الفصل الثامن

قلب الموازين

من المفارقة أن الوقاية من العديد من أنواع العدوى الفيروسية تحققت حتى قبل أن يعلم أي شخص بوجود الفيروسات أو بضرورة وجود استجابات مناعية للوقاية من العدوى بزمن طويل. ففي حين تعرف العالم لأول مرة على الفيروسات في ثلاثينيات القرن العشرين، نجح إدوارد جينر (١٧٤٩–١٨٢٣) قبل ذلك التاريخ بأكثر من ١٠٠ عام في تطعيم الناس ضد مرض الجدري أكبر قاتل فيروسي في تاريخ البشرية.

الوقاية من الجدري والقضاء عليه

أول طريقة سجلها التاريخ للوقاية من الجدري كانت «التلقيح» وقد استخدمت في الصين والهند مئات السنين قبل أن تصل إلى أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر. وتضمنت هذه التقنية، التي كانت تسمى أيضًا تشريط الجدري أو «التنغيل»، عملية كشط للجلد باستخدام إبرة تغرس في نتاج بشر بثور الجدري أو الصديد الذي يخرج منها. وعلى عكس الفيروس الذي تلتقط عدواه بالاستنشاق، كان هذا الأسلوب يحدث عمومًا عدوى جلدية موضعية ومن ثم لا تحدث عدوى جهازية وكان يترتب على ذلك حصول الشخص على مناعة طويلة الأجل.

دخل التلقيح أو التطعيم ضد الجدري بريطانيا في عشرينيات القرن الثامن عشر على يد الليدي ماري وورتلي مونتاجيو (١٦٨٩–١٧٦٢)، التي شاهدته يُجرى أثناء إقامتها في القسطنطينية (إسطنبول حاليًّا) مع زوجها، إدوارد وورتلي مونتاجيو، السفير البريطاني لدى الإمبراطورية العثمانية في عامي ١٧١٦ و١٧١٧. كانت الليدي ماري نفسها تعاني من الجدري وكان شقيقها توفي نتيجة إصابته بالمرض، لهذا كانت على استعداد لتجربة أي شيء يمكن أن يوفر الحماية لأطفالها. وأقنعت الليدي طبيب الأسرة د. تشارلز ميتلاند، بتعلم الطريقة من الممارسين المحليين في القسطنطينية ومن ثم تطعيم ابنها إدوارد البالغ من العمر خمس سنوات. وقام الطبيب بهذا، وبعدها بأسبوع أصيب الطفل بحمى وبعض البثرات لكنه سرعان ما شفي منها وصار بعدها محصنًا.

وعندما عادت الأسرة إلى لندن عام ١٧١٨، كانت الليدي ماري حريصة على نشر عملية التطعيم كأسلوب للوقاية من الجدري، ولما تفشى الوباء عام ١٧٢١، طلبت الليدي من ميتلاند تطعيم ابنتها ماري البالغة من العمر أربع سنوات، وشهد العملية اثنان من كبار الأطباء. أُجريت العملية بنجاح، وذاع الخبر. وبعد إجراء تطعيمات أخرى لستة من المحكوم عليهم في جرائم في سجن نيوجيت ولمجموعة من الأيتام من ملجأ سانت جيمس اللندني دون أن يصاب أي منهم بالمرض، منح الملك جورج الأول موافقته على تطعيم حفيدتيه، وبهذا أضفى الشهرة على تلك الطريقة. غير أن التطعيم لاقى معارضة مريرة من قبل العديد من رجال الإكليروس، الذين خالجهم الشعور بأن هذا الأمر من قبيل الوقوف في وجه مشيئة الرب، ومن قبل بعض الأطباء الذين توقعوا أن يؤدي ذلك إلى فقدان مصدر دخلهم. وأبدى آخرون خشيتهم بحق من أن يؤدي هذا إلى نشر وباء الجدري، بين غير المحصنين. والحقيقة أن التطعيم كان يتسبب أحيانًا في إصابة من يتلقونه بجدري كامل المعالم وكانت نسبة الوفيات بينهم تتراوح بين ١-٢٪، مقارنة بمعدل الوفيات آنذاك من جراء المرض نفسه التي بلغت ما بين ١٠–٢٠٪ في أوساط من لم يتلقوا التطعيم. واستخدمت التقنية على نطاق واسع في كل من أوروبا والولايات المتحدة إلى أن أدخلت وسيلة أكثر أمانًا في التحصين مع بدايات القرن التاسع عشر.

كان إدوارد جينر طبيبًا ريفيًّا من بيركلي، جلوسترشاير، بالمملكة المتحدة، حيث سرت هناك شائعة تقول إن سبب نقاء بشرة حالبات الأبقار الريفيات وخلوها من البثور يعود لالتقاطهن عدوى جدري البقر، وهي عدوى طبيعية تصيب ضروع الأبقار، ومن ثم كنَّ محصنات ضد مرض الجدري. وربما كان مصدر تلك الشائعات بنجامين جيستي (١٧٣٦–١٨١٦)، وهو مزارع من دورسيت، لعله أول من اختبر تلك النظرية عام ١٧٧٤ عندما طعم زوجته وأبناءه بجدري البقر، غير أنه لم يواصل التجربة إلى أبعد من ذلك. ولم يتضح إن كان جينر قد علم أم لا بما صنعه جيستي قبل أن يقرر اختبار النظرية بنفسه، لكنه أعرب فيما بعد عن تقديره لإسهام جيستي.

اتجه جينر بعدها نحو أقوى البراهين. في تجاربه التي تحظى الآن بشهرة عالمية، ولم تكن بمعايير وقتنا الحاضر قائمة على أسس أخلاقية، إذ حصل على جدري البقر من ذراع إحدى حالبات البقر المصابة بالعدوى، وكان اسمها سارة نيلمز، واستخدم هذه العينة في تطعيم أحد الأطفال، واسمه جيمس فيبس، ولم يكن قد أصيب بالجدري من قبل. وبعدها بأسابيع قليلة، طعم فيبس بجدري حي حتى يعرف إن كان الطفل قد تحصن أم لا. ولحسن الحظ ظل فيبس سليمًا معافى، وعندما اختبر العديد من الأطفال بجدري البقر وجدهم هم أيضًا يحملون مناعة من الجدري، فعلم أنه قد توصل لاكتشاف رائع يمثل طفرة علمية تمكنه من إنقاذ حياة الألوف من البشر.

