الفصل الثالث

اقتُل وإلا ستُقتَل

تتطفل الفيروسات على جميع الكائنات الحية، وكثيرًا ما يلحق هذا التطفل الضرر بعوائلها، غير أنها لا تسيطر على الموقف تمامًا حتى نهاية المطاف. فجميع النباتات والحيوانات، مهما كانت صغيرة أو بدائية، طورت سبلًا للتعرف على هؤلاء الغزاة المجهريين ومكافحتهم. إذن فكل جولة من جولات العدوى تتحول بالنسبة لمعظم الفيروسات إلى سباق مع الزمن، فعليها أن تتكاثر قبل أن يموت العائل أو يتعرف عليها جهازه المناعي ويقضي عليها. ثم إن على نسلها أن يعثر على عوائل جديدة ليصيبها بالعدوى ويكرر العملية «إلى ما لا نهاية» حتى يظل نوع الفيروس على ظهر هذه الدنيا. وحتى الفيروسات التي تعلمت حيلة مراوغة هجمات المناعة والعيش في سعادة داخل عوائلها طيلة عمرها عليها في نهاية الأمر أن تنتقل من عائلها هذا إلى غيره حتى لا تموت معه.

ويعتمد هذا النمط الحياتي المحفوف بالمخاطر في نجاحه على كفاءة انتشار الفيروسات بين العوائل المعرضة للعدوى، إلا أنه يتعين على الفيروسات أن تترك هذه العملية بأكملها للصدفة، حيث إن جسيماتها خاملة تمامًا، أضف إلى ذلك حقيقة واقعة، وهي أن جميع الفقاريات وعديدًا من الكائنات الأكثر بداءة بعدما تصاب بالعدوى بفيروس معين، تكتسب مناعة ضد تكرار العدوى، ولعله من المدهش أن تتمكن الفيروسات مع ذلك من البقاء في هذا الوجود.

إن الفيروسات معمرة لأنها تمتلك قدرة هائلة على التكيف. إن معدل تكاثرها السريع والعدد الهائل الذي تنتجه من نسلها معناه أن في استطاعتها التطور بسرعة حتى تواجه الظروف المتغيرة. وما من شك أن العديد من أنواع الفيروسات قد انقرضت من قبل عندما سُدَّت عليها منافذ الانتشار، لكن في الوقت نفسه، يعثر غيرها على مسالك جديدة تتفتح أمامها فتنتهز الفرصة كي تنتعش آمالها في الحياة. وهكذا نجد مجتمعات الفيروسات كثيرة التبدل والتغير، فيحل أحدها محل الآخر سريعًا إذا كانت «لياقة» المجتمع الجديد أكثر ملاءمة للمناخ السائد. ولقد رأينا كيف حلت سلالة فيروس الحصبة الحالية، على سبيل المثال، محل السلالة السالفة عليها عالميًّا منذ ما يقرب من ٢٠٠ عام مضت، وكيف تتغير باستمرار مجتمعات الفيروسات الملتهمة البحرية معتمدةً على الميزة التي تمتلكها وهي الاستيلاء على جينات عوائلها.

تتنشر الفيروسات بين العوائل المختلفة من خلال أغلب المنافذ والمسالك المعروفة (شكل ٣-١). فتلك التي يمكنها البقاء على قيد الحياة خارج عائلها فترة من الوقت ربما تنتقل عن طريق الهواء، مثل فيروسات الأنفلونزا، والحصبة، ونزلات البرد، أو عن طريق تلويث الطعام والماء مثل فيروسي نورو وروتا اللذين يستطيعان إحداث نوبات من الإسهال والقيء، لا سيما عندما تنخفض معايير الصحة العامة.
fig7
شكل ٣-١: منافذ دخول الفيروس إلى جسم الإنسان.

