خيانة في رسائل

– هذه أول أزمة تُصيب حُبَّنا! نعم، طالما آلَمني الفراق الهيِّن، وأجهدني الشوق إلى اللقاء، وعذَّبني الدلال. أما الوداع، أما الرحيل إلى قنا، فذا أمرٌ جدید يدفع إلى نفسي شعورًا بالحزن لا عهد لها به؛ فهلَّا عدلت عن السفر!

– لو كان الأمر إليَّ ما رغِبَت نفسي أدنى رغبة في السفر، فما أحفل بقضاء الشتاء في أعالي الصعيد بعض احتفالي بالقرب منك كيما أُواصل هذا اللقاء السعيد! ولكن ما حيلتي وهذا ما يريده أبي ويفعله منذ أُحيلَ إلى المعاش. ولقد اعتاد أن يُمضيَ شهرًا أو شهرَين من الشتاء في قنا عند عمي الدكتور.

– يستطيع عقلي أن يتصوَّر المعجزات، ولكن لا أستطيع أن أتصوَّر ما عسی أن تكون عليه حياتي في هذَين الشهرين؛ فهذا الحب غدا حياةً لشعوري، وهذا اللقاء أمسى أُلفةً لنفسي، أجد فيهما راحةً بعد تعب، وعزاءً عن شوقٍ دائم، فما عسى أن أصنع؟ بل ما يكون زادي وسَلْوتي؟

فوضعَت يدًا خمريةً ناعمة على كتفه، وداعبَت بأطراف أناملها خدَّه، وهمست في أذنه: هذا شعوري وهذا حزني، ولولا كراهيتي للعزاء لنصحت لك بالتعزي والتلهي؛ فليس أمامنا سوى الصبر الجميل حتى ينطويَ دهرُ الفراق ويتَّصل حبل اللقاء .. ومع هذا فما أسعدَك وما أبأسني!

– كيف؟

– لن أسعد بقراءة كلمة طَوالَ مدة غيابي؛ لأنك لا تستطيع أن تكتب إليَّ، أما أنت فتستطيع أن تطَّلع على همسات روحي كلما مكَّنَتني الفُرص من اختلاس الكتابة إليك .. فأيُّنا أسعد حظًّا؟

– من تؤاتیه فُرَص التعبير فيُخفِّف من مَراجل عاطفته.

وهنا ظلَّلت وجهَه سحابةُ كدر، وسألها بعد تردد: هل لكِ أبناء عم؟

فابتسمَت ابتسامة دلَّت على أنها سُرَّت للقلق الذي بعثه هذا السؤال، وأجابته: نعم لي .. ولكنهم لم يُجاوزوا عهد الطفولة، ولو كان الأمر كما تتوهَّم ما أوجب أدنى خوف أيها الرعديد الغيور .. والآن هات فمك أُودِّعك … وهيَّا نقول معًا هذه الكلمة المُروِّعة التي تفزع لها القلوب: «أستودعك الله.»

من الغد يصبح لنا في قنا حبيبان عزيزان؛ حبيبة القلب عائدة، وصديق الصِّبا وزميل عهد الدراسة الأستاذ أحمد مرزوق المُدرِّس بمدرسة قنا، ولكنه بينما يتَّصل بصديقه بالكتابة فهو محروم بحكم الظروف من تمام هذا الاتصال الروحي بحبيبته؛ لأن حبهما ما يزال سرًّا خفيًّا لمَّا يَدرِ بأمره الأهل.

وانقضَت أربعة أيام على سفر عائدة، ثم وصله منها كتابٌ جاء فيه:

«حبيبي حسني، أعجَبُ لهذه الوحشة كيف تجثم على صدري وأنت معي .. نعم أنت معي لم تُفارقني لحظةً سواء في ضجيج النهار أو في سكون الليل؛ معي وأنا أُرسِل الطَّرْف من نافذة القطار أُشاهد الحقول الممتدَّة وأشجار النخيل المُبعثَرة؛ معي وأنا بين أهل عمي أتلقَّى الأحاديث وأردُّ عليها، وأُضاحك هذا وأسمع لذاك؛ معي في كل مكان وكل حين، فلا عجَب لنفسي بعد ذلك أن هزَّها الحنين إليك، أو استشعرَت وَحشةً وضِيقًا في البعد عنك، أو ألهبَها الشوق عذابًا وجوًی.

