الفصل الأول

الرجل ذو الحذاء المسمَّر

في اعتقادي أنه ليس هناك الكثير من الأماكن حتى على الساحل الشرقي لإنجلترا التي تُعدُّ منعزلةً ونائية أكثر من قرية ثاندرسلي الصغيرة وما يُحاوِطها من مناطق ريفية. إن تلك القرية البعيدة عن أيِّ خط سكة حديد، والتي على بُعد عدة أميال من أيِّ مدينة كبيرة، تظلُّ بعيدة عن مظاهر الحضارة وتُحافِظ على الأعراف والعادات البدائية وتقاليد العالم القديم في زمن لم يَعُدْ لها مكان فيه. في الصيف، صحيح أن مجموعة من الزوَّار، الذين يتمتَّعُون برُوح المغامَرة رغم أنهم في الغالب يَبحثُون عن الهدوء والانعزال، يأتون إليها فيزداد عددُ سكانها القليل، ويُضفُون على المساحات الشاسعة من الرمال التي تحدُّ شواطئها مظهرًا مؤقتًا نابضًا بالحياة والبهجة الوقورة؛ لكن في أواخر شهر سبتمبر — وهو الشهر الذي عُرفَت فيه هذه البقعة — تجد مراعيها مهجورة ونادرًا ما يطأ إنسانٌ ممراتِها الوعرة على طول المنحدَرات، وتكون الرمال مجردَ قِفار صحراوية لا تشهد آثارَ أقدامِ أحدٍ عليها سوى آثار أقدام الطيور البحرية، وذلك لفترة قد تصل في بعض الأحيان إلى عدة أيام مُتواصِلة.

كان السيد تورسيفال، وهو وكيلي الطبي، قد أكَّد لي أنني سأجد الوظيفة التي أعمل بها الآن «وظيفة سهلة إلى حدٍّ بعيد ومُناسبة لرجل يحب البحث.» وهو لم يَخدعني بكلِّ تأكيد؛ ذلك أن المرضى كانوا في واقع الأمر قليلين جدًّا حتى إنني كنتُ قلقًا بشدة على مُديري، وأصبحتُ كليلًا من قلَّة العمل. ولذا، حين اقترَحَ صديقي جُون ثورندايك — خبير الطب الشرعي المعروف — أن يأتيَ إليَّ ويَقضي معي عطلة نهاية الأسبوع وربَّما بضعة أيام بعدها، وافقتُ على اقتراحِه فرحًا، ورحَّبت به أيما ترحاب.

قال ثورندايك بينَما كنا نخرج من بوابة المنزل بعد أن شربنا الشاي في يوم وصوله لنسير قليلًا على الشاطئ: «لا يَبدو أنك مُنهَكٌ من كثرة العمل يا جيرفس بكل تأكيد. هل هذهِ وظيفة جديدة، أم أنها وظيفة قديمة ولكنَّها في حالة اضمحلال؟»

أجبتُه: «في الواقع، ليس هناك وظيفة من الناحية العمَلية. كان مديري كوبر هنا لمدة نحو ستِّ سنوات، ونظرًا لأنه كان يمتلك دخلًا خاصًّا، فإنه لم يبذل قطُّ جهودًا جادة من أجل محاولة إقامة عمل خاص ناجح هنا؛ وحيث إن الطبيب الآخر — وهو الدكتور باروز — يتصف بالحماس الشديد، كما يتَّسم الناس هنا بالتحفُّظ الشديد، فإن كوبر لم يُمارس تلك الوظيفة حقَّ ممارستها. لكن هذا لا يبدو أنه كان يُزعجه.»

قال ثورندايك مبتسمًا: «إذن، إذا كان هو راضيًا، فأعتقد أنك راضٍ كذلك. إنك تقضي إجازة على شاطئ البحر وتتلقَّى أجرًا على ذلك. لكنَّني لم أكن أعلم أنك قريب من البحر لهذه الدرجة.»

وبينما كان يتحدَّث، كنا ندخل فجوةً اصطِناعية محفورة عند المنحدر المنخفِض، مما شكَّل مسارًا مُنحدِرًا للعربات يصل إلى الشاطئ. كان ذلك المسار معروفًا بين السكان المحليين باسم «فجوة ثاندرسلي»، وكان يُستخدَم في الأساس — هذا إذا كان هناك مَن يستخدمه أصلًا — من قِبَل المزارعين حيث ينزلون عليه بعرباتهم ليجمعوا الطحالب البحرية بعد هدوء العواصف.

أكمل ثورندايك حديثَه بينما وصلنا إلى أسفل المنحدر وقال: «يا له من امتداد رمليٍّ رائع!» ثم وقف ينظر نحو البحر عبر الشاطئ المهجور. ثم استطرد قائلًا: «هناك شيء شديد العظمة والمهابة فيما يتعلق بالامتداد الرملي الكبير حين يتراجع عنه المدُّ، ولا أعلم أيَّ شيء يُمكِن أن يُثيرَ في المرء إحساسًا بالانعزال أكثر منه. إنَّ رمال الشاطئ الناعمة والمستوية لا تُثيرُ في النفس فقط إحساسًا بأنها مهجورة الآن، وإنما تُقدِّم أيضًا للمرء دليلًا قويًّا بأنها ظلَّت على حالتها هذه من الهدوء والسكون لفترة كبيرة من الوقت. على سبيل المثال، لدينا هنا دليلٌ واضِح على أن هذه الفجوة لم تَطأْها أقدامُ أحدٍ غيرنا سوى أقدام رجلين فقط وذلك على مدار عدة أيام.»

سألته: «كيف أجزمت أنها «عدة أيام»؟»

أجابني: «الأمر بسيط للغاية. إنَّ القمر الآن في التربيع الثالث؛ ومن ثَمَّ فإن المد الآن ناقص. يُمكنك أن ترى بوضوح خَطَّي الطحالب البحرية ومطروحات البحر اللذين يُشيران إلى علامتَي ذروة المد للمد الربيعي والمد الناقص على التوالي. وشريط الرمال الجافة نسبيًّا بينهما — الذي لم ترتفع إليه المياه لعدة أيام — يحمل، كما ترى، أثرَ مجموعتَين من آثار الأقدام، ولن يمحوَ البحر هذه الآثار تمامًا حتى موعد المد الربيعي القادم؛ أي، بعد ما يَقرب من أسبوع بداية من اليوم.»

«أجل، أرى ذلك الآن. ويبدو الأمر أكثرَ وضوحًا حين يسمع المرء تفسيره. لكن يبدو لي من الغريب أنَّ أحدًا لم يمرَّ عبرَ هذه الفجوة لعدة أيام، ثم يأتي أربعة أشخاص إلى هنا دون أن يفصلَ بين مجيئهم سوى فترة قصيرة.»

سأل ثورندايك: «ما الذي يجعلك تعتقد هذا؟»

أجبتُه: «في الواقع، يبدو أن تلك المجموعتَين لا تزالان حديثتَين، ويبدو أنهما قد حدثتَا في وقتٍ واحد تقريبًا.»

ردَّ ثورندايك: «ليس في وقت واحد يا جيرفس. هناك بالتأكيد فترة زمنية تمتدُّ عدة ساعات بينهما، رغم أننا لا نستطيع أن نجزم بعدد تلك الساعات تحديدًا؛ وذلك بسبب قلة الرياح التي هبَّت مؤخرًا، لكن لا شكَّ أن الصياد مرَّ من هنا في غضون الساعات الثلاث الماضية وليس أكثر، وأقول إنه ربما مرَّ في غضونِ ساعة قبل الآن؛ بينما عبر الآخر من خلال الفجوة — ويَبدو أنه نزل عن قارب ليُحضرَ شيئًا ذا وزن كبير — بالتأكيد في غضون ليس أقل من أربع ساعات مضت، وربما أكثر.»

حدَّقتُ في صديقي من شدة الدهشة؛ لأنَّ مثل تلك الأحداث وقعت في الأيام التي كانت قبل أن أنضمَّ إليه كمُساعد له، وحينها لم أكن أُقدِّر تمامًا معرفتَه الخاصة وقدرتَه على الاستدلال.

قلت له: «من الواضح يا ثورندايك أن آثار الأقدام تعني لك شيئًا مختلفًا عما تَعنيه لي. ولا أعرف على الإطلاق كيف وصلْتَ إلى تلك الاستِنتاجات.»

كانت إجابته: «لا أعتقد ذلك؛ لكن المعرفة الخاصة من هذا النوع هي الأداة اللازمة لنجاح عمل خبير الطب الشرعي، وينبغي أن يتحصل عليها المرءُ من خلال الدراسة الخاصة، رغم أن المثال الحالي على قدرٍ كبير من البساطة والوضوح. لكن لننظر في الأمر شيئًا فشيئًا؛ في البداية سننظر إلى تلك الآثار التي قلتَ إنها آثار أقدام رجل صياد. لاحِظْ حجمَها الكبير. لا بد أنها آثار أقدام رجل عِملاق. لكن طول الخطوة بين القدم والأخرى يدلُّ على أنها لرجلٍ قصير نوعًا ما. ثمَّ لاحِظْ حجم النعلَين الكبيرَين، وحقيقة أنهما خاليان من المسامير. لاحظ أيضًا خطوته الغريبة الخرقاء — العلامات العميقة لكعب القدم والأصابع — إنها كما لو أن هذا الشخص كان يمتلك ساقَين خشبيَّتين أو أن ركبتَيه وكاحلَيه كانَت ثابتة. من تلك الصفات يُمكننا أن نستنتج دون تردُّدٍ أن الحذاء كان عاليَ الرقبة من جلدٍ سميك وصلبٍ ولا يَحتوي نَعلاه على مسامير، كما أنَّ حجم الحِذاء أكبر من حجم قدمِ مَن يَرتديه. لكنَّ الحذاء الوحيد الذي يَنطبِق عليه هذا الوصف هو الحذاء الطويل الذي يصلُ للفخذَين والذي يَرتديه الصيادُون — ويكون هذا الحذاء ذا حجم كبير ليتمكَّن مَن يَرتديه من ارتداء اثنين أو ثلاثة من الجوارب المَحبوكة الثقيلة أثناء الشتاء، الواحد فوق الآخر. والآن انظر إلى آثار الأقدام الأخرى؛ هناك مسارٌ مُزدوَج لها، أحدُ هذَين المسارَين قادمٌ من البحر والآخر متَّجِه نحوَه. وبينما كان الرجل (المقوَّس الساقين والذي تتجه أصابع قدميه نحو الداخل) يَسيرُ، يُصبحُ من الواضِح أنهُ أتى من البحر ثمَّ عاد إليه. لكن لاحظِ الفرق بين مجموعتَي الآثار؛ إنَّ الآثار التي تُشير إلى عودته إلى البحر أكثرُ عمقًا من الأخرى، كما أن خطوته فيها أقصر بشدة من خطوته في الأولى. لا شكَّ أنه كان يحمل شيئًا حين عاد، وأنَّ ذلك الشيءَ كان ثقيلًا جدًّا. علاوة على ذلك، يُمكننا أن نرى من خلال العمق الكبير الذي تُخلِّفُه آثارُ أصابع قدمه أنه كان يَميلُ للأمام بينَما كان يَسير؛ ومن ثَمَّ فربما كان يحمل الحمل على ظهره. هل هذا واضح الآن؟»

أجبتُه: «تمامًا. لكن كيف أمكنَكَ أن تَستنتِجَ الفترة الزمنية بين مرور الرجلين؟»

«هذا أيضًا سهل وبسيط إلى حدٍّ كبير. إنَّ المدَّ الآن ناقص تقريبًا؛ ومن ثَم فقد مرَّت نحو ثلاث ساعات منذ انتهاء المد المُرتفِع. والآن، كان الصياد يسير تقريبًا في الوقت الذي كان المدُّ فيه ناقصًا — أي علامة ذِروة المد — أي في وقتٍ قصير قبلها أو بعدها. لكنَّ أيًّا من آثار أقدامه محَتْها المياه؛ ومن ثَم فقد مرَّ بعد انتهاء المدِّ المُرتفِع؛ أي قبل أقل من ثلاث ساعاتٍ مضَت؛ وبما أنَّ آثار أقدامه لا تزال مُميزة جميعها، فلا يُمكِن أن نَقول بأنه قد مرَّ حين كانتِ الرمالُ مُبتلةً للغاية. لذا فقد مرَّ قبل أقل من ساعة على الأرجح. أما عن آثار أقدام الرجل الآخَر فإنها تمتدُّ فقط إلى حين كان المدُّ ناقصًا — أي علامة ذروة المدِّ — حيث تنتهي فجأة. لقد اجتاحَت المياه بقيةَ الآثار ومحَتْها؛ ولذا فقد مرَّ ليسَ قبل أقل من ثلاث ساعات ولا أكثر من أربعة أيام؛ أي في غُضون أربع وعشرين ساعة مضت على الأرجح.»

وبينما كان ثورندايك يُنهِي شرحَه سمعنا صوت أشخاص قادمين من الأعلى، واختلط صوتُهم بوقع أقدامهم، وبعد ذلك مباشرة ظهرت مجموعة غريبة للغاية من الأشخاص عند مدخل الفجوة في طريقهم إلى الشاطِئ. في مقدمتِهم كان صيادًا قصيرًا ضخمَ الجثة يَرتدي رداءً من المشمَّع وقبعة عريضة الحافة من المشمع أيضًا ويمشي بخُطًى ثقيلة خرقاء في حذائه المائي الطويل، ثم تَبِعه رقيبُ الشرطة المحلِّي ومعه مُنافِسي المِهَني الدكتور باروز، بينما أتى في آخر المجموعة اثنان من رجال الشرطة يَحمِلان نقَّالة. وحين وصَلَ الصياد — الذي كان من الجليِّ أنه يقومُ بدورِ المُرشِد — إلى أسفل الفجوة، استدارَ بمُحاذاة الشاطئ وتتبَّعَ آثار قدمَيه، وتبعتْه بقيةُ المجموعة.

قال ثورندايك: «طبيب، ونقالة، واثنان من رجال الشرطة ورقيب شرطة. ماذا يوحي ذلك إليك يا جيرفس؟»

أجبتُه: «سقوط من المنحدَر، أو جثَّة ألقى بها البحر على الشاطئ.»

رد عليه: «ربما؛ لكن علينا أن نسير في هذا الاتجاه.»

استدرنا لنتبعَ المجموعة التي كانت تسير عكس اتجاهنا، وبينما كنا نسير على الشاطئ المستوي الذي خلَّفه انحسار المد، أكمل ثورندايك حديثه وقال:

«إنَّ موضوع آثار الأقدام يُثير اهتمامي بشدة دومًا لسببَين؛ الأول هو أن الدليل الذي تقدمه آثار الأقدام دومًا ما يكون له الأولوية، وغالبًا ما يكون له أهمية قصوى؛ والثاني هو أن الأمر كلَّه يُمكن أن يكون محلَّ استعراض منهجيٍّ وعِلمي حقيقي. في الأساس تكون البيانات المتعلِّقة به تشريحية، لكنَّ العُمر والجنس والوظيفة والصحة والمرض هي كلُّها عوامل تُعطي مؤشِّراتها المُختلِفة. من الواضِحِ على سبيلِ المثال أنَّ آثارَ أقدام رجل عجوزٍ ستَختلِف عن آثار أقدام شابٍّ وإن كانَا لهما نفس الطول، وأنا لستُ في حاجة لأن ألفتَ انتباهَك إلى أنَّ آثار أقدام شخص يُعاني من اختلاج حركي أو شلل رعاش ستكون لا لبس فيها.»

قلت له: «أجل، أفهم ذلك بوضوح تام.»

وأضاف: «وهذا هو خير مثال على ذلك.» توقَّف ليُشيرَ بعَصاهُ إلى صفٍّ من آثارِ الأقدام التي ظهرت فجأةً فوق علامة ذروة المد، وتقدَّمتْ لمسافة قصيرة، فقطعَتِ الخطَّ مرةً أخرى، ثمَّ اختفَت حيث اجتاحتْها المياهُ ومحتْها. كان تمييز هذه الآثار أسهل من تمييز أيِّ آثارٍ أخرى وذلكَ بفعل الآثار الواضِحة التي خلَّفتْها الكعوب المطاطية الدائرية.

سألني: «هل ترى بها أيَّ شيءٍ جديرٍ بالملاحَظة؟»

أجبتُه: «أُلاحظ أنها أعمق بكثير من آثارِ أقدامنا.»