يبدو أن تلك الفيروسات، عن طريق التطور المستمر، شحذت مهاراتها حتى تتمكن من الانتشار من عائل إلى آخر حتى بلغت درجة مذهلة من التعقيد. وكمثال لذلك، فيروس نزلة البرد (الفيروسية الأنفية)، في الوقت الذي يصيب فيه البطانة الخلوية للتجاويف الأنفية، يسبب شعورًا بالوخز الخفيف في النهايات العصبية، وهي العملية التي تتسبب في العطس. وأثناء تلك «الانفجارات»، تطرد للخارج في عنف سحابات هائلة من قطيرات المخاط الحاملة للفيروس، فتظل سابحة في الهواء إلى أن تستنشقها عوائل أخرى سهلة التأثر. وبالمثل، يحول الفيروس العجلي دون امتصاص السوائل من تجويف الأمعاء عن طريق كشطه لطبقات من البطانة الخلوية للأمعاء، ويتسبب ذلك في إسهال شديد وقيء يعمل بفعالية على طرد ذرية الفيروس لتعود من جديد إلى البيئة كي تصل إلى عوائل جديدة.

هناك طائفة أخرى من الفيروسات الناجحة بامتياز تمتطي ظهور الحشرات كي تنتقل عن طريقها من عائل إلى آخر. فالفيروسات التي تصيب النبات قد تنتشر عن طريق حشرات المن التي تمتص العصارة النباتية، وبنفس الطريقة تمتص الحشرات اللادغة الفيروسات من عائل لتحقنها في آخر أثناء تناولها لوجبة من الدماء. ومن بين الأمثلة على ذلك فيروس حمى الضنك وفيروس الحمى الصفراء، فكلاهما يتنقل بين العوائل عن طريق إناث البعوض التي تكون في حاجة لوجبة من الدم كي تغذي بيضها. وتتسبب تلك الفيروسات في أوبئة واسعة الانتشار في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حيث تعيش أنواع معينة من البعوض العائل لها.

لا يمكن للفيروسات أن تصيب بالعدوى الطبقات الخارجية الميتة من جلودنا، أو أن تخترق الطبقات العديدة للجلد السليم، غير أن وجود خدش مجهري الحجم كافٍ للسماح بدخول فيروسات الثآليل (الورم الحليمي) وبثرة البرد (الهيربس البسيط)، وكلاهما نوعان واسعا الانتشار من العدوى التي تُلتقط التقاطًا مباشرًا من العائل المصاب. ولكن الفيروسات شديدة الهشاشة التي لا يمكنها العيش طويلًا خارج جسم عائلها قد تنتقل مباشرةً من عائل إلى آخر عن طريق التلامس اللصيق مثل التقبيل. وهذه الطريقة تعد فعالة للغاية لنقل الفيروسات الموجودة باللعاب، مثل فيروس «إبشتاين-بار» الذي يسبب الحمى الغددية، والمعروفة كذلك باسم «مرض التقبيل». وبعض الفيروسات مثل فيروس نقص المناعة البشري والالتهاب الكبدي ب تستعين بالمسالك التناسلية في الانتقال من عائل إلى آخر، وبخاصة عندما توفر لها ميكروبات أخرى تنتقل عن طريق الجنس مثل «المكورات البنية» و«اللولبية الشاحبة» (الميكروب المسبب للزهري)، طريقًا ميسورًا للدخول بإحداثها لتقرحات سطحية. كذلك تستغل تلك الفيروسات طرق التدخل المعاصرة مثل الأدوات الجراحية، وآلات الحفر التي يستخدمها أطباء الأسنان، وعمليات نقل الدم، وعمليات زراعة الأعضاء في القفز من عائل إلى آخر. وفي حقيقة الأمر، يبلغ فيروس الالتهاب الكبدي ب درجة من الشراسة في إصابة الضحية بالعدوى حتى إن كمية من الدماء لا ترى إلا بالمجهر تكون كافية لنقل العدوى، مما يجعل منه خطرًا مهنيًّا جسيمًا يتهدد العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يتصلون بحاملي عدوى هذا الفيروس.

تملك جميع الكائنات الحية وسائل دفاعية مضادة للفيروسات الغازية. ومع أن هذه المناعة الوقائية بلغت أعلى درجات تطورها عند الفقاريات، حتى بلغت ذروة تعقيدها لدى الإنسان، فإننا صرنا الآن نعلم أنه حتى أبسط الكائنات لديها آليات مناعية، وكثير منها مختلف تمامًا عن تلك الموجودة عند الفقاريات. ولا يزال أمامنا شوط طويل لنقطعه نحو الفهم الكامل لمدى قدرة تلك الآليات وتفاصيل عملها الدقيقة، ولكن تظهر أمامنا باستمرار معلومات جديدة. فلقد كان الاعتقاد فيما مضى أن الفقاريات فقط هي التي تمتلك ذاكرة مناعية، غير أن الدراسات التي أجريت على عملية تكرار تعريض العائل لنفس الميكروب المسبب للمرض تشير حاليًّا إلى أنه حتى لدى بعض اللافقاريات البدائية تحقق العدوى الأولى شيئًا من الوقاية من العدوى التالية، ما يشير إلى وجود نوع أساسي ما من الاستجابة القائمة على الذاكرة لدى الأنواع الدنيا من الكائنات الحية.