وأرجو ألا تتَّهمني بالتكاسل عن الكتابة إليك؛ فبيتُ عمي عامر بالأطفال، وهم لا يتركونني لحظةً أخلو إلى نفسي؛ وقد انبعثت كلمات هذا الكتاب من شعوري، وامتلأ بها عقلي، وتمثلَّت في حواسِّي، وحفظتها عن ظهرِ قلب قبل أن تؤاتيَني الفُرص فأُسطِّرها لك خِلسةً على ضوء القمر المُتسلِّل من نافذة حجرتي، والعيون قد أغمضها عني المنام .. فاعذرني إن تأخَّرت عنك رسائلي، وارجع إن شئت إلى قلبك؛ فاعتقادي أنه يُملي عليك عن لساني ما أحب أن أقوله لك دائمًا.

أما عن قنا فجوُّها دافئٌ جميل، وخلا ذلك فنحن في منفًى، ولولا ما يربحه أبي فيها من صحة وعافيةٍ ما تركته يسكن إليها لحظةً من الزمان.»

فأخذ من الكتاب كل ما استطاع أن يمنحه من العزاء والسلوة والسعادة.

وكان صديقه مرزوق لا ينقطع عن مُراسَلته وإن خلَت كتابته من الطرافة والجِدَّة؛ فهي التحیات المحفوظة وبثُّ الأشواق والتلهُّف على إدبار العام الدراسي وإقبال العُطلة الصيفية، إلا أنه أضاف إلى هذه المحفوظات في آخرِ خطابٍ ما نصُّه:

«طالما قلت لك إني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يَخلق الله منه أُمَّنا حواء. لا يقع بصري على وجه امرأة قَط، وإن كنت أرى أحيانًا بعض الأصدقاء يُشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة تَسِير كعمود من الدخان الكثيف، وأسمعهم يقولون: انظر إلى هذه المرأة.

ولكن وقَع بالأمس ما يُعَد حدثًا تاريخيًّا في حياة قنا؛ إذ حضر الدكتور سامي حسني مُفتِّش الصحة إلى البستان العمومي وفي صُحبته غادةٌ جميلةٌ سافرة الوجه، فهزَّ البلد وزلزل كِيانه. إنه رجلٌ جسور لا يعبأ بآراء المُتزمِّتين، وتجده دائمًا على استعداد للرد على تطفُّل المُتطفِّلين بما يجعله مثلًا وعِبرة، ولم يلبث أن شاع الخبر وملأ الأسماع؛ فهُرِع المُوظَّفون من مُدرسين ومهندسين وكَتبة إلى البستان وهم يُسوُّون أربطة الرقبة ويُحكِمون أوضاع الطربوش على رءوسهم؛ فلو رأيت البستان حينذاك لحسبتَه حديقةً غنَّاء في مصر الجديدة أو قصر النيل.

إنها شابَّةٌ جميلة تحمل في طيَّاتها عطر القاهرة المُعبَّق، فليَهنأ قفرُ قنا بهذا العطر العذب.»

فخفَق قلبه لدى مطالعة الكتاب، ولم يُداخِله أدنى شك في معرفة صاحبة الشخصية الجميلة التي أثارت لوعة الشباب في قنا.

يا له من كلامٍ يحمل فرحًا وألمًا، والألم فيه أكثر! أيجوز أن تَسعد قنا ومن فيها بحبيبته ويبقى هو في القاهرة تسيل نفسه حسراتٍ عليها؟

وهمَّ أن يكتب لصديقه كتابًا يُعلنه فيه بأن الفتاة التي هزَّ مَقدِمها قنا هي حبيبته اليوم، ثم خطيبته غدًا، ولكنه جفل من هذا الإعلان ووجد رغبةً خفيَّة أن يكتمه إياه، وأن يطلب منه أن يُوافيَه بأخبارها التي تستحقُّ الرواية والحديث.

لقد تردَّد لحظةً وطرح على نفسه هذا السؤال: ألا يُعَد هذا تجسسًا منه على حبيبته؟

وهل يجوز هذا في شرع المُحبِّين؟ أوَليس الأفضل أن يربأ بنفسه عن أن يضع صاحبته موضع الاتهام والظِّنة!

