الورقة المُهلِكة

انتهى المطاف بالشمس إلى الأفق الغربي، وقد شملها الهدوء والوجوم والأسى بعد أن ولَّى عنها تيه الفتوة وزهو الشباب، ومضى شعاعها الشاحب يُوغِل شرقًا مُودِّعًا رمال الصحراء المُتاخِمة للعباسية مُوسعًا وراءه للسمرة الزاحفة.

ولم يكن في الطريق الذي يخترق الصحراء — في تلك الساعة — سوى سيارة بيضاء صغيرة تسير على مهَل، كأنه لا غاية لها سوى المسير، ويسوقها شابٌّ تدل نظرة عينَيه المُظلمتين على الملل وعدم الاكتراث.

وتقدَّمت السيارة في الطريق حتى حاذت أبنية المصانع الجديدة التي تشغل مساحةً واسعة من فضاء تلك الصحراء، ثم وقفَت أمام بناء صغير كُتِب على لوحة في أعلى واجهته «مطعم وقهوة الزملاء»، وكان البناء مُكوَّنًا من قسمَين؛ واحد مُسقَّف رُصَّت به موائد الطعام الخشبية التي يتناول عليها الطعام عمال المصانع القريبة، والآخر مکشوف مُعشوشِب الأرض، وُضعت به الكراسي حول نافورة من ماءٍ آسن، أُقيمت حولها عمدٌ خشبية علقت برءوسها الكُلبَّهات.

ألقى الشاب نظرة على البناء وقد لاحت في عينَيه الأحلام، وارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتَيه المُمتلئتين، وغادَر السيارة فبدَت قامته الرشيقة وبذلته الأنيقة، ودخل إلى القهوة واختار ركنًا قصيًّا، وكان المكان خاليًا ساكنًا؛ لأنه لا تدبُّ فيه الحياة عادةً إلا بعد انصراف العمال في المساء، فجلس يحتسي فنجانًا من القهوة والنادل على بُعدٍ منه يرمقه بنظرةٍ ملؤها الإنكار والدهشة.

ولم تكن هذه أول مرة يهبط فيها إلى هذه القهوة التائهة في الصحراء؛ فقد زارها زيارةً سعيدة لم تكن في الحسبان منذ أمد قريب. وما دفعه إليها تلك المرة إلا المَلل الراكد على نفسه التي شبعت من أهواء الدنيا، وعانت من الفراغ مُر العناء، وتركته يتخبَّط حائرًا ما بين الميادين والأزقَّة لا يهتدي إلى مستقَر. وما عاد به إليها هذه المرة إلا ما طالَع خياله من أطياف الذكريات الحُلوة.

وجلس يُلقي على المكان نظرة تذكُّر وحنين، ولم يكن يرى منظرًا غريبًا؛ فإنه يذكر ولا شك تلك الأبنية العالية التي يتصاعد الدخان من أعاليها ویُدوِّي قرع الآلات في داخلها، وهذه الصحراء المُترامية التي تنتهي شُطآنها البعيدة إلى مآذن القاهرة المعِزِّية، ولكن ما له يلتفت يمنةً ويسرةً، هل يفتقد منظرًا يذكره ولا يجده؟

نعم إن الصورة التي انتزعها رأسه من المكان في تلك الليلة القمراء ناقصة .. ولا تنقص شيئًا تافهًا، بل تنقص مدينة كاملة .. مدينة الصفائح الغريبة .. كانت تقع أمام القهوة مباشرةً على بُعدِ عشرة أمتار من مدخلها، وكانت مبانيها أكواخًا من الصفائح التي علاها الصدأ، تأوي رجالًا ونساءً وأطفالًا، وترعی في عرصاتها المعز والكلاب .. أين يا تُرى هذه المدينة، أم تراه اشتبه عليه الأمر؟

ولكي يقطع الشك باليقين نادى النادل وسأله وهو يُشير بيده إلى الموضع الخلاء الذي أحدث ارتيابه: ألم تكن توجد هنا أكواخ من الصفائح؟

فهزَّ الغلام رأسه علامة الإيجاب وقال: بلى یا بك.