«أجل، كما أن مقاسَ الحذاء هو نفس مقاس أحذيتنا تقريبًا، إلا أنَّ مسافة الخُطوة أقصر بصورة ملحُوظة، بل هي قصيرة للغاية في الواقع. هناك نسبة ثابتة بين طول القدم وطول الساق، وبين طول الساق وطول الشخص، وبين طول الشخص وطول الخطوة التي يخطُوها. إن القدم الطويلة تعني ساقًا طويلة، ورجلًا طويل البِنية، خطوته طويلة. لكن هنا لدينا قدم طويلة وخطوة قصيرة. ماذا تَستنتِج من هذا؟» ثم وضع عصاه — وهي عصا ملساء مَصنوعة من سيقان نخلِ الرابس، وعلى أحد جوانبِها مقياس بالبوصُات والأقدام — بجوار آثار الأقدام لإثبات حالة التناقُض.

قلت مقترحًا: «إن عمق آثار الأقدام يُوضِّح أن الرجل كان أثقل من كلَينا. ربما كان بدينًا بشدة.»

قال ثورندايك: «أجل، يبدو أن هذا هو التفسير لذلك. إن السير بحمل ثقيل يتسبب في قِصَر الخطوة، والدهون هي في الواقع حمل ثقيل. الاستِنتاج الذي نخرج به هو أن طول الرجل كان قرابة خمس أقدام وعشر بوصات، وأنه كان بدينًا بصورة مفرطة.» ثم التقط عصاه، وأكملنا سيرنا، وقد ثبتنا ناظرَينا على المجموعة أمامنا حتى اختفَت في أحد مُنحنيات الشريط الساحِلي، وهنا أسرَعنا في خُطوتنا بعضَ الشيء. وسرعان ما وصَلنا إلى لسانٍ صغيرٍ؛ حيث وجَدنا مجموعة الرجال الذين سبقونا. كان الرجال قد توقَّفُوا في خليجٍ ضيقٍ، ووقفُوا يَنظُرون إلى جثة ممدَّدة على الأرض، وبجوارها كان الطبيب جاثمًا على ركبتَيه.

قال ثورندايك ملاحظًا: «كنا مُخطئين. لم يسقط رجلٌ عن المنحدَر ولم تَجرِفه مياه البحر إلى الشاطئ. إنه يَرقُد فوق علامة ذروة المد، ويبدو أن آثار الأقدام التي كنا نفحصها هي آثار أقدامه.»

وفيما كنا نقترب، استدار رقيب الشرطة ورفع يده وقال:

«أطلب منكُما ألا تَقتربَا من الجثة الآن أيها السيدان. يبدو أن هذا حادث مدبَّر، وأريد أن أستوضح آثار الأقدام قبل أن يَطأها أحد.»

قبلنا هذا التحذير، وتقدَّمنا إلى حيث كان رجلَا الشرطة يقفان، ونظرنا ببعضِ الفضول إلى القتيل. كان طويل القامة ضعيف البِنية، ورفيعًا إلى حد الهزال، وبدا أنه في الخامسة والثلاثين تقريبًا من عمره. كان ممددًا في وضعية رخوة وكانت عيناه نصف مغلقتَين، وكان وجهه يحمل تعبيرًا هادئًا يتناقض بصورة غريبة مع ظروف وفاتِه المأساوية.

قال الدكتور باروز وهو يَنفُض الرمال عن ركبتَيه حين وقَف: «هذه جريمة قتلٍ واضِحة. هناك جرح سكين غائرٍ فوقَ قلبه، الأمر الذي لا بدَّ وأنه تسبَّب في وفاتِه في الحال.»

سأله رقيب الشرطة: «في رأيك كم مرَّ على وفاتِه أيها الطبيب؟»

كانت الإجابة: «اثنتا عشرة ساعة على الأقل. إن جثَّتَه بارِدة ومتصلِّبة إلى حدٍّ كبير.»

figure
مخطَّط لخليج سانت بريدجيت.

قال الرقيب: «اثنتا عشرة ساعة؟ هذا يعني أنه قُتل في حوالَي السادسة من صباح اليوم.»

عاجله الدكتور باروز قائلًا: «لن ألتزم بالتصريح بوقتٍ محدَّد. إنما أقول فقط إن مقتَلَه لم يمرَّ عليه أقل من اثنتي عشرة ساعة. ربما مرَّ على مقتلِه أكثرَ من ذلك بكثير.»

قال الرقيب: «آه! إذن، لقد صارَعَ كثيرًا من أجل إنقاذ نفسِه فيما يبدو.» ثم أشار إلى الرمال التي حملَت في مُحيط بضع أقدام حول الجثة آثارًا عميقة لأقدام، كما لو أن صراعًا عنيفًا قد وقع. ثم استطرد الرقيب موجِّهًا حديثه للدكتور باروز: «هذه الحادثة غريبة بشكلٍ كبير. يَبدُو أن ذلك الصراع كان بين القتيل ورجلٍ واحد فقط — فهناك مجموعة واحدة من آثار الأقدام بالإضافة إلى آثار أقدام القتيل نفسه — وينبغي أن نعرف مَن كان ذلك الرجل؛ وأظن أن هذا لن يُشكِّل مُشكِلة كبيرة، وذلك بالنظر إلى نوع العلامات المُميزة التي خلَّفها وراءَه.»

وافقه الطبيب قائلًا: «نعم، ليس من المفترض أن تكون هناك مشكلة كبيرة في تحديد نوعية هذا الحذاء. يبدو أن الجاني عاملٌ، وذلك استنادًا إلى الحذاء المسمر.»

عارضه الرقيب قائلًا: «لا يا سيدي؛ إنه ليس عاملًا. إن حجم القدم صغير للغاية، هذا أول شيء؛ ثم إن مسامير الحذاء ليست من النوع الاعتيادي أو المألوف. إنها أصغر بشكل كبير؛ كما أن المسامير في حذاء العامل ستكون مَنثورةً حول حواف الحذاء، كما سيكون هناك أطراف حديدية مستدقَّة عند الكعب، وربما عند مكان الأصابع أيضًا. أما هذا الحذاء أمامنا فلا يُوجد به أطراف مستدقَّة، كما أنَّ المسامير منثورة بطريقة معيَّنة عند الكعب ومنطقة باطنِ القدم. هذا الحذاء على الأرجح هو حذاء صيد، أو هو حذاءٌ رياضيٌّ من نوعٍ ما.» وبدأ يسيرُ جيئة وذهابًا وهو ممسك بدفتر له في يده وأخذ يُدوِّن ملحوظات سريعة ويَنحني على الرمال ليتفحَّص الآثار الموجودة عليها. انشغل الطبيب أيضًا بتدوين الحقائق التي سيكون عليه أن يُدليَ بها في شهادتِه عن الحادث، فيما نظر ثورندايك في صمت وانهماكٍ كبير إلى آثار الأقدام حول الجثَّة، والتي ظلَّت لتكون شاهدةً على ملابسات الجريمة.

قال الرقيب بينما كان يَختتِم تحقيقاته: «من الواضِح إلى حدٍّ ما كيف حدثَتِ الجريمة، ومن الواضح أيضًا أن الجريمة كانت قتلًا مع سبق الإصرار. أيها الطبيب، إن القتيل، السيد هيرن، كان على ما يبدو قادمًا من بورت مارستون ومتوجهًا نحو منزله سيرًا على قدميه؛ لقد رأينا آثار قدمَيه بطولِ الشاطئ — فكعبَا حذائه المطاطان يَجعلان من السهل تحديدهما — ولم يَكُن قادمًا من ناحية فجوةِ ثاندرسلي. ربما كان يُريد أن يتسلَّق المنحدَر عند ذلك الممرِّ الصغير هُناك، والذي يُطلِق عليه الناس هنا «ممرَّ شيبرد». لا بدَّ وأن القاتل كان على علمٍ بمجيئه، ولا بد وأنه انتظر أعلى المنحدَر ليُراقِب المكان جيدًا. وحين رأى السيد هيرن يَدخل الخليج، سار إلى الممرِّ وهاجَمَه، ونجَحَ في طعنِه بعد صراع شديد. ثم استدار القاتل وصعد إلى الأعلى باستخدام الممرِّ نفسِه. يُمكنك أن ترى آثار الأقدام المزدوَجة بينَ الممر والمكان الذي وقَعَ فيه الصراع، كما أنَّ آثار الأقدام المتَّجهة نحو الممرِّ تعلو الآثار القادمة منه.»

قال الدكتور باروز: «إنك إذا ما تتبَّعت الآثار، فينبغي أن تعرف أين ذهَبَ القاتل.»

أجابه الرقيب: «أخشى أنَّ الأمر ليس كذلك. ليس هناك آثارٌ على الممرِّ نفسه، إن صخوره صلبة للغاية، وهكذا أيضًا الأرض أعلى المنحدَر. لكنَّني سأُعرِّج عليهما بإمعان.»

وحيث إنَّ التحقيقات قد انتهت عند هذا الحد، جرى رفعُ الجثَّة على النقالة، وتحركت مجموعة الرجال المكوَّنة من الضابطَين اللذين كانَا يَحمِلان الجثة والطبيب والصياد نحوَ الفَجوة، فيما تسلَّق الرقيبُ ممرَّ شيبرد واختفى أعلاهُ بعد أن تمنَّى لنا أُمسية سعيدة.

قال ثورندايك: «يا له من رقيبٍ ذكيٍّ للغاية! أريد أن أعرف ماذا دوَّن في دفتره.»

قلتُ له: «بدتْ روايته لملابَسات الجريمة منطقية جدًّا.»

«منطقية للغاية. لقد لاحَظَ الحقائق الأساسية والجليَّة وخلص منها إلى الاستِنتاجات الطبيعية. لكنَّ هناك بعض النقاط المميزة للغاية في هذه القضية؛ وهي مُميزة جدًّا، حتى إنني أميل إلى كتابة بعض الملحوظات عنها لنفسي.»

ثم انحنى على المكان الذي كانت الجثَّة راقِدة فيه وبعد أن تفحَّص الرمال فيه وفي المكان الذي كانت قدمَا القتيل مُستقرَّة عنده، أخرج دفتره ودوَّن بعض الملحوظات. بعد ذلك رسم رسمًا تخطيطيًّا سريعًا للخليج، وحدَّد مكان الجثة وآثار الأقدام المختلفة الموجودة على الرمال، ثم تبعَ المسار المزدوَج لآثارِ الأقدام الذي يأتي من ممرِّ شيبرد ويُؤدِّي إليه، وتفحَّصَ آثار الأقدام بعناية بالغة، وكان في أثناء ذلك يُدوِّن الملاحظات ويُضيف الرسومات في دفتره.

قال ثورندايك: «دعنا نصعد أيضًا على ممرِّ شيبرد. أعتقد أننا ينبغي أن نتسلَّقه أيضًا، فربما كانت هناك آثار واضحة للقاتل. إن صخورَ الممر ما هي إلا صخور رملية، وهي ليست في غاية الصلابة.»

وصلنا عند سفح الممرِّ الصغير الوعر، والذي كان يمتدُّ على نحوٍ متعرِّج حتى أعلى المنحدر، ثم رحنا نتفحَّص السطح ونحن منكبان على الأعشاب الجافة المتيبِّسة. وعند سفح الممر — حيث تسبَّب الطقس في تقليل صلابة الصخور — كان هناك عدة آثار بارِزة لحذاء القاتل المسمَّر على السطح المتفتِّت للمَمر، رغم أن تلك الآثار كانت مُختلطة بعض الشيء بآثار أقدام الرقيب الذي كان يرتدي حذاءً به الكثير من المسامير. لكن وبينما كنا نتسلَّق الممرَّ، أصبحت الآثار أقلَّ بروزًا، وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة من سفحِ الممرِّ صعودًا فقدنا تلك الآثار تمامًا، رغم أننا لم نجدْ صُعوبة في تتبُّع الآثار الأحدث لأقدام الرقيب عليه.

وحين وصلنا إلى أعلى المنحدَر، توقفنا لنفحصَ المسار الذي كان بمُحاذاة حافَّتِه، لكن هناك أيضًا لم يكن هناك أيُّ آثارٍ لأقدامٍ أخرى، رغم أنَّ آثار أقدام الرقيب كانت لا تزال بارزة نوعًا ما. وعلى مسافة قصيرة كان الرقيب الذكي نفسُه يَستكمِل تحقيقاته، فكان يَسير جيئة وذهابًا وجسدُه مُنحنٍ بشدة وعيناه مثبَّتتان على الأرض.

قال الرقيب وهو يستقيم في وقفته بينما نحن نقترب نحوه: «لا يوجد له أثر في أي مكان. كنت أخشى حدوث ذلك بعد كل هذا الطقس الجاف. ينبغي أن أجرب مسارًا مختلفًا للتحقيق. المكان هنا محدود، وإذا كان ذلك الحذاء يَنتمي لأيِّ شخصٍ يَعيش في هذه الأرجاء، فمن المؤكَّد أننا سنَعرفه.»

قال ثورندايك بينما استدرنا وتوجَّهنا نحو القرية: «القتيل — أعتقد أنك ذكرتَ أن اسمه السيد هيرن — هل هو من سكان هذه الأرجاء؟»

أجابه الرقيب: «أوه، لا يا سيدي. إنه يكاد يكون غريبًا عن المكان. لقد أتى إلى هنا قبل نحو ثلاثة أسابيع فقط؛ لكن، كما تعرف، في مكانٍ محدودٍ كهذا، سرعان ما يُمسي الرجل معروفًا.» ثم أضاف مبتسمًا: «وكذا سبب زيارته أيضًا.»

سأله ثورندايك: «ماذا كان سبب ذلك إذن؟»

«أعتقد أنه كان هنا من أجل الاستمتاع. لقد أتى إلى هنا في إجازة، رغم أن موسم الإجازات قد انقضى منذ مدة طويلة؛ لكن كان للرجل صديقٌ يعيش هنا، وهذا يُحدِث فارقًا. على حد علمي، كان السيد درابر الذي يعيشُ عند أشجار الحور صديقًا قديمًا له. سأذهب إليه الآن.»

سرنا على طول الممشى الذي يؤدِّي إلى القرية، لكننا لم نكد نقطع مسافة مائتي أو ثلاثمائة ياردة، حتَّى سمعنا نداءً عاليًا جذب انتباهنا نحو رجل يَجري نحونا عبر أحد الحقول من اتجاه المنحدَر.

قال الرقيب مُتعجبًا ووقف وأخذ يُلوِّحُ بيدِه: «عجبًا، ها قد أتى السيد درابر بنفسه. أعتقد أنه عرف بما وقَع بالفعل.»

توقفت عن السير وثورندايك كذلك، ووقفنا نرقب ببعضِ الفُضولِ وصول ذلك الرجلِ ومعرفته بالمأساة التي وقعت. وبينما كان الرجل الغريب يَقترب منا، رأينا أنه كان طويل القامة وتبدو بِنيتُه رياضية ويبلغ من العمر أربعين عامًا تقريبًا، ويَرتدي بذلة من طراز نورفوك نيكربوكر ويبدو كرجل ريفيٍّ غنيٍّ عاديٍّ، عدا أنه كان يَحمِل في يدِه — كبديلٍ لعصا المشي — عصا شبكة صيد فراشات، والتي كانت حلقةُ طيِّها وشبكتها تخرجان جزئيًّا من جيبِه.

صاح الرجل بينما أتى نحونا، وكان يلهث من الجري: «هل ما سمعته صحيح أيها الرقيب؟ أقصد ما حدث للسيد هيرن. هناك إشاعة تقول بأنه وُجد ميِّتًا على الشاطئ.»

«أجل، هذا صحيح يا سيدي. يؤسفني قول هذا؛ والأسوأ أنه قُتِل.»

«يا إلهي! أنا لا أستطيع تصديق ذلك!»

كان وجهه يوحي بأنه رجل يحبُّ المرح في العادة، لكن وجهه الآن كان شاحبًا وتبدو عليه أماراتُ الخوف، وبعد أن صمت لبرهة، صاح متعجبًا:

«قُتِل! يا إلهي! يا لَلمسكين العزيز هيرن! كيف حدث ذلك أيها الرقيب؟ ومتى؟ وهل هناك أيُّ دليل يُشير إلى القاتل؟»

أجابه الرقيب: «لا يُمكننا أن نجزم بوقتِ مقتله تحديدًا، وأما عن سؤالك عن الدليل، فقد كنت في طريقي إليك.»

