كَيدَهُن

هل يتمنَّى الإنسان على الله أكثر من أن يهبه زوجةً حسناء وثروةً طائلة، ويُمتعه بصحة سابغة وبنين، ويُبوِّئه مركزًا اجتماعيًّا فذًّا؟ وقد فاز حضرة صاحب العزة جمال بك ذهني بأولئك جميعًا؛ كانت له زوجة شابَّة حسناء يُعزِّي وجهها الحسن عن أحزان الدنيا جميعًا، ووهبه الله أربعة من الأبناء كالورود صحة وجمالًا، وترقَّى في مراتب الدولة حتى وليَ كرسي الاستشارة في أكبر هيئة قضائية، وورث عن والديه ثروةً طائلة ما بين عقار ومزارع، ومع ذلك فمن كان يطَّلع على وجهه ذلك اليوم إذ هو جالس في شُرفة قصره المُطلَّة على شارع السرايات يأخذه العَجب لهذا الاكفهرار الذي يُظلُّه، وتلك النظرة القلقة التي تحار في عينَيه مُنذِرة بالشقاء!

ولا سبيل إلى إبطال هذا العَجب ما لم نلمَّ بماضيه؛ لأن حاضر الإنسان يقع غالبًا من ماضيه موقع النتيجة من المقدمات، وإن كانت لا تدعم العلاقة بينهما في الحياة بما تدعم به في المنطق من الضرورة والأحكام. ومهما يكن من الأمر فقد كان ماضي صاحب العزة حافلًا بالشباب المرِح السعيد، والعقل النزيه، والذكاء الوقَّاد، والمغامرات التي تجعل من الشباب ديوان شعر غنيًّا بالذكريات العذبة؛ لأنه كان من الرجال القليلين الذين يُصادفهم أجمل التوفيق وأسعده في دنيا النساء، فعشِق عددًا وافرًا من المُمثلات والراقصات وربَّات القصور المصونات غير مُتردِّد ولا حرج، ورشف من كئوس الهوى خمرًا صافية أعمَتْه نشوتها عن طي الأعوام، فما يدري يومًا إلا وهو يصحو على عاذلٍ يقول: «أتبلُغ الخامسة والأربعين ولما تتزوَّج؟» الخامسة والأربعون .. أحقًّا ذهب الشباب الناضر وولَّى؟ أحقًّا تسنَّم ذروة الكهولة؟

ووجد نفسه يُفكر في مسألة الزواج تفكيرَ شابٍّ يهدف للثلاثين، ويكاد الزواج أن يكون كالموت نهاية كل رجل، وإلا فلمن يترك هذه الثروة الطائلة التي يمتلكها؟ ومن يؤنس وحشته إذا احتجزه البيت يومًا؟ ومن يُعِينه على متاعب الشيخوخة وأهوال الكبَر إذا تألَّبت عليه عوامل الفناء؟

ولكنه لم يغفل عن أنه مُغامر عشاق، ومثله يستطيع أن يقرأ قلب المرأة كما يقرأ الكتاب المفتوح، ويعرف طبيعتها معرفته لبديهيات الحساب؛ لذلك رأى أن الحكمة تُمْلي عليه ألا يختار زوجةً شابَّة تفصل بينها وبينه عشرات الأعوام، وصحَّت عزيمته على الزواج من أرمل أو مُطلَّقة في الثلاثين على أدنى تقدير؛ حذرًا من أن يُقضى عليه بما قضى على ضحاياه الكثيرين.

