صوت من العالم الآخر

١

يا إلهي ماذا يعوز هذا القبر من طيِّبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذَّ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفُرِش بأفخر الأثاث وأجمل الرياش، وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي، وفيه مخزن مُفعَم بالحبوب والبقول والفاكهة، وها هي ذي مكتبتي حُملت إليه بمجلداتها الحكمية، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام، هي الدنيا كما عهدتها، ولكن هل ثَمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبِيَ حاجة إلى متعة من مُتعها؟! جهدٌ ضائع ذلك الذي بذله الذين هيَّئوا هذه المقبرة، بيدَ أني لا أستطيع أن أنكر أمرًا غريبًا هو أنه ما فتئت نفسي تُنازعني إلى القلم. يا عجبًا! ما لهذه الأوراق تُناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمحُ منه الموت مَنازع الضعف والهوى؟ أقُضيَ علينا — مَعشر الكُتاب — أن تشقی بضاعتنا في الحياتَين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية، فلأشغل هذا الفراغ بالقلم؛ فلطالما زان القلم الفراغ الجميل.

رباه! ألا زِلت أذكُر ذلك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبل الغروب، بعد عملٍ شاقٍّ تعنَّاني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير: «توتي .. كُفَّ عن العمل ولا تشقَّ على نفسك.» .. وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعَّتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود، فأخذت في طريقي المعهود مُتسمتًا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بیتي الجميل.

يا آمون المعبود، ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل، فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع، ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المُضني، أما هذه الرعشة المُزلزلة، فطارئٌ جديد امتلأت منه رعبًا. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتی يُورِده التهلكة؟ انطوِ يا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك، واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يُناديك. وأخذت في الطريق قلقًا مُتأوهًا، وعند عتبة البيت طالَعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي، فهتفت بي: «توتي أيها المسكين، ما لك تنتفض؟ ما لعينَيك مُظلمتَين؟!» فقلت لها محزونًا مُكتئبًا: «يا أختاه .. وقع المحظور … وحلَّ الخبيث بجسم زوجك، هيِّئي الفراش ودثِّريني، ونادي الحكيم والأبناء والأحباب، قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه فاضرعوا معه، واسألوا له الشفاء.» وحملتني التي تهواني على صدرها، وجاء الحكيم يُجرِّعني الدواء، وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: «توتي .. أيها الكاتب الكبير، يا خادم الأمير الجليل، أنت في حاجة لرحمة الرب، فادعه من أعماق قلبك.» ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلَّت حِكمتك، ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؟ بلى أيها الرب، ونجوت من الرماة والعجَلات والمعارك؛ فكيف يتهدَّدني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمَّى، واشتدَّ الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. وما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمَين ثابتتَين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزُّك الدموع ولا تستعطفك الآمال، تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام، ثم لا تُبدِّل سُنَّتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة، إنها لم تسؤني قطُّ ولم أزهد فيها أبدًا. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورًا والآمال كبارًا، ألم تُحِط بكل أولئك خبرًا؟ ومن حولي قلوب مُحبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعيُن الدامعة؟ كأني لم أعِش ساعةً واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جرَّبت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غدًا؟ أي نشوات ستُخمَد؟ أي عواطف ستُهمَد؟ أي المسرَّات ستبيد؟ ذكرت ذلك جميعه، ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرَت أمام حواسِّي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه. وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى الفناء؟ وانقبض صدري أيَّما انقباض، وامتلأت حزنًا وکمدًا، وهتفت کل جارحة بي: «لا أريد أن أموت.» وتتابعت جحافل الليل، فغلب النوم الصغار، ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا، ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزُرقة الفجر، هنالك داخَلني شعورٌ غريب بالرهبة وتولَّاني إحساس بالخوف، وأطبق السكون وأنذر بشيءٍ خطير، ثم شعرت بيد أمي تُدلِّك قدمي وتقول بصوتٍ مُتهدج: «بُنَي .. بُنَي.» وهتفت زوجي المحبوب: «توتي .. ماذا تجد؟» ولكني لم أستطِع جوابًا، لا شك أن أمرًا استثار جزعهما، تُرى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحوَّلت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مُغلَقًا بيدَ أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب، فعرفته دون سابق معرفة؛ فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خُطًى غير مسموعة. كان مَهِيبًا صامتًا مُبتسمًا ذا جمال لا يُقاوَم سِحره فلم تتحوَّل عنه عیناي، ولم أعد أری من شيءٍ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يُطاوعني اللسان، وكأني به قد أدرك نیَّتي الخفية، فازدادت ابتسامته اتساعًا، فآنست منه رفقًا، ولم أعد أُبالي شيئًا. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته، وغفلت عن دموع من حولي، ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم أعهدها من قبل. سلَّمت في محبة لا نهائية، وتركت جسمي في المعركة وحيدًا. رأيت — دون مُبالاة البتة — دمي يُقاوم في عروقي، وقلبي يدقُّ ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض، وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتُحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مُبالاة ولا اكتراث، وقد تحوَّل الرسول عني إلى جسمي، وأخذ في مباشرة مَهمَّته في ثقة وطمأنينة والابتسامةُ لا تُفارِق شفتَيه الجميلتين، وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تُذعن لمشيئته فتُفارِق القدمَين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد، والأعضاء تهمد، والقلب يسكت، حتی غادرت الفم المفغور في زفرةٍ عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد، وذهب الرسول کما جاء دون أن يشعر به أحد، وغمرني شعورٌ عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا.