صاح درابر مُتعجبًا بينما نظر للرقيب باندهاش: «في طريقكَ إليَّ! لماذا؟»

«في الواقع، نُريد أن نَعرف شيئًا عن السيد هيرن؛ هُويَّته، وإن كان له أعداء، وما إلى ذلك؛ في الواقع نُريد معرفة أيِّ شيء يُمكن أن يُساعدنا في تحديد مكان البحث عن القاتل. وفي هذا المكان، أنت الشخص الوحيد الذي كنتَ تَعرفه معرفة عميقة.»

أصبح وجه السيد درابر الشاحب أكثرَ شحوبًا، ونظر حوله نظرة المتُحيِّر في أمرِه.

بدأ حديثه بنبرة مُتردِّدة: «أخشى … أخشى أنَّني لن أُفيدَك كثيرًا. لم أكن أعرف الكثير عن حياته. لقد كانت علاقتنا — في الواقع — مجرَّدَ علاقة سطحية.»

قاطعه الرقيب قائلًا: «حسنًا، يُمكنك أن تُخبرَنا مَن كان وما هو عملُه، وأين كان يعيش، وما إلى ذلك. سنَكتشِف نحن أمر البقية إذا ما ساعدتنا في معرفة هذه الأشياء.»

قال درابر: «أفهم ذلك. أجل، أعتقد أنكم ستفعلون.» وظلَّت عيناه تتحرَّك يمنةً ويسارًا بلا كلل، ثم أضاف في النهاية: «ينبغي أن تأتيَني غدًا، وتتحدَّث معي بشأنه، وسأرى ما يمكن أن أتذكره.»

قال الرقيب بنبرة حازمة: «أُفضِّل أن آتيَ إليك هذا المساء.»

قال درابر متوسِّلًا: «ليس هذا المساء. إنني أشعُر أنني … كما تعرف، لقد أزعجني بشدة ما حدث. لا يُمكنني أن أكون منتبهًا جيدًا …»

تلاشت كلماتُه وتحوَّلت إلى غمغمة غير واضحة، ونظر إليه الرقيب في اندهاش واضح من أسلوبه الذي ينمُّ عن عصبية وحيرة. لكن أسلوب الرقيب كان شديدَ الحزم، رغم أنه كان مهذبًا.

وقال: «لا أريد أن أضغط عليك سيدي، لكن الوقت يُداهمنا — سنتحرَّك واحدًا تلو الآخر؛ فهذه البِركة مصدر إزعاج عام. ينبغي عليهم أن يصنعُوا لها ضفَّة من هذه الجهة. سنأتي وراءَك يا سيدي.»

كانت البِركة التي أشار إليها الرقيب قد امتدَّ ماؤها في وقتٍ ما عبر الطريق، لكن الآن وبفعل الطقس الجاف، تَحوَّل قطاعٌ منها إلى أرضٍ مُوحِلة لم تجفَّ تمامًا بعد، وقد استدارَ السيد درابر ليَسيرَ عليها. وكان الرقيب على وشكِ أن يَسير خلفَه حين توقَّف فجأةً وثبَّت نظرَه على الأرض الموحلة. وعرفتُ من نظرة واحدة سبب دهشتِه، ذلكَ أن آثار الأقدام الحديثة للرجل الذي بدأ سيرَه لتوِّه قد بدَت بارزةً، وكأنها على قالب مصنوع من الشمع، على الأرض المُوحِلة التي تُشبه المعجون، وكان كلُّ أثر من آثار قدمَيه يُظهِر عند منطقة باطن القدم مجموعةً من المسامير التي تتَّخذ شكلَ ماسَّة، وعند منطقة الكعب مجموعة من المسامير المشابهة لها التي تتَّخذ شكل صليب.

تردَّد الرقيب للحظة نظر إلينا خلالها نظرةَ اندهاشٍ سريعة؛ ثم تبع الرجل فكان يسير بحذر شديد على حافة الطريق الموحل وكأنه يُحاول أن يَتجنَّب أن يطأ على آثار أقدام سابقِه. وبصورة غريزية فعلنا مثلما فعل، وتبعناهما عن كثبٍ بينما كنا نَرقُب بشغفٍ ما سيُسفِر عنه تطور أحداث هذه المأساة. سرْنا جميعًا في طريقنا في صمتٍ لدقيقةٍ أو اثنتَين، ومن الواضح أن الرقيب كان في حيرة من أمرِه بشأنِ ما يَنبغي عليه أن يفعله، وكان السيد درابر غارقًا في أفكارِه. وبعد برهة تحدَّث الرقيب قائلًا:

«سيد درابر، أتعتقِد أنه من الأفضل لك أن أزورك غدًا للحديث عن هذا الشأن؟»

أجاب الثاني في حماسة قائلًا: «أفضِّل ذلك كثيرًا، إذا لم تَكُن تمانع.»

قال الرقيب وهو يَنظر إلى ساعته: «إذن، في هذه الحالة وحيث إنَّ أمامي الكثير لأقوم به في هذا المساء، سأتركُكُم هنا، وسأذهب إلى قسم الشرطة.»

وبعد أن لوَّح لنا الرقيب بيدِه مودِّعًا، تسلَّق سُلَّمًا صغيرًا، وحين نظرتُ إليه، بعد لحظات قليلة، عبر فتحة في السياج، كان يجري عبر المرج جريًا سريعًا وكأنه أرنبٌ برِّيٌّ.

كان رحيل الرقيب على ما يبدو مصدرَ ارتياح كبير للسيد درابر الذي تراجَعَ فجأة في خطوته وبدأ يتحدَّث إلينا.

وقال: «أعتقد أنك الدكتور جيرفس. رأيتُك البارحة وأنت تخرج من منزل الدكتور كوبر. نحن نعرف كلَّ شيء يحدث في القرية.» ثم ضحك بطريقة تنمُّ عن التوتُّر وأضاف: «لكنَّني لا أعرف صديقك.»

قدَّمتُ له صديقي، فقطب الرجل جبينِه حين ذكرتُ اسمَ ثورندايك ونظر بفضول إليه.

وقال: «ثورندايك؛ يبدو الاسم مألوفًا لي. هل تعمل في مجال القانون يا سيدي؟»

رد ثورندايك عليه بالإيجاب، فأكمل صاحبُنا حديثَه بعد أن عاوَدَ النظر إلى صديقي بفضول شديد: «لا شك أن تلك الحادثة المريعة تُثير اهتمامك، من وجهة نظر مهنية. أعتقد أنك كنت حاضرًا حين عثرُوا على جثَّة صديقي المسكين، أليس كذلك؟»

أجابه ثورندايك: «نعم، لقد وصلنا بعد ذلك، حين كانُوا يحملونها.»

استمرَّ رفيقُنا في سؤالنا عن الجريمة، لكنه لم يتلقَّ من ثورندايك سوى الردود الأكثر عمومية وغُموضًا. ولم يكن هناك متَّسعٌ من الوقت للخوض في الأمر على نحوٍ مطوَّل؛ ذلك أننا سرعان ما وصلنا إلى الطريق المجاوِر لمنزل السيد درابر.

قال: «اعذراني إن لم أدعُكما لزيارتي الليلة، لكنَّكما ستَتفهَّمانِ أنَّني لا أستطيع أن أستضيف أحدًا الآن.»

طمأنَّاه بأنَّنا نَتفهَّم ذلك تمامًا، وبعد أن تمنَّينا له أمسية سعيدة، أكملْنا طريقنا نحو القرية.

قلتُ ملاحظًا: «أعتقد أن الرقيب ذهب ليحصُلَ على مذكرة توقيف.»

«أجل، وهو قلقَ كثيرًا من أن يهرب الرجل قبل أن يُفعِّلها. لكنَّه لا يَعلم أبعاد الأمر جيدًا يا جيرفس. هذه القضية شديدة التعقيد والتفرُّد؛ في الواقع هي إحدى أغرب القضايا التي قابلتُها في حياتي. سأتتبَّع تطوُّراتها باهتِمامٍ بالغ.»

قلت: «يبدو الرقيب شديد الثقة على أيِّ حال.»

رد ثورندايك: «لا يُمكِن أن نلومَهُ على ذلك. إنه يتصرَّف بناءً على المظاهر البيِّنة، وهو الشيء الصحيح الذي يَنبغي القيام به في المقام الأول. ربما يَحتوي دفتره على معلومات أكثر مما أظن، لكن سنرى.»

حين دخلنا القرية، توقفتُ لأُنهيَ بعض الأعمال مع الصيدلي الذي كان يَتعامَلُ معه الدكتور كوبر، فاقترحتُ على ثورندايك أن يَذهب إلى المنزل؛ لكن حين خرجت من المتجَر بعد عشر دقائق، كان ثورندايك يَنتظِر في الخارج مع لفَّتَين صغيرتَين مُغطاتَين بورقِ اللفِّ البُنيِّ وكان يَحمِل كلَّ واحدة منهما تحت إبطه. ألححتُ على إراحته من حمل واحدة منهما، رغم اعتراضِه، لكن حين ناوَلَني إياها في النهاية تفاجأت بشدَّة بوزنها الثقيل.

قلت ملاحظًا: «كنت سأجعلُهم يُرسِلُون هذه اللفَّة إلى المنزل على عربة.»

أجابني: «وأنا كنتُ سأجعلهم يفعلون ذلك أيضًا، لكنَّني لم أُردْ أن ألفت الأنظار إلى ما اشتريت، ولم أُردْ أن أعطيَ عنواني لأحد.»

قَبِلتُ هذا التلميح وأحجمتُ عن سؤالِه عن طبيعة ما تَحتويهِ هاتان اللفَّتان (رغم أنني يجب أن أعترفَ أنَّ الفُضول كان يتملَّكُني بشدة بخُصوص هذا الشأن)، وحين وصلنا إلى المنزل، ساعدتُه في وضع اللفَّتَين الغامضتَين في حجرته.

وحين نزلت الدرج، كانت هناك مُفاجأة غير سارَّة تنتظرني. قبل ذلك، كنتُ أقضي أمسياتي الطويلة برفقة نفسي في عُزلة واستِمتاع لا يَنقطعان بمكتبة الدكتور كوبر الرائعة، لكن شاءت الأقدار في هذه الليلة أن أخرُجَ من المنزل؛ ذلك أن أحد المُزارِعِين الحمقى والذي يسكن في ضيعة تبعد عني خمسة أميال قد اختار مساء وصول ضيفي ليتسبب في خلع كتفه. كان يحدوني بعض الأمل أن يقترح ثورندايك عليَّ أن يُرافقني، لكنه لم يفعل، بل بدا في حقيقة الأمر غير متضرر بأي شكلٍ من احتمالٍ غيابي.

قال ثورندايك بنبرة مَرِحة: «لديَّ الكثير ليَشغلني أثناء غيابك.» شعرتُ من تأكيدِه هذا ببعض الراحة، فركبتُ دراجتي وقُدتها عابسًا بعض الشيء عبر الطريق المظلم.

استمرَّت زيارتي قرابة الساعتَين، وحين وصلت المنزل وأنا أشعر بالجُوع والحرِّ الشديدَين من ركوبي للدرَّاجة، كانت الساعة قد دقت التاسعة والنصف وبدأ سكون الليل يُخيِّم على القرية.

قالت الخادمة حين دخلت إلى الردهة: «الرقيب باين في انتظارك في غرفة العيادة سيدي.»

قلت: «الرقيب باين الحائر! هل الدكتور ثورندايك برفقتِه؟»

أجابت الفتاة مُبتسِمة: «لا يا سيدي. لقد خرج الدكتور ثورندايك.»

قلت مُكرِّرًا بسبب اندهاشي الشديد: «خرج!»

«أجل سيدي، خرج بعدك بقليل، على دراجته. كان هناك سلَّة — أو على الأقل سَبَت — مربوطة إلى الدراجة وقد استعار من الطبَّاخ طستًا ومِلعقة مطبَخ.»

حدَّقتُ بالفتاة في ذهول. كانت تصرُّفات جون ثورندايك في واقع الأمر غيرَ مفهومة على الإطلاق.

قلت: «حسنًا، جهِّزي لي الغداء أو العشاء في الحال، وسأنظر ماذا يُريد الرقيب.»

وقَف الرقيب حين دخلت العيادة، ووضَع خُوذته على الطاولة وحدَّثني بنَبرةٍ تنمُّ عن أهمية حديثِه ورغبتِه في التكتُّم.

قال الضابط: «في الواقع سيدي، وقعتِ الفأسُ بالرأس. لقد ألقيتُ القبض على السيد درابر، وأودعته الحبس في مبنى المحكمة. لكنني كنت أتمنَّى لو أن القاتل كان شخصًا آخر غيره.»

قلت: «وهو كذلك أيضًا حسبَما أعتقِد.»

أكمل الرقيب حديثه: «يا سيدي، نحن جميعًا نحبُّ السيد درابر. إنه يعيش بينَنا منذ سبع سنوات تقريبًا، وهو واحد منَّا الآن. لكن ما أتيت هنا من أجلِه هو ما يلي: يبدو أن الرجل الذي كان معك هذا المساء هو الدكتور ثورندايك، الخبير الشهير. ويبدو أن السيد درابر سمع عنه — كما سمع معظمُنا — وهو يُريد بشدة أن يَتولَّى الدكتور ثورندايك الدفاع عنه. أتعتقِد أنه سيُوافِق على ذلك؟»

أجبتُه متذكِّرًا اهتمامه الكبير بتلك القضية: «أتوقع ذلك.» لكنَّني أضفت: «لكنَّني سأسأله عن ذلك حين يعود.»

قال الرقيب: «أشكرُكَ سيدي. وربما لن تُمانع الحُضور إلى المحكمة بنفسِك. يبدو السيد درابر غريبًا حقًّا، ولا عجبَ في ذلك، لذا أريد منكَ أن تأتيَ وتُلقيَ نظرةً عليه بنفسِكَ، وإذا استطعتَ أن تُحضرَ الدكتور ثورندايك معك، فسيسرُّ السيد درابر بذلك، وهكذا أنا، ذلك أنني أؤكد لك يا سيدي أنَّني سأكونُ مَسرورًا لو كنتُ مُخطئًا، رغم أن إدانة أحدِهم تعني ارتقائي درجة في السلَّم الوظيفي.»

كنتُ في طريقي لتوصيلِ ضَيفي إلى الخارج حين دخلتْ دراجة من البوابة المفتوحة، ونزل عنها ثورندايك عند الباب، حاملًا سَبَتًا مربع الشكل — من الواضح أنه أخذه من العيادة — وكان مربوطًا إلى حامل الدراجة الخَلفي. طرحتُ على ثورندايك في الحال طلبَ الرقيب وسألتُه إن كان يُريد أن يتولَّى القضية.

أجاب ثورندايك: «بالنسبة لتولِّي أمر الدفاع، فسأفكر في الأمر؛ لكنَّني على أي حال سآتي لرؤية المتهم.»

رحل الرقيب بعد ذلك، وبعد أن حلَّ ثورندايك وثاق السبَت من الدراجة بكل حذر وكأن به مجموعة تُحَفٍ من الخزف لا تُقدَّر بثمن، حمله بحرص شديد إلى غرفته؛ ثم ظهر مرةً أخرى بعد برهة من الوقت مبتسمًا وكأنه يعتذر عن تأخره.

قلت متذمِّرًا بينما كان يأخذ مكانه على الطاولة: «كنت أظن أنكَ تُغيِّر ملابسك من أجل تناول العشاء.»

أجابني: «لا، كنت أفكر في أمر هذه الجريمة. إنها في غاية الغرابة حقًّا، ويبدو أنها ستكون معقَّدة بصورة غير معهودة أيضًا.»

«إذن، فهل ستقبل بتولي أمر الدفاع؟»

«سأفعل إذا ما قدَّم درابر رواية صريحة ومنطقية.»

بدا أن ذلك الشرط سيتحقق؛ ذلك أننا حين وصلنا إلى المحكمة (حيث كان المتَّهم حبيسَ مكتب فرعي، في حالة مريحة بالنظر إلى طبيعة التهمة الموجهة إليه) وجدنا السيد درابر في غاية الصراحة أثناء حديثِه معنا.