ولكنه شاء غير ما شاءت الأقدار، وما حيلته في ذلك؟ لم يكن هو الذي يُبرِم الأقدار حين دُعِي يومًا إلى حفل زفاف، فراح مالكًا لفؤاده وعاد مسلوب الفؤاد والإرادة، ولم يكن هو الذي يخلق الأعمار؛ إذ كانت التي سلبته فؤاده في العشرين من عمرها، ربما قلت إنه ينبغي له أن يُغلِّب الحكمة والعقل على الهوى، ولكن وا أسفاه فإن هذا القول وأمثاله لا يُجدي فيمن تُسيطر عليهم الشهوات؛ فجميعهم — أيًّا كانت الشهوة التي تتحكم فيهم — لا يرون في العقل سوی وسيلة لتحقيق شهواتهم، يستوي في ذلك منهم من يعبد الله أو يعبد المال أو يعبد النساء؛ فلم يتردد جمال بك عن سلوك سبيله المحتوم، وخطب الآنسة حياة إلى والدها الأستاذ محمد عويس الخبير بالمجلس الحسبي، وتمَّت الزيجة، وأثمرت على الأيام أربعة من الأبناء أكبرهم في المدرسة الثانوية وأصغرهم في الروضة.

ولكن للزمن حكمه الصارم كذلك؛ فقد أُحيل المستشار في هذا الأسبوع إلى المعاش وأذِن النذير بمجيء الخامسة والستين بكوارثها المعهودة من نضوب الأعصاب، وبرودة الاضمحلال، وتنكُّر معالم الدنيا وتألُّب أمراضها، وما كان به من ظمأ ولا جوع؛ فقد ارتوت نفسه من لذائذ الدنيا، وأخذ نصيبه کاملًا من متاعها الغرور، ولكن دبَّ بقلبه دبيب القلق الذي تعود بواعثه إلى تلك الزوجة الحسناء التي يُعطيها الزمن — الآخذ منه — نُضجًا وكمالًا، ويزيدها كل يوم حُسنًا على حُسن، وما كانت مَخاوفه أوهامًا ولا محضُ حذر تُمليه مغامراته الماضية، ولكنه شاهَد هذا الصباح في شُرفة الفيلا التي تُواجِه قصره ضابط بوليس شابًّا، يتألق جماله في بذلته الرسمية المُزدانة بالنجوم الذهبية، وتنفخ صدرَه قوةُ الشباب وغروره، وتعبث أنامله بشاربه الأنيق الصغير؛ فانقبض صدره لمرآه، وتوجَّس منه خيفةً لغيرِ سبب بيِّن. عَجِب كيف أنه لم يرَه قبل اليوم، وهل يُقيم في هذه الفيلا يا تُرى من زمنٍ بعيد، وهل هو مُتزوِّج أو أعزب. وكان يستطيع أن يسأل زوجه عما يُحيِّره، ولكنه نفر من هذا نفورًا عجيبًا، وآثر عليه الجهل والحيرة.

وكان قلقه غريبًا لدرجة أنه ودَّ لو يستطيع أن يحمل زوجه على نقل حجرة النوم إلى الجهة الأخرى من القصر المُطلَّة على شارع القشلاق وإحلال المكتبة محلها، ولكنه لم يَدرِ كيف يُعلِّل طلبه، وأبَت كبرياؤه عليه أن يُفاتحها بشأنه.

ووجد في حياة الفراغ الجديدة فرصةً طيبة لمراقبة «غريمه» في صمت وحذر، فلاحظ أنه يتناول الشاي كل صباح في شُرفته، وأنه يعود فيجلس بها عند الأصيل ساعة أو نحو ذلك، وفي تلك الأثناء يُصادِف أن تدخل زوجه إلى الشُّرفة فيُديم الشاب النظر إليها، وخُيِّل إليه أن بصرها يتَّجه أحيانًا إلى شُرفته، نعم يحتمل ألا يكون وراء هذه النظرات أي معنی سوء، ولكن يتعذر عليه أن يتصور أنه من الممكن أن ينظر شابٌّ إلى مثل زوجه الحسناء نظرةً بريئة لا يشوبها طمع.

وضاق بصمته المُرهِق، فأشار يومًا إلى شُرفة الضابط وسألها: من يُقيم في هذه الفيلا؟

فقالت: جارٌ جديد، أظنه مُفتشًا في الداخلية.