غير أنه عندما نشر جينر النتائج التي توصل إليها في إحدى النشرات عام ١٧٩٨، لم يكن الآخرون على يقين تام منها. فالبعض لم يؤمن بأن التطعيم سينجح، فنصحوا جينر، وكان قد انتخب زميلًا للجمعية الملكية لاكتشافه أن طيور اللقلق تضع بيضها في أعشاش الطيور الأخرى، بالاكتفاء بأبحاثه الأولى في علم الطيور. كما واجه جينر معارضة من الكنيسة مماثلة لما واجهته ليدي ماري، واشتدت تلك المعارضة أكثر نتيجة لاستهجان العامة اعتراضًا على استخدام الحيوانات (الأبقار) في الوقاية من مرض يصيب البشر (شكل ٨-١). لكن على الرغم من هذه المعارضة، سرعان ما انتشر استخدام التطعيم ضد مرض الجدري، الذي كان أكثر أمانًا من التشريط، وبحلول عام ١٨٠١ كان أكثر من ١٠٠ ألف شخص قد حُصنوا في بريطانيا. وعلى امتداد الخمسين عامًا التالية، انخفضت نسبة الوفيات بسبب الجدري في لندن مِمَّا يزيد على ٩٠ لكل ألف نسمة إلى ١٥ لكل ألف نسمة.
في بادئ الأمر كان فيروس جدري البقر المخصص للتطعيم يؤخذ من أبقار أصيبت بالعدوى بطريقة طبيعية أو من حالبات الأبقار، ولكن سرعان ما ابتكرت طريقة الإمرار من ذراع شخص محصن لذراع شخص غير محصن، وبعدها كان الفيروس يؤخذ من مزرعة، ثم صار يجمع من خصور الأبقار، وهي طريقة أكثر ملاءمة لإنتاج اللقاح على نطاق واسع. ولا يزال أسلوب التطعيم كما هو دون تغيير تقريبًا حتى يومنا هذا وكان اتباعه ضروريًّا من أجل التخلص من الجدري عالميًّا.
fig18
شكل ٨-١: جدري البقر، أو الآثار الرائعة للتطعيم الجديد ضد الجدري، بريشة جيمس جيلراي، ١٨٠٢.1

بحلول عام ١٩٦٦، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حملة للقضاء على مرض الجدري، كان الفيروس قد قضي عليه بالفعل في أوروبا والولايات المتحدة، لكنه كان لا يزال يشكل وباءً متوطنًا في ٣١ دولة، وقدرت أعداد حالاته بعشرة ملايين حالة كانت تتسبب في مليوني حالة وفاة سنويًّا. كانت التكهنات تشير إلى أن الحملة سوف تكون باهظة التكاليف، لكن لما كان المرض فتاكًا إلى حد كبير، فإنه حتى تلك البلدان التي قضت على الفيروس ظلت تعيش في خوف من جلب حالات تسبب بها وباءً، لهذا كانت على أتم استعداد لتقديم التبرعات من أجل القضاء على الفيروس على مستوى العالم.

اعتمد النجاح في هذه المهمة الجسورة، بالغة التعقيد، وباهظة التكلفة اعتمادًا كبيرًا على عدة سمات خاصة بفيروس الجدري، وبالمرض ذاته وباللقاح. أولها، أنه لا يوجد مستودع حيواني للفيروس؛ فهو لا يصيب بعدواه سوى البشر، مسببًا مرضًا حادًّا ولا يمكث الفيروس بعدها في أجسام الناجين. ولهذا ولما لم يكن للفيروس مكان يختبئ فيه، كان من الضروري أن يؤدي قطع سلسلة العدوى إلى القضاء عليه في نهاية المطاف. والأمر الثاني، أن الإصابة بهذا المرض لا تكون معدية إلا بعد ظهور الأعراض، وعندئذ تكون الأعراض من الحدة بحيث تبقي المريض معزولًا نسبيًّا في فراشه. كان المرض نفسه سهل التشخيص من أعراضه الإكلينيكية، وبخاصة الطفح الجلدي المميز له. ولهذا ولأنه لم تكن هناك حالات عدوى صامتة، فإن جميع الحالات دون استثناء كان من الممكن التعرف عليها وعزلها. زد على ذلك أن فترة حضانته تبلغ حوالي أسبوعين ووفر هذا مساحة زمنية أتاحت الفرصة لتعقب الأشخاص الملاصقين للحالة وعزلهم ريثما يتبين إن كانوا حاملي عدوى أم لا. وثالثًا، أن اللقاح، الذي كان دون شك مفتاح نجاح الحملة، كان آمنًا وشديد الفعالية. ولما كان فيروس الجدري فيروس دي إن إيه ثابتًا، لا يوجد منه سوى نوع رئيسي واحد، فقد كان احتمال تحوره إلى سلالة مقاومة للقاح احتمالًا ضعيفًا للغاية.

أنتج مستحضر اللقاح الذي يمكن أن يظل نشطًا حتى في الأجواء الاستوائية ووزَّعه جيش من العاملين في المناطق الأربعة الباقية من العالم التي كان الجدري لا يزال متوطنًا بها وهي البرازيل وإندونيسيا ودول أفريقيا السوداء وشبه القارة الهندية. وكان الهدف زيادة التغطية بالتطعيم إلى أكثر من ٨٠٪، وهو الحد الحرج لمنع انتشار الفيروس. وحقق ذلك البرنامج نجاحًا هائلًا حتى إنه في خلال عشر سنوات قطع أخيرًا سبيل انتقال عدوى الجدري، وكانت إثيوبيا آخر بلد قضى على الوباء المتوطن به. وفي عام ١٩٨٠ أعلن رسميًّا القضاء على الجدري على مستوى العالم أجمع.

والمذهل، أن آخر حالتين للجدري على مستوى العالم حدثتا عام ١٩٧٨ في بريطانيا. كانت الحالتان متعلقتين بالأبحاث المتواصلة حول فيروس الجدري في قسم الميكروبيولوجيا بكلية الطب بجامعة بيرمنجهام حيث توفيت إحدى الضحيتين وكانت تعمل مصورة بقسم التشريح، بينما التقطت حالة أخرى العدوى منها لكنها شفيت. كان قسم التشريح يقع في الطابق الذي يعلو مختبرات الميكروبيولوجيا، وأثبت التحقيق الذي أعقب الكارثة أن الظروف المتبعة لحفظ الفيروس في الأوعية بالمختبرات كانت «أبعد ما تكون عن أن تكون مُرضية». وأشار التقرير إلى أن الفيروس ارتحل عبر مواسير الهواء من منطقة تحضير الفيروس إلى صندوق الهاتف في قسم التشريح بالطابق العلوي وهو الهاتف الذي كانت المصورة كثيرًا ما تستخدمه. كان للواقعة برمتها نتيجة نهائية محزنة عندما أقدم رئيس قسم الميكروبيولوجيا على الانتحار في أعقاب صدور محضر التحقيق وبه انتقادات قاسية لإجراءات الأمان بالقسم.