ولكن عاطفة الندم هذه لم تستطِع أن تقهر عواطف قلبه الجيَّاشة السوداء، فطرَدها من نفسه وكتب إلى صديقه بما أمْلَت عليه شكوکه من بادئ الأمر.

وبعد حين وصَله کتاب ثانٍ من صديقه جاء فيه عن عائدة ما يلي:

«تغيَّر كل شيء في قنا وكل شيء في حياتي، ولم تَعُد قنا قبرًا مُوحِشًا فاغرًا فاه مُكشِّرًا عن أنيابه، ولم تَعُد حياتي سأمًا ثقيلًا متصلًا. كيف لا يكون هذا وأنا مُطمئنٌّ إلى أني سأحظى أصيلَ كل يوم برؤية ذلك الوجه السافر المُبتسم الذي یُحیي موات النفوس، ويبعث مُصفرَّ الأمل؟ .. ما أجملها، وما أعذبها!

علمت الآن أنها ابنة أخي مُفتِّش الصحة، أو هذا ما علمَته قنا عامةً وعلمه شبابها خاصة. إن جميع العيون تلتهمها التهامَ الجوع؛ فلعل هذه الضجة تُثير الغَيرة في نفوس الآباء الموظفين، فتُشجِّعهم على الاستهتار بتقاليد الصعيد وأهليه، وإبراز بناتهم للعَيان، ومهما يكن من الأمر فنحن الرابحون.

لا تخشَ على أخيك من قهر؛ فهو بطلٌ صنديد، وشخصية لا يُشَق لها غُبار، وإن عيني لتَنفُذان من بين العيون جميعًا وتجذبان عينَيها إليَّ؛ فصبرًا، ولتَعلمنَّ بعد حين في أي مخبأ من مخابئ القدر كانت تنتظره هذه المفاجآت!»

ما هذا الذي يقوله مرزوق من أن عينَيه تجذبان إليه عينَيها؟ إن لعينَي مرزوق أن تجذبا كيف تشاءان .. أما عينا صاحبته فما بالهما تنجذبان وتستجيبان؟ .. هلَّا يكون ذلك مجرد نظر بريء، فسَّره صديقه على ما يهوی غروره ويُحب؟ .. إنه لا يشكُّ أبدًا في إخلاص عائدة، ولكن ينبغي ألا ينسى أن لصاحبه عينَين جميلتين يُحسُّ الناظر إليهما سخونة في أعصابه ولذعةً في قلبه، وهو — إلى ذلك — مُدرسٌ محترم من حمَلة الديبلومات العالية، ومن ذوي المستقبل السعيد. أما هو فلم يَزِد على أن يكون موظفًا صغيرًا، كل مُؤهِّلاته شهادة البكالوريا، ومستقبله مُظلِم محدود، أفلا يكون لكل هذه الفوارق أثر في الحب؟

إنه يشعر بحزنٍ عميق يُخيِّم على نفسه فيجعلها من الكآبة كنفسِ هرِمٍ مُتشائم، ويُحسُّ بسمِّ الغيرة ينطلق من قلبه ويلوث دمه .. أواه .. إن أحلامه وآماله تتأرجح على كف رجيم.

وفي ذلك الوقت أتاه كتاب من عائدة، فانكبَّ عليه بلهفة، وتلاه مرةً بعد أخرى، ولم يكن يخرج في معناه عن رسالتها الأولى، فتزعزعت شکوكه، وعاودته الثقة، وذاق بعض الطمأنينة والشفاء، وحمَّل غرور صديقه إثم ما جنى عليه كتابه من الشك والعذاب، ولكنه تسلَّم رسالة من صديقه بعد ذلك بأسبوع، جاء فيها:

«كن على يقين من أن العاطفة النامية لم تَعد قاصرة على جانبٍ واحد؛ فعَيْنا الفتاة — واسمها عائدة — تقتحمان الحاضرين من الشُّبَّان وتستقرَّان عليَّ أنا. إني أطالع في وجهها عند حضوري سِيما الشوق والتطلع تُحاوِل أن تُخفيَهما بعدم اكتراث مُفتعَل، وأقرأ في عينَيها استجابات خفية لرسائلي الصامتة المُلتهِبة، وأستشفُّ أحيانًا على فمها ابتسامةً خفيفة، ولعلها تُخاطب عمها أو أحد أبنائه الصغار بصوتٍ مسموع وهي تعنيني. لا تدهش لأقوالي فإني أُطاردها في إصرار، وأتتبَّعها في عناء، وأُخاطبها بصوتٍ مكتوم تُنبئ به عني شفتاي المُتحرِّكتان، وأبعث إليها بإشارات الشكوى والرجاء. وقد اقتربت مني مرةً وهي تُلاعب طفلًا من أبناء عمها، وسمعتها تقول له أو لي إن شئت: «دائمًا في أعقابي، فماذا تصنع لو رجعت إلى مصر؟» فقلت لها بصوتٍ مسموع: «لعلك لا تعودين ..» إنها كلمةٌ ذات مغزًی خاص إذا قالها شابٌّ أعزب موظف مِثلي؛ وقد كان لها الأثر الجميل. والآن أفتِني فإنك خبيرٌ طبيب عالم بأحوالي؛ هل أُقْدم أم حسبي ما ذُقت من لذةٍ بريئة وأُولي ظهري ودًّا لن ينتهي بالتئام؟ .. إن ثمرة الحب ناضجةٌ دانية تنتظر من يقطفها، ما رأيك؟»

يا للظلام .. يا للألم الساخر .. عبثًا يُحاوِل دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب؛ فعائدة بلا ريب هي التي لا تستطيع مغالبة الشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعَل، وهي التي تُحادث الغير وتعني المجدود من الرجال، هي التي تُجيب عيناها الإجابات الخفية .. وهي تُسكِرها سِيَر الزواج.

فيا للظلام، ويا للخيبة القاتلة .. والأدهى أنه يريد منه أن يكون مستشارًا في مأساة قلبه .. لعله يرجو أن يشير بما يقطع خيط العنكبوت الذي يُمسِك بكفه أحلامه وسعادته .. فيا للسخرية! من المستطاع أن يُحاول إنقاذ سعادته فيُعلن صديقه بالحقيقة السافرة، ويضع آماله بين يدَي شهامته وما يعهد فيه من الإخلاص والمروءة، ولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون في حبه من المُسترحمين السائلين، وهو يندفع برغبةٍ جنونية نحو جحيم العذاب كأنما يستطيب النار المُوقَدة. وأبى إلا أن يُعرِّض حُبه لأقسى امتحان؛ فإما إلى نعيم الطمأنينة، وإما إلى أهوال العذاب؛ وعليه فقد تمالك وكتب إلى صديقه:

«إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردد؛ فإن حكمة الدنيا لَتَذوب حسرةً على ثمرة حب ناضجة يزهد فيها الإنسان. أَقدِم ولا تُبالِ بالنتائج البعيدة، وتمتَّع بالحب في مَنفى قنا ولا تُحمِّلن نفسك هموم التفكير في الغد، ولا تغفل عن تزويدي بكل جديد؛ فإني أصبحت من تتبُّع حبك على حبٍّ شديد.»

وانتظر رد صاحبه بصبرٍ نافد وجزعٍ لحوح، حتى وافاه منه كتاب جاء فيه ما يلي:

«بوركتَ من حكيمٍ سديد الرأي! لقد اتَّبعت نُصحك أيها الأخ، وضربت لها مَوعدًا همسًا، ووافيت إليه صباح اليوم الثاني وأنا حائر بين الشك واليقين، بين اليأس والأمل، ولكن لَشدَّ ما كان فرحي عندما رأيتها قادمة، والحقيقة أنها كانت مُترددةً مذعورة على رغم خُلو المكان الذي يوحي بالطمأنينة في خفية عن أعيُن الرقباء، وبلَغ الذُّعر أنها مرَّت بي غير مُلتفتة إلى يدي المُمتدة كأنها جاءت لغير موعدي، فتتَّبعتها وحيَّيتها وطمأنتها حتى قالت لي مُضطربةً: لا أدري كيف جئت .. كيف أطعتك .. إنني مُضطربة.

فهدَّأتُ من خاطرها، وسکَّنت اضطرابها، ولاطفتها بما أوتيت من بیان ومِران وحماس حتى أفرَخ رَوعُها واطمأنَّت.