– فأين ذهبت؟

– هدمتها الحكومة.

قطَّب الشاب جبينه وسأله: متى .. ولأي سبب؟

– منذ ثلاثة أشهُر، بعد أن تأكَّد البوليس من أن ساكنيها من اللصوص والقتَلة.

لم يكن في الخبر ما يُثير الدهشة، ولكنه ذكر شخصيةً عزيزة فقال: كان يوجد هنا رجل مُغنٍّ يُدعى أبو لبة .. أو أبو رنة لا أذكُر .. ألا تعلم أين هو؟

فتفكَّر الغلام دقيقةً ثم قال: لعله أبو سنة يا بك.

– أظنه هو، كان يغني غناءً جميلًا ويُنشد إنشادًا ساحرًا.

– نعم هو یا بك، ولكنه شُنِق وا أسفاه!

وانزعج الشاب وسأله: أتقول إنه شُنِق؟

– نعم شُنِق بغير شك.

– ولماذا شُنِق؟

– لسببٍ تافه جدًّا.

فاستولت الدهشة على الشاب وسأله: كيف يُشنَق لسببٍ تافه .. ماذا فعل؟

فقال الغلام بهدوء: قَتل.

فابتسم الشاب بالرغم من انزعاجه وقال: ولكن ليس هذا بالسبب التافه.

– قتل بغيًّا.

ولم يستطِع الغلام أن يُتمَّ حديثه؛ لأنه قطعه عليه دخول جماعة من العمال ونداء المعلم له، فحيَّا الشاب وانصرف إلى عمله.

لقد وقعت أحداثٌ غريبة منذ زيارته الأولى لهذه القهوة.

دُمِّرت مدينة، وتشتَّت أهلها، وشُنِق رجلٌ كانت حنجرته تنفث سحرًا وبهجة؛ فما أتعس مجيئه هذه الليلة! جاء يطلب لهوًا ومَسرَّة فوجد خرابًا وموتًا.

ولبث كئيبًا، وراح يُفكر في زيارته الأولى تلك الليلة القمراء السعيدة.

كان في مساء تلك الليلة جالسًا في سانت جيمس يُشارِب جماعة من صحبه کما هي عادته كل مساء، وقد تركوا الحانة في الساعة العاشرة، ورأى بعضهم أن يُمضوا الليل في صالة رقص أو غناء أو نساء، ولكنه لم يجد من حواسه میلًا إلى تلك المُتع.

كان ضيِّق الصدر من طول ما فعل به الملل والفراغ، وكان يُعاني شبعًا ثقيلًا صرف هواه عن الدنيا جميعًا، فأمسى الرقص والغناء والنساء ألفاظًا لا معنى لها، وانقلب جسد الأهواء الفاتن في عينَيه جثةً هامدة، فودَّع صحبه وتركهم يذهبون.

وتلفَّت يمنةً ويسرةً في حيرة .. إلى أين يذهب؟ ولم يُنقذه من حيرته إغراء .. فتُرِك لمَلله ووحدته وسُكْره.

ثم استقلَّ سيارته الصغيرة وانطلق بها على غير هدًى، وساقه التخبط إلى العباسية، ودفعته العباسية إلى صحرائها الشرقية، ولفتت ناظرَیه — في الطريق الصحراوي الملتوي — أنوارٌ خافتة تنبعث من القهوة المنعزلة، فهدَّأ من سرعة السيارة، ونظر صوبها فسرَّه مَنظر الجالسين يتسامرون ويلعبون النرد والورق، وحمل الهواء إلى أنفه رائحة «التمباك المعسل»، فتسرَّبت إلى مخه وأطربت أعصاب رأسه، فانقشع عنه كابوس السقم، وأدار السيارة إلى أمام مدينة الصفائح ووقف، وحسب أن جلسة في هذه القهوة ونفسًا من هذه «الجوزة» يُساویان نعيم الدنيا الذي أنهك قواه وأضنى قلبه.