يؤدي لقاح جينر عمله عن طريق توليد رد فعل مناعي تجاه فيروس غير ضار (جدري البقر) يمت بصلة قرابة وثيقة لفيروس قاتل (هو الجدري) ولا يستطيع جهاز المناعة التمييز بينهما. واستخدمت نفس هذه الحيلة لاحقًا في الوقاية من مرض ماريك، وهي عدوى مدمرة تصيب الدواجن سببها أحد فيروسات الهيربس المرتبطة بالأورام واسمه فيروس مرض ماريك. وهو يصيب الدجاج بصفة أساسية وسرعان ما يتسبب في نفوق نسبة تصل إلى ٨٠٪ من السرب المنزلي، مما يؤدي إلى خسائر مالية فادحة. هذا المرض الذي كان أول من وصفه عام ١٩٠٧ أخصائي الباثولوجيا المجري جوزيف ماريك (١٨٦٨–١٩٥٢)، يبدأ بشلل واحد أو أكثر من أطراف الدجاجة تعقبه صعوبة في التنفس تؤدي إلى الموت. وسبب تلك الأعراض الخلايا التائية التي تتخلل الأعصاب وتحدث أورامًا في الأعضاء الحيوية. وبمجرد عزل الفيروس عام ١٩٦٧، اكتشف سريعًا أن فيروسًا شديد الشبه به وهو فيروس هيربس الديك الرومي، يمكنه أن يحمي الدجاج من فيروس مرض ماريك دون أن يحدث تأثيرًا مَرَضيًّا.

التلقيح ضد داء الكلب

بعد مرور عدة سنوات من تجارب جينر، صنع لوي باستير، الذي كان يجري أبحاثه في باريس، لقاحًا مضادًا لفيروس داء الكلب من أحبال شوكية مجففة لحيوانات مصابة بالفيروس. يوجد هذا الفيروس في لعاب الحيوانات المصابة بالسعار وهو يدور عمومًا بين الحيوانات البرية الضارية مثل الكلاب والثعالب والوطاويط. ومع أن في استطاعة بعض الأنواع النجاة من هجوم فيروس الكلب، فإن العدوى إذا أصابت إنسانًا ولم تعالج، ويحدث هذا عادةً نتيجة لعضة من كلب مسعور، فإنها تفتك بضحيتها بنسبة ١٠٠٪. وتحدث الوفاة نتيجة لغزو الفيروس للمخ، ولكن ليس قبل أن تحدث أشد الأعراض إيلامًا. ومن تلك الأعراض الخوف التقليدي من الماء (هيدروفوبيا أو رهاب الماء) ممزوجًا بفترات من الهياج الشديد والنشاط الزائد التي تتخللها فترات من الصفاء الذهني يكون المريض فيها مدركًا تمامًا لدائه الميئوس من شفائه. ويعاني المرضى من تشنجات مروعة بعضلاتهم التنفسية عند محاولتهم الشرب، غير أن العطش يدفعهم لتكرار المحاولات، مع تأثيرات عنيفة ربما أدت إلى تشنجات عامة وتوقف القلب أو التنفس. وبخلاف ذلك، يعيش المرضى في هذه الحالة مدة تناهز أسبوعًا قبل الدخول في غيبوبة تعقبها الوفاة. فلا عجب إذن أن باستير اختار داء الكلب ليكون أول مرض معدٍ يحاول التوصل للوقاية منه عن طريق لقاح.

في عام ١٨٨٥، وبينما كان اللقاح لا يزال قيد الاختبار بالمختبرات، أقنع بعضهم باستير بتجربته على طفل، اسمه جوزيف مايستر، عقره كلب مسعور عقرة شديدة وكان مظهره بائسًا. وأنقذ اللقاح حياة الطفل، وكثيرين غيره بعدها، إلى أن حل محله بعد ذلك مستحضرٌ أكثر أمنًا يصنع بزراعة الفيروس داخل مزرعة خلوية.

على عكس اللقاحات المصممة بحيث تقي من التعرض لحالات عدوى حادة مثل الحصبة وشلل الأطفال، يمكن للقاح داء الكلب أن يقي إنسانًا من المرض حتى إذا أعطي له عقب العقرة التي نقلت إليه الفيروس. ويعرف هذا الأمر بالتلقيح «ما بعد التعرض للعدوى». ويعود هذا إلى أن الفيروس لكي يسبب الأعراض عليه أولًا أن يتتبع المسارات العصبية بدءًا من موقع العدوى حتى المخ. وقد تستغرق تلك الرحلة شهورًا وربما سنوات، وتتوقف تلك المدة على المسافة التي سيقطعها الفيروس من موضع العدوى إلى المخ. ولهذا طالما كان اللقاح يقدم في أعقاب العقر مباشرةً، فمن المؤكد أنه يمنع الفيروس من بلوغ المخ. وبالرغم من ندرته النسبية، فإن داء الكلب متوطن في معظم أنحاء العالم، حيث يتوفى من جراء الإصابة به ٧٠ ألف شخص سنويًّا على مستوى العالم، وأعلى معدل وفيات سنوي مسجل في بلد واحد هو ٢٠ ألف شخص وذلك في الهند. ويوصى المسافرون بتلقي التحصين إن كانوا متجهين إلى بلاد ترتفع بها أعداد الإصابات، ولكن عمليًّا يوجد طلب مرتفع على التطعيم بعد التعرض للعقر، حيث تُقدم أكثر من ١٣ مليون جرعة سنويًّا.

ما من شك أنه بالرغم من غلاء تكلفة تحضير اللقاحات واختبارها، فإنها تعد أكثر الطرق أمانًا وأيسرها وأجداها اقتصاديًّا في مقاومة الأمراض المعدية عالميًّا. ولهذا السبب، هناك تطعيمات تُجهز حاليًّا ضد معظم الفيروسات المسببة للأمراض بدءًا من فيروس نزلة البرد وحتى فيروس الإيبولا شديد الفتك. غير أن تطوير اللقاح عملية تستغرق وقتًا طويلًا وممتدًا، ومع أن العديد من اللقاحات لا يزال في مرحلة التجارب الإكلينيكية، فإن عددًا قليلًا نسبيًّا هو الذي رخص باستعماله إكلينيكيًّا. ومن تلك الطعوم اللقاح الثلاثي للأمراض التي كانت شائعة بين الأطفال يومًا ما، الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية، الذي يعطى على جرعتين عن طريق الحقن، واحدة عند عمر ١٣ شهرًا والثانية عند عمر من ٣ إلى ٥ سنوات.