«أريد منك أيها الدكتور ثورندايك أن تتولَّى أمر الدفاع عني في هذه القضية المريعة، لأنني أثق في أنك ستكون قادرًا على تبرئة ساحتي. وأعدُك أنني من جانبي لن أتحفَّظ أو أُخفيَ عنك شيئًا تريد معرفته.»

قال ثورندايك: «رائع جدًّا. بالمناسبة، أرى أنك غيَّرت حذاءك.»

«أجل، لقد أخذ الرقيب الحذاء الذي كنتُ أرتديه. وقال شيئًا عن مقارنة آثار أقدامه ببعض آثار الأقدام الأخرى، لكن لا يُمكن أن يكون هناك أيُّ آثار مشابهة لآثار حذائي هذا في ثاندرسلي؛ فالمسامير مثبتة في منطقة باطن القدم بنمط مميز للغاية. لقد صُنع هذا الحذاء خصيصًا لي في إدنبرة.»

«ألديك زوج آخر منه؟»

«لا، ليس لديَّ حذاءٌ مسمَّر غيره.»

قال ثورندايك: «هذه معلومة مهمة. والآن أرى أن هناك شيئًا تودُّ إخبارنا به بشأن هذه الجريمة. هل أنا مُحق؟»

«أجل. هناك شيء أرى أنك لا بد أن تعرفه، رغم أنني أتألم بشدة لاستدعاء ذكرى أشياء من الماضي كنت آملُ أنها قد دُفِنت إلى الأبد. لكن في النهاية ربما لا يكون من الضروري أن يعرف أحدٌ غيرك بشأن هذه الأسرار.»

قال ثورندايك: «آمل ذلك، وإذا لم يكن ذلك ضروريًّا، فيمكنك أن تعتمد عليَّ في ألا تتسرَّب تلك الأسرار لأحد غيري. لكنَّك تتمتَّع بالحكمة بحيث تُخبرني بأي شيء قد يكون بأي نحو ذا صلة بالقضية.»

عند هذه المرحلة، وحيث وجدت أن الأمور آلت إلى مناقشة مسائل تتَّسم بالسرية، نهضتُ من مكاني وكنتُ مُستعدًّا للخروج؛ إلا إنَّ درابر أشار لي أن أجلس مرة أخرى.

قال درابر: «لستَ في حاجة لأن تتركنا أيها الدكتور جيرفس. لقد حصلتُ على مساعدة الدكتور ثورندايك من خلالك، وأعرف أن بإمكاني أن أثقَ بكما كأمينَين على أسراري كما تفعلان مع عملائكما. والآن سأُدلي ببعض الاعترافات. في المقام الأول، يُؤلمُني أن أعترف أنني كنتُ فيما مضى مدانًا وأُفرج عني بعد قضاء عقوبتي — أو كما يقال «مجرمًا سابقًا».»

تحوَّل لون وجهِه إلى الأحمر الداكن وهو ينطق بتلك الكلمات، وكان يَرمق ثورندايك بنظره ليعرف وقْعَها عليه، لكن يُمكن القول إن مُحَيَّا صديقي الجامد كان أشبهَ بوجه رأس خشبي أو حجري؛ وحين أومأ ثورندايك بإيماءة خفيفة بعد كلماته تلك، أكمل درابر حديثه قائلًا:

«وحكاية ما ارتكبتُ من جرم هي حكاية المئات غيري. كنتُ أعمل موظفًا في أحد البنوك وكانت أموري تسير على خير ما يرام مثلما قد أتوقَّع في مثل تلك الوظيفة التي ليس فيها مجالٌ كبير للترقي، وذلك حين ابتُليت بصحبة أربعة أشخاص فاسدين. كانوا جميعًا شبَّانًا، رغم أنهم كانوا أكبر منِّي في العمر، وكانت رابطة الصداقة بينهم قوية للغاية فشكَّلوا فيما بينهم عصابةً صغيرة. لا يمكن وصفهم في العادة بأنهم «مخادعون». لقد كانوا شبَّانًا يتمتعون بالرزانة وحسن السلوك إلى حدٍّ ما، إلا أنهم كانوا يُدمنون بشدة المقامرة، وسرعان ما أصابتني عدواهم. لم يمرَّ وقت طويل حتى صرتُ أكثرَ من يُقامر فيما بينهم، وصرتُ أستمتِع بشدة بلعب الورق والبلياردو والأشكال الأخرى العديدة من المقامرة، ولم يذهب في العادة الجزء الأكبر من راتبي الهزيل في الخسارات الحتمية التي كنتُ أتعرض لها وحسب، وإنما أيضًا سرعان ما وجدتُ نفسي واقعًا تحت وطأة ديون كبيرة، دون توافُر وسائل واضحة تُمكِّنني من سدادها. صحيح أن أصدقائي الأربعة كانوا هم أكبرَ مدينيَّ — بل في الواقع يكاد يكونون هم الوحيدين — لكنَّني على أيِّ حال كنت مديونًا، ولا بد من سداد تلك الديون.

كان أصدقائي الأربعة — والذين أسماؤهم على التوالي هي ليتش، وبيتفورد، وهيرن، وجيزارد — أذكياء بصورة غير مألوفة، رغم أنَّني لم أنتبِه إلى مدى ذكائهم إلا متأخرًا جدًّا. كنتُ ذكيًّا أيضًا ولكن بطريقتي الخاصة، ويا له من ذكاء بغيض؛ ذلك أنني كنت أمتلك موهبة كارثية وهي قدرتي على تقليد خط اليد والإمضاءات بدقة استثنائية. كان تقليدي للخطوط مُتقنًا للغاية لدرجة أن مَن أُقلِّدهم كانوا في الغالب يجدون صعوبة في التمييز بين إمضاءاتهم وبين محاكاتي لها، وكثيرًا ما طلب مني بعض رفاقي استخدام مهارتي لتنفيذ بعض الخدع المازحة والدعابات في الآخرين. لكن تلك الدعابات كانت محصورةً فقط في مجموعتنا الصغيرة؛ لأن أصدقائي الأربعة كانوا حريصين على ألا يعرف أحدٌ خارج نطاقنا بمهارتي الخطيرة وقلقين بشأن ذلك.

والآن تأتي التبعات التي لا بدَّ وأنك توقعتَها. كانت ديوني تتفاقم رغم أنها كانت بمبالغ صغيرة، وفقدتُ الأمل في قدرتي على سدادها. ثم ذات ليلة، تقدم جيزارد باقتراح. كنا نلعب إحدى ألعاب الورق في منزله، وتسبَّب حظي العاثر مرة أخرى في زيادة ديوني. حررتُ إقرارًا بالدين، ومررته عبر الطاولة إلى جيزارد، الذي أخذه بدوره ووضعه في جيبه بتذمُّرٍ شديد.

قال لي وقتها: «اسمع يا تيد، لا بأس بهذه الورقة، لكنَّني كما تعرف لا أستطيع سداد ديوني بها. إنَّ مدينيَّ يُطالبونني بأموال نقدية.»

أجبتُه: «إنني في غاية الأسف، لكن لا يَسعني سوى ذلك.»

قال لي: «لا، يسعك سوى ذلك، وسأُخبرك كيف ذلك.» ثم عرض عليَّ خطة رفضتها في البداية باستياء شديد، لكن حين دعمه الآخرون فيها، سمحتُ لنفسي في النهاية بأن يقنعني بها، بل ونفذتها أيضًا. تدبَّرتُ الحصول على بعض نماذج الشيكات، وذلك باستغلال إهمال بعض رؤسائي في البنك ولا مبالاتهم، ثم دوَّنتُ في تلك النماذج مبالغ صغيرة من المال — ليس أكثر من جنيهين أو ثلاثة — ووقعتُها بمحاكاة دقيقة مُتقنة بإمضاءات بعض عملائنا. قام جيزارد بإعداد بضعة أختام خاصة بأرقام الحسابات، وحين تمَّ ذلك، سلمتُه كلَّ الشيكات المزوَّرة كتسوية لديوني لدى رفاقي الأربعة.

تم تقديم الشيكات على النحو الواجب، لكنَّني لا أعرف مَن قدَّمها؛ ورغم أن المبالغ الصغيرة التي كتبتُها قد تمَّ تعديلُها بمهارة كبيرة إلى مبالغ كبيرة للغاية، فقد تمَّ قبول الشيكات جميعها سوى واحد. ذلك الشيك — الذي تمَّ تعديله من ثلاثة ليصبح تسعة وثلاثين — كان سيُجرى سحبه من حساب مكشوف بالفعل على نحو طفيف. انتابت الصرَّاف الشكوك؛ فتمت مصادرة الشيك وتم التواصُل مع العميل. ثمَّ انفجر اللغم بلا شك. لم يتمَّ كشف أمر هذا الشيك المزوَّر فحسب، بل تم فتح تحقيق وسرعان ما كشف النقاب عن الشيكات الأخرى. ومن ثَم أفضت الملابسات — والتي أنا لستُ في حاجة لذكرها — إلى إثارة الشكوك نحوي. وسرعان ما فقدتُ رباطة جأشي واعترفت في النهاية بكل شيء.

تلا ذلك الملاحقة القضائية الحتمية، والتي لم يتمَّ إجراؤها بطريقة انتقامية. لكنني ارتكبتُ وقائع التزوير بالفعل، ورغم أنني حاولتُ أن أُلقيَ بجزء من اللائمة على شركائي الخونة، فلم أنجح في ذلك. صحيح أنه قد تم إلقاء القبض على جيزارد، لكن تم إطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة، ومن ثَمَّ، حملتُ وحدي كامل ذنب ارتكاب وقائع التزوير. أدانَتني هيئة المحلفين بالطبع، وحُكم عليَّ بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة.

أثناء فترة السجن تُوفِّيَ أحدُ أعمامي في كندا، وبموجب بنود وصيَّته ورثتُ كلَّ ما كان يمتلكه من ثروة، وبهذا فحين حلَّ وقتُ إطلاق سراحي، لم أكن حرًّا وحسب، وإنما كنت أيضًا ثريًّا بعض الشيء. تخلَّيتُ عن اسمي في الحال، واتخذت من ألفريد درابر اسمًا جديدًا لي، وبدأتُ أبحث عن مكان هادئ يمكن أن أعيش فيه بقية حياتي في سلام من دون أن يتمَّ كشف هويتي فيه. وجدتُ ضالتي في ثاندرسلي، وعشتُ هنا السبع سنوات الأخيرة حسبما أعتقد في ظل محبة واحترام من جيراني الذين لم يشكُّوا أنهم يأوون بينهم مجرمًا مدانًا.

طوال تلك المدة لم أرَ شركائي الأربعة أو أسمعْ شيئًا أبدًا عنهم، وكنتُ آمل وأعتقد أنهم قد خرجوا تمامًا من حياتي. لكن ذلك لم يحدث. لقد قابلتهم قبل شهر واحد للأسف، ومنذ ذاك اليوم تلاشى كلُّ السلام والأمان الذي كنت أعيش فيهما في حياتي الهادئة في ثاندرسلي. لقد تسللوا إلى حياتي كأرواح خبيثة، فبدَّلوا سعادتي بؤسًا وشقاءً، وأنذروني نهارًا بالهلاك، وقضَّوا مضجعي ليلًا بالرعب.»

توقف السيد درابر هنا للحظة، وبدا مستغرقًا في حلم يقظة بائس.

سأله ثورندايك: «ما الملابسات التي قابلت هؤلاء الرجال في سياقها؟»

صاح درابر بفعل شعور مفاجئ بالإثارة: «آه! كانت الملابسات غريبة ومريبة جدًّا. كنتُ قد ذهبت يومها إلى إيستويتش للتبضُّع. وعند نحو الحادية عشرة صباحًا، كنت أشتري أشياء من أحد المتاجر حين لاحظتُ رجلَين يَنظران من نافذة المتجر، أو ربما كانَا يتظاهران بذلك، بينما كانَا يتحدَّثان بجدية. كانَا يَرتديان ملابس أنيقة فضفاضة وكأنهم مُزارِعُون ميسورو الحال، وكان ذلك طبيعيًّا يومها حيث كان هو يوم انعقاد السوق. لكن بدا لي أن وجهَيهما مألوفان، فنظرتُ لهما بإمعان أكبر، فأدركت فجأة وعلى نحو غير سار أنهما كانَا يُشبهان ليتش وجيزارد، إلا أنهما لم يكونَا على درجة كبيرة من الشبه بهما. كان التشابُه حاضرًا لكن أوجه الاختلاف كانت أكبر من أن يكون مرور الزمن وحده هو المسئول عنها. وعلاوةً على ذلك، كان الرجل الذي يُشبه جيزارد لديه شامة كبيرة على خدِّه الأيسر تحت عينِه مباشَرة، فيما كان الآخر يَرتدي نظارة بعين واحدة وله شارب مبروم، في حين أن ليتش كان حليقَ الذقن ولم يَرتدِ نظارة يومًا.

وبينما كنتُ أتفكر في التشابُه، رفع الرجلان نظرَيهما، ولاحظَا أنني كنتُ أُركز نظري عليهما وأتحقق من أمرهما، حينها ابتعدَا عن النافذة؛ وحين خرجت إلى الشارع حيث كنتُ قد أنهيت عملية الشراء، لم أجد لهما أثرًا.

وفي ذلك المساء وبينما كنت أسير بجوار النهر خارج المدينة قبل أن أعود إلى المحطة، تجاوزت يختًا كان يتم سحبُه مع التيار. كان هناك ثلاثة رجال يسيرون أمامي على الضفة ومعهم حبلُ سحبٍ طويل، وكان هناك رجلٌ يقف في قمرة القيادة يُوجِّه الدفة. وبينما كنت أقترب منهم، قرأتُ اسم «أوتر» على مؤخرة اليخت، فيما استدار الرجل الذي يُوجه الدفة، وحينها تفاجأتُ حيث أدركت أنه كان صديقي القديم هيرن. لكن ذلك الإدراك لم يكن متبادلًا من جانبه؛ ذلك لأنني كنت قد أطلقت لحيتي أثناء فترة إقامتي هنا، فتجاوزتُه دون أن أُظهر أنني تعرفتُ عليه، لكنني حين تجاوزت الرجال الثلاثة الآخرين، أدركتُ — كما كنت أخشى — أنهم أفراد العصابة الآخرين، ولا بد وأنني أطلتُ النظر إلى جيزارد، لأنه توقف فجأة وصاح: «يا إلهي، إنه صديقنا العزيز تيد! أخونا المأسوف عليه والغائب منذ فترة طويلة!» ثم رفع يده يحيِّيني في وديَّة مفرطة، وبدأ يسألني عن أحوالي؛ لكنني قاطعتُه وحسمتُ الأمر بإبداء عدم رغبتي في تجديد أواصر المعرفة، ثم استدرت نحو الممشى الذي يؤدي بعيدًا عن النهر وسرتُ دون أن أنظر خلفي.

كان من الطبيعي أن يشغل هذا اللقاء ذهني على نحو كبير، وحين فكرتُ في أمر الرجلين اللذَين قابلتهما في المدينة، وجدت صعوبة في تصديق أن التشابه بينهما وبين صديقيَّ السابقَين كان مجرد صدفة. لكنَّني حين قابلت ليتش وجيزارد عند النهر، لاحظتُ عليهما بعض التغيير، ولاحظت على وجه الخصوص أن جيزارد لم يكن لديه شامة كبيرة على وجهه، وأن ليتش كان حليقًا كعادته.

لكن بعد مرور يوم أو اثنين تبددتْ شكوكي كلُّها حين قرأتُ خبرًا في الجريدة المحلية. يبدو أن يوم زيارتي لإيستويتش هو اليوم نفسه الذي تم فيه صرفُ عددٍ من الشيكات المزورة من ثلاثة بنوك مختلِفة. كان مَن قدم تلك الشيكات هم ثلاثة رجال يرتدون ملابس أنيقة فضفاضة والذين يبدون كأنهم مزارعون ميسورو الحال. كان لدى أحدهم شامة كبيرة على خده الأيسر، وكان الثاني مميزًا بنظارة بعين واحدة وشارب مبروم، لكنني لم أستطع أن أتعرف على الثالث من أوصافه. لم يتمَّ سحب مبالغ كبيرة بأيٍّ من الشيكات الثلاثة، رغم أن مجموع المبلغ المسحوب كان أربعمائة جنيه تقريبًا؛ لكن أكثر ما يُثير الاهتمام هو أن نماذج الشيكات جرى إنتاجها عن طريق عملية التصوير الفوتوغرافي، وأن العلامة المائية مقلَّدة بمهارة ولكن ليس بإتقان. لا شك أن المحتالين كانوا يتمتَّعون بالمهارة والحذر، وعلى استعداد لبذل مجهود كبير من أجل ضمان أمنهم، وكانت نتيجة حيطتهم تتمثَّل في عدم قدرة الشرطة على التعرُّف على هوياتهم.