فسألها بلا اكتراث في الظاهر: ومن الضابط الذي يظهر أحيانًا كثيرة في هذه الشُّرفة؟

– أي ضابط؟ .. لا أدري لعله ابن المفتش.

فوقع تجاهلها من نفسه موقعًا ألیمًا، واشتدَّ غضبه اشتدادًا لا يستند إلى أسبابٍ معقولة، فقال: لا أشكُّ في أنه ضابطٌ أحمق وقح.

فبدَت الدهشة على وجهها وسألته: ما الذي يُغضبك عليه؟

فقال بحدة: رأيته مرارًا ينظر إليك نظراتٍ وقحةً سافلة، جعلتني أُفكر جديًّا في نقل حجرة النوم إلى الجهة الأخرى.

فقالت بلهجة استياء: ولكنه تعب لا مُبرِّر له، وأرى أنه يتضمن إهانةً قاسية لي يا بك.

– كلا يا هانم، ما أردت هذا قَط، ولكني أحب أن تتمتَّعي بحريتك بعيدًا عن تطفُّل العيون.

فهزَّت منكبَيها استهانةً وقالت: افعل ما بدا لك.

وتحقَّقت مشيئته، ولكن آلمته استهانتها، واعتقد أنه تسرَّع تسرعًا مَعيبًا ورَّطه فيه الغضب، وأحسَّ من تصرُّفه بخزيٍ أليم، وكبر عليه أن يمتلئ رعبًا من نظرة يُرسلها هذا الشابُّ المغرور، وما عسى أن يُفيده نقل حجرة من مكان إلى مكان؟ وهل يعني هذا زحزحة الحب من موضعه إذا كان أنشب أظافره في لحم قلبها الطري؟ .. هيهات.

ولم تُهادنه شكوكه ومخاوفه. وقد ثقلت عليه وطأتها يومًا، وكان يجلس في قهوة لونابارك مع مُحامٍ كبير، فاستأذن بغتةً وقام إلى سيارته التي انطلقت به إلى قصره وبلغت شارع السرايات، وكان الوقت أصيلًا، ونظر خلال زجاج النافذة فرأى زوجته في شُرفة المكتبة ونظر الناحية الأخرى فرأى الشيطان.

وكان يعهد في زوجه البرود والرزانة والسيطرة على الأعصاب، وكانت كعهده بها فلم تُفاجأ بحضوره، وسألته بإنكار: خير .. ما الذي أتى بك قبل میعادك؟

فانفجَر غاضبًا وسألها بغيظ وحنق: قولي لي أنتِ ما الذي أتى بك إلى هذه الشرفة؟

فقالت بغضب وإباء: إنك تُهينني يا بك إهانةً لا تُحتمل.

فاشتدَّ به الغيظ وقال بعنف: أنتِ تحاولين تضليلي باصطناع هذا الإباء الكاذب.

– عهدي بك أعظم أدبًا من هذا.

– ما شاء الله، وددت لو يستمع إليك أبناؤنا إذ تُعلِّمين أباهم الأدب.

– أما أنا فلا أودُّ أن يستمعوا إلى أبيهم وهو يكيل التُّهم لشرف أمهم.

فنظر إليها نظرةً عميقة وهو يضرع إلى الله أن يُطلعه على خبيئة نفسها، وجعل يتساءل في حَيرة: تُرى هل هي صادقة في غضبها؟ هل هي حقًّا بريئة مما رماها به؟ وتنهَّد حزينًا شقيًّا، وقال كأنه يُحادِث نفسه: حقًّا إن الشك مسٌّ من الجنون.

فقالت باستياء: ألا ترى أنك تعترف بأنك شككت في؟

فعاوَده الغضب وقال لها بمرارة: لماذا تعودين إلى الظهور بهذه الشرفة، وفي هذه الساعة المعهودة؟ أصغي إليَّ يا هانم، أنا لا أسمح لامرأة بأن تتغفَّلني أبدًا.