ثمة آلية وقائية أخرى اكتشفت حديثًا، تم التعرف عليها بدايةً لدى النباتات إلا أنه تبين أن الحشرات وغيرها من الأنواع الحيوانية الأخرى تستخدمها كذلك، ألا وهي إسكات الجينات عن طريق «آر إن إيه المتداخل»، جزيئات «آر إن إيه المتداخل» عبارة عن جزيئات قصيرة من الآر إن إيه توجد داخل خلايا معظم أنواع الكائنات، ومن بينها الإنسان، حيث تُنظم عملية تصنيع البروتينات عن طريق الالتحام برسائل آر إن إيه والحيلولة دون ترجمتها إلى بروتين. وعندما يصيب فيروس ما إحدى الخلايا بالعدوى ويهيمن بأوامره على عمليات تصنيع البروتين بها، تتحد جزيئات آر إن إيه المتداخل هي أيضًا مع رسائل آر إن إيه الفيروسي وتحبط عملية ترجمتها إلى بروتينات، ومن ثم تجهض العدوى قبل أن يصير في الإمكان تجميع مكونات فيروسات جديدة. وهناك آلية مشابهة وإن كانت مبتكرة للمناعة تتصل بآر إن إيه المتداخل ظهرت للنور مؤخرًا توجد لدى العتائق والبكتيريا، تساعدها على مكافحة هجوم الفيروسات الملتهمة. وفي هذه المنظومة، يجري إدماج قطاعات قصيرة الطول من جينات الملتهمات الغازية في جينوم العائل. وتحمل تلك المقاطع بعد ذلك شفرة جزيئات آر إن إيه التي تلتحم نوعيًّا ببروتينات الغزاة وتحبط عملية إنتاج البروتينات لاحقًا، وبهذا تئد العدوى في مهدها قبل تجميع مكونات فيروسات جديدة.

من الواضح أن المعركة التي تدور رحاها بين الإنسان والميكروبات بدأت منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها الإنسان على وجه الأرض، فكانت الميكروبات تطور أساليب جديدة للهجوم وجهازنا المناعي يرد بتطوير لدفاعاته في سباق تسلح محموم ومتصاعد. ولما كان زمن الجيل الواحد للفيروس أقصر بكثير من زمن جيل الإنسان، فإن تطور المقاومة الجينية لفيروس بشري جديد بطيء على نحو مؤلم، مما يجعل الفيروسات على الدوام تعتلي مقعد القيادة في ذلك الصراع.

وقد أميط اللثام مؤخرًا عن مثال على المقاومة الجينية أثناء بحث أُجري بهدف اكتشاف السبب وراء ما أبداه بعض الناس من مقاومة للعدوى بفيروس نقص المناعة البشري. وتبين أن هذا الأمر يرتبط بجين للاستجابة المناعية اسمه «سي سي آر ٥» وهو يحمل شفرة بروتين ضروري من أجل حدوث العدوى بذلك الفيروس. حوالي ١٠٪ من تعداد المنتمين للجنس القوقازي حدثت لديهم عملية حذف لذلك الجين مما منحهم القدرة على مقاومة العدوى بفيروس نقص المناعة البشري. ولا يزال الأسلوب الذي بلغت به عملية الحذف ذلك المستوى الرفيع لدى هذا العِرق البشري سرًّا غامضًا. فمع أن عملية حذف جين «سي سي آر ٥» تصادف أنها تمنع العدوى بفيروس نقص المناعة البشري، فإن البشر لم يصابوا بعدوى الفيروس إلا منذ عهد قريب للغاية بحيث لا يمكنهم إنتاج هذه الاستجابة خلال تلك الفترة القصيرة، فالأمر يستغرق عدة أجيال حتى تحدث الطفرة الوراثية اللازمة لبلوغ مثل هذا المستوى المرتفع على امتداد منطقة شاسعة جغرافيًّا، وهي في حالتنا هذه أنحاء أوروبا وآسيا. ويعتقد العلماء أن حذف «سي سي آر ٥» لا بد أنه حقق ميزة انتخابية في الماضي عن طريق وقاية الناس من ميكروب قاتل، ويعد الطاعون والجدري مرشحين قويين فكلاهما كان من الأوبئة الفتاكة التي حصدت أرواح الملايين من البشر على امتداد ما يربو على ألفي عام.