وفي اليوم التالي لذلك، تصادف أنني كنت أسير إلى بورت مارستون فرأيتُ اليخت أوتر موثوقًا إلى رصيف الميناء. وبمجرَّد أن تعرفت على اليخت، استدرتُ بسرعة وسرتُ بعيدًا، لكن لم تمرَّ دقيقة حتى التقيتُ بليتش وجيزارد اللذين كانَا في طريق عودتهما إلى يختهما. حيَّاني جيزارد بشيء من الاندهاش وصاح قائلًا: «يا إلهي! ألا زلتَ تتجول هنا يا تيد؟ أنت تتخلَّى عن الحذر يا صديقي العزيز. إنني أنصحك بجدية أن تختبأ في مكان ما.»

سألته: «ماذا تقصد؟»

قال: «أف! إننا نقرأ الصحف كغيرنا من الناس، ونعرف الآن ما كنت تصنعه في إيستويتش. لكن من الغباء منك أن تتجول في الأرجاء هنا حيث يُمكن أن يتمَّ رصدُك والقبض عليك في أيِّ لحظة.»

تفاجأتُ تمامًا من اتهامِه الضِّمني لي حتَّى إنني وقفتُ أُحدِّق به وقد عقدتِ الصدمةُ لساني، وفي تلك اللحظة البائسة مرَّ تاجر كنتُ قد طلبت منه شراء ملاءات للمنزل على الرصيف. وحين رآني وقف وحيَّاني بأن لمسَ قبعته.

قال الرجل: «عذرًا سيد درابر، لكنَّني سأرسل عربتي إلى ثاندرسلي غدًا صباحًا، إذا كان يُلائمك.»

قلت إنه لا بأس بذلك، فاستدار الرجل مُبتعدًا، ثم ابتسم جيزارد ابتسامة خبيثة.

قال جيزارد: «إذن فقد أصبحت السيد درابر الآن، وتعيش في ثاندرسلي، أليس كذلك؟ حسنًا، آمل أنك لم تُصبح مغرورًا حتى تأتيَ وتُلقيَ نظرة على أصدقائك القدامى. إننا سنمكث هنا لبعض الوقت.»

في تلك الليلة نفسها أتى هيرن إلى منزلي. كان قد أتى بصفته مبعوثًا من العصابة ليطلب مني القيام بأعمال لهم — عمليات تزوير في الواقع — رفضتُ بالطبع، وكان رفضي باتًّا قاطعًا أيضًا، حينها بدأ هيرن يُلمِّح بتلميحات غامضة عما قد يحدث إذا ما اكتسبتُ عداء العصابة ثم بدأ يُهددني بتهديدات مقنَّعة لكنها واضحة تمامًا. يُمكنك أن تقول إنني كنتُ مخطئًا أنني لم أطرده شرَّ طردة ولم أُهدِّدْهم بأنني سأفضح أمرهم جميعًا وأسلمهم للشرطة؛ لكنني لم أتمتع يومًا برباطة جأش، ولا أمانع في الاعتراف بأنَّني كنتُ أخاف بشدة من جيزارد، ذلك الشيطان الماكر.

بعد ذلك استأجر هيرن مكانًا ليسكن فيه في ثاندرسلي، وراح يلاحقني باستمرار رغم محاولاتي تجنُّبَه. ومن الواضح أن اليخت استقرَّ أيضًا في مرسى في الميناء لبعض الوقت، لأنني سمعتُ أنهم عيَّنوا فتًى محليًّا كعاملٍ عليه، وكنتُ ألتقي جيزارد وأعضاء العصابة الآخرين باستمرار والذين يَزعُمون جميعهم أنهم يعتقدون أنني صاحبُ عمليات التزوير في إيستويتش. وذات يوم كنت غبيًّا بما يكفي لأنْ أسمح لنفسي بأن يتمَّ استدراجي إلى اليخت لبضع دقائق، وحين أردت النزول، أدركتُ أنَّ وثاق اليخت قد انحلَّ وأنه يتحرَّك بالفعل خارج الميناء. في البداية كنت غاضبًا لكنَّ المحتالين الثلاثة كانوا يتضاحَكُون ومسرورين بأنهم أخذوني للإبحار رغمًا عن إرادتي، حينها هدأ غضبي، وبعد أن غيَّرتُ حذائي وانتعلتُ حذاءً مطاطيًّا (لكيلا أتسبَّبَ بخدوش في السطح الأملس لليخت بفعلٍ حذائي المسمَّر) ساعدتهم في الإبحار باليخت وقضيتُ يومًا ممتعًا.

ومنذ ذلك الوقت، وجدت نفسي أعود تدريجيًّا إلى حالة من الصداقة الحميمة مع أولئك الأوغاد الظرفاء، وأصبح خوفي منهم يَزيد يومًا بعد يوم. وفي لحظة من الحماقة التامة من جانبي ذكرتُ ما رأيت من نافذة المتجر في إيستويتش، ورغم أنهم تجاوَزُوا الأمر بشيء من المزاح والدعابة، فإنني رأيت أنهم كانوا منزعجين للغاية من ذكري إياه. وقد ضاعَفُوا جهودهم في محاولات استمالتي، وبدأ هيرن يزورني يوميًّا تقريبًا في منزلي، وكان في الغالب يُحضر معه مستندات وإمضاءات ويحاول إقناعي بتقليدها.

وقبل عدة أمسيات عرض عليَّ عرضًا جديدًا ومذهلًا. كنا نسير في حديقتي، وكان يحاول أن يقنعني مرة أخرى بأن أعود للانضمام إلى العصابة، ولستُ في حاجة لأن أذكر أنه لم ينجح في ذلك. بعدها جلس على مقعد مقابل لسياج من شجيرات الطقسوس في آخر الحديقة، وبعد برهة من الصمت قال فجأة:

«إذن أنت ترفض الانضمام إلينا تمامًا؟»

أجبتُه: «بالطبع أرفض ذلك. لماذا أتورَّط مع عصابة من المحتالين بينما تتوافر لديَّ وسائل العيش الكريم وأتمتَّع بمكانة جيدة؟»

أجابني موافقًا: «بكل تأكيد، ستكون أحمقَ لو فعلت. لكن، انظر، أنت تعرف كل شيء بشأن عملية إيستويتش، ناهيك عن عملياتنا الصغيرة الأخرى، وقد فضحتَ أمرنا ذات مرة من قبل. ولذلك، يُمكنك أن تثقَ بكلامي حين أقول إن جيزارد قد بحث عنك في كل مكان حتى عثر عليك، وإنه لن يتركك في سلام حتى تقع في قبضتنا. أنت تعرف الكثير جدًّا، وطالما أن سجلَّك نظيف فإنك تمثل تهديدًا حقيقيًّا لنا. هذه هي حقيقة الموقف الآن، وأنت تعلمها وجيزارد كذلك، وهو يتصف بالتهور، كما أنه خبيث كالشيطان.»

فقلت في عبوس: «أعلم ذلك.»

أكمل هيرن حديثه قائلًا: «ممتاز. والآن سأعرض عليك عرضًا. خصِّص لي دخلًا سنويًّا صغيرًا — يُمكنك أن تتحمَّل ذلك بسهولة — أو ادفع لي مبلغًا كبيرًا الآن، وسأحررك للأبد من قبضة جيزارد والآخرين.»

سألته: «كيف ستفعل ذلك؟»

أجابني: «بكل بساطة. لقد سئمتهم جميعًا، وسئمت أسلوب الحياة المحفوف بالمخاطر وعدم الأمان هذا. والآن أنا على استعداد لتبرئة ساحتي وتحريرك من قبضتهم في الوقت نفسه؛ لكن يلزمني بعض ما يعينني على الحياة فيما بعد.»

سألته: «أتقصد أنك ستتحوَّل إلى شاهد ملك؟»

«أجل، إذا ما دفعتَ لي بضع مئات من الجنيهات كل عام، أو لنَقُل ألفين لسجن العصابة.»

كنتُ مذهولًا بشدة من العرض حتى إنني لم أُجبه لبعض الوقت، وبينما جلستُ لأفكر في ذلك العرض الرائع، شقَّ الصمت فجأة صوت عطسة مكتومة مصدرها الجانب الآخر من السياج.

هببتُ وهيرن على قدمينا، فسمعنا على الفور صوت أقدام مسرعة على الطريق خارج السياج. هرعنا عبر الحديقة إلى البوابة، وخرجنا منها إلى زقاق جانبي، لكننا حين خرجنا إلى الزقاق، لم نجد أحدًا. بحثنا سريعًا في الأرجاء المحيطة لكن دون جدوى، ثم عُدنا إلى المنزل. كان وجه هيرن شاحبًا ومنزعجًا للغاية، وينبغي أن أعترف أنَّني كنت منزعجًا بشدة أيضًا مما حدث.

قال هيرن: «هذا أمر غريب حقًّا.»

أجبته موافقًا: «بل هو في غاية الغرابة، لكنَّني أتوقع أن مزارعًا فضوليًّا كان يتسمع إلينا.»

قال هيرن: «لستُ واثقًا تمامًا من ذلك. على أي حال، لقد كنا غبيَّين حقًّا لأن نجلس أمام سياج ونتناقش في مثل هذه الأمور السرية.»

ظللنا نسير في الحديقة معًا لبعض الوقت وقد ساد صمت موحش بيننا، ثم انصرف بعد أن طلبتُ منه أن يُمهلني بعض الوقت لأفكر في عرضه.

ولم أرَه مرةً أخرى حتى قابلتُه ليلة أمس على اليخت. كان بيتفورد قد زارني في المنزل في الصباح ودعاني لأن أتناول العشاء معهم. رفضت في البداية، لأن ربة منزلي كانت ستذهب مساءً إلى أختها في إيستويتش وستَقضي الليلة هناك، ولم أكن أحب أن أترك المنزل فارغًا. لكنَّني وافقت في النهاية، بعد أن اشترطت أن يسمحوا لي بأن أغادرهم مبكرًا، ومن ثَمَّ، ذهبت. كان هيرن وبيتفورد ينتظران في القارب عند الدرج — لأن اليخت قد تحوَّل إلى عوَّامة طافية — ثم صعدنا على متن اليخت وأمضينا أمسية في غاية السعادة والحيوية. أعادني بيتفورد إلى الشاطئ في الساعة العاشرة، ثم سرتُ مباشرة إلى المنزل، وخلدت إلى النوم. كان هيرن يُريد أن يأتيَ معي، لكنَّ الآخرين أصرُّوا على أن يبقى معهم، قائلين بأن هناك أمورًا تخص العمل يُريدون أن يتحدثوا بشأنها.»

سأله ثورندايك: «ما الطريق الذي سلكتَه إلى المنزل؟»

«جئتُ عبر المدينة، وعلى طول الطريق الرئيسي.»

«أهذا هو كلُّ ما تعلمه عن هذا الأمر؟»

أجابه درابر: «هذا كل شيء. لقد بُحتُ لكما الآن بأسرار حياتي الماضية التي كنت آمل ألا أكشفها أبدًا أمام أي إنسان، ولا زال يحدوني أملٌ ضعيف ألا يكون من الضروري لكما أن تُفشيَا ما قلت لكما من أسرار.»

قال ثورندايك: «لن يتمَّ إفشاء أسرارك إلا إذا كان لا مفر على الإطلاق من ذلك. إنك تأتمنَني على حياتك، وينبغي أن تترك لي حرية التصرف على النحو الذي يتراءى لي أنه الأفضل.»

بعد هذه الكلمات، جمع ثورندايك ملحوظاته وغادرنا.

وحين خرجنا إلى الطريق المظلم بعد أن تمنينا أن يُمضيَ الرقيبُ ليلةً سعيدة، قال لي ثورندايك: «يا لها من قصة غريبة للغاية يا جيرفس. ما رأيك فيما قال؟»

أجبتُه: «لا أعرف ما هو رأيي، لكن يبدو لي إجمالًا أن ما قاله ليس في صالحه أكثر من أي شيء آخر. إنه يعترف أنه مجرم سابق، ويبدو أنه تعرَّض للاضطهاد والابتزاز على يد هيرن. صحيح أنه يُقدِّم جيزارد على أنه العقل المدبِّر ورأس الأفعى خلف هذا الابتزاز، لكن ليس لدينا دليلٌ على ذلك سوى كلامه. كان هيرن يستأجر مسكنًا بجواره، ولا شك أنه كان يضطلع بالدور الأكثر فاعلية في هذا الأمر، ومن المحتمَل بل ومن الممكن أن هيرن كان في واقع الأمر هو «المدد الغيبي».»

أومأ ثورندايك وقال: «أجل، هذا هو السبيل الذي ستَسلُكُه جهةُ الادِّعاء إذا ما سمحنا للقصة أن تُعرف. ها! ما هذا؟ هل ستمطر السماء؟»

«أجل، وستكون هناك رياح أيضًا. أعتقد أننا على وشك أن نشهد عاصفة خريفية.»

قال ثورندايك: «وقد يُصبح هذا عاملًا مهمًّا في قضيتنا.»

سألتُه ببعض الاندهاش: «كيف يُمكن أن يؤثر الطقس على قضيتنا؟» لكن هطل المطر غزيرًا فجأة، فبدأ رفيقي يَجري، ولم يُجِب على سؤالي.

وفي الصباح التالي، والذي كان صافيًا ومشمسًا بعد تلك الليلة العاصفة، اتصل الدكتور باروز وسأل عن صديقي. كان في طريقه إلى المشرحة ليُجريَ تشريحًا لجثة القتيل. وقد سُمح لثورندايك أن يحضر التشريح بعد أن أخبر قاضي التحقيق أنه تولَّى أمر الدفاع عن المتهم؛ لكن تصريح الحضور لم يَشملني، وبما أن الدكتور باروز لم يُقدم لي أيَّ دعوة للحضور، فلم يكن بمقدوري الحضور. لكنَّني قابلتهما بينما كانَا عائدَين، وبدا لي أن الدكتور باروز كان غاضبًا بعض الشيء.

قال الدكتور باروز باستياء: «إن صديقك هذا هو أشد مَن قابلتهم تمسكًا بالمظاهر والشكليات.»

نظر إليه ثورندايك مبتسمًا ثم راح يَضحك بشدة.

أكمل الدكتور باروز حديثه منزعجًا وقال: «كنا أمام جثة وُجدت في ظروف تشير بكل وضوح إلى تعرضها لجريمة قتل، وكان بها جرح سكين كاد يشق قوس الشريان الأورطي إلى نصفين؛ ورغم هذا أصرَّ الدكتور ثورندايك على معرفة وزن الجسم وفحص كلِّ عضو فيه — الرئتين والكبد والمعدة والمخ؛ أجل، المخ! — كما لو لم يكن هناك أيُّ دليل على سبب الوفاة. ثمَّ وفي النهاية أصرَّ على إرسال محتويات المعدة في إناء محكم الإغلاق بأختامنا الرسمية، وبصحبة مبعوث خاص إلى البروفيسور كوبلاند، من أجل تحليلها وإعداد تقرير بشأنها. كنت أعتقد أنه سيطلب فحصًا للتأكد من عدم إصابة القتيل ببكتريا السل لكنه لم يفعل.» ثم اختتم الدكتور باروز حديثه وقد أصبح نكد المزاج فجأة: «الأمر الذي كان يُعدُّ إغفالًا منه، لأن الرجل ربما يكون قد مات بداء السل.»

ضحك ثورندايك مرة أخرى، وغمغمتُ أنا بأن تلك التدابير ربما كانت مبالغًا فيها بعض الشيء.

كانت إجابة ثورندايك وهو مبتسم هي: «على الإطلاق. إنكم لا ترون جيدًا مهمتنا. نحن خبراء متخصصون غير متحيزين، مهمتنا أن نتأكد من سبب الوفاة بدقة علمية. إن المظاهر البديهية في هذه القضية تُوحي بأن درابر هو من قتل الرجل، وهذه هي الفرضية التي تم تقديمها. لكن هذا ليس من شأنِنا. مهمتنا ليست تأكيدَ أيِّ فرضية تُوحي بها الظروف الخارجية، بل على النقيض، فمهمتنا هي أن نحرص على التأكُّد من عدم إمكانية وجود أيِّ تفسير آخر للأمر. هذه هي مُهمتي الثابتة التي لا تتغيَّر. إنني أرفض أن أنظر لأي شيء بأنه مُسلَّم به، بصرف النظر عن الطريقة التي تبدو بها المظاهر واضحة بنحو صارخ.»