ولفت شخصه الغريب أنظار الجالسين، ولكنه لم يجد حرجًا ولم يستشعر خجلًا؛ إذ أخفَت الخمر عن عينَيه نظرات الآخرين، وقصد إلى ركنٍ خالٍ واطمأنَّ إلى كرسي وطلب جوزة .. وكان القمر بدرًا، والسماء صافية كأنها تعرَّت تستحمُّ في نوره البهي، فبهره سِحر النور وجمال الليل وفتنة الصحراء القائمة وكأنه يرى القمر لأول مرة، بل لعله كان يراه لأول مرة حقًّا؛ لأنه كان في العادة يمرُّ على محاسن الكون ومفاتنه بعينَي أعمى وأُذنَي أصم، أما تلك الليلة — والخمر في رأسه، و«الجوزة» في فمه — فقد نظر وقلَّب وجهه الذاهل في أقطار السماء والفضاء، وخال الأنوار الهادئة ترقص طربًا والقمر الساطع يُنشد نشيدًا تُرتِّله السموات والأرض، وأحسَّ كأنه مُتعلِّق بأطراف النور الفضي كمن يتقلب على بركة من الزئبق. أي حُسن .. وأي شعور .. في تلك الساعة السعيدة نسيَ مرضه العضال وحزنه الثقيل والمَلل الجاثم على صدره، وذهب عنه شبعه المُزمن، وأحسَّ بجدة وبَعْث ومتعة وحب؛ فأنشد الصامت في أُذنَيه، وابتسم العابس لعينَيه، ولولا الحياء لاندفع يرقص ويُغنِّي ويُنشد طربًا وفرحًا. وبالَغ صاحب القهوة في إكرامه والترحيب به، وأحضر له «الجوزة» بنفسه وهو يقول بتودد: آنست وشرَّفت.

وكان شيخًا في الستين، قصير القامة، بطينًا، ضخم الوجه والرقبة، فلم یسَع دانش — اسم الشاب — إلا أن يشكره.

وأراد الرجل أن يُبالغ في إكرامه فقال: أتُحبُّ يا بك أن تسمع غناءً بلديًّا؟

فسُرَّ دانش وقال لنفسه: ليلة قمراء وخمر وجوزة وغناء بلدي، يا لها من ليلة سعيدة حقًّا .. وقال بحماس للرجل: نعم .. نعم .. أين المغنِّي؟

فنادى الرجل: أبا سنة .. تعالَ.

وتقدَّم من بين صفوف الجالسين شابٌّ طويل القامة عريض المنكبَين، لم يجلُ نور القمر الشاحب قسمات وجهه، وأسدل ظلًّا على أسماله البالية.

دنا من صاحب القهوة وقال: نعم؟

فقال له الرجل: اقعد يا عم .. يريد البك أن يسمع غناءك.

وقال دانش: نعم .. أسمعنا .. أسمعنا.

ثم التفت إلى صاحب القهوة وقال: يا معلم .. هات «للأستاذ» جوزة.

وانبسطت أسارير الشاب فرفع يده إلى رأسه تحية، وتربَّع جالسًا على الأرض أمام البك، وسعل مرَّاتٍ مُتواليةً يُسلِّك حنجرته، ثم أسند رأسه إلى كفه ومضى يُغنِّي «ليالي» في صوتٍ جميل ظنَّ دانش في نشوته أنه أجمل من أصوات الحور في الجنان، ثم أنشد:

بكره وبعده وبعد اللي وراه بعده
وإن غاب حبيبك ما لكش في البلد بعده

وكان رأسه يهتزُّ وجسمه يتمايل، وكان جميعه في حركةٍ وجدانية تمثيلية غريبة، وكان صوته يتهدج ويتوجع؛ يعلو تارةً حتى يملأ الفضاء، ويخفت أخرى حتى ينفذ إلى أعماق القلب. وما إن انتهى من إنشاده حتى صعدت آهات الإعجاب من كل فم، وكان الشاب أول المُعجَبين، وغلبته النشوة والطرب فطلب لكل واحد من الجالسين «جوزة» وصاح بالمغني: لا أسكت الله لك صوتًا .. أسمعنا موَّالًا آخر.