لقد تحدَّثنا طويلًا، بل طويلًا جدًّا، ولو أردت أن أُسطِّر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسِعتني الأسطُر؛ فحسبُك أن تعلم أنها فتاةٌ جميلة رشيقة حُلوة المعشر، مُهذَّبة الطباع، وإن كانت تغلب عليها حدة الإحساس وتوقُّد العاطفة والذَّهاب مع الخيال. وقد حامت بمهارةٍ حول موضوع الزواج، فجارَيتُها بخفَّة ولباقة لا تهويان بها إلى قرار اليأس ولا تعلوان بها إلى عهد الميثاق، وعند الافتراق تناولت منها قُبلةً خِلت لحلاوة جِدَّتها أنها أول قُبلة تنالها شفتاي.»

انتهى الأمر، وتبدَّدت الأحلام، وخابت الآمال، وقضت على قلبه الذي انتهی طويلًا بأفراح الحب أن يتجرَّع آلام اليأس والخيبة.

وانقطعت عنه رسائلها، ولكنه كان على علمٍ متصل بأحوالها من رسائل صديقه التي جاءته تَتْری.

وقد كتب إليه في إحداها:

«أنا — باختصار — سعيد جدًّا؛ فحياتي مليئة بالبهجة والمَسرَّة، وعائدة خيرُ عزاء عن الوَحدة والوَحشة في هذا المنفى السحيق، وإني كلما أذكُر أني سأُحرَم هذه المتعة بعد شهر يَشيب شعري من الهول، وأضمُّها إلى صدري بشغف، وألتهم منها قُبلات مُلتهِبة كأني أختزن منها ما أعود إليه عند الفراق. أما هي فتعتقد أنها لن تعود إلى القاهرة أو أنها تعود لكي ترجع إلى الأبد؛ فمن يُدريها أن لي خطيبةً تنتظرني في القاهرة من سنواتٍ طويلة؟!

وبهذه المناسبة أقول لك إن عائدة من اللاتي وهَبهنَّ الله دلالًا وفتنة، ولكنها على قدرٍ غير هيِّن من الاستهتار والنزق، أما خطيبتي فشابَّةٌ حييَّة هادئة الطبع وعلى خُلقٍ عظيم، وإني أدَّخرها للزواج وأنا سعيد.»

وكتب إليه في رسالةٍ أخرى:

«معذرةً أيها الصديق عن تأخيرٍ غير مقصود، والحق ماذا أقول لك؛ فالحياة الجميلة هي هي .. لقاء فأحادیث، فمُداعَبات، فتقبيل وعناق، فوداع ولقاء. إنها غدَت مجنونة بي، وكلما مرَّت ساعةٌ اشتدَّ بها الجزع وتكاد تنطق جوارحها؛ أنِ اذهب إلى والدي وخاطِبْه في حبنا لأكون لك طول العمر.

إنها أُمنيةٌ طبيعية، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يُدرکه.»

ثم كتب إليه بعد حين:

«قوَّمَت الأُلفة تلعثُم الحياء، وصيَّرت التلميح تصريحًا، وأمست عائدة تُلحُّ عليَّ أن أكلِّم أباها لتتَّخذ علاقتنا الصيغة الشرعية المقدسة، وكانت حياتي تكون السعادة نفسها لولا هذه المُنغِّصات.

والحق أني أجد بين يدَيها سعادةً صافية جعلتني شديد العطف عليها، وبعثت في الضمير ألمًا مُبرِّحًا. وإنه ليسوءني ما أُبيِّت لها من نية الغدر والهجر؛ لأني في الحقيقة لم أرَ فيها أكثر من مَلهاةٍ مُمتعة أسكُن إليها في هذا المنفى القصِي. وما أشبه غرامي هذا بغرام الرحَّالة الجوَّاب؛ تتعدد وُعوده تعدُّد ما يجوبه من البُلدان. وما يُثير النفس يا صديقي أني أوَّلَ أمس على أثر عودتي من لقائها، جلست إلى مکتبي شاردًا أُقلِّب بعض الكتب، فما راعني إلا ديوان شوقي تنشقُّ صفحاته عن صورةٍ حفظتها فيه وكِدت أنساها، هي صورة خطيبتي بوجهها الصبيح الجميل وقد سُطِّر على ظهرها بخطٍّ جميل «تذكار الوفاء»؛ فكأنه سوطُ عذاب ألهبَني نارًا، ألا فليغفر الله ما تقدَّم من ذنبي وما تأخَّر أيتها الحبيبة! والحق لقد اضطرب فؤادي، وألقيت على الصورة نظرةَ ذُعر سريعة ثم أخفيتها عن عيني أو أخفيت عيني عنها؛ لأنه وقع في نفسي أنها تعلم بخبيئتي، وأنها تُصوِّب نحوي نظرةً لا تعيش أمامها الخيانة.»