قابل الدكتور باروز جملته تلك بنخير يدل على الاعتراض، لكن وصول عربته منعت المزيد من المناقشة.

لم يُجْرَ استدعاء ثورندايك للشهادة أمام المحكمة. وحيث كان كلٌّ من الدكتور باروز والرقيب موجودَين مباشرة بعد العثور على الجثة، فإن شهادته لم تكن تُعتبَر ضرورية، وعلاوة على ذلك، كان من المعروف أنه يتابع القضية دفاعًا عن المتهم. ومن ثَم فإنه كان موجودًا بصفته مشاهدًا — مثلي — لكنه كان مشاهدًا مهتمًّا للغاية، لأنه دوَّن ملحوظات مختصرة وتامة عن مجمل الشهادة وتعليقات قاضي التحقيق.

لن أصف إجراءات المحاكمة بالتفصيل. لكن بعد أن اطلعتْ هيئةُ المحلفين على الجثة، دخل أفرادُها قاعة المحكمة على أطراف أصابعهم وقد بدت وجوهُهم شاحبة وهَلِعة، وجلسوا في أماكنهم؛ وبعد ذلك وبين الحين والآخر، كانوا يُوجِّهون أنظارهم التي تنمُّ عن الفضول الخفي إلى درابر بينما كان واقفًا يواجه هيئة المحكمة شاحبًا وهزيلًا، وعلى كلا جانبَيه وقف شرطي ريفي يبدو عليه قوة البنيان.

تم تقديم الشهادة الطبية أولًا. بعد أن أقسم الدكتور باروز على قول الحقيقة، بدأ يصف بتأكيدٍ ساخر حالة الرئتين والكبد، حتى قاطعه قاضي التحقيق متسائلًا:

«أكلُّ هذا ضروري؟ أقصد، أهذا في صلب موضوع التحقيق؟»

أجابه الدكتور باروز: «أعتقد أنه ليس كذلك. يبدو لي أن ذلك غيرُ ذي صلة إلى حدٍّ كبير، لكن الدكتور ثورندايك الذي يتولَّى الدفاع عن المتهم كان يعتقد أنه ضروري.»

قال قاضي التحقيق: «أعتقد أن من الأفضل أن تُقدِّمَ الحقائق الأساسية فقط. تريد هيئة المحلفين منك أن تُخبرَهم بما ترى أنه سببُ الوفاة. إنهم لا يُريدون محاضرةً في علم الأمراض.»

قال الدكتور باروز: «سببُ الوفاة هو جرح نافذ في الصدر، وعلى ما يبدو أن سببَه سكينٌ كبير. دخل السلاح بين الضلعَين الثاني والثالث على الجانب الأيسر بجوار عظمِ القفص الصدري. جرحت السكين الرئة اليسرى وتسبَّبت في قطع جزئي في كلٍّ من الشريان الرئوي والشريان الأورطي — وهما الشريانان الأساسيان في الجسم.»

سأله قاضي التحقيق: «أيُعدُّ هذا الجرح وحده كافيًا ليُسبِّبَ الوفاة؟»

كانت إجابته: «أجل، كما أن الإصابة في هذين الشريانَين المهمين تُسبِّب الوفاة في الحال.»

«أيمكن أن تكون الإصابة ذاتية؟»

أجابه الشاهد: «فيما يتعلَّق بموضع الإصابة وطبيعتها، قد يكون الإيذاء الذاتي ممكنًا. لكن وبما أن الوفاة تحدث في غضون ثوانٍ على أقصى تقدير، فإن السلاح كان سيوجد إما في الجرح أو في اليد، أو قريبًا جدًّا من الجثة على الأقل. لكن في هذه القضية لم يوجد أيُّ سلاح، لذا فلا بد وأن الإصابة كانت بدافع القتل.»

«هل رأيت الجثة قبل أن يَتمَّ نقلها؟»

«أجل، كانت الجثة ممددة على ظهرها، والذراعان ممدودتان والساقان مفرودتان على نحو شبه تام؛ وكانت الرمال بجوار الجثة مسحوقةً وكأنَّ صراعًا عنيفًا قد وقع.»

«هل لاحظت أيَّ شيء جدير بالملاحظة بشأن آثار الأقدام على الرمال؟»

أجاب الدكتور باروز: «أجل، كانت الآثار تُشير إلى اثنين من الأشخاص فقط. وكانت إحداها تُشير بلا شكٍّ إلى القتيل، حيث يُمكن تحديدُ آثار أقدامه بسهولة بفعل الكعبَين المطاطيَّين المستديرَين. وكانت آثار الأقدام الأخرى لشخص — على ما يبدو أنه رجل — يرتدي حذاءً صغيرًا أو عالي الرقبة، ومنطقة باطن القدم به مسمرة بالمسامير؛ وكانت تلك المسامير تتخذ نمطًا غريبًا وغيرَ اعتيادي للغاية؛ ذلك أن المسامير على منطقة باطن القدم تتخذ شكلَ مُعيَّنٍ أو ماسة، والمسامير على منطقة الكعب تتَّخذ شكلَ صليب.»

«هل رأيت من قبل حذاءً مسمَّرًا بهذه الطريقة؟»

«أجل، رأيت حذاءً أُخبرت أنه مملوك للمُتهم؛ والمسامير به تتَّخذ الشكلَين اللذين ذكرتُهما.»

«أتقول إنَّ ذلك الحذاء هو ما تسبَّب بآثار الأقدام التي تحدَّثتَ عنها؟»

«لا، لا يُمكنني قول ذلك. يُمكنني فقط أن أقول — في تقديري — إن الشكلَين على نعلَي الحذاء مشابهان للشكلَين المطبوعين في آثار الأقدام.»

كان هذا هو مُجمَل شهادة الدكتور باروز، وقد استمع ثورندايك لكل ما جاء بها بملامح جامدة ولكن باهتمام شديد. وكان المتَّهم يستمع باهتمام شديد أيضًا، لكنه لم يكن جامدَ الشعور؛ بل كان يشعر بانزعاج كبير حتى إنَّ أحد الشرطيَّين طلب الإذن بأن يُحضِرَ له كرسيًّا.

كان الشاهد التالي هو آرثر جيزارد. وقد شهد بأنه اطَّلع على الجثة، وتعرَّف عليها بأنها جثة تشارلز هيرن؛ وأنه كان على معرفة بالقتيل لفترة تمتد بضع سنوات، لكنه لم يكن يعرف أيَّ شيء عن علاقاته، وأنه كان يسكن وقت مقتلِه في القرية.

سأله قاضي التحقيق: «لماذا ترك اليخت؟ هل كان هناك أيُّ نوعٍ من الخلاف؟»

أجابه جيزارد: «على الإطلاق. بل سَئمَ كونه حبيسَ اليخت، وخرج للعيش على الشاطئ كنوع من التغيير. لكنَّنا كنا أعزَّ صديقين، وكان يَنوي أن يعود معنا حين نُبحر عائدين.»

«متى رأيتَه آخر مرة؟»

«في الليلة السابقة لاكتشاف جثته، أي يوم الاثنين الماضي؛ كان يتناول العشاء على اليخت، وأوصلناه إلى الشاطئ بحلول مُنتصَف الليل تقريبًا. وقال بينما كنا نُبحر به إلى الشاطئ إنه ينوي أن يسير إلى المنزل على رمال الشاطئ حيث كان المدُّ منحسرًا. وقد صعد الدرج الحجري عند مبنى الساعة، وحين وصَل أعلاه استدار ليتمنَّى لنا ليلة طيبة. وتلك كانت آخرَ مرة أراه فيها على قيد الحياة.»

سأله قاضي التحقيق: «هل تعرف أيَّ شيء عن علاقة القتيل بالمتهم؟»

أجاب جيزارد: «أعرف أقلَّ القليل. قدَّم القتيل لنا السيد درابر قبل شهر تقريبًا. أعتقد أنهما كانَا يعرفان بعضهما قبل بضع سنوات، وبدت علاقتُهما ممتازة. لم يكن هناك أيُّ دليل على أي صراع أو خلاف بينهما.»

«متى غادر المتَّهم اليخت في ليلة وقوع الجريمة؟»

«عند العاشرة تقريبًا. قال بأنه يُريد أن يصل إلى المنزل مبكرًا، لأن ربة منزله كانت غائبة عن المنزل وهو لا يحب أن يترك المنزل فارغًا.»

كانت هذه هي كل شهادة جيزارد، وقد أكَّدها كلٌّ من ليتش وبيتفورد. وبعد ذلك، حين أدلى الصياد الذي اكتشف الجثة بشهادته تحت القسم، نُوديَ على الرقيب، وتقدم للأمام وهو يُمسك بحقيبة ويبدو منزعجًا وكأنه لم يكن شاهدًا بل متهمًا. قدَّم الرقيب وصفًا للملابسات التي رأى الجثة في ظلِّها، مبيِّنًا الوقت والمكان بدقة شديدة.

سأله قاضي التحقيق: «أسمعت وصف الدكتور باروز لآثار الأقدام؟»

«أجل، كانت هناك مجموعتان. إحداها كانت للقتيل بلا شك. وقد أوضحت الآثار أنه دخل خليج سانت بريدجيت من جهة بورت مارستون. وكان يسير على طول الشاطئ عند علامة ذروة المد تمامًا، فكان يتخطاها للداخل أو للخارج في بعض الأوقات. إن آثار الأقدام التي كان يخلفها قبل علامة المد المرتفع كانت تغمرها المياه وتختفي.»

«إلى أيِّ مدًى تتبعتَ آثار أقدام القتيل؟»

«إلى حوالَي ثلثَي الطريق إلى فجوة ثاندرسلي. ثم اختفَت الآثار قبل علامة المد المرتفع. وفي وقت لاحق في المساء، سرتُ من الفجوة إلى بورت مارستون، لكنَّني لم أستطع إيجاد أيِّ آثار أخرى للقتيل. لا بدَّ وأنه سار بين علامات المد طوال الطريق من بورت مارستون إلى ما بعد ثاندرسلي. وحين دخلتْ تلك الآثار إلى خليج سانت بريدجيت أصبحت مختلطةً بآثار رجل آخر، وكانت رمال الشاطئ مسحوقة لمسافة عدة ياردات كما لو أن شجارًا عنيفًا قد وقع. وعن آثار الرجل الغريب فقد جاءت نزولًا من ممرِّ شيبرد وعادت إليه صعودًا مرة أخرى؛ لكن، وبفعل صلابة الأرض بسبب الطقس الجاف، اختفت الآثار على بعد مسافة قصيرة في طريق الصعود على الممر، ولم أجدها مرة أخرى.»

سأله قاضي التحقيق: «كيف كان شكلُ تلك الآثار الغريبة؟»

أجاب الرقيب: «كان شكلها مميزًا جدًّا. كانت الآثار ناتجة عن حذاء مسمَّر بمسامير صغيرة تتَّخذ شكل ماسة على باطن القدم وشكل صليب على الكعب. قمتُ بقياس الآثار بدقة، ورسمتُ كلَّ قدم في ذلك الوقت.» وهنا أخرج الرقيب دفترًا كبيرًا، وبعد أن فتحه إلى صفحة معيَّنة فيه، قدَّمه إلى قاضي التحقيق، الذي تفحصه بدورِه باهتمام، ثم مرره إلى هيئة المحلفين. ثم انتقل من هيئة المحلفين إلى ثورندايك، وحين نظرتُ من خلفِه عليه، رأيت رسمًا بارعًا لزوج من آثار الأقدام ومبيَّنًا فيه الأبعاد الأساسية.

نظر ثورندايك إلى الرسم بدقة، ودوَّن بعض الملحوظات المختصَرة، وأعاد دفتر الرقيب إلى قاضي التحقيق، والذي أعاده بدوره إلى الرقيب.

سأله قاضي التحقيق قائلًا: «أيها الرقيب، ألديك أيُّ دليل يُرشدُنا للشخص الذي تسبب في آثار الأقدام تلك؟»

أجابه الرقيب بأن فتح الحقيبة التي كانت معه، وأخرج منها أحد الأحذية الأنيقة المتينة ووضعه على الطاولة.

قال الرقيب: «هذا الحذاء مملوك للمتهم؛ كان يَرتديه حين ألقيتُ القبض عليه. ويبدو أن الحذاء يتطابق تمامًا مع آثار أقدام القاتل. القياسات مُتماثلة، والمسامير المستخدمة فيه تتبع نمطًا مماثلًا.»

figure
رسم الرقيب. طول الحذاء: بوصة، عرض الحذاء عند أ: بوصات، طول الكعب: بوصات، عرض الكعب عند نمط الصليب: ٣ بوصات.

سأله قاضي التحقيق: «أتُقسمُ أنَّ آثار الأقدام سببها هذا الحذاء؟»

كانت إجابته الحاسمة: «لا يا سيدي، لا أستطيع أن أُقسم على ذلك. إنما أقسم فقط على التشابه بين الحجم والنمط الذي يتَّخذه الحذاء وآثار الأقدام.»

«هل رأيتَ هذا الحذاء من قبل، قبل أن تَرسم تلك الرسمة؟»

أجابه الرقيب: «لا يا سيدي.» ثم أشار بعد ذلك إلى واقعة آثار الأقدام في الأرض الموحلة عند البِركة، والتي تسبَّبت في أن يُلقيَ القبض على المتَّهم.

حدَّق قاضي التحقيق بإمعان في الحذاء الذي أمسكه بيده، ثم انتقل ببصره منه إلى الرسم؛ ثم مررهما إلى رئيس المحلفين وقال:

«إذن أيها السادة، ليس من شأني أن أُخبركم إن كان هذا الحذاء يتطابق مع الوصف الذي قدمه الدكتور باروز والرقيب، أو إن كان يتطابق مع الرسم الذي رسمه الرقيب كما سمعتم في مسرح الجريمة وقبل أن يرى الحذاء؛ فهذا الأمر متروك لكم لتبتوا بشأنه. لكن الآن هناك سؤال آخر ينبغي أن نَنظر فيه.» ثم استدار إلى الرقيب وسأله: «هل أجريتَ أيَّ تحريات عن تحركات المتهم في ليلة وقوع الجريمة؟»

أجابه الرقيب: «لقد فعلتُ، ووجدت أن المتهم ليلة وقوع الجريمة كان وحيدًا في منزله، فقد ذهبت ربة منزله إلى إيستويتش. وقد رآه رجلان في المدينة عند قرابة الساعة العاشرة، وكان فيما يبدو يسير في اتجاه ثاندرسلي.»

كانت هذه هي خاتمة شهادة الرقيب، وحين تم استجواب شاهد أو شاهدين آخرين من دون الإشارة إلى أي وقائع جديدة، قدم قاضي التحقيق موجزًا للشهادات التي تمَّ تقديمها، وطلب من هيئة المحلفين أن يُصدروا حكمهم. هنا حلَّ صمتٌ مطبق على القاعة، لم يُسمع فيه سوى همسات هيئة المحلَّفين إلى بعضهم بينما كانوا يتشاورُون فيما بينهم؛ وراحت أنظار المشاهدين تتنقل في رهبة وترقُّب بين المتهم وأفراد هيئة المحلفين المتهامسَين. ورمقتُ أنا درابر بنظرة، فكان جالسًا مُتقوقعًا في كرسيه، وكان وجهه المرتعب شاحبًا وكأنه وجهُ أحد الأموات الذين يرقدون في المشرحة، وكانت يداه تَرتجفان في حركة عصبية؛ ورغم أنني كنت أرى أنه مُحتال، فإنني لم أستطع سوى أن أُشفقَ عليه من حالة البؤس الشديد التي كانت تَجتاح جميعَ جسمه، من رأسه وحتى قدميه اللتَين لم تتوقَّفَا عن الارتعاش.

لم تستغرق هيئة المحلفين وقتًا طويلًا للنظر في حكمهم. فبعد مرور خمس دقائق، أعلن رئيس المحلفين أنهم اتفقُوا، وفي إجابة على السؤال الرسمي الذي طرحه قاضي التحقيق، وقف وقال:

«نجد أن القتيل لقيَ مصرعَه بفعل طعنة في صدره نفَّذها المتهم، ألفريد درابر.»