٢

غمرني شعورٌ عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا، ماذا حدث؟! وما الذي تغيَّر في؟! ما زلت في الحجرة، والحجرة كما كانت؛ فأمي وزوجي تحنوان على جسمي، ولكن حدث شيء بلا ريب، بل أخطر الأشياء جميعًا، لم أُوخَذ على غِرَّة، ولو كان بي قدرة على الكلام لأجبتُ زوجي حين سألتني «توتي ماذا تجد؟» بأني أموت، ولكني فقدت قدرتي على الكلام وغيره فلم أوخذ على غِرَّة كما قلت، وشعرت بزورة الموت كما يشعر المضطجع بدبيب الكرى وتخدير النعاس، ثم رأيته جهرة. والذي لا شك فيه أن الموت ليس مؤلمًا ولا مُفزِعًا كما يتوهَّم البشر، ولو عرف حقيقتَه الحيُّ لنشده كما يَنشد الخمر المُعتَّقة، وفضلًا عن هذا وذاك فلا يُخامر المحتضرَ أسفٌ ولا حزن، بل الحياة تبدو شيئًا تافهًا حقيرًا إذا ما تخايل في الأفق ذاك النور الإلهي البهيج. كنت مُكبَّلًا بالأغلال فانفكَّت أغلالي، كنت حبيسًا في قمقم فانطلق سراحي، كنت ثقيلًا مشدودًا إلى الأرض فخلصت من ثقلي وأرسلت وثاقي، کنت محدودًا فصِرت بغير حدود، كنت حواسَّ قصيرة المدى فانقلبت حسًّا شاملًا كله بصر وكله سمع وكله عقل، فاستطعت أن أدرك في وقتٍ واحد ما فوقي وما تحتي وما يُحيط بي، كأنما هجرت الجسم الراقد أمامي لأتَّخذ من الكون جميعًا جسمًا جديدًا. حدث هذا التغيير الشامل الذي يجلُّ عن الوصف في لحظة من الزمان، بيدَ أني ما برحت أشعر بأني لم أُغادر الحجرة التي شهدت أسعد أيام حياتي السابقة، كأن العناية وكلتني بجسمي القديم حتى ينتهي إلى مستقره الأخير، فجعلت أتأمَّل ما حولي في سكون وعدم اكتراث. وقد غشيَ جوَّ الحجرة حزنٌ وکآبة، وأخذت أمي وزوجي تتعاونان على إنامة جسمي — صاحبي القديم — بملامحه المعهودة راقدًا لا حراك به، وقد ابيضَّ لونه وشابته زُرقة وتراخت أعضاؤه وأطبق جفناه، ونادتا أبنائي والخدم .. وراحوا جميعًا يعولون وينتحبون. ومضى الحاضرون يسكبون عليه الدمع الغزير يكادون يهلكون كمدًا وحزنًا وغمًّا. ومضيت أنظر إليهم بعدم اكتراث غريب كأنه لم تربطني بهم يومًا آصرة قُربى. ما هذا الجسم الميت؟ لماذا تصرخ هذه المخلوقات؟ ما هذا الأسى الذي جعل من سحنهم دمامةً شوهاء؟ كلَّا لم أعد من أهل هذه الدنيا، ولم يردَّني إليها صراخ أو بكاء، ووددت لو تنقطع أسبابي بها لأُحلِّق في عالمي الجديد، ولكن وا أسفاه، إن بقية من حريتي لم تزَل عزيزة عليَّ أسيرة إلى حين، فلآخذ نفسي بالصبر وإن شقَّ عليَّ. وجاءت أمي بملاءة وسجت الجثة ثم أخرجت العيال والخدم، وأخذت زوجي من يدها وغادرتا الحجرة وأغلقتا الباب. لم يغيبا عن ناظري؛ لأن الجدران لم تعد حائلًا يحجب شيئًا عن بصري، فرأيتهما وهما تُغيِّران ملابسهما وترتديان السواد، ثم اتجهتا نحو فناء الدار وهما تحلَّان ضفائرهما وتحثوان التراب على رأسَيهما، وخلعتا النعال وهُرِعتا إلى باب الدار، وانطلقتا تُصوِّتان وتلدمان، ومضت أمي تصرخ: «وا ابناه!» فتصرخ زوجي: «وا زوجاه!» ثم تهتفان معًا: «يا رحمتا لك يا توتي المسكين! خَطِفك الموت ولم يرحم شبابك.» وتركتا الدار على تلك الحال من العويل والنواح، وأخذتا في طريقهما، حتى إذا مرَّتا بأول دار تليهما برزت لهما ربة الدار في ارتياع وصاحت بهما: «ما لكما يا أُختيَّ؟» فأجابت المرأتان: «خربت الدار، تیتَّم الصغار، وثكلت الأم، وترمَّلت الزوج، يا رحمة لك يا توتي.» .. فصوَّتت المرأة من أعماق صدرها وصاحت: «وا حرَّ قلباه .. يا خسارة الشباب .. يا ضيعة الآمال!» .. وتبعت المرأتَين وهي تحثو التراب على رأسها وتلطم خدَّيها، وكلما مررن بدارٍ برزت ربَّتها وانضمَّت إليهن، حتى انتظم الحشد نساء القرية جميعًا، وتقدَّمتهن امرأةٌ دربة بالنياحة، فجعلت تُردِّد اسمي وتُعدِّد فضائلي، وذهبن يقطعن طرقات القرية باعثات الحزن والأسى في كل مكان. هذا اسمي تُردِّده النائحات، ما له لا يُحرِّكني؟!

أجل، لقد صار الاسم غريبًا غرابة هذه الجثة المُسجَّاة، وبِتُّ أتساءل: متى ينتهي هذا كله؟ متى ينتهي هذا كله؟! وعندما أتى المساء جاء الرجال وحملوا الجثة إلى بيت التحنيط والصراخ يُطبق علينا، ووضعوها على السرير بالحجرة المقدسة، وكانت الحجرة مستطيلةً ذات اتساع كبير، وليس بها من نافذة إلا كوة تتوسَّط السقف، وفي الصدر قام السرير، وعلى الجانبَين رُفعت رفوفٌ رُصَّت عليها أدوات الكيمياء، وفي الوسط — تحت الكوة — حوضٌ كبير مليء بالسائل العجيب، وخرج الرجال فلم يبقَ إلا رجلان، وكان الرجلان حکيمَين من المشهود لهما في فنهما فأخذا في عملهما دون إبطاء، وقد جاء أحدهما بطست ووضعه على كثب من السرير، وتعاونا معًا على تجريد الجثة من ملابسها حتى بدت عارية لا يحجبها شيء. فعلا ذلك في هدوء وعدم اكتراث، ثم قال الذي جاء بالطست وهو يغمز عضلات صدري وذراعي: «كان رجلًا قويًّا .. انظر.» فقال الآخر: «کان توتي من رجال الأمير، يؤاكله ويُشاربه، وفضلًا عن ذلك فقد خاض غمار الحروب.» فقال الذي جاء بالطست مُتحسرًا: «لو أن الأجسام تُعار!» فأجابه الآخر ضاحكًا: «أيها العجوز، ما جدوی جسد ميت؟!» فقال وهو يهزُّ رأسه: «وكان قويًّا حقًّا.»

