدك المسئولة عن فساد أخلاق بناتك.

– لا تتكلم یا سیدي عن بناتي بهذه اللهجة التي لا أقبلها بحال .. إني أعلم أنهن أشرف النساء جميعًا!

– إذَن أنت ترضَين عن هذه الأفعال الشائنة؟

ألا ترَين أن مأساة الأخت الكبرى تتكرَّر؟ تلك الفتاة البائسة التي أردت أن أُزوِّجها من طبيبٍ كبير فوقعت في غرام صعلوك مُتشرِّد ممن يُسمونهم بالموسيقيين.

– لا تتكلم عن صِهرك بمِثل هذه الألفاظ؛ فليس هو الآن بالصعلوك ولا المُتشرد، ولكنه مُفتش موسیقی محترم بوزارة المعارف!

– أنا الذي عيَّنته في هذه الوظيفة التي هو غير أهل لها بحال .. أنا الذي خلقته.

– اخلق هذا أيضًا من أجل لولو.

– ولكنه غير قابل للخلق .. لقد كان الأول مُغنيًا فاستطعت أن أصنع منه مُفتشًا للموسيقى وإن كان لا يفقه شيئًا في الموسيقى، ولكن ما عسى أن أصنع بهذا وكل مؤهلاته البكالوريا؟ الأوفق أن نطرده!

– ليت ذلك ممكنًا .. ولكنك تعلم أن لولو عنيدةٌ صلبة الإرادة، فلْنُوارِ سوأتنا ونصنع منه شيئًا.

– مهما فعلت فلن يكون أكثر من كاتب.

– حنانَيك يا باشا، هل شحَّ الزمان حتى تتزوج ابنة واحد باشا مثلك ووزير سابق (ووزير لاحق إن شاء الله) من كاتب؟!

– وما ذنب الزمان إذا كانت ابنة الباشا مجنونةً مثل لولو؟

– دع أحاديث الغضب جانبًا، وقل لي: ألا يمكن إلحاقه بأي وظيفة في مُفوضية أو قنصلية؟

– مُفوضية أو قنصلية؟ .. أهذا كلام يُقال على واحدٍ كل مؤهلاته البكالوريا؟

– أُف .. أنا أعلم جيدًّا أنك مُتعَب، ومهما يكن من أمر فينبغي ألا تكون درجته أقل من السادسة، وألا تقل ماهيته عن خمسة عشر جنيهًا .. وأمامك أصدقاؤك الوزراء، فليَختره أي واحد منهم سكرتيرًا له.

– ليس الأمر سهلًا يا هانم كما يبدو لك؛ فالصحف تقف بالمِرصاد للمحسوبيات والاستثناءات.

– وهل يُرضي الصحف أن تتزوج ابنة واحد باشا من كاتب بستة جُنيهات؟

– إن للصحافة همومًا لا تدَع لها وقتًا للتفكير في مسألة زواج لولو!

– إن مستقبل لولو لفوق الصحافة وهمومها، فينبغي أن تخلق هذا الشاب من جديد.

– هل كُتِب عليَّ أن أخلق كل يوم شابًّا من جديد؟

– أرجو أن تذكُر أنك كنت موظفًا بائسًا حين تزوَّجتك، وأنه لولا المغفور له والدي …

– إن أباك لم يخلقني، ولكنه أتاح الظروف المناسبة لعظمتي الكامنة.

– صه .. لولا أبي لكنت الآن موظفًا بالدرجة السابعة على أكثر تقدير.

– أبهذا الكلام تُدافعين عن ذوق بناتك القذر؟

– معلهش يا باشا، إنهن ورثن عني ذلك الذوق الذي حملني فيما مضى على الزواج منك.

•••

وكان السائق هائجًا غاضبًا، يلعن ويتوعَّد، والشرطي يُهدِّئ رَوْعه ويُعزِّيه عن «قطع عيشه» بكلمات لا تُغني، وقد قال له: أنت مُخطئ يا حسن .. لماذا تدخل فيما لا يعنيك؟

قال محتدًّا: أهذا رجل؟

– وما الذي يُغضبك أنت؟ إنها ابنته لا ابنتك.

ثم غمز بعينه وتساءل: أم هناك سببٌ آخر لهذا الغضب؟ .. أهو غضب أم غيرة يا شيطان؟!

فلما لم يرُد عليه الجواب قال له وهو يودِّعه: معلهش یا حسن؛ فالحق أن الباشا لم يعرف يُربِّي غير شنبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