وكتب إليه في رسالةٍ أخرى يقول:

«لست فتًی عصريًّا كما كنت أعتقد؛ ولو أني كنت كذلك لما هالَني الغدر، ولأكبرت على نفسي الخيانة، ولسهُل عليَّ اصطناع الوداد للفتَيات اصطناع تحيَّات الصباح والمساء؛ ولهذا تجدني مُعذَّبًا مُوزَّع القلب؛ فلا أنا بالراضي على نفسي لأني نكثت ميثاق خطيبتي، ولا أنا بالسعيد بما ألقى من حب عائدة الذي رماني تفانيها في هاوية من الندم.

ولا يخفى عليك أن المَلل عرَف طريقه إلى نفسي، وأني بتُّ منه في سقام، وقد كان ذلك مقدورًا، ولكن ما الذي عجَّل به؟! .. لعله ذكرى خطيبتي، أو لعله أني أقبلت على عائدة إقبالَ منهوم جائع فامتصصت حلاوتها، أو ربما كان ذلك لأن جمالها طلاء لا يخفى من ورائه شخصية ذات بهاء وجلال.»

ثم كتب:

«أمسى اللقاء غير ذي مُتعة؛ لأني من ناحية بتُّ أُعاني من السأم وإرهاق الضمير، ومن ناحية أخرى فالفتاة تُصرُّ على مخاطبتي في شأن الزواج، ولا تكاد تصبر عن هذا الموضوع؛ فرَمَت بي في الحرج والحَيرة، وينتهي موعد اللقاء ونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب المفضوحَين.»

وأخيرًا كتب إليه يقول:

«لأول مرة أُخلِف الميعاد، وإني لأعذر نفسي وأغبطها، وأرجو أن تفهم الفتاة أن هذا مني إعلان بالقطيعة، ولم يكن من هذا بدٌّ بعد أن بلَغنا في علاقتنا موضوعًا ينبغي أن يتقرَّر فيه المصير، فإما إلى يمين وإما إلى شمال، وما كان ينبغي لي أن أختار من جديد، وما أحببت ذلك قط؛ فإن خطيبتي تنتظر أَوْبتي بفارغ الصبر، وهي أكرَمُ على نفسي من هذه الفتاة التافهة الثَّرثارة التي لم يميزها الله إلا بمظاهر الجمال المُبتذَل لا يلبث أن يتبخَّر أثره في الهواء. ومهما يكن من أمر فلن ينقضيَ أسبوع حتى تكون الآنسة عائدة في طريقها إلى حيث ألقت.»

•••

قرأ جميع هذه الرسائل — رسائل صديقه وقاتله — بإمعانٍ شديد.

وكانت تتسلط على نفسه في ذلك الوقت عاطفتان؛ عاطفة حزن عميق وشعور حادٍّ بالخيبة والغيرة وانهيار الأمل جعلته لا يذوق لذة في اليقظة ولا راحة في السُّهاد، وعاطفةُ تشفٍّ وانتقام أن تنتهيَ بها الخيانة إلى مثل ما انتهت به الحال من خيبة أمل وانهيار صرح سعادة.

ولم يُفرِّط في واحدة من هذه الرسائل التي سجَّلت تاريخ أكبر هزَّة عنيفة امتُحن بها شبابه، فجمعها في رزمة، وحفِظها في حُقٍّ عاجي جمیل، ووضعها في مكانٍ أمين وانتظر.

جاءته رسالةٌ مُقتضَبة من عائدة نفسها تُعلنه بقدومها، وترجو أن يذهب للقائها في موعدهما المعهود عند العصر.

وفكَّر من أمره طويلًا، تفكيرَ من تُسيطر عليه عاطفةٌ مسمومة ونفسٌ جريحة حتى انتهى من أمره إلى تدبير، فذهب إلى الموعد في الساعة المعهودة، ولم ينتظر هذه المرة لأنه وجدها في انتظاره، واستقبلته بيدَين مفتوحتين وابتسامةٍ مُشرِقة، فضمَّها بين ذراعَيه ولثم شفتَيها وهو يبتسم ابتسامةً كلَّفته غاليًا من الجهد وضبط النفس.