فقال الآخر ضاحكًا وهو يتناول خنجرًا طويلًا حادًّا من أحد الرفوف: «فلنختبر قوته.» وطعن الجانب الأيسر فيما يلي الصدر بخنجره حتى غاب نصله، وشقه حتى أعلى الفخذ، وأعمل في الداخل يده بمهارة ودربة، ثم استخرج الأمعاء والمعدة وأودعهما الطست، وقفَّاهما بالكبد والقلب، فسرعان ما رأيت باطني جميعًا. ولم يستغرق ذلك إلا دقائق معدودة؛ فالرجال من مهرة المُحنِّطين الذين أتقنوا عملهم أيَّما إتقان، ورحت أنظر إلى باطني بعناية، وبخاصة إلى معدتي التي عُرفت بقوتها ونشاطها، ولم يحُلْ غِلافها دون رؤية ما بداخلها بفضل تلك القوة السحرية التي اكتسبها بصري، فرأيت فيها مضغ الإوزَّة والتين وبقايا النبيذ التي تناولتها على مائدة الأمير مساء الأمس، وذكرت قوله حين عزم عليَّ بالطعام: «كلْ يا توتي واشرب، وتمتَّع بالحياة أيها الرجل الأمين.» رأيت وذكرت دون أن يعروني أيُّ أثر أو انفعال، ودون أن يُزايلني عدم الاكتراث العجيب، ثم حوَّلت بصري إلى قلبي فرأيت عالمًا حافلًا بالعجائب، رأيت بشغافه آثار الحب والحزن والسرور والغضب، وصور الأحبَّة والرفاق والأعداء، وقد ترك الهيام بالمجد به فجوةً عمَّقها ما خضت من معارك في بلاد زاهي والنوبة، ولاحت على رقعته مشاهد مُروِّعة لميادين القتال، وأجزاء مُلتهبة دامية من أثر ذلك الطمع العنيف الذي بعثني للكفاح بلا رحمة حتی ضممت إلى أرض أسرتي قطعة أرض تُجاورها نازَعني عليها جارٌ بضع سنين. رأيت فيه جل حياتي وما عانيت من الأهواء، أما الرجل فمضى في عمله يحدوه الهدوء والمران، فأتى بكلَّابٍ دقيق وأولجه في أنفي باحتراس حتى تمكَّن من هدفه، ثم وجَّهه بدراية وعنف وجذبه بسرعة، فسال مخِّي الكبير من منخريَّ مادة رخوة تذرو في الهواء ما تجمَّع فيها من لوامع الفكر ولآلئ الآمال ودخان الأحلام. هذه أفكاري منقوشةٌ أمام عيني، فإذا قارنتها بنور الحق الذي يتخايل لروحي بدت تافهةً مُشوَّهة، لقد قاتلها المثوى الذي أوَت إليه؛ رأسي ومخي. ها أنا ذا أقرأ القصيدة التي صغتها في وصف قادش، وها هي ذي الخُطب التي ألقيتها بين يدَي الأمير في المناسبات المختلفة، وهذه آرائي في آداب السلوك، وهذه الحِكم التي حفظتها عن حقائق النجوم كما جاءت في كتب قاقمنا؛ كل أولئك أزاحه الرجل مع فتات المخ فاستقرَّ بين الأمعاء والمعدة في الطست الدامي، غير ما تناثَر على الأرض فداسته الأقدام. قال الحكيم وهو يُعيد الكلَّاب إلى موضعه: «الآن صارت الجثة نظيفة.» فقال صاحبه ضاحكًا: «ليتك تجد بعد موتك يدًا ماهرة كيدِك!» وحمل الحكيمان ما تبقَّى من جسمي إلى الحوض الكبير وأناماه فيه، فامتلأ بالسائل الساحر وغرق فيه، ثم غسلا أيديَهما وغادرا المكان، وقد أدركت أن الحجرة لن يُعاد فتحها قبل كرور سبعين يومًا — مدة التحنيط — فمسَّني الجزع. وقع في نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم لأُلقيَ عليه نظرة الوداع.