– هذا كلام لا يليق برجل له مكانتك وأخلاقك، ويجدُر بك أن تُنادي عقلك الذي غرب به الغضب، فماذا ينفعك إغلاق الأبواب والنوافذ إذا أنا بيَّتُّ الغدر؟ .. وما يَضِيرك ظهوري بكل مكان إذا انطوى قلبي على الإخلاص والأمانة؟

فقال بذهول: الإخلاص .. الأمانة .. ما عُدت أفقَه معنًی لهذه الكلمات لأن عقلي تسمَّم فينبغي أن تفهمي ذلك جيدًا، قد يكون المرض لعلة، وقد يكون لغير العلة إلا الوهم، فاعملي على إعادة الطمأنينة إلى نفسي، ودَعي الوعيد جانبًا .. فأنا رجل لا يمكن أن تتغفَّله امرأةٌ مهما أوتيت من المكر والدهاء.

– أهكذا تتغيَّر بعد العِشرة الطويلة وتنقلب إنسانًا غير الإنسان لأنك رأيت شابًّا ينظر إليَّ من بعيد؟

وأي امرأة لا تلتهمها العيون كلما بدت للناظرين؟

نظرة من بعيد. كلَّا ليس الأمر كذلك، إنها تکذب وتجدُّ في الكذب، وهي تعلم بما يُعذبه ويُشقيه، إنها تتجاهل الحقيقة وليس لتجاهلها إلا معنًى واحد، إنها تتغفَّله ولكنها لن تفوز بطائل.

– أصغي إليَّ يا هانم، لا بد من وضع حد لكل هذا.

فنظرت إليه بارتياع وقالت: يا له من قولٍ خطير.

فقال: لا خطورة هنالك، إني أُقرُّ بأني أخطأت فيما صنعت من تغيير ترتيب بيتنا، وأُقرُّ بأنه ليس لي الحق في الحَجْر عليك لأنه ينبغي أن أكون أرفع من العوام، فاذهبي إلى حيث تشائین وتنقَّلي كما تشتهين، ولكن لن أُفارقك، وأظن أن هذا من حقي أيضًا.

فلم تتمالك نفسها من الضحك وسألته: أبدًا؟

فقال بهدوء: سأُلازمك كظلِّك.

– يا له من أَسرٍ مُرهِق.

– لكِ؟

– کلا .. فإنه يُسعدني، ولا شك، أن يظلَّ زوجي إلى جانبي، ولكن كيف لك أنت بالصبر على هجر لونابارك وسنت جيمس؟

– هذا شأنٌ يعنيني وحدي.

فلم تَزِد على أن قالت: افعل ما فيه راحتك.

ومضى البك يُحقِّق وعيده دون إمهال، فخلع ثيابه وارتدى البيجاما والروب دي شامبر وجلس إلى جانبها، وتسلسلت الأيام على منوالٍ واحد، فكانا يقطعان النهار معًا يتحادثان حينًا ويُطالعان حينًا آخر، فإذا سئمت من جلستها وقامت إلى الشرقة أخذ مقعدًا إلى جانبها، أو نزلت إلى حديقة القصر تتريَّض في مماشيها؛ رافقها، حتى إذا ولَّى النهار وجاء الليل وحانت ساعة النوم، أوَيا معًا إلى مخدعهما فنام ملء جفنَيه.

وكانا يخرجان كثيرًا لزيارة الأصدقاء والأقارب، ويغشيان الملاعب والملاهي والسينمات، فلا يفترقان دقيقة، وثابَر على حياته الجديدة مُثابَرة الصابرين، ولازَمها حقًّا كظلِّها، وحافَظ على كلمته أن يتركها تفعل ما تشاء على أن تتركه يفعل ما يشاء كذلك. ولم تُظهِر السيدة أي تذمُّر، وقضت أيامها مرحةً ضاحكة كأنها أسعد الأزواج حقًّا. وفي يوم من الأيام اقترحت عليه أن يذهبا إلى شيكوريل لشراء حاجاتها وحاجات الأولاد، فذهبا معًا ودخلا المحل الشهير، ودارت به على الأقسام المختلفة تُشاهد البضائع وتسأل البائعين، وصَعِدا إلى الطابق الثاني وجالا هنا وهناك، وهو يتبعها صامتًا يقِف حيث تقِف ويسير حيث تسير، فمرَّ على تَجْوالهما ساعتان أو يزيد لم يسترِح الشيخ فيهما دقيقةً واحدة، حتى لهث من شدة التعب وعلا صدره وانخفض، وسال عَرقه باردًا، واشترت ذلك اليوم شريطًا من الدانتلا!