هناك عادةً نوعان من اللقاحات الفيروسية، أحدهما يستخدم فيروسًا حيًّا مخفف التركيز (تم إضعافه) والآخر يستخدم فيروسًا أخمد نشاطه. وتصور لنا قصة القضاء على شلل الأطفال مناقب ومثالب كل من النوعين المختلفين.

إبان بدايات القرن العشرين، كان شلل الأطفال مرضًا مثيرًا للذعر (انظر الفصل الخامس). بلغت الأوبئة ذروتها في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات قبل فترة وجيزة من بدء استخدام لقاح من فيروس خامد النشاط أنتجه عالم الفيروسات الأمريكي جوناس سالك (١٩١٤–١٩٩٥). وكان تأثيره فوريًّا، إذ خفض عدد حالات شلل الأطفال في الولايات المتحدة من ٢٠ ألف حالة إلى ما يقرب من ٢٠٠٠ حالة سنويًّا. غير أنه كان يتعين إعطاؤه عن طريق الحقن، وفي البداية كانت فعاليته منخفضة نوعًا ما.

ولتلك الأسباب، صنَّع ألبرت سابين (١٩٠٦–١٩٩٣) وهو عالم فيروسات أمريكي أيضًا لقاحًا لشلل الأطفال من فيروس حي مخفف صار متوفرًا للاستخدام في أوائل الستينيات. لقد زرع الفيروس في المختبر إلى أن ظهرت سلالة ضعيفة تستحث جهاز المناعة غير أنها لا تسبب المرض. وكان هذا اللقاح أرخص سعرًا وأيسر إنتاجًا من اللقاح خامد النشاط وكان قابلًا للتناول عن طريق الفم، وهي ميزة عظيمة، وبخاصة عند استعماله في البلدان النامية. علاوة على ذلك، فإن تقديم اللقاح عن طريق الفم يستغل المسار الطبيعي الذي تسلكه عدوى فيروس شلل الأطفال الضاري، وهكذا تتكاثر سلالة اللقاح داخل الأمعاء ثم تخرج مع البراز. وبعدها تنتشر في المجتمع فتلقح بفعالية أولئك الذين لم يتلقوا رسميًّا جرعة اللقاح. ولكن لما كان الفيروس ينمو داخل الجسم، فإن هناك احتمالًا لأن تحدث له طفرة فيتحول إلى سلالة مسببة للمرض. وبالرغم من ندرة حدوث ذلك، فإنه يحدث بالفعل، فيتسبب لقاح شلل الأطفال الحي المخفف في شلل فعلي لدى واحدة من كل مليون عملية تطعيم.

استهدفت «الحملة العالمية للقضاء على مرض شلل الأطفال» التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية عام ١٩٨٨، تحقيق نسبة تزيد على ٨٠٪ من التغطية بالتطعيم المقدم عن طريق الفم. وحقق ذلك نجاحًا رائعًا في القضاء على الفيروس الضاري، وهبطت أرقام الإصابات عالميًّا بنسبة ٩٩٪ بحلول عام ٢٠٠٥، ولم تعد هناك سوى جيوب قليلة من العدوى لا تزال باقية في أفغانستان والهند وباكستان ونيجيريا. ومن المفارقة أنه مع تراجع أرقام الإصابة بعدوى شلل الأطفال بالفيروس الطليق، ارتفعت في الوقت نفسه الخطورة النسبية من الشلل المرتبط بعملية التطعيم ذاتها الذي تتسبب فيه فيروسات اللقاح المتحورة، حتى إنه صارت معظم حالات الشلل الناجمة من الإصابة بالمرض تقع الآن بسبب سلالة الفيروس المستخدمة في اللقاح. كذلك فإنه مع دوران أفراد سلالة اللقاح في المجتمع، لم يعد ممكنًا القضاء التام على الفيروس. ولتلك الأسباب، عادت عدة دول غربية لاستخدام اللقاح المصنوع من فيروس خامد النشاط، وربما يحدث هذا على مستوى بقية بلدان العالم أيضًا حتى يصير في الإمكان القضاء التام على المرض.

ومن الفيروسات البشرية الأخرى على قائمة التخلص منها عالميًّا الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف والكلب والالتهاب الكبدي ب.

نعطي التطعيم أم لا نعطيه؟

انتقل الجدل الأخلاقي الذي دار حول استخدام تطعيم الجدري في زمن جينر إلى موضوعات أخرى غير أنه بالتأكيد لم يتلاشَ. فلا تزال هناك بعض الطوائف الدينية التي ترفض التطعيم، لكن طرحت الآن على الساحة قضايا أخرى كبرى.

ومن بين تلك القضايا «فرضية الصحة العامة» التي طرحت بهدف إيجاد تفسير للارتفاع الذي حدث مؤخرًا في معدلات الإصابة بأمراض المناعة الذاتية والحساسية في الدول الغربية. فكلا النوعين من الأمراض سببه خلل في توازن الاستجابة المناعية. تعزو نظرية الصحة العامة هذا إلى نقص حالات العدوى في الطفولة والناجم عن التطعيم، علاوة على ارتفاع معايير الصحة العامة واستخدام المضادات الحيوية في عالمنا المعاصر. كل تلك العوامل تخفض من تحفيز المستضد خلال فترة الطفولة وربما كانت تعرض جهاز مناعة الطفل لتلك الاستجابات الشاذة. ولا يزال البحث العلمي ناشطًا في هذا المضمار، غير أنه حتى وقت كتابة هذه السطور، لا يوجد دليل قائم على أساس متين يدعم هذه الفرضية النظرية.

مهما بلغت درجة أمان اللقاحات، فلن تكون أبدًا بلا أعراض جانبية محتملة. ومع مواصلتها النجاح في الوقاية من الأمراض المعدية، سوف تواصل معدلات الوفيات الانخفاض، وفي نهاية المطاف قد تتجاوز الآثار السلبية للقاح آثار المرض ذاته الذي صمم اللقاح أصلًا للوقاية منه. فمع أن مخاطر لقاح الجدري ضئيلة إلى حد بعيد، حيث لا تتجاوز نسبة الوفيات واحدة أو اثنتين من كل مليون عملية تطعيم، كان من المقرر وقف التطعيم عند نقطة ما من تنفيذ برنامج القضاء على الجدري بسبب تلاشي الفيروس من جميع القارات. ومع ذلك كان من الضروري استمرار التطعيم لحين التأكد من محو المرض من الوجود تمامًا. وفي الوقت الراهن، وأثناء استمرار برنامج القضاء على الحصبة عالميًّا، صارت العدوى منذ الآن حدثًا نادرًا في العالم المتقدم، وربما اعتقد البعض أنه مع وجود احتمال بنسبة واحد في المليون لحدوث التهاب دماغي مصاحب للتطعيم، قد يكون الأكثر أمانًا ألا نقدم التطعيم. لكن لو أن عددًا من الناس تذرع بذلك بحيث هبط مستوى التطعيم لما دون المستوى الحرج وهو ٨٠٪، فإن أوبئة الحصبة سوف تعاود الظهور، مما سيؤدي حتمًا إلى وفيات.