فهزَّ الرجل رأسه مُختالًا فخورًا، ووضع يُسراه على أذنه ويُمناه على الجوزة، وأنشد:

بيني وبين الحبايب جبل عالي وتل حشيش
وبحر خمرة ونفسي في النبيذ ولا فيش

ولما انتهى المغني من إنشاده بلغ الفرح بنفس دانش مبلغًا ظن أنه لن يذوق الملل بعده أبدًا، وأحسَّ بالرضا والغبطة، وأُفعمَ قلبه بعاطفة سعادة وخير، فودَّ لو يستطيع أن يغمر كل محزون بفيض من سعادته، ومال بقوةٍ قاهرة إلى مكافأة الرجل الذي مسَّ روحه بنفثة من سحر صوته، فدسَّ يده إلى محفظته ووجد بها بضعة قروش وورقة من ذات العشرة جنيهات، فأعطى القروش إلى صاحب القهوة، ثم نظر إلى المغني مليًّا ووضع الورقة في يده وهو يقول: هذه لك.

لم يُداخله التردد مطلقًا، وما كانت ثَمة قوة في الوجود تستطيع أن تمنعه من المنح والعطاء تلك الساعة، أما الرجل فسهمَ ووجمَ وأدنى الورقة من نور المصباح وتأمَّلها بإنكار، ولمح الورقة في يده أحد الجالسين فاقترب منه ونظر إليها لحظةً ثم قال بلهجة خبير: ورقة قديمة من ذات العشرة قروش، كانت متداولةً أيام السلطان.

فتضاحك دانش وقال للرجل بصوتٍ سمعه كثيرون ممن حوله: جزاك الله على ما أسعدتني خيرًا .. هذه ورقة من ذات العشرة الجنيهات قد تراها بين يدَيك ثروةً عظيمة وأراها أنا شيئًا تافهًا إلى ما أحسست به من سعادة .. السلام عليكم يا سادة.

على أنه رأى منظرًا عجيبًا — زاد من مَسرَّته — قبل أن يُغادِر القهوة؛ رأی أبا سنة يهبُّ واقفًا فزعًا، وسمع همسًا تناقلَته الشفاه، ثم علا ضجيج، ثم ساد صمتٌ ثقيل، وقد كفَّت كل يد عن اللعب وكل فم عن التدخين، والتقت الأبصار جميعًا عند المغني السعيد.

ولبس طربوشه وسار إلى سيارته وقلبُه يكاد يطير من الفرح بعد أن نفض عنه راكد السقم والمَلل، وعاد إلى المدينة، ثم ألهته الحياة عن الصحراء وقهوة الصحراء وأبي سنة حتى وجد نفسه فيها هذا المساء.

فما أشدَّ ما نزل بالدنيا من تغيُّر! اندثرت مدينة الصفائح العامرة .. وفتك الحبل بعنق أبي سنة الجميل وحنجرته الذهبية .. يا للعَجب! كان أبو سنة مُطرِبًا، فكيف صار قاتلًا؟ ووجد رغبةً صادقة في السؤال والتحرِّي عنه، وكان صاحب القهوة جالسًا بمكانه المعهود عند مدخل المطعم، فأشار إليه وناداه قائلًا: «يا معلم.» وحدَّق الرجل في مصدر الصوت وهو يُضيِّق عينَيه، ثم سار إليه، فلما دنا من صاحبه ورأی هيئته المميزة ابتسمت أساريره، وارتفعت يده إلى جبينه بالسلام، ولكن لم يبدُ عليه أنه عرفه أو تذكَّره، وطلب إليه دانش أن يجلس ثم قال له: أراك لا تذكُرني يا معلم.