ثم عادا إلى السيارة، فارتمى الرجل على مقعده منهوك القُوى، وقال لها: لم تشتري شيئًا ذا بال.

فقالت: ينبغي التريُّث في الشراء، سنعود غدًا.

وعادا في الغد، ودارت به كما فعلت بالأمس، ولكنه لم يحتمل المشي والوقوف، ولحِقه الإعياء فقال لها: سأنتظرك في السيارة.

وانتظرها ساعةً أو يزيد، ثم حضرت يتبعها غلامٌ يحمل المشتريات، فسألها البك: هل انتهيتِ والحمد لله؟

فقالت بهدوء: هذه كسوة حسني.

فقال الرجل دهشًا: حسني فقط؟! .. وإخوته؟ .. وأنت؟

فقالت: لسه يا بك .. لسه .. أرجو ألا تُنكر عليَّ تباطئي؛ فهذه طريقتي في الشراء وإن كنت تطَّلع عليها لأول مرة.

وجاءا معًا في اليوم التالي، ودخلت الزوجة إلى المحل، وانتظر البك في السيارة، وفات على دخولها ساعة ثم ساعةٌ أخرى؛ فتململ البك في جلسته، وأحسَّ برغبته في الحركة؛ فغادَر السيارة ودخل إلى المحل، وبحث عن زوجته بعينَيه، ومضى يسير هنا وهناك، ولكن الظاهر أنها كانت بالطابق العُلوي، فصَعِد الأدراج على مهل، وقطع المكان ذهابًا وإيابًا، ولكنه لم يعثر لها على أثر، فعاد أدراجه وهمَّ بالبحث مرةً أخرى في الطابق الأول، ولكنه رآها مُقبلة من أقصى المحل والغلام يتبعها يحمل المشتريات، فلم يُرِد أن يُظهر لها نفسه وسبقها إلى السيارة .. وتساءل في صمته: كيف لم يعثر بها مع أن المحل لم يكن مُزدحمًا؟ هل لأنه لم يُحسِن البحث يا تُری؟ .. ولذعه الشك .. هل من الممكن .. ولكن هذا بعيد عن التصور.

وجاءت معه في غداة اليوم التالي، ودخلت المحل ولبث هو في السيارة كما فعل بالأمس، ولكنه لم يُمهِلها إلا دقيقةً واحدة، ثم تبعها على الأثر ورآها تُسرِع الخُطا مُنعطِفةً إلى يمين الداخل؛ فظنَّ أنها قاصدة إلى المِصعد، ولكنها واصلت السير إلى باب المحل الجانبي وخرجت منه، فخفق قلبه بشدة، وتبعها بخُطًى سريعة وبلغ الباب، ثم نظر إلى الطريق فرآها تدخل «لاكلير» المواجهة لباب المحل، وشاهَدها تدخل إلى المِصعد ثم صَعِد بها، فاجتاز الطريق ودخل العمارة وانتظر هبوط المصعد، وسأل البوَّاب عن الطابق الذي صعد إليه، فرفع الرجل بصره وقال: «الطابق الرابع.» فدخل المِصعد وضغط الزر رقم ٤ وخرج منه، فوجد نفسه في ردهةٍ تُواجِهه ثلاثة أبواب، فألقى عليها نظرةً هائلة وهو يقول: تُرى في أيها دخلت؟! واقترب من أولها فقرأ عليه المسيو فالديمير كراوس المُحامي بالمحكمة المختلطة، وقرأ على الباب الثاني اسم ﻫ. لیفي مُتعهِّد رادیو تلفنکن، وکُتِب على الثالث «مدموازيل فلورا خيَّاطة للسيدات». ووقف أمام الباب الأخير لا يَرِيم، وقد انحصر فيه ارتيابه، وضغط على الجرس ففُتِح الباب، ودخل قبل أن يؤذن له بالدخول، فتراجعت أمامه التي فُتِحت الباب دهشةً مُستاءة، وألفى نفسه في ردهةٍ مُتوسطة الحجم تُحيط بها حجراتٌ أربع، منها ثلاثٌ مُغلَقة الأبواب وواحدةٌ مفتوحٌ بابها على مِصراعَيه، ويرى بداخلها بعض السيدات والأوانس؛ منهن من تطمئنُّ إلى مقعدها، ومنهن من تقف أمام المرآة لتُلقي النظرة الأولى على فستانها الجديد. وانتبه إلى الفتاة الواقفة أمامه يبدو على وجهها الإنكار، وسمعها تسأله: هل المدام مع البك؟