وهذا بالضبط ما حدث في بريطانيا بعد ظهور تقرير في الدورية الطبية «ذا لانسيت» عام ١٩٩٨ يشير إلى العلاقة بين التطعيم ضد الحصبة وبين إصابة الأطفال بالتوحد. وتسببت الشهرة التي نالها هذا الموضوع في تراجع فوري لنسبة التطعيمات ضد الحصبة في المجتمع، وبالرغم من تفنيد الحجج التي زعمت بوجود تلك العلاقة التي ثبت في نهاية الأمر عدم وجود أي دليل عليها، فإن الفجوة استمرت وقتًا طويلًا وكافيًا كي يعيد الفيروس ترسيخ وجوده في المجتمع ويتسبب في أوبئة حصبة ووفيات ناجمة عنها. واستغرق الأمر ١٢ عامًا حتى حكم على كاتب التقرير «أندريه ويكفيلد» بعدم توخي الأمانة العلمية وبأنه خان مواثيق الأخلاقيات التي وضعها المجلس الطبي العام وحكم عليه بالشطب من سجلات مهنة الطب في بريطانيا. وعندها فقط تراجعت دورية «ذا لانسيت» رسميًّا عما ورد في التقرير بسبب خيانة كاتبه لأخلاقيات المهنة.

لكل تلك الأسباب مجتمعة يجري بحث دءوب عن لقاحات أكثر أمانًا. وكانت الثورة الجزيئية التي بدأت في الستينيات إيذانًا بظهور جيل جديد من اللقاحات الفيروسية «المؤلفة من وحدات فرعية من الفيروسات». فمع الكشف مؤخرًا عن التركيبة الجزيئية للفيروسات، أمكن التعرف على البروتينات الفيروسية الرئيسية (الوحدات الفرعية) المطلوبة لتحفيز المناعة الوقائية ثم تصنيعها في المختبر في صورة لقاح. وكان أول طابور تلك اللقاحات الحديثة «المؤتلفة» اللقاح المضاد لفيروس الالتهاب الكبدي ب. فقد اكتُشف المستضد السطحي للفيروس باعتباره البروتين الرئيسي، واستنسخ هذا البروتين وأنتج بكميات هائلة داخل خلايا الخميرة في المختبر. وبعد أن بينت التجارب التي أجريت على الحيوانات أن اللقاح آمن وفعال، حل محل المنتجات السابقة عليه التي كانت تصنع بتقنية المستضد السطحي للفيروس من دماء أشخاص مصابين بعدوى مستديمة، وهو أسلوب حمل مخاطر نقل عدوى يحملها الدم معه مثل فيروس نقص المناعة البشري أو الالتهاب الكبدي سي. وهناك منتج مماثل من إنتاج المختبرات وهو اللقاح الذي رخص باستخدامه مؤخرًا ضد النوعين ١٦ و١٨ من فيروس الورم الحليمي البشري المسبب للسرطان والمصنَّع بناءً على البروتين الرئيسي المغلف للفيروس. تُجمع تلك الجزيئات البروتينية لفيروس الورم الحليمي البشري داخل «جسيمات شبيهة بالفيروس» غير معدية جوفاء تبين باستخدام نماذج حيوانية أنها آمنة وأنها تقي من نشوء السرطان المستحث بفيروس الورم الحليمي. وينصح حاليًّا بتطعيم المراهقات به لوقايتهن من سرطان عنق الرحم.

ومن الابتكارات الحديثة الأخرى التي استخدمت فيها لقاحات مؤتلفة ما يطلق عليها لقاحات الدي إن إيه العاري، وفيها إما أن يحقن الدي إن إيه الحامل لشفرة البروتين الفيروسي الرئيسي مباشرةً أو يغرس داخل جينوم فيروس غير ضار من أجل التوصيل. عندما يصيب هذا الفيروس، المسمى الناقل، خلايا الإنسان أو الحيوان بعدواه، فإنه يظهر صفة الجين «الغريب» الرئيسي بجانب صفات جيناته هو ويستحث رد فعل مناعيًّا من جانب العائل. ولم يحصل بعد أي لقاح صنع بهذه الطريقة على ترخيص باستخدامه على الإنسان، غير أن التجارب الإكلينيكية أجريت بالفعل على لقاح مؤتلف مضاد لفيروس نقص المناعة البشري باستخدام الفيروس الغدي كناقل.

بالرغم من تلك الأساليب المتنوعة في إنتاج اللقاحات، لا تزال هناك العديد من الفيروسات المسببة للأمراض التي لا تتوافر لها تطعيمات، من بينها الفيروس المخلوي التنفسي الذي يفتك بالأطفال. وهناك أسباب متنوعة لهذا، تصورها لنا كمثال المحاولات الفاشلة العديدة التي بذلت لتحضير لقاح واقٍ من فيروس نقص المناعة البشري.

لقاحات فيروس نقص المناعة البشري: حقيقة أم خيال؟

مر الآن ما يزيد على ٢٠ عامًا منذ اكتُشف لأول مرة فيروس نقص المناعة البشري باعتباره المسبب لمرض الإيدز، ولكن على الرغم من الاستثمارات المالية الهائلة والجهود العلمية الجبارة التي بذلت في هذا الصدد، لا يبدو في الأفق حتى الآن أي لقاح فعال. بعد أن أخفقت مستحضرات لقاح فيروس نقص المناعة البشري التي نشَّطت بصفة أساسية استجابات الأجسام المضادة، في الوقاية من العدوى، تمت تجربة لقاحات الخلية التائية، لكنها هي الأخرى فشلت. بل إن إحداها بدا وكأنه يزيد من معدلات العدوى في الفئة التي تلقت التطعيم مقارنةً بالمجموعات الضابطة.