٣

أسترق إلى نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم فانطلقت، لم تحدث حركة في الواقع، وإنما كان يكفي أن يتَّجه فِكري إلى شيء حتى أجده ماثلًا أمامي، بل الواقع أعظم من ذلك؛ فقد صار بصري شيئًا عجيبًا، لا يعصي أمرَه شيء، صار قوةً خارقة تشقُّ الحُجب وتتخطى السدود وتَنفُذ إلى الضمائر والأعماق. بيدَ أني — وقد حمَّ الوداع — نازَعني الفكر إلى أهلي فوجدت نفسي في داري. أما الصغار فقد راحوا في نومٍ عميق لا يُزعجه مُکدِّر، وأما زوجي وأمي فقد افترشتا الأرض ولاح في وجهَيهما الهمُّ والغم. لشدَّ ما أعياهما الحزن والبكاء! وغدًا يتضاعف حزنهما عند تشييع التابوت إلى مثواه الأبدي. وقد تغلغل روحي في فؤادَيهما فتحرَّك رأساهما وتمثَّلت لهما في الأحلام، ورأيت القلبَين المحزونين يخفقان في كمد وألم. فيمَ كان كل هذا الكدر؟! بيدَ أن شيئًا استرعی بصري؛ رأيت في سُويداء القلبَين نقطةً بيضاء، فعرفتها — فما عاد يخفى عليَّ علمُ شيء — فهي بذرة النسيان! آه .. ستكبر هذه النقطة وتنتشر حتى تشمل القلب كله. أجل أدركت هذا حق الإدراك، ولكن بغير مُبالاة فلم أعد أكترث لشيء، وتساءلت مَسُوقًا بلذة المعرفة: متي يمكن أن يحدث هذا؟! فأرَتني عيناي العجيبتان صورة من المستقبل؛ رأيت أمي تُمسِك غلامًا بيُمناها وتشقُّ طريقها وسط زحام شديد مُلوِّحةً بزهرة اللوتس، فعلمت أنها خرجت — أو أنها ستخرج — للمشاركة في أسعد أعياد قريتنا، عيد الإلهة إيزيس، كان وجهها مُتهلِّلًا وكان ابني يهتف ضاحكًا، ورأيت زوجي تُهيِّئ مائدة — والطعام خيرُ ما تصنع في دنياها — وتدعو إليها رجلًا أعرفه؛ فهو ابن خالها ساو، ونعم الزوج هو، ولو أن ميتًا يُسَر لسُررتُ لها؛ لأن ساو رجلٌ فاضل، وهو خير من يُسعد زوجي ويرعى أبنائي. وانصرفت روحي عن داري، فمرَّت في سبيلها بقصر أميري المحبوب، فشاهدت عقل الأمير ووجدته مُتأسفًا لفقدي، وهو الذي قدَّرني أجمل التقدير وجازاني خير الجزاء. ووجدته مشغولًا باختيار خلف لي، فقرأت في ذاكرته اسم المُرشَّح الجديد «آب رع»، وكان من مرءوسيَّ النابهين وإن لم تتَّصل بيننا أسباب المودة.