قال قاضي التحقيق: «هذا حكم بالقتل العمد.» ومن ثَمَّ دوَّنه في دفتره. انتهت المحاكمة، وخرج الحاضرون على مضض، ووقف أفراد هيئة المحلفين ومدَّدوا أجسادهم، ثم — وبإشارة من الرقيب — أخذ رجلا الشرطة درابر البائس وهو يكاد يُغمى إليه في عربة مغلقة كانت تنتظر بالخارج.

قلت بطريقة ماكرة بينما كنت أسير وثورندايك إلى المنزل: «لم أنبهر كثيرًا بفعالية جهة الدفاع.»

ابتسم ثورندايك وقال: «من المؤكد أنك لم تتوقَّع أنَّني سأُلقي بخلاصة معرفتي بالطب الشرعي أمام هيئة محلِّفي التحقيق في سبب الوفاة.»

أجبتُه: «إنما توقعت أن يكون لديك ما تقوله نيابة عن موكلك؛ فقد تحدث مَن يتهمونه في حقه بكل ما لديهم من تُهَم.»

سألني ثورندايك: «ولمَ لا؟ ما الذي يهمُّنا في حكم هيئة محلفي التحقيق في سبب الوفاة؟»

أجبتُه: «كان من الأفضل أن تترافَع عنه ولو قليلًا.»

ردَّ عليَّ قائلًا: «عزيزي جيرفس، يبدو أنك لا تُقدِّر قوَّة ما كان اللورد بيكنزفيلد موفقًا حين أطلق عليه «سياسة الانتظار اليقظ»؛ رغم أن ذلك هو أحد أهم الدروس التي يتلقاها الطلاب أثناء التدريب الطبي.»

قلت: «ربما هو كذلك، لكن نتائج سياستك تلك حتى الآن تُشير إلى توجيه اتِّهام القتل العمد في حق موكلك، ولا أرى أيَّ حكم آخر كانت هيئة المحلفين ستتوصَّل إليه.»

قال ثورندايك: «ولا أنا كذلك.»

كنت قد أرسلت خطابًا إلى مُديري الدكتور كوبر، أصف له فيه الأحداث المثيرة التي كانت تحدث في القرية، وتلقيتُ ردًّا منه يُوجهني فيه إلى أن أضع المنزل تحت تصرُّف ثورندايك، وأن أُيَسِّر له كلَّ وسيلة تُمكِّنه من إنجاز عمله. وبموجب هذا الأمر استولى زميلي على عِلِّيَّة مهجورة جيدة الإنارة، وأعلن عن رغبته في نقل أشيائه إليها. والآن وبما أن تلك «الأشياء» كانت تَشتمِل على المُحتويات الغامضة للسبَت الذي رأته خادمتي، فقد كانت تتملَّكني رغبة جامِحة في أن أكون موجودًا أثناء «عملية النقل»، ولا أُمانع في الاعتراف أنني كنتُ أترصدُه على الدرج أملًا في أن أحصل على أيِّ معلومة، ولو صغيرة.

لكن ثورندايك لم يكن من السهل التغلُّب عليه. وقد كان هناك طفل رضيع غير شرعي في القرية انتابته بعضُ التشنجات والاختلاجات في غير الوقت المناسِب لذلك، فوجدت نفسي مضطرًّا — رغمًا عني — أن أُسرع إليه لإنقاذه؛ وقد عدتُ في الوقت الذي كان ثورندايك يُغلق فيه باب العلِّيَّة.

قال ثورندايك بينما كان ينزل الدرج ويضع المفتاح في جيبه: «يا له من مكانٍ لطيف وفسيح وجيد الإنارة للعمل.»

أجبتُه: «أجل.» ثم أضفتُ بعد ذلك بنبرة فيها جرأة: «ما الذي تنوي أن تفعله هناك؟»

أجابني: «سأقوم بإعداد الدفوع، وحيث إنني الآن قد سمعتُ كلَّ ما لدى هيئة الادعاء، فينبغي أن أمضيَ في ذلك قُدُمًا.»

كانت تلك إجابة مبهمة، لكنَّني واسيتُ نفسي بفكرة أنني سأعرف في غضون أيام قليلة للغاية — على غرار بقية العالم — نتائج إجراءاته وتصرفاته الغامِضة؛ ذلك أنه — وفي ضوء اقتراب انعقاد محكمة الجنايات — كان يُجري التحضير للدفع بالقضية أمام محكمة الصلح بأسرع ما يمكن من أجل الحصول على قرار بالإحالة في وقتٍ مُناسب من أجل الجلسات التالية. بالطبع كان قد تمَّ توجيه الاتهام إلى درابر بالفعل أمام قاضي صلح وتمَّ تقديم أدلة القبض عليه، وكان من المتوقَّع أن يتمَّ البدء بجلسة الاستماع المؤجَّلة أمام القضاة المحليِّين في اليوم الخامس بعد يوم جلسة التحقيق.

وقد تسبَّبت أحداثُ الأيام الخمسة هذه في إشعال نار الفضول بداخلي. في البداية، جاء مفتش من قسم التحقيقات الجنائية وفحص المكان بصحبة الرقيب. ثم بعد ذلك جاء السيد باشفيلد الذي سيمثل جهة الادِّعاء ونزل في فندق «كات آند تشيكن». لكن الزائر الذي كان الأكثر إثارة للدهشة كان مساعدَ ثورندايك في المعمل، ويُدعى بولتون، والذي جاء ذات مساء ومعه صندوق كبير وأرجوحة بحارة، وأعلن أنه سيُقيم في العلِّيَّة.

أما عن ثورندايك نفسه، فقد كانت تصرفاته شديدة الغرابة. لقد كان يظهر بصورة غامضة من وقت لآخر عند النافذة في العلِّيَّة، وعادة ما كان يرتدي ما بدا أنه قميص للنوم. وكنتُ أراه في بعض الأحيان وهو يُمسك بنيجاتيف صور أمام الضوء، وفي بعض الأحيان الأخرى وهو يُمسك بإطار تحميض الصور؛ وذات مرة رأيتُه وفي يده فرشاة رسم وحُنجود كبير؛ حينها انصرفتُ مبتعدًا وأنا يملؤني شعورٌ باليأس، وقد كدت أصطدم بالمُفتش.

قال المفتش وهو يُحدِّق بإمعان في ظهر رفيقي الذي بدا له من النافذة: «سمعتُ أن الدكتور ثورندايك يمكث هنا معك.»

أجبتُه: «أجل. هذا هو سكنه المؤقت.»

قال المفتش: «أعتقد أنه يقوم بأعماله المثيرة للحيرة هنا، أليس كذلك؟»

صحَّحتُ له ما قال باستنكاف: «إنه يقوم بتجاربه هنا.»

قال المفتش: «هذا هو قصدي.» وفي تلك اللحظة استدار ثورندايك وفتح النافذة وعندها بدأ زائرُنا يصعد الدرج.

قال المفتش حين وصل إلى الباب: «لقد أتيتُ لكي أرى إن كنتُ أستطيع أن أتحدث معك قليلًا أيها الدكتور.»

قال ثورندايك بنبرة تنم عن المداهنة: «بكل تأكيد. إذا نزلتَ وانتظرتني مع الدكتور جيرفس، فسأكون معك في غضونِ خمس دقائق.»

هبط المفتش من على الدرج عابسًا، وأعتقد أنني سمعتُه يُغمغِمُ قائلًا: «لقد انتصر عليَّ!» لكن ربما كان ذلك توهمًا منِّي. ولكن سرعان ما ظهر ثورندايك وسار هو والمفتش بعيدًا نحو الشجيرات. لم أعلم قطُّ ما كان يُريده المفتش، أو إن كان هناك ما يريده حقًّا؛ لكن يبدو أن تلك الواقعة سلطت بعض الضوء على وجود بولتون وأرجوحة البحارة. وعلى ذكر بولتون، أذكر أن تغييرًا استثنائيًّا للغاية حدث في نحو ذلك الوقت في عادات ذلك الرجل القصير الرصين والوقود في أغلب الوقت؛ إذ تخلَّى عن نمط ثيابه المهني المعتاد نوعًا ما، وبدأ يرتدي ثيابًا تُشبه ثياب البحارة ويَنطلِق فيها كل صباح باتجاه بورت مارستون. وهناك ولأكثر من مرة، رأيته يتكئ إلى عمود بجوار الميناء، أو يتسكَّع خارج حانة قريبة من الشاطئ وينخرط في محادثات جادة وودية مع عدد من البحَّارة.

وفي عصر اليوم الذي يسبق بدء جلسات المحاكمة، جاءنا زائران آخران. أحدهما كان رجلًا أبيض الشعر يَرتدي نظارة وكان غريبًا بالنسبة لي، ولسببٍ ما لم أستطع أن أتذكر اسمه — وهو كوبلاند — رغم أنَّني واثق من أنني سمعتُه من قبل. أما الآخر فكان اسمه أنستي، وهو المحامي الذي كان عادة ما يعمل مع ثورندايك في القضايا التي تذهب إلى ساحات المحاكَم العليا. لكنني لم أشهد منهما الكثير؛ لأنَّهما صعدَا إلى العلِّيَّة تقريبًا حال وصولهما حيث مكثَا فيها طوال اليوم عدا أنهما كانَا يخرجان لفترات قصيرة من الوقت لتناول الطعام، وأعتقد أنهما مكثَا هناك لساعة متأخِّرة من الليل. وقد طلب مني ثورندايك ألَّا أذكرَ أسماء زائريه لأي شخص كان، واعتذر في نفس الوقت عن سرية ما يقوم به من إجراءات.

اختتم ثورندايك حديثه قائلًا: «إنك طبيب يا جيرفس، وتعرف ماهية الأسرار المهنيَّة؛ وستتفهم كيف هو في صالحنا كثيرًا أننا نعرف ما يُمكن أن تقوم به جهةُ الادعاء على وجه التحديد، في حين أنها تجهل تمامًا ماهية دفوعنا.»

أكدتُ له أنني أتفهم موقفه تمامًا، وحينها عاد إلى قاعة مجلسه وقد بدا عليه علامات الارتياح.

أما عن وقائع الجلسة التي بدأت في اليوم التالي والتي كنتُ حاضِرًا فيها، فليس هناك حاجة لوصفها بالتفصيل. بالطبع كان بيان جهة الادِّعاء في الأساس مجرَّد تكرار لما تمَّ تقديمه أثناء جلسة التحقيق في سبب الوفاة. لكنَّني سأُضمِّن كلمة السيد باشفيلد الافتتاحية بالتفصيل؛ ذلك أنها تلخص بصورة واضحة الاتهام المقدم ضد المتهم.

قال السيد باشفيلد: «إنَّ الدعوى المنظورة أمام المحكمة الآن تنطوي على تهمة القتل العمد في حق المتهم ألفريد درابر، والوقائع المعروفة حتى الآن هي باختصار كالآتي: في ليلة الإثنين، الموافق السابع والعشرين من سبتمبر، تناول القتيل وهو تشارلز هيرن العَشاءَ مع بعض الأصدقاء على متن اليخت المسمَّى أوتر. وبحلول منتصف الليل تقريبًا، وصل إلى الشاطئ وأخذ يسير نحو ثاندرسلي على طول الشاطئ. وحين دخل حدود خليج سانت بريدجيت، قابله رجل، يبدو أنه كان ينتظره وقد جاء من ممر شيبرد، ثم يبدو أن صراعًا مميتًا وقع بينهما. أُصيب القتيل بجرح من نوع من المعروف أنه يتسبَّب في الموت الفوري، ويبدو أن القتيل سقط صريعًا جراء ذلك.

والآن، ماذا كان الدافع وراء تلك الجريمة الشنعاء؟ إنه لم يكن السرقة، لأنه لا يبدو أن هناك شيئًا قد سُرق من القتيل. فبقدر ما هو معلوم، وُجد المال والأشياء الثمينة في مكانها. وكذلك من الواضح أن الدافع لم يكن مشاجرة عارضة بينهما. ومن ثَمَّ فإننا مدفوعون لأن نعتقد أن الدافع كان شخصيًّا، إما الحصول على منفعة أو الثأر، وفي ظل وجهة النظر هذه فإننا نجد أن ظروف الزمان والمكان والتعمُّد الواضح وراء هذه الجريمة هي كلها في حالة توافقٍ تام مع بعضها.

هذا بشأن الدافع. السؤال التالي هو: مَن الذي ارتكب تلك الجريمة المروِّعة؟ وإجابة هذا السؤال تكمن في تفصيلة فريدة ومثيرة للغاية، تفصيلة توضح مرة أخرى الافتقار الكبير إلى الاحتياط الذي يُظهره أولئك الذين يَرتكبُون مثل هذه الجرائم. لقد كان القاتل يرتدي حذاءً مميزًا للغاية، وقد خلَّف ذلك الحذاء آثار أقدام مميزة جدًّا في الرمال الناعمة، وقد رأى تلك الآثار وفحصها ضابطٌ ذكيٌّ وفطن جدًّا — وهو الرقيب باين — والذي سنستمع إلى شهادته عما قريب. ولم يفحص الرقيب الآثار وحسب، وإنما رسمها رسمًا دقيقًا في مسرح الجريمة — وأُعيدها على مسامعكم، في مسرح الجريمة وليس من ذاكرته — كما أخذ قياساتٍ دقيقةً لها ودوَّنها في حينها. ومن تلك الرسومات والقياسات، تمَّ التعرُّفُ على ذلك الحذاء المميز، وهو هنا الآن ليخضع لفحصكم.

والآن، مَن هو مالك هذا الحذاء المميز جدًّا، والذي يكاد يكون لا نظير له؟ لقد قلت إن الدافع وراء هذه الجريمة لا بد وأنه دافع شخصي، وها هو ذا يصدف أن صاحب هذا الحذاء هو الشخص الوحيد في هذه المنطقة بأسرها الذي يُمكن أن يمتلك دافعًا لقتل المجني عليه. إن هذا الحذاء ملك للمتهم ألفريد درابر، وقد أُخِذ منه بينما كان يرتديه، وهو الشخص الوحيد الذي يعيش في هذه الأرجاء الذي على صلة بالقتيل.

لقد ثبت بشهادة الشهود أثناء جلسة التحقيق في سبب الوفاة أن علاقة الرجلين، المتهم والقتيل، ببعضهما كانت وديةً تمامًا؛ لكنني سأُثبت لكم أنها لم تكن ودية تمامًا كما هو مفترض. سأُثبت لكم، بشهادة ربة منزلِ المتَّهم، أن القتيل كان عادة ضيفًا غير مرحب به في منزله، وأن المتهم كان عادة ما ينفي وجوده في المنزل عندما كان يزوره المتهم بينما هو موجود به بالفعل، وأنه باختصار بدا وكأنه يُحاول باستمرار تجنُّب القتيل وتحاشيه.

هناك سؤال آخر وبعدها أكون قد انتهيت. أين كان المتهم ليلة وقوع الجريمة؟ الإجابة هي أنه كان في منزل يبعد عن مسرح الجريمة بأقل من نصف ميل. ومن كان معه في ذلك المنزل؟ من كان معه ليلاحظ خروجه من المنزل وعودته إليه ويشهد بذلك؟ لا أحد. كان بمفرده في المنزل. في تلك الليلة، من بين كل الليالي، كان بمفردِه. لم يكن هناك ولو شخص واحد فقط لينتبه إلى صوت الباب، أو ليسمع خطوات أقدامه، لم يكن هناك من أحد ليشهد ما إن كان المتهم قد خلَد إلى النوم أم أنه تسلل للخارج في جنح الظلام.

تلك هي وقائع هذه القضية. أعتقد أنها لا جدال عليها، وأؤكد بأن تلك الوقائع مجتمعة لا تؤدي إلا إلى تفسير واحد؛ وهو أن المتهم ألفريد درابر هو الرجل الذي قتل الضحية تشارلز هيرن.»