هناك أسباب عدة لتلك الإخفاقات، أولها: أن فيروس نقص المناعة البشري يتحور سريعًا، وبعد حوالي ١٠٠ عام من انتقال العدوى إلى الإنسان صارت هناك العديد من الأنواع والسلالات المختلفة التي لا يمكن الوقاية منها جميعًا بمستحضر لقاح واحد. والسبب الثاني: أن الفيروس يظل ماكثًا طيلة حياة كل إنسان يصيبه، ما يشير إلى أن الاستجابة المناعية الطبيعية ضده لا يمكنها إجلاء الفيروس من الجسم. وهذا يصعب الأمر إذ إن علينا أن نصمم لقاحًا يقوم بما عجزت الطبيعة عن تحقيقه. والسبب الثالث: أن فيروس نقص المناعة البشري ينتقل عادةً عبر بطانة المسالك التناسلية، وهكذا يتعين على الأجسام المضادة والخلايا التائية المناعية في الدم الوصول إلى هذا الموقع كي تمنع الفيروس من إصابة خلايا سي دي ٤ بالعدوى ومن تأسيس عدوى كامنة. وأخيرًا: من الممكن للفيروس الانتقال إما كفيروس حر أو ممتطيًا صهوة خلايا ويختلف في كل حالة من الحالتين نوع الاستجابة المناعية المطلوبة لمنعه من ترسيخ عدواه. لكل تلك الأسباب مجتمعة، صار اللقاح المثالي الذي يمنع حدوث عدوى بفيروس نقص المناعة البشري منعًا تامًّا حلمًا بعيد المنال في الوقت الراهن. وحتى اللقاح الذي يكافح العدوى ويطيل فترة الخلو من المرض ربما يكون مفيدًا. لقد لاح بصيص من الأمل عام ٢٠٠٩ عندما أعلنت نتائج أكبر تجربة إنتاج لقاح ضد الفيروس وأعلاها تكلفة في تاريخ البشرية. استغرقت التجربة، التي شارك فيها ١٦ ألف متطوع في تايلاند، ست سنوات حتى اكتملت وكان متوقعًا لها الفشل عمومًا. غير أن النتائج أظهرت وجود مستوى متواضع من الوقاية أنتجه لقاحان صنعا بطريقة الائتلاف الجيني يقدمان بأسلوب الجرعة الأولى والتنشيطية. كانت الجرعة الأولى مصممة بحيث تنشط استجابة الخلية التائية للفيروس والثانية لتنشيط هذه الاستجابة.

حتى لو كانت تلك بداية فتح علمي في إنتاج لقاحات مضادة لفيروس نقص المناعة البشري، فلا يزال الوصول إلى منتج مرخص له في حاجة لقطع شوط طويل. في هذه الأثناء، توجد أمامنا سبل أخرى لمهاجمة العدوى القاتلة ينبغي اتباعها للحصول على أكبر تأثير ممكن.

لا يزال الأسلوب متعدد الأوجه في مكافحة فيروس نقص المناعة البشري يركز على قطع السبيل أمام انتشار الفيروس غير أنه يتجاوز أساليب التثقيف والتوعية التقليدية، مثل تقديم العوازل الطبية مجانًا وبرامج تغيير إبر الحقن والعلاج الفوري للأنواع الأخرى من العدوى التي تنتقل عن طريق الجنس. على سبيل المثال، تبين أن الختان يخفض حجم التعرض للعدوى لدى الرجال بنسبة تتراوح بين ٤٠–٨٠٪ ومن ثم يجب التشجيع على إجرائه لدى الفئات التي يحيط بها خطر كبير.

تعد العقاقير المضادة للفيروسات مفتاح تحجيم الانتشار الفيروسي وقد بدأ حجم تداولها يزداد في جميع أنحاء العالم، حيث تصل نسبة التغطية بتلك العقاقير حاليًّا إلى حوالي ٥٠٪ من أعداد من هم في حاجة إليها. ولعل الأولوية هنا تُعطى لتقديم العقاقير المضادة للفيروس القهقري لجميع النساء الحوامل موجبات فيروس نقص المناعة البشري لمنع انتقال الفيروس لأطفالهن، ويتوقع تنفيذ ذلك بحلول عام ٢٠١٥.

إذا اقتطعنا صفحةً من كتاب الوقاية من الملاريا، حيث العرف هو تقديم وقاية سابقة على التعرض للعدوى، لوجدنا أن من بين الخيارات المطروحة أن نحمي الأزواج غير المصابين بالعدوى والذين يحيط بهم خطر محدق كونهم شركاء لأناس مصابين بعدوى فيروس نقص المناعة البشري وذلك بتقديم عقاقير مضادة للفيروس القهقري لهم. بالإضافة لذلك، فإن الوقاية بعد التعرض للعدوى، وهو أسلوب استخدم بنجاح مع العاملين في مجال الرعاية الصحية بعد تعرضهم نتيجة حادث مهني للعدوى بفيروس نقص المناعة البشري، تعد خيارًا متاحًا في أعقاب اللقاءات الجنسية المحفوفة بالمخاطر، بما يشبه حالة التفكير المتأخر عندما تنسى السيدة تناول حبة منع الحمل فتتناولها في الليلة التالية للقاء.

وتوضح دراسات عديدة أن انتقال فيروس نقص المناعة البشري يحدث بأسهل صورة عندما تكون الشحنة الفيروسية داخل الدم مرتفعة، ولما كان بإمكان العلاج المضاد للفيروس تخفيض حجم تلك الشحنة إلى مستويات لا يمكن اكتشافها، فإن هذه العقاقير من الممكن أن تستخدم في منع انتشار العدوى. معظم الانتقال يتم خلال الأشهر القليلة التي تعقب العدوى الأولى عندما تكون الشحنة الفيروسية بالغة الارتفاع غير أن أغلب الناس لا يكونون مدركين أنهم مصابون بالعدوى. وأكثر برامج مسح حالات الفئات المهددة نجاحًا، ومن بينها اختبار «الانسحاب» تنتقي تلك الحالات المبكرة من العدوى وتتيح إمكانية تلقي العلاج مبكرًا.

المركبات المضادة للفيروسات

طوال فترة ناهزت أربعين عامًا منذ اكتشاف البنسلين عام ١٩٤٥، أمكن شفاء العدوى البكتيرية بالمضاد الحيوي الملائم، في حين ظلت أغلب أنواع العدوى الفيروسية غير قابلة للعلاج. ويتصل هذا الفارق بالاختلافات الحيوية بين البكتيريا والفيروسات وبالأسلوب الذي يحدث به كل منهما المرض. فالبكتيريا المسببة للأمراض في الغالب كائنات وحيدة الخلية تعيش حرة يمكنها أن تغزو الجسم وأن تتكاثر بداخله، ومن ثم تسبب المرض. وللبكتيريا جدران خلوية خارجية قوية البنيان وهي ضرورية لبقائها على قيد الحياة، ويستهدف البنسلين ومشتقاته تلك التركيبات الفريدة ويترك خلايا العائل دون أن يلحق بها أي أذى. غير أن الفيروسات ليست بخلايا، ولما كانت تستغل آلية التكاثر التي تملكها الخلايا التي تصيبها بالعدوى، فقد ثبت مدى صعوبة إيجاد عقاقير تمنع الفيروس من التكاثر دون أن تلحق في الوقت نفسه أذًى بخلايا العائل. ومع ذلك، هناك الآن ما يقرب من ٤٠ مركبًا دوائيًّا مضادًا للفيروسات أجيز استخدامه إكلينيكيًّا. وللأسف، معظمها لا ينشط إلا ضد فيروس واحد أو مجموعة واحدة من الفيروسات.