جهاز المناعة البشري آلة حرب مخيفة تستعين بأسلوبين مختلفين في عملها، أحدهما أسلوب غير تخصصي سريع الاستجابة، والآخر أبطأ منه لكنه يشكل قوة قاتلة شديدة التخصص تتذكر المهاجم في المرة الأولى وتمنعه من اختراق دفاعات الجسم مرة أخرى. كثيرًا ما تصل الفيروسات الجسم عن طريق إصابة خلايا القنوات التنفسية أو المعوية أو البولية التناسلية، والطبقات الأعمق من الجلد وسطح العين، وربما تنتشر بعد ذلك من تلك المناطق كي تصيب الأحشاء الداخلية بالعدوى. عند موقع العدوى الأولي، ترسل الخلايا إشارات كيميائية، تسمى «سيتوكينات». وأهم واحدة من تلك الإشارات المبكرة «الإنترفيرون»، الذي يجعل الخلايا المحيطة مقاومة للعدوى في ذات الوقت الذي ينبه فيه جهاز المناعة كي يبدأ هجومًا بجذب الخلايا المشكلة لذلك الجهاز نحو منطقة الإصابة. هناك خلايا أميبية الشكل تسمى «متعددة الأشكال» وخلايا ملتهمة كبيرة تكون هي أول من يصل إلى مسرح الأحداث، حيث تقوم بالتهام الفيروسات والخلايا المصابة بالفيروس كما أنها تضخ المزيد من السيتوكينات كي تجذب قوات الطوارئ من خلايا الليمف وهي تشكل جزءًا أساسيًّا من الاستجابة المناعية عند الإنسان. ويطلق على تلك الخلايا عادةً الخلايا البائية والتائية، على حسب نوع الاستجابة المناعية التي تستثيرها.

كل جزء من أجزاء الجسم تحميه غدد لمفاوية تؤدي دور الحصون التي تأوي الملايين من خلايا الليمف البائية والتائية. فاللوز واللحمية، على سبيل المثال، مرتبة على نحو استراتيجي حول مداخل القنوات التنفسية والمعوية، وهناك غدد مماثلة موجودة في مناطق أعلى الفخذين والإبط والعنق لحماية الساقين والذراعين والرأس على الترتيب، وتشق الخلايا الملتهمة الكبيرة المزدردة للفيروسات طريقها من موقع الإصابة بالعدوى نحو تلك الغدد الليمفاوية الموضعية، حيث تُعرض البروتينات الفيروسية الملتهمة على خلايا الليمف البائية والتائية كي تصمم لها الاستجابة المناعية المتخصصة.

كل خلية ليمف بائية وتائية تحمل مستقبِلًا فريدًا في نوعه لا يتعرف إلا على قطاع صغير من بروتين محدد، يسمى المستضد. ولتغطية جميع مستضدات الميكروبات المحتملة، تحتوي أجسامنا على ما يقرب من ٢ × ١٠١٢ من كل من خلايا الليمف البائية والتائية التي تدور داخل دمائنا وتتجدد باستمرار عن طريق مصنع الخلايا الدموية الموجود في نخاع عظامنا. وتتجمع خلايا الليمف داخل الغدد الليمفاوية في انتظار نداء الإفاقة الذي يأتي على شكل خلايا ملتهمة كبيرة تحمل مستضدًّا يتوافق تمام التوافق مع مستقبلِه الفريد في نوعه. وعندما يأتي هذا في النهاية، يعمل الاتحاد بين المستقبل والمستضد على تنشيط خلية الليمف كي تنقسم سريعًا، لتصنع نسخًا متطابقة من الخلايا التي تحمل مستقبلات متماثلة تمامًا. وتكون تلك الخلايا بصفة عامة جاهزة للعمل بعد حوالي أسبوع من حدوث العدوى الأولى.