وجلسا إلى نفسَيهما كما كانا يفعلان في الأيام الخوالي السعيدة، وسمعها تقول بفرحٍ فائض: وأخيرًا.

فردَّد قولها «وأخيرًا»، ثم نظر إليها بعينَين مُبتهِجتَين تُخفیان دهشة، وقال لنفسه: يا عَجبًا! ما أقدرَكن أيها النساء على إخفاء مشاعركن وتكلُّف ما ليس بكنَّ!

وانطلقت هي تقول: أستطيع أن أُخبرك كم ثانية غِبتها عني طوال هذه المدة الثقيلة لا أرجَعها الله.

– الذي يبدو لي أن استغراقك في حساب الزمن شغَلكِ عن الكتابة إليَّ.

– أتسخَر مني؟ .. آه لو تعلم كم كانت تُكلِّفني الرسالة التي أكتبها إليك!

كنت أتسلل إلى مكانٍ قصيٍّ بالبيت كي أُخفيَ نفسي عن أعيُن أبناء عمي .. فيَجدُّون في أثري ويُهددون عُزلتي، ويُفزعون أخيلتي المُنسجمة وعواطفي الحارَّة، فإذا انتهيت منها احترتُ كيف أُسلِّمها إلى صندوق البريد.

– ألم يكن الخروج هينًا عليك؟

– أحيانًا مع عمي.

– لمَ لم تخرجي في الصباح وعمك في عمله والجو خالٍ؟!

– لو فعلت لكان أمرًا مُثيرًا .. والشُّبَّان هناك جائعون أرذالٌ عديمو الشرف.

– يا سلام!

– نعم يا عزيزي.

– أرى عُذرهم بيِّنًا .. فمن يُطالِع هذا الوجه الجميل ولا يُقهَر على الحب قلبُه؟ ولكن ماذا صنعوا معك حتى استحقُّوا عندك هذا الحُكم القاسي؟

فصمتت لحظةً ثم قالت: إنها صغائر مألوفة لا يَنِي عنها الشُّبَّان .. ولكنها ليست بذات بال .. فلندَع هذا الآن .. فاعتقادي أنه لدَينا ما يلذُّ لنا حديثه أكثر من هذا.

– طبعًا .. طبعًا .. ولكن وا أسفاه قد قُدِّر عليَّ أن أُحرَم هذه اللذة الليلة .. لأن أمي مريضة وينبغي أن أكون إلى جانبها سريعًا، فلنؤجِّل هذا الحديث المُمتع إلى المرة القادمة.

فنظرَت إليه قلِقةً وسألت: ما لك؟ لستَ كعهدي بك! تقول إن أمك مريضة؟ لا بأس عليها، أمُضطرٌّ إلى الذَّهاب إليها حالًا؟

إنه يُحسُّ برغبةٍ شديدة تدفعه إلى الانفجار ليُنفِّس عن صدره بعض غليانه المكتوم وحِقده المدفون، ويودُّ لو يَجْبه هذا الرياء بما يُمزِّق قِناعه ويهتك سِتره ويفضح شناعته؛ ولو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة، فمن حقه أن يصبَّ جامَ غضبِه، ويثأر لآلام قلبه، ويمحق الخيانة والمكر السيئ.

ولكنه كان قد انتهى من أمره إلى مرفأ لا يَرِيم عنه، وكان بطبعه هادئًا رزينًا كتومًا يبذُّ فيه العقل الهوى، وتتغلب لديه الحكمة على الثورة، فغالَب دواعي الغضب في نفسه حتى أسكنها، وقال بهدوءٍ غريب: إني تعِبٌ مهمومٌ مكدود الذهن، ولولا شدة شوقي لرؤيتك ما هان عليَّ أن أغادر أمي وهي طريحة الفِراش .. فلنفرغ من هذا اللقاء ولو على مضض .. والآن اسمحي لي أن أقدِّم إليك هديةً جميلة؛ هذا الحُق العاجي .. ورجائي ألا تمسِّيه إلا حين خلوتك إلى نفسك في غُرفتك لتحظَي بالمفاجأة السعيدة في غيبة عن أعيُن الرُّقباء .. وإلى اللقاء القريب أيتها الحبيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