كان أول دواء مضاد للفيروسات رخص باستخدامه عقار أسيكلوفير، الذي صنع في سبعينيات القرن العشرين وكان فعالًا ضد أنواع عدوى فيروس الهيربس مثل بثرات البرد والقوباء المنطقية. إن العقار يتخفى في صورة نوكليوزيد، وهي لبنة بناء جزيء دي إن إيه. وحتى يندمج داخل دي إن إيه الفيروس، يجب إضافة مجموعات فوسفات لكل نوكليوزيد بواسطة إنزيم موجود بفيروس الهيربس اسمه ثيميدين كيناز. هذه الخطوة الضرورية تحد من نشاط الدواء لتجعله مقصورًا فقط على الخلايا المصابة. بعد ذلك يلتحم الأسيكلوفير المفسفر بسلسلة الدي إن إيه الفيروسي المتنامية فيوقف عملية امتدادها، وبهذا ينهي عملية تضاعف الدي إن إيه الفيروسي. وعن طريق استهداف وظيفة محددة للفيروس، وهي في حالتنا هذه تكاثر أو استنساخ جزيء دي إن إيه الخاص به، لا يؤثر الأسيكلوفير على خلايا العائل غير المصابة ومن ثم لا يحدث تلفًا موازيًا بها.

أعطى التعرف على فيروس نقص المناعة البشري باعتباره سبب مرض الإيدز الذي ظهر في أوائل الثمانينيات زخمًا كان العالم في أمس الحاجة إليه لدفع عجلة اكتشاف العقاقير المضادة للفيروسات. والآن نجد حوالي نصف المركبات المضادة للفيروس القهقري الحاصلة على تراخيص مصممة خصوصًا للعلاج من فيروس نقص المناعة البشري وقد حولت عدوى كانت تهلك كل من يصاب بها دون استثناء، إلى مرض مزمن. وتعمل كثير من المركبات المضادة للفيروس القهقري بأسلوب مشابه لأسلوب عمل أسيكلوفير بتثبيطها للإنزيمات الفيروسية الضرورية لتكاثر الفيروس، وفي حالتنا هذه تستهدف تلك المركبات إنزيمات النسخ العكسي، أو البروتيايز أو إنزيم الدمج، الفيروسية. وهناك عقاقير أخرى تحبط عملية دخول فيروس نقص المناعة البشري إلى الخلية. ولكن لما كان فيروس نقص المناعة البشري يتحور سريعًا، فإنه سرعان ما يولد مقاومة تجاه عقار معين. وفي عام ١٩٩٦، صار من الواضح أن تصنيع خليط من عدد لا يقل عن ثلاثة عقاقير تنتمي إلى فئات مختلفة (تسمى «العلاج عالي النشاط المضاد للفيروس القهقري»)، يتفوق على العلاج بدواء واحد فقط. ومع أن السيطرة على فيروس نقص المناعة البشري مدى الحياة لا يمكن أن تتحقق إلا بالالتزام الصارم بهذا النظام العلاجي، فإنه مع تغيير تلك التوليفة من العقاقير لدى ظهور أولى بوادر المقاومة من الفيروس (وعادةً ما يكون ارتفاع حجم الشحنة الفيروسية إشارة دالة على ذلك) أو إذا صارت الأعراض الجانبية غير محتملة، نجد أن معظم من يعالجون بنظام «العلاج عالي النشاط المضاد للفيروس القهقري» من المصابين بعدوى نقص المناعة البشرية يتمتعون بمتوسط عمر متوقع طبيعي.

وهناك نوع آخر من أنواع العدوى يمكن علاجه بمجموعة متنوعة من العقاقير المضادة للفيروسات وهو الأنفلونزا. وتعتمد تلك العقاقير على أسلوبين للعمل: أحدهما يثبِّط مفعول إنزيم نورامينيديز الفيروسي، والآخر يمنع دخول الفيروس خلايا العائل. خلال فترة العلاج القصيرة المطلوبة لشفاء الأنفلونزا، لا تمثل مقاومة العقار مشكلة بصفة عامة، غير أنه في حالة الوباء أو الجائحة قد تكون كذلك. فكما شهدنا في جائحة أنفلونزا الخنازير «إتش١ إن١» عام ٢٠٠٩، عكفت العديد من الحكومات في البلدان المتقدمة على تخزين أطنان من عقار تاميفلو (أوسيلتاميفير، وهو عبارة عن مثبط لإنزيم نورامينيديز). وكلل هذا الإجراء بالنجاح مع بدء الجائحة، غير أنه بعد ذلك بدأت السلالات المقاومة للدواء في التجول في الأرجاء. وكان المأمول أن يسد العقار الثغرة في الوقت الذي سيتم خلاله تحضير اللقاح المناسب. ونجح هذا الأسلوب نجاحًا لا بأس به، وبخاصة في الحالات شديدة الوطأة. غير أنه لما تبين أن سلالة أنفلونزا الجائحة ضعيفة بصفة عامة، اعتُبِر أن هذه الاستراتيجية لم تختبر اختبارًا حقيقيًّا.

إجلاء فيروسات الالتهاب الكبدي المستديمة

على نطاق عالمي، يعد فيروسا الالتهاب الكبدي ب وسي مشكلة كبيرة، تتسبب في وفاة ما يقرب من ربع مليون حالة سنويًّا. ومع ذلك يتمكن بعض الناس من إجلاء الفيروسين من أجسامهم بعد الإصابة الأولى بالعدوى، لهذا يهدف العلاج إلى حث عملية الإجلاء لدى من يعانون من عدوى نشطة مستديمة. وفي الوقت الراهن، لا يكون هذا ممكنًا في جميع الحالات، إلا أنه من الممكن لو اجتمعت عدة عقاقير مضادة للفيروسات مع منشطات للمناعة في كثير من الأحيان تثبيط تكاثر الفيروسات والحد من تلف الكبد.