خلايا الليمف التائية هي خط الدفاع الأهم للجسم ضد الفيروسات. وهناك نوعان رئيسيان من الخلايا التائية: الخلايا التائية المساعدة، التي تتصف بوجود جزيء سي دي ٤ فوق سطحها؛ والقاتلة (أو المسممة للخلايا)، التي تتصف بوجود جزيء سي دي ٨. كلٌّ من خلايا سي دي ٤ وسي دي ٨ تقتل الخلايا المصابة بالفيروس عن طريق إنتاج كيماويات سامة تعمل على تمزيق غشاء الخلية، كما أن الخلايا التائية المحتوية على سي دي ٤ تنتج كذلك سيتوكينات تعاوِن خلايا سي دي ٨ التائية وخلايا الليمف البائية على النمو، والنضج، وأداء وظائفها بصورة سليمة.

بمجرد انجذاب خلايا الليمف البائية نحو العمل بواسطة مستضدها المتخصص، فإنها تقوم بتصنيع أجسام مضادة، وهي جزيئات قابلة للذوبان تدور مع تيار الدم، ثم تعبر إلى الأنسجة وكذلك نحو أسطح الجسم مثل بطانة الأمعاء. وتلتحم الأجسام المضادة مع الفيروسات والخلايا المصابة بها، فتساعد على منع انتشار الغزاة. وفي بعض الحالات، تمنع الأجسام المضادة الفيروسات بالفعل من إصابة الخلايا بالعدوى عن طريق سد منفذ الدخول على المستقبل الذي تحمله ومن ثم فإنها مهمة للحيلولة دون تجدد العدوى لاحقًا.

ومن الأمثلة الجيدة التي تصور لنا الأهمية النسبية لكل من الخلايا البائية والتائية في كبح جماح حالات العدوى الفيروسية الطفرات النادرة التي تمحو نوعًا أو آخر من خلايا الليمف. فالأطفال الذين يولدون وهم يحملون طفرة جينية تحذف خلاياهم التائية يموتون بسرعة خاطفة إذا أصابتهم عدوى فيروسية ما لم يعيشوا داخل فقاعة خالية من الجراثيم إلى أن تجرى لهم عملية زرع نخاع عظم لتصحيح ذلك العيب. وعلى النقيض، نجد الأطفال الذين يولدون ولديهم طفرة تحول دون نمو الخلايا البائية يقاومون بدرجة لا بأس بها حالات العدوى الفيروسية، غير أنهم يعانون من حالات شديدة ومتواصلة من العدوى البكتيرية والفطرية. إلا أنهم بصفة عامة يتمتعون بالوقاية من تلك الحالات خلال الشهور الثلاثة الأولى من العمر (مثلما هو الحال لدى الأطفال الأصحاء) بواسطة الأجسام المضادة الآتية من دماء أمهاتهم التي تعبر المشيمة خلال أشهر الحمل الأخيرة والموجودة أيضًا في لبن الثدي.

الاستجابة المناعية تجاه الميكروبات عملية معقدة لكنها ذات توازن دقيق، حيث يواجه عمل الخلايا المقاومة للغزاة بتوازن مضاد من قبل مجموعة من الخلايا التي تسمى الخلايا التائية التنظيمية وتنتج تلك الخلايا سيتوكينات تنشر آلية قتل للخلية التائية وتمنعها من الانقسام، ولهذا فإنه بمجرد هزيمة الميكروب، تموت خلايا المكافحة وتصل الاستجابة المناعية إلى نهايتها، فلا تخلف وراءها سوى طاقم هيكلي من خلايا البائية والتائية ذات الذاكرة تكون جاهزة للعمل السريع عند ظهور الميكروب من جديد.