كل هذا جميل، ولكن إلامَ أبقى في قريتي واليوم يستقبل فرعون رسول الحيثيين لتوقيع معاهدة الصلح والسلام. رأيت منف — في لمح البصر — تعجُّ بجمهورها الحاشد، والقصر في أروع مَنظر. وقد اجتمع في بهو العرش العظيم الملكُ والرسول والكهنة والنُّبلاء والقُواد، هؤلاء هم سادة الدنيا قد جمعهم مكانٌ واحد. وهذا فرعون المُظفَّر يُحدِّث رسول الحيثيين الجبابرة في جو بالمودة عامر. أما صدر الملك فقد امتلأ احتقارًا، وتردَّدت بأعماقه هذه العبارة: «لا بد مما ليس منه بد.» وأما صدر الرسول فقد بضَّ كراهية، وتحيَّرت به هذه الفكرة: «صبرًا حتی يموت هذا الملك القوي.» ونشطت عیناي، فرأيت الوجوه والملابس والقلوب والعقول والبطون، رأيت عالمَيَّ الظاهر والباطن بغير حجاب، وتسلَّیت زمنًا بتفحص ما في البطون من طعامٍ فاخر وشرابٍ مُعتَّق، حتى عثرت بمعدة كاهن على بصل وثوم! وهما مُحرَّمان على الكهنة، وتساءلت: تُری کیف غافَل هذا الرجل الورع أقرانه ودسَّ هذا الطعام في جوفه؟! ولمحت في ناحية من معدة أحد النبلاء دبيب المرض الذي أودى بحياتي، وكان الرجل يُحاوِر قائدًا في سرور وانشراح، فقلت له في نفسي: «على الرحب والسعة.» ثم وقع بصري على الحاكم تيتي الذي اشتُهر بالقسوة والبطش حتی لیُوالي فرعون النصح له بالاعتدال مع رعايا إقليمه، فنظرت إليه بإمعان وسرعان ما تكشَّف لي عن جسمٍ مهزول مریض الأعضاء، لا يفتأ يشكو مُرَّ الشكوى أسنانه ومفاصله. وكلما ألحَّ عليه الألم تمنَّى لو يستطيع بَتْر الفاسد من جسمه؛ ولذلك تملَّكته فكرة البتر بقسوة فلا يتردد عن بترِ المعوجِّ من رعاياه بعنف لا يعرف الرحمة. وإلى جانب تیتي شاهدت الوزير مينا؛ ذلك الرجل العنيد الذي يُحارِب فكرة الصلح بكل قُواه، وطالما حرَّض على القتال، وتساءلت: تُرى ما سرُّ عناد هذا الوزير الخطير؟ رأيت عقله نيِّرًا، ولكن أمعاءه ضعيفة، فستبقى فضلات الطعام طويلًا فتُلوث دمه في دورته فيذهب إلى عقله فاسدًا ويغشى نور أفكاره، حتى إذا خرجت من فمه کانت ذات شر كبير. والرجل مُقتنِع برأيه يراه واضحًا مستقيمًا كما أرى مخه مُسودًّا مُلوَّثًا؛ ثم دار بصري بالصدور يستقرئها خفاياها الكامنة وراء بسمات الثغور. هذا صدرٌ ثقل عليه الملل فهمس صاحبه: «متی العودة إلى القصر حيث السماع والقيان؟» وهذا صدرٌ يتوجع قائلًا: «لو مات الرجل بمرضه لكنت الآن قائدًا على فرقة الرماح.» وذاك صدرٌ يقول في جزع مُتسائلًا: «متى يقوم الأحمق برحلته التفتيشية فأُهرَع إلى زوجه الحسناء الحيوية؟ .. آه!» وقال صدر لصاحبه في الأعماق: «لا يدري إنسان متى يحين الأجل؛ فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخِّر بناء مقبرتي، أو فما فائدة المال إذَن؟!» وتولَّت الحيرة صدرًا كبيرًا فجعل يقول لصاحبه: «قال إخناتون إن الرب هو آتون، وقال حار محب إنه آمون، وهناك قومٌ يعبدون رع، فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟» ولم أُواصل الاستطلاع طويلًا في هذا الحفل الفرعوني الجليل؛ إذ سرعان ما أدركني الملل فتحوَّلت عنه، ووجدت نفسي مرةً أخرى في الدنيا الواسعة.