يتمتع السيتوكين المعروف باسم إنترفيرون-ألفا بكلٍّ من التأثير المنشط للمناعة والمضاد للفيروسات وهو يستخدم في علاج كلا النوعين من الفيروسات. غير أن هناك جانبًا سلبيًّا خطيرًا له. فالعلاج يتضمن فترة طويلة من جرعات الحقن التي لها بعض الآثار الجانبية السيئة، معظمها عبارة عن أعراض تشبه الأنفلونزا مع الشعور بالخمول. كما يتسبب أيضًا في الاكتئاب أحيانًا، علاوة على عجز حوالي ١٥٪ من المرضى عن إكمال البرنامج العلاجي.

عند استعمال الإنترفيرون-ألفا كعلاج أوحد، نجده يحقق استجابة مستدامة لدى نسبة تصل إلى ٤٠٪ من المصابين بعدوى فيروس نقص المناعة البشري المستديمة، كما تم الحصول على نتائج مماثلة باستخدام عقاقير منفردة مضادة للفيروسات. وصارت تلك العقاقير في الوقت الراهن العلاج الذي يقع عليه الاختيار، غير أن التجارب الإكلينيكية ما زالت تسير على قدم وساق بهدف تقييم دور الجمع بين إنترفيرون-ألفا والعقاقير المضادة للفيروسات في علاج فيروس الالتهاب الكبدي ب. كذلك يستجيب فيروس الالتهاب الكبدي سي للإنترفيرون-ألفا، ويصل معدل الاستجابة إلى ٨٠٪ عند الجمع بينه وبين العقاقير المضادة للفيروسات. وتتوقف النتيجة على النوع الفرعي من فيروس سي الذي تسبب في العدوى، وعلى المدى الذي وصل إليه المرض، وعلى عمر المريض ونوعه إن كان ذكرًا أم أنثى. وتتحقق أفضل النتائج لدى الأفراد الذين أصيبوا بالأنواع الفيروسية الفرعية ٢ أو ٣ أو ٤ ووجود شحنة فيروسية منخفضة.

تشخيص نوع الفيروس

من الناحية التاريخية، كان تشخيص العدوى الفيروسية وعلاجها متأخرًا كثيرًا عن تشخيص وعلاج الأمراض البكتيرية ولم يبدآ في اللحاق بالركب إلا في أيامنا هذه. في البداية كانت الفيروسات تعرف بأنها عوامل معدية تمر من خلال فتحات المرشحات التي تحتجز مسامها البكتيريا. وبعدها في ثلاثينيات القرن العشرين، جاء اختراع المجهر الإلكتروني ليتيح لنا رؤية الفيروسات مما أدى إلى التعرف على تفاصيل تركيبه وفهم دورة حياته وتمييز العائلات المختلفة منه. وبمجرد أن تبين أن الفيروسات ما هي إلا طفيليات تنمو داخل الخلايا، ابتكرت تقنيات زراعة خلوية حديثة من أجل نشرها وعزلها. ومن بين تلك التقنيات زرعها داخل بيض الدجاج وفي الخلايا المسترزعة، وكلاهما أظهر التأثير الممرض الذي يحدثه الفيروس على الخلايا التي يصيبها وهو تأثير يميز كل فيروس عن غيره. غير أن التشخيص المبني على اصطياد الفيروس المتهم بواسطة المجهر الإلكتروني كان يتصف بانعدام بالغ في كفاءته كما أنه مضيعة للوقت، في الوقت الذي كان فيه التأثير الممرض للفيروسات داخل البيض أو الخلايا المستزرعة يستغرق بضعة أيام ولم يحقق نجاحًا إلا مع نسبة من الفيروسات المسببة للأمراض. ومن ثم فإنه حتى عهد قريب، لم تكن الأنواع الكثيرة للعدوى الفيروسية تشخص مطلقًا، أما بالنسبة لتلك التي كانت تشخص، فكان المريض عادةً ما يكون قد شفي بالفعل أو توفي قبل أن تأتي نتيجة التشخيص. والحقيقة أنه لم يكن هناك علاج محدد للعدوى الفيروسية في تلك الأيام، واعتقد كثيرون أن هذا الأمر لم يكن له أهمية.

زودنا ابتكار الأجسام المضادة وحيدة النسيلة في سبعينيات القرن العشرين بكواشف متخصصة لبروتينات كل فيروس من الفيروسات بحيث أمكن استخدام تلك الكواشف في تحديد الخلايا المصابة بالعدوى مباشرةً داخل الأنسجة المريضة. كذلك أمكن تحديد الأجسام المضادة لفيروسات معينة داخل عينات الدم، وصار هذا الأمر عماد تشخيص الفيروسات إلى أن اندلعت مؤخرًا الثورة الجزيئية. ويمكن الآن التوصل إلى تشخيص سريع عن طريق اكتشاف مقادير بالغة الضآلة من الدي إن إيه أو الآر إن إيه الفيروسي في عينات مأخوذة من المرضى، بحيث لم تعد هناك حاجة بعد ذلك لزراعة الفيروس أو عزله. وجاءت تلك الطفرة العلمية مع ابتكار تفاعل البوليميريز المتسلسل أو ما يعرف بتحليل «بي سي آر» في الثمانينيات. وعُدلت هذه التقنية بحيث يمكنها اكتشاف وتضخيم تتابعات الجينوم الفيروسي المحدد من العينات الإكلينيكية في خلال دقائق قليلة. فالآن صار التشخيص في نفس اليوم حقيقة واقعة، بجانب عمليات التقييم السريع للشحنات الفيروسية والحساسية من الأدوية المضادة للفيروسات.

إضافة إلى إحداث ثورة في التشخيص الفيروسي، أماطت تقنية بي سي آر أيضًا اللثام عن ثغرات تشخيصية كبرى. فلا تزال المختبرات التشخيصية عاجزة عن العثور على الفيروس المتهم في العديد من الحالات التي تُعرف بالالتهاب السحائي والالتهاب الدماغي «الفيروسيين» والعدوى التنفسية «الفيروسية». وهذا يشير بقوة إلى أن هناك الكثير والكثير من الفيروسات المسببة للأمراض التي لا تزال تنتظر دورها في الكشف عنها، وهنا أيضًا يأتي البي سي آر ليمثل أداة بحثية محورية. وبعد أن عرف الآن تسلسل الجينوم البشري بالكامل، صار من الممكن التعرف على الجينات «الغريبة» في العينات البشرية الإكلينيكية. وباستخدام تلك الوسيلة اكتشفت مؤخرًا العديد من الفيروسات «الجديدة»، من بينها فيروس بوكا البشري، الذي تبين أنه عامل مشترك في إحداث العدوى التنفسية لدى الأطفال. غير أن تلك الاكتشافات ليست سوى البداية؛ ويمكننا أن نتوقع أن نسمع عن المزيد والمزيد من الفيروسات «الجديدة» على امتداد السنوات القليلة المقبلة.

هوامش

(1) Courtesy of the Library of Congress.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