فالتفت إلى مَغزى السؤال وتحيَّر كيف يُجيب أو كيف يعتذر عن وجوده؛ لأنه اندفع تحت تأثير الغضب والحنق اندفاعًا لم يتدبَّر أمره، وألقى على الأبواب المغلقة نظرةَ ارتياب وقهر، وودَّ لو يستطيع أن يقتحمها ليرى ما بداخلها، ولكنه لم يفعل شيئًا لأنه لم يكن فقدَ عقله، ولأنه هو رجل القانون لم تكن تخفى عليه مَغبَّة عمله فيما لو أخطأ تقديره وحسبانه، وكأنه أراد أن يُقامِر بما تبقَّى لديه فسألها: أليست هذه شقة مدموازيل فلورا؟!

فقالت الخبيثة: بلى، ألم تقرأ اللافتة يا مسيو؟

فقال: إن زوجتي سبقتني إلى هنا.

فسألته: ما اسمك يا سيدي؟

فقال: جمال ذهني.

صاحت بصوتٍ عالٍ لدرجة مُزعِجة: مدام جمال ذهني.

ولكن سيدة من الموجودات لم تُلبِّ النداء، فقالت: المدام غير موجودة بلا شك.

قالت ذلك بلهجة من ترى وجوب انتهاء المقابلة عند هذا الحد، فلم يرَ بدًّا من الخروج، وأغلق الباب خلفه، ولكنه لم يتحرك من مكانه، ولبث يرمق الباب بعينٍ متَّقِدة، تُرى هل أخطأ البوَّاب حسبانه، أم إن الشيطانة موجودة بداخل شقة الخيَّاطة؟ ولماذا صرخت الفتاة الملعونة بهذا الصوت المُزعِج وهي تُنادي مدام جمال ذهني؟! ألا يجوز أنها فعلت ذلك لتُحذِّر الغافلين؟ وهل يجوز أن يبقی في مكانه لا يُحرِّك ساكنًا وزوجه في داخل الشقة في خلوةٍ غرامية؟ فما عسى أن يفعل؟ وكيف يضبط الآثمة مُتلبِّسةً بجريمتها؟

وعند ذاك فتح الباب، فتقهقر خطوتَين، وخرجت سيدة، وأوصلتها الفتاة الإفرنجية، وقد رأته ولكنها لم تُباله، وأغلقت الباب مرةً أخرى.