ومرَّت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرةً ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكوَّن في رحم، فرأيته يكتسي لحمًا وعظمًا، وشهدت مولده، وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلًا وصبيًّا وغلامًا وشابًّا وکهلًا وشیخًا وميتًا، وشاهد ما اعتوره من حادثات وحالات سرور وحزن ورضًا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأيت ذلك جميعه في دقيقة من الزمان، حتى يختلط في أُذني بكاء الميلاد وشهقة الموت. وغلبتني على أمري رغبةٌ جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات، واستلذذت كثيرًا وقوع الحالات المُتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن؛ فهذا وجهٌ يضحك ويُقطِّب ثم يضحك ويُقطِّب عشرات المرَّات في جزء من الثانية، وهذه امرأةٌ تتيه حسنًا وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان، ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن؛ هذا وغيره مما لا يُحيط به حصرٌ جعل الحياة مَهزلة؛ فلو أن میتًا يضحك لأغرقت في الضحك، وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير. رغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري، ورنوت إليهم من بعيد جمعًا غفيرًا لا يحدُّه شيء، تضاءلت الحجوم وطُمست المعالم وانعدمت الفوارق، فصاروا كتلةً واحدة، ساكنةً صامتة، لا حياة فيها ولا حركة. رحت أُلقي البصر في دهشة وحيرة حتى ألِفت المنظر، فتكشَّف لي عن جانبٍ جديد كان من قبلُ خافيًا.

رأيت ذاك الظلام الساكن يشعُّ نورًا شاملًا؛ فإن الأنوار الخافتة المُتهافتة التي تخفق في كل مخ — على حدة — ضعيفةٌ خابية، اتصلت في المجموع المُلتحم المُتماسك ولاحت نورًا قويًّا باهرًا. رأيت في لمعتها حقًّا باهرًا وخيرًا صافيًا وجمالًا مُتألقًا فازددت دهشةً وحيرة. ربَّاه لشدَّ ما تُعاني الروح وتتعذب، ولكنها تُبدع وتخلق على رغم كل شيء. ربَّاه لقد رأى توتي أمورًا جليلة وليرَينَّ أمورًا أجلَّ وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من السماء التي سأُعرِّج إليها. وغضضت البصر وولَّيت الدنيا ظهري، فوجدت نفسي في حجرة التحنيط المقدسة، وقد ملأ روحي سرورٌ إلهي لا يوصف.

وانتهت أيام التحنيط السبعون؛ فجاء الرجال مرةً أخرى، واستخرجوا الجثة من الحوض وأدرجوها في الأكفان، وأتَوا بالتابوت وقد زانوا غطاءه بصورةٍ جميلة لتوتي الشاب ووضعوا فيه الجثة، ثم رفعوه إلى أعناقهم وساروا به إلى الخارج، فتلقَّاه المُشيِّعون من الأهل والجيران بالعويل واللطم، وعاد النواح كأفظع مما كان يوم النعي، وذهبوا إلى شاطئ النيل وهبطوا إلى سفينةٍ كبيرة أقلعت بهم صوب مدينة الأبدية على الشاطئ الغربي، والتفُّوا بالتابوت يُصوِّتون وينوحون، قالت أمي: «ولا جفَّ لي دمع، ولا اطمأنَّ لي قلب من بعدك يا توتي!» وصاحت زوجي: «لماذا قُضي عليَّ بأن أعيش بعدك يا زوجي؟!»

وقال حاجب الأمير: «توتي أيها الكاتب المجيد، لقد تركتَ مكانك شاغرًا.»

ولبثت أنظر بهاتَين العينين اللتين تنكَّرتا لماضيهما، وكأن سببًا لم يصلني بهذه الدنيا ولا بهؤلاء الناس، ورسَت السفينة إلى الشاطئ فرفعوا التابوت مرةً أخرى، ومضَوا به إلى المقبرة التي أنفقت في تشييدها جُلَّ ثروتي، وأحلُّوه موضعه من الحجرة. وفي أثناء ذلك كان جماعة من الكهنة يتلون بعض الآيات من كتاب الموتى يُلقِّنونني التعاليم الهادية من أقوم سبیل! ثم جعلوا ينسحبون تباعًا حتی خلا القبر، ولم يعد يُسمَع من شيء إلا العويل الآتي من بعيد. وأُغلقت الأبواب وهيلت عليها الرمال، فانقطعت كل صلة بين العالم الذي ودَّعت والدنيا التي أستقبل.

•••

ملاحظة: هنا انقطعت الكتابة في المخطوط الهيروغليفي، ولعل فترة الانتظار التي أشار إليها الكاتب في أول كتابته كانت قد انتهت، ولعل رحلته الأبدية كانت قد بدأت فشُغِل بها عن قلمه المحبوب، وعن كل شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