فحدَجه الرجل بنظرة إمعان وارتباك، وتمتم وعلى فمه العريض ابتسامةٌ حائرة: أهلًا وسهلًا.

فأردف دانش: ألا تذكُر تلك الليلة القمراء .. والمغني أبا سنة .. وموَّال بكرة وبعده؟! کم مضى على تلك الليلة؟ .. ثمانية أشهُر أو يزيد، ألا تذكُر؟

ونظر الرجل إليه نظرةً غريبة، كان الشاب يتوقع أن يقرأ فيها الدهشة والترحاب، ولكنه وجدها جامدةً ثقيلة.

– ألا تذكُر يا معلم؟

فهزَّ الرجل رأسه وقال: بل أذكُر يا بك.

– سمعت خبرًا عجيبًا مُزعجًا .. هل حقًّا شُنِق أبو سنة؟

– نعم شُنِق الرجل التعس.

– کیف شُنِق؟

– أتُحبُّ أن تعرف يا بك؟

– طبعًا يا معلم.

فقال الرجل بصوتٍ غليظ: ألا تذكُر الثروة التي رميته بها في تلك الليلة؟

فهزَّ الشاب رأسه بالإيجاب وقد داخَله قلق للهجة الرجل، أما المعلم فاستطرد قائلًا: في تلك الليلة شاهدت وشاهد جميع الزبائن منظرًا عجبًا، فعلى أثر ذهابك انتبذ أبو سنة مكانًا خاليًا وجلس ويده تُمسِك بالورقة الثمينة. ولم تكن عادته أن يجلس صامتًا؛ فهو إما أن يُضاحك القوم أو يغنِّيهم ويُنشدهم، أما في تلك الساعة الرهيبة فقد انكمش مضطربًا وجعل يختلس من الجالسين نظرات الريبة والقلق، ويُمعن في الورقة نظرًا يتنازعه الشك واليقين والذُّعر والأمل، ودنوت منه وطلبت إليه أن يُطلعني على الورقة، فأطلعني عليها وهو قابض على طرفها فعرفتها، وأمَّنت على قولك له دهشًا مُتعجبًا، وقلت له: لقد أتتك ثروةٌ واسعة. وكان محطَّ الأنظار ومثار الاهتمام والهمس، وكنت أتوقَّع أن يُغادِر المكان سريعًا، ولكنه ظل ذاهلًا يتناوب على عينَيه نور فرح مُخيف والتِماع ذعر مُريب. ولعله كان في حيرة من أمره لا يدري أين يذهب؛ فهو آمنٌ وسط الجميع، ولكن أنَّى له الأمان إذا انفرد في الطريق أو أوى إلى كوخه في مدينة الصفائح؟ ومدينة الصفائح لا يعرف أهلوها من العملة سوى الملاليم، ولا يغمض لها جفن إذا علمت أن بين حدودها ورقة من ذات العشرة جنيهات، فما العمل؟ بات خائفًا مذعورًا وأمسى الجميع أعداءه.

وسكت الرجل دقيقةً ثم رمق الشاب بعينَين أحرق الاحمرار أشفارهما، واستطرد: وأغلب الظن أن القلق أثار أعصابه وحرَّضه على الاستهتار، فما كان منه إلا أن قام بَغتةً وقال بصوتٍ مبحوح: «السلام عليكم يا إخوان.» وغادَر القهوة على عجَل، ولكنه بدلًا من أن يسير إلى مدينة الصفائح حيث زوجه وأُسرته انحرف إلى اليمين وأوسع الخُطى حتی ابتلعته الظُّلمة. وأحدث انحرافه دهشة فتبعه أحد الرفاق، وغاب زمنًا يسيرًا ثم كرَّ راجعًا وهو يصيح ضاحكًا: «ألا تعلمون .. إن الرجل المعتوه يعدو بقوة كأنما يُطارده مُطارِدٌ عنيف.» وأحدثت عبارة الرجل عاصفة من الضحك والسخر واللعن، وهكذا غادرنا أبو سنة.