خلال ذروة نشاطها، ربما تبلغ الاستجابة المناعية درجة من الحدة حتى إنها تؤذي الجسم بالفعل. وفي حقيقة الأمر، أن الأعراض النمطية غير المحددة التي نشعر بها مع إصابتنا بجرعة حادة من الأنفلونزا، كالحمى، والصداع، وتضخم الغدد والإحساس بالألم عند لمسها، والشعور بالإعياء العام، تحدث في الغالب ليس بسبب الميكروب الغازي نفسه وإنما بسبب السيتوكينات التي تطلقها الخلايا المناعية لمقاومته. وفي حالات نادرة، ربما تتسبب تلك التفاعلات المستحثة بجهاز المناعة في إصابة خطيرة تلحق بالأحشاء الداخلية، وهي نتيجة تعرف باسم «المرض المناعي». ومن بين أمثلتها تلف الكبد أثناء العدوى بفيروسات الالتهاب الكبدي والإعياء الشديد الذي يشعر به من يعانون من الحمى الغددية التي يتسبب فيها فيروس إبشتاين-بار. أو ربما تتعرف الخلايا التائية أو الأجسام المضادة المتخصصة في مهاجمة البروتينات الفيروسية، بطريق الصدفة، أو تتفاعل عرضيًّا مع بروتين مشابه موجود لدى العائل ذاته. وقد يؤدي ذلك إلى حدوث تلف للخلايا التي تحمل هذا البروتين أو إلى موتها. هذه العملية التي تسمى المناعة الذاتية ربما كانت هي الأساس الذي تقوم عليه أمراض كالسكري، وفيه يجري تدمير خلايا بيتا البنكرياسية المسئولة عن إفراز الأنسولين، وكذلك مرض التصلب المتعدد الناتج عن تدمير الخلايا بالجهاز العصبي المركزي.

تعلمت بعض الفيروسات لعب «الغميضة» مع الخلايا المناعية بأن تحمي نفسها من الهجوم الضاري الذي يلاحقها حتى تبقى لأطول مدة ممكنة داخل أجسام ضحاياها، وربما تظل بجسم العائل طيلة حياته. والاستراتيجيات التي توظفها تلك الفيروسات متنوعة علاوة على كونها عبقرية، ومن بينها مراوغة عملية تعرف المناعة عليها أو تعويق الاستجابة المناعية أو كليهما معًا. وسوف نناقش تفاصيل ذلك في الفصل السادس، لكن يكفينا القول هنا إن كل خطوة من الخطوات المتسلسلة في الاستجابة المناعية — بدءًا من الإطلاق المبدئي للإنترفيرون وحتى هجوم الخلية التائية القاتلة ثم ما يحدث لاحقًا من التهدئة المناعية بواسطة الخلايا التائية التنظيمية — يمكن لفيروس أو آخر تعديلها حتى يعزز فرصته في النجاة من الهلاك.

ومثال ذلك، أن فيروس نقص المناعة البشري يمتلك وسائل عديدة للهروب من المناعة، من بينها الاندماج بين فيروسه الطليعي وبين جينوم خلية العائل، حيث يتخفى في صورة قطعة من دي إن إيه عائله. لكن في هذه الحالة، يظل الفيروس عرضة للهجوم المناعي عندما يستنسخ، وحتى يروغ الفيروس من ذلك، يحور نفسه سريعًا، مغيرًا تركيب بروتيناته السطحية حتى يتفادى تعرف الخلايا التائية المتخصصة والأجسام المضادة عليه. كذلك يصيب فيروس المناعة البشري خلايا سي دي ٤ بالعدوى ويدمرها، وهي ذات الخلايا التي توجه الاستجابة المناعية ضده. وهكذا، بينما تتفاقم حالة العدوى وتضعف مناعة العائل، يتمكن الفيروس من التكاثر وتتضاعف أعداده داخل الجسم دون ملاحقة وتصاحبه في ذلك الميكروبات «الانتهازية» الأخرى التي لم يعد الجسم قادرًا على مقاومتها.

تستحث معظم الفيروسات وجود مناعة صلدة بحيث إنه بمجرد شفاء العائل من العدوى يصبح مقاومًا لأي هجمة تالية من نفس الفيروس. وهذه المناعة التي تحدث بصورة طبيعية هي التي تحاكيها الأمصال والتطعيمات التي ربما تتكون من فيروس مقتول أو فيروس كامل معدل، أو جزء من فيروس. وهذه حيلة تدفع جهاز المناعة نحو الاستجابة كما لو كانت هناك عدوى طبيعية، ومن ثم تحول دون وقوع أي هجوم لاحق. وسوف نناقش في الفصل الثامن الطرق المتنوعة للتطعيمات التي ابتكرت واستخدمت في الحيلولة دون الإصابة بأمراض فيروسية مدمرة بل وصل الأمر بها إلى محو فيروسات مرضية تمامًا من الوجود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