فمضى يروح ويجيء في حَيرةٍ شديدة. من المؤكَّد أنها في هذه العمارة؛ فقد رآها وهي تدخل ورآها وهي تندسُّ في المِصعد، وأكَّد البوَّاب أنها صعدت إلى الطابق الرابع، وها هو ذا الطابق الرابع، ولا مكان يصحُّ افتراض دخولها إليه إلا شقة الخيَّاطة؛ فالشيطانة لا شك في الداخل، ولكن ما عسى أن يفعل؟ هل يظل يروح ويجيء أم ينتظر إلى ما شاء الله؟ ومما يزيد ارتباكه أن وقوفه هكذا قد يريب الصاعدين والهابطين وتيَّارهم لا ينقطع. ومرَّت عليه ساعةٌ كاملة كانت أقسى ساعات حياته جميعًا، ونال منه التعب والقهر كل منال، فاضطُرَّ إلى مغادرة مكانه وفي نيَّته أن ينتظرها لدى الباب الخارجي، ولكن خطرَ له خاطر أزعجه، فسأل البواب: هل للعمارة مدخلٌ آخر؟

فأجابه الرجل بلهجته البربرية بأن للعمارة ثلاثة أبواب، فأحسَّ باليأس وذاق مرارة الخيبة، وعضَّ شفتَيه من الحق والغيظ، وكبُر عليه أن تتغفله الشيطانة وتُمثِّل به هذا التمثيل المُزري. وكان ما عاناه عقله وجسمه فوق ما يحتمله شيخ في سِنه، فعاد خائر القُوى إلى سيارته. وكم كانت دهشته عظيمة حين همَّ بالدخول فرأى زوجه جالسةً آمنة مطمئنَّة تنتظر أوبته منذ زمنٍ غير يسير، وقد نظرت إليه بإنكار وسألته: أين كنت يا بك؟

فأنعم في وجهها النظر فرآها تبتسم ابتسامتها المألوفة، ولكن لم يَخفَ على عينه الثاقبة شحوب لونها ونظرتها الدالة على الإثم بقدر دلالتها على الطهارة المصطنَعة؛ فهي شيطانة بلا ريب، ولكنها لم تتعود الإجرام بعد.

وجلس إلى جانبها صامتًا وانطلقت بهما السيارة.

وكان مقهورًا مغلوبًا على أمره، يُعاني مرارة الهزيمة، ويُحسُّ كأن يدًا تخنق كبرياءه خنقًا. وكان يسوءُه أن يجلس هكذا إلى جانب المرأة التي تغفَّلته وهزأت بكرامته ولوَّثت عِرضه .. ولم يُرتِّب قطُّ أنها تعلم بأمر مطاردته الفاشلة لها. ومن يعلم؟ فلعلها تضحك في سرها الآن من خيبته وهزيمته. يا له من تصوُّر لا يُحتمل!

لقد أنذرها بأنه لن يتركها لحظة، ثم اضطُرَّ إلى تركها أو هي اضطرَّته إلى ذلك، ولكن لم يخطر له على بالٍ أن تتَّخذ من زيارتها لشيكوريل سبيلًا إلى مقابلة عشيقها.

واستسلم للتفكير الحزين، وذكر طريقة عامة الشعب في الانتقام من الخائنات، فوجد نفسه — في مِحنته — يُقرُّها، وهل تستحقُّ الأفعى إلا تهشيم رأسها؟ .. أما هو البك الوجيه المثقَّف فيجلس إلى جانب مُعذِّبته يُعاني آلامه في صبر، ويُشيِّع كبريائه إلى القبر وهو كظيم. وكيف يفعل غير ذلك وهو القاضي الذي قضى حياته في خدمة القانون؟

ولاحت منه التفاتة إلى الطريق، فرأى بعض المارَّة يحدجون السيارة بنظراتهم المُتطفِّلة، فسأل نفسه: تُری هل يَنفسون عليه السيارة الفخمة والزوجة الحسناء؟

حقًّا إنه يستحق الرثاء، وسيكون أحق بالرثاء في مستقبله حين يُخلي يده منها — وهو ما صدقت نيَّته عليه — فكيف تكون حياته بلا زوجة؟ وكيف تكون حياة أبنائه بلا أم؟

وهل تزوَّج يوم تزوَّج إلا إشفاقًا من أن يلحقه الكِبَر وهو وحيد فيُعاني مرارة الشيخوخة ووحشة الوحدة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