وذاع الخبر حتى بلغ مدينة الصفائح، فجاءت أسرة المغني على عجَل، وتبعها قومٌ كثيرون ممن يشتغلون بجمع الأعقاب ولمِّ الورق القذر وسألوا عن جلية الأمر؛ فلما أن صحَّ بينهم الخبر انعقدت ألسنتهم من الدهشة، وظنوا أن المغني ذهب ليدفن کنزه في مكانٍ أمين فقعدوا ينتظرون، وطال بهم الانتظار على غير جدوى، فجزع الأكثرون وتفرَّقوا ولم يبقَ إلا أفراد أسرته، ولبثوا طويلًا يترقبون ولكن أبا سنة لم يعُد.

وهنا غلب السعال على «المعلم» فمنعه عن إتمام حديثه، وانتظر دانش حتی رد إليه النفس واستحثَّه بنظرة عينَيه القلقتين فاستطرد الرجل: کلا لم يعد أبو سنة .. وما كان ليعود .. لقد هجر أسرته ومدينته وصحبه إلى الأبد، باعهم جميعًا بتلك الورقة السحرية، ولما طالت غيبته رثى بعض إخوانه لحال أسرته، فخرج في طلبه والبحث عنه. ومن ذلك اليوم ترامت إلينا أخبارٌ عجيبة، فقيل إن المغني التائه قادته قدماه إلى الأزبكية، وإن بغيًّا وقعت في هواه وأوقعته في شراكها، ثم قيل إنه اشتغل بالغناء في قهوة بلدية بالأحياء الموبوءة، وأخذ الكثيرون يتحدثون عنه بلغة الأساطير والخرافات، فقالوا: إن الدنيا تبسم له، وأنها في إقبال عليه يتزايد يومًا بعد يوم؛ فالأموال تتقاطر عليه من كل يد والنساء يتهافتن عليه من كل باب، وإنه بطر وطغى وفرض السطوة وجبى الإتاوة ونشر الرعب.

كانت أخبارًا غريبة يعزُّ تصديقها، ولكنها فتنت شباب مدينة الصفائح وأثارت الطمع في قلوبهم، فلحِق به نفر منهم إلى مهاوي الفجور، ومدُّوا إليه يد الأخوة، وقاسَموه الخير والشر، فكانوا سواعده إلى الإثم والفجور والإرهاب.

ولبثت تلك الحياة ما لبثت، ثم انقطعت على أسوأ حال، وقيل في ذلك إن الرجل رجع يومًا إلى مخدع عشيقة له على غير مَوعد، فوجدها بين يدَي أحد أتباعه، فكبُر عليه الأمر وأعماه الغضب، فاستلَّ خنجره وقتل به الاثنين، وقُبِض عليه وعلى عصابته، وامتدَّت يد القانون إلى مدينة الصفائح مَنبت ذاك الشر، وانتهى الأمر فشُنِق أبو سنة وسُجِن أتباعه، وهُدمت المدينة المظلومة .. وسبحان من له الدوام یا بك!

كان دانش يُصغي إلى مُحدِّثه في ذهول، وسمعه يختم حديثه بلهجةٍ مريرة ساخطة، فسَرَت في جسمه هزةٌ عنيفة، ولم تعد أعصابه تحتمل الجلوس فقام مُنزعجًا، وغادَر القهوة دون أن يُلقيَ عليها نظرة وداع.

کان کئيبًا مُنقبِض الصدر.

وكان يتذكر تلك الليلة السعيدة حين غلبته نشوة الفرح فغمر بفيضه بعض القلوب، ويتعجَّب. كان ليلتها سعيدًا فرحًا يَنشُد السعادة للجميع، فكيف انقلب غرضه عليه؟ .. كيف خانه الهدف فدمَّر مدينة وشرَّد أهلها؟

وا أسفاه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