مباشرةً بعد اختتام هذا الخطاب، جرى استدعاء الشهود، وكانت الشهادات التي تم تقديمها مطابقة لما تمَّ تقديمه أثناء جلسة التحقيق في سبب الوفاة. وكان الشاهد الجديد الوحيد لدى جهة الادعاء هو ربة منزل درابر، وكانت شهادتُها تؤكد تمامًا ما جاء بخطاب السيد باشفيلد. وقد تمَّ الاستماع باهتمام بالغ إلى شهادة الرقيب عن آثار الأقدام، وفي ختام شهادته، قام رئيس المحكمة — وهو محامٍ مُتقاعدٌ، كان فيما مضى مشهورًا فيما يتعلَّق بالقضايا الجنائية — بطرح سؤال أثار اهتمامي لأنه بيَّن كيف أن ثورندايك توقَّع بوضوح مسار الأحداث؛ إذ يُذكِّرني بملاحظته في تلك الليلة التي وجدنا فيها أنفسنا تحت الأمطار.

سأل رئيس المحكمة قائلًا: «هل أخذتَ الحذاء إلى الشاطئ وقارنته بآثار الأقدام الحقيقية؟»

أجاب الرقيب: «حصلتُ على الحذاء في الليل، وأخذته إلى الشاطئ عند بزوغ فجر الصباح التالي. لكن ولسوء الحظ، هبَّت عاصفة أثناء الليل، وقد طُمست آثار الأقدام كلها تقريبًا بفعل الرياح والأمطار.»

وحين تنحَّى الرقيب، أعلن السيد باشفيلد أنَّ تلك كانت نهاية مرافعة جهة الادعاء. ثم عاد إلى كرسيه، ورمق أنستي وثورندايك بنظرة فضولية.

وقف الأول في الحال وافتتح مرافعة الدفاع ببيان مختصر.

قال أنستي: «لقد أخبرَنا محامي جهة الادعاء المطَّلع أن الوقائع التي بين يدي المحكمة الآن لا تؤدِّي إلا إلى تفسير واحد — وهو أن المتهم مذنب. ربما كان ذلك حقيقيًّا وربما كان عكس ذلك؛ لكنني سأشرع الآن في سرد بعض الوقائع الجديدة أمام المحكمة — وهي وقائع يمكنني القول إنها غريبة ومدهشة بشدة، وأعتقد أنها ستؤدي إلى استنتاج مختلف تمامًا. لن أقول المزيد، لكن استدعوا الشهود، ودعوا الشاهدة تتحدَّث عن نفسها.»

كان الشاهد الأول من جانب جهة الدفاع هو ثورندايك؛ وبينما كان يدخل إلى منصة الشهود، لاحظتُ أن بولتون كان يجلس في مكان قريب منه من خلفه ومعه صندوق كبير من الخوص. وبعد أن أقسم ثورندايك وبعد أن طلب منه أنستي أن يسرد أمام المحكمة ما يعرفه عن القضية، بدأ حديثه من دون مقدمة فقال:

«عند حوالي الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الثامن والعشرين من سبتمبر، مررتُ من فجوة ثاندرسلي مع الدكتور جيرفس. جذب انتباهَنا بعضُ الآثار الموجودة على الرمال، خاصة تلك التي تعود لرجل نزل عن قارب، وصعد باتجاه الفجوة، وعاد بعدها إلى القارب على ما يبدو.

وبينما كنا واقفين هناك، مرَّ الرقيب باين والدكتور باروز عبر الفجوة مع اثنين من رجال الشرطة اللذَين يحملان نقالة. تبعناهم لمسافة كبيرة، وبينما كنَّا نسير على طول الشاطئ صادفنا آثار أقدام أخرى، وهي تلك التي قال الرقيب بأنها تعود إلى الضحية. تفحَّصنا تلك الآثار باهتمام، وحاولنا أن نصل إلى وصفٍ للشخص صاحب تلك الآثار.»

سأل رئيس المحكمة: «وهل تَوافقَ وصفكم مع صفات الضحية؟»

أجاب ثورندايك: «مطلقًا.» حينها ضحك رئيس المحكمة والمفتش والسيد باشفيلد ضحكًا شديدًا وطويلًا.

«وحين عدنا إلى خليج سانت بريدجيت، رأيتُ جثة الضحية ممدَّدة على الرمال بجوار المنحدر. كانت الرمال حولها تحمل الكثيرَ من آثار الأقدام، كما لو أن صراعًا طويلًا وعنيفًا قد نشب. كانت هناك مجموعتان من آثار الأقدام، كانت إحداهما تعود على ما يبدو إلى الضحية، والأخرى إلى رجل يرتدي حذاءً مسمَّرًا بنمط غريب وبارز للغاية. تسببت الفكرة الخطأ التي نجمت عن ارتداء مثل هذا الحذاء في أنني تفحَّصتُ بإمعان أكثرَ آثار الأقدام، واكتشفتُ اكتشافًا مدهشًا؛ وهو أن أيَّ صراع لم يحدث في الواقع؛ وإنما كانت مجموعتَا آثار الأقدام تلك قد صُنعتَا في وقت مختلف.»

صاح رئيس المحكمة في ذهول: «في وقتٍ مختلف!»

«أجل. إن الفترة الزمنية بينهما قد تكون ساعاتٍ أو ثوانيَ، لكن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن مجموعتَي الآثار قد صُنعتَا تباعًا وليس في الوقت نفسه.»

سأله رئيس المحكمة: «ولكن كيف توصلتَ إلى تلك الحقيقة؟»

قال ثورندايك: «كان ذلك في غاية الوضوح حين نظرتُ إلى الآثار. كانت آثار الضحية توضح أنه كان يخطو على آثاره هو بصورة مُتكرِّرة؛ لكنه لم يخطُ ولو لمرة واحدة على آثار أقدام الرجل الآخر، رغم أنهما كانَا يغطيان المساحة نفسها. وعلى الجانب الآخر، لم يخطُ الرجل ذو الحذاء المسمَّر على آثاره وحسب، وإنَّما أيضًا كان يخطو على آثار الضحية في تواتُر مُتماثل. وعلاوة على ذلك، حين أُزيلت الجثة، لاحظتُ أن آثار الأقدام على الرمال التي كانت ممددةً عليها تعود للضحية فقط وبصورة حصرية. لم يكن هناك أيُّ آثار لحذاء مسمَّر تحت الجثة، رغم أنه كان هناك الكثير منها حولها. لذا كان من الواضح تمامًا أن آثار أقدام الضحية كانت قد صُنعت أولًا، وأن آثار الحذاء المسمَّر صُنعت بعدها.»

وحين توقف ثورندايك عن الحديث، حكَّ رئيس المحكمة أنفه بينما كان يفكر، وحدَّق المفتِّش بالشاهد في عبوس وحيرة.

أكمل صديقي حديثه قائلًا: «إنَّ غرابة هذه الحقيقة جعلتْني أنظر إلى آثار الأقدام بعين ناقدة أكثر، وحينها اكتشفتُ اكتشافًا آخر. كان هناك مساران لآثار الحذاء المسمَّر، والتي كانت على ما يبدو تتردَّد جيئة وذهابًا إلى ممرِّ شيبرد. لكن وبفحصِ تلك الآثار بإمعان أكثر، ذُهلت حين وجدت أن الرجل صاحبها كان يسير بظهره؛ أي إنه في الواقع كان يسير بظهره من الجثة إلى ممرِّ شيبرد، وأنه صعد على الممر لمسافة قصيرة، واستدار وعاد وهو لا يزال يسير بظهره، وذلك حتى وصل إلى قاع المنحدَر بجوار الجثَّة، وهناك اختفَت الآثار تمامًا. وفي تلك البقعة على الرمال، كانت هناك علامات صغيرة غير واضحة والتي يُمكن أن يكون سببها هو طرف حبل، وكان هناك أيضًا فتات صغير وقليل لصُخور كانت قد وقعت من أعلى المنحدَر. وبملاحظة تلك الفتات، تفحَّصتُ سطح المنحدَر، وفي إحدى بقاعه، فوق الشاطئ بمقدار ستِّ أقدام، وجدتُ بقعة محكوكة حديثًا وكان عليها آثارُ خدوش مُماثِلة لتلك التي يُمكن أن يتسبَّب بها حذاء مُسمَّر. ثم صعدتُ على ممر شيبرد، وتفحصتُ المنحدر من الأعلى، وهناك وجدتُ على حافته فجوةً عميقة إلى حدٍّ ما، كالتي يمكن أن يتسبَّب بها حبلٌ مشدود، وحين تمدَّدتُ على الأرض ونظرت من موضعي، وعلى مسافة خمس أقدام من أعلى المنحدَر، كان باستطاعتي رؤية بقعة محكوكة أخرى بها خدوش بارزة ومماثلة للأولى.»

قال رئيس المحكمة: «يبدو أنك ترى أن هذا الرجل قام بهذه التحرُّكات المدهشة ثم سُحب إلى أعلى المنحدَر؟»

أجابه ثورندايك: «هذا ما يُوحي به الأمر.»

ضمَّ رئيس المحكمة شفتيه إلى بعضهما، وارتفع حاجباه، ونظر بارتيابٍ إلى القضاة الآخرين. ثمَّ انحنى جهة الشاهد في شيء من الاستِسلام ليُشيرَ إلى الشاهد بأنه يسمعه.

أكمل ثورندايك حديثه قائلًا: «في تلك الليلة نفسها، ركبتُ دراجتي وذهبت إلى الشاطئ، ونزلت من جهة الفجوة، وكان معي جصٌّ، وشرعت أصنع قوالب من الجص لأهمِّ آثار الأقدام.» (هنا اعتدل كلٌّ من المفتِّش والسيد باشفيلد والقضاة في جلستهم في وقت واحد؛ بينما أطلق الرقيب باين لعنةً تكاد تكون مسموعة؛ أما أنا وبخصوص السبَت وملعقة المطبخ التي كنتُ متحيرًا بشأنهما كثيرًا فقد أدركتُ فجأة ما كان يفعله ثورندايك بهما.) ثم أضاف: «وحيث فكَّرتُ أن ذلك الجصَّ السائل قد يُخرِّب أو حتى يَطمس الآثارَ الموجودة على الرمال، فقمتُ بملء آثار الأقدام المرادة بالجصِّ الجاف، وضغطتُ عليه ضغطًا خفيفًا، ثم صببتُ الماء عليه بحذر. وهذه القوالب — التي تُمثِّل بصمة مُمتازة للآثار — تُظهر بالتأكيد شكل الحذاء الذي تسبَّب بالآثار، ومن تلك القوالب قمتُ بإعداد صبات تعيد إنتاج الآثار نفسها.

وكان أول القوالب التي صنعتُها لآثار المسار الذي يقود من القارب إلى الفجوة، وسأتطرق إلى هذا القالب عما قريب. ثم صنعتُ قالبًا لأحد آثار الأقدام التي قيل عنها إنها خاصة بالضحية.»

صاح رئيس المحكمة: «قيل عنها! من المؤكد أن الضحية كان هناك، ولم يكن هناك آثارُ أقدام أخرى؛ لذا، إذا لم تكن تلك الآثار تعود له، فلا بد وأنه طار إلى حيث وُجِد.»

أجابه ثورندايك بثبات: «سأقول إنها آثار أقدام الضحية. لقد صنعتُ قالبًا لأحد تلك الآثار، ولأحد آثار أقدامي. هذا هو القالب وهذه هي الصبَّة منه.» (ثم استدار وأخذهما من بولتون المبتهج، والذي كان قد رفعهما مسبقًا برفق من الصندوق.) «وبالنظر إلى الصبَّة، يُمكن أن يُرى أنها ليسَت كالمتوقَّع. كان طول الضحية خمس أقدام وتسع بوصات، لكنه كان نَحيلًا للغاية وخفيفَ الوزن، فكان وزنه يَبلغ حوالي ستين كيلوجرامًا، وقد تحققتُ من ذلك من قبلُ بأن وزنتُ الجثة، في حين أن طولي خمس أقدام وإحدى عشرة بوصة، وأزنُ اثنين وثمانين كيلوجرامًا تقريبًا. لكنَّ عمق آثار أقدام الضحية تكاد تكون ضعفَي عمق آثار أقدامي؛ أي إنَّ الرجل الأخف وزنًا غاص في الرمال تقريبًا ضعف ما غاص الرجل ثقيل الوزن.»

كان القضاة في تلك اللحظة مُنتبهين انتباهًا شديدًا. لم يعودُوا مجردَ مُستمِعِين باستخفاف لحديث خبير عِلمي. كانت صبَّةُ أثرَي القدمَين الموجودين جنبًا إلى جنب موضوعة أمامهم؛ وكان الدليل يسترعي انتباههم وكان مقنعًا إلى حدٍّ كبير.

قال رئيس المحكمة: «هذا أمر غريب، لكن أيُمكنك أن تشرح لنا وجه التعارض؟»

أجاب ثورندايك: «أعتقد أنني يُمكنني ذلك، لكنَّني أُفضِّل أن أضع كافة الحقائق أمامكم أولًا.»

وافقه رئيس المحكمة قائلًا: «لا شك أن ذلك سيكون أفضل. أرجوك تفضَّل.»

أكمل ثورندايك حديثه قائلًا: «كان هناك أمر غريب آخر بشأن آثار الأقدام تلك، وهو المسافة بينهما، أو طول الخطوة في واقع الأمر. لقد أخذتُ قياس طول الخطوات بدقة من الكعب إلى الكعب، ووجدتُ أنها تبلغ فقط تسع عشرة بوصة ونصف البوصة. لكنَّ رجلًا في طول هيرن كان سيخطو خطوة عادية تبلغ نحو ستٍّ وثلاثين بوصة، وستبلغ أكثر من ذلك إذا كان يسير مسرعًا. لذا فإن السير بطول خطوة يَبلغ تسع عشرة بوصة ونصف البوصة يوحي بأنه كان يسير وقدماه مربوطتان إلى بعضهما.

ثم ذهبتُ بعد ذلك إلى الخليج، وصنعتُ قالبَين من خطوات أقدام الرجل الذي كان يرتدي الحذاء المسمَّر، قالبًا للقدم اليمنى والآخر لليُسرى. وإليكم صبَّتَين من القالب، وهما توضحان بشكل تام أن الرجل كان يسير بظهره.»

سأله رئيس المحكمة: «كيف توضحان ذلك؟»

«هناك نقاط مُميزة كثيرة. على سبيل المثال، غياب «الرفسة» المعتادة عند منطقة الأصابع، والسحبة البسيطة خلف منطقة الكعب واللذين يُوضِّحان الاتجاه الذي تسلكه القدم، وكذلك البصمة المستوية عند منطقة باطن القدم.»

«لقد تحدثتُ عن قوالب وصبات، فما الفرق بينهما؟»

«القالب هو بصمة صريحة ومن ثَم فهيَ مقلوبة. أما الصبة فهي بصمة القالب، ومن ثَم فهي صورة طبق الأصل من الشيء. إنني إذا ما قمتُ بصبِّ الجص السائل على عملة معدنية، فحين يجفُّ الجص، سيصبح لديَّ قالبٌ أو بصمة منقوشة للعُملة المعدنية. وإذا ما صببتُ الشمع المنصهر على القالب، فسأَحصُل على صبَّة أو صورة طبق الأصل من العملة. إن آثار القدم هي قالب من القدم، والقالب المصنوع من آثر القدم هو صبَّة القدم، وصبَّة القالب تستنسخ أثرَ القدم.»

قال رئيس المحكمة: «شكرًا لك. إذن فقالبَا أثرَي القدمَين هذَين هما في الواقع صورتان طبق الأصل لحذاء القاتل، ويُمكن مقارنتهما بذلك الحذاء الذي تمَّ تقديمه كدليل؟»

«أجل، وحين نقارن بينهما تتضح لنا حقيقة غاية في الأهمية.»

«وما هي؟»

«إن حذاء المتَّهم لم يكن هو الحذاء الذي تسبَّب في تلك الآثار.» سرَى نوعٌ من الذهول بين أرجاء القاعة، لكن ثورندايك أكمل حديثه في لامبالاة: «لم يكن حذاء السجين في حوذتي؛ لذا فقد ذهبتُ إلى بِركة باركر، إلى تلك الأرض الموحلة التي رأيتُ عليها آثار الأقدام التي تسبَّب بها المتهم. صنعتُ قوالب لتلك الآثار، وقارنتُها بقوالب الآثار التي أخذتُها من الرمال. هناك عدة اختلافات ذات أهمية، وسترونها إذا ما قُمتم بالمقارنة بينها بأنفسكم. ولكي أسهل المقارنة عليكم، قمتُ بتصوير مجموعتَي القوالب صورًا شفافة بنفس المقياس. والآن، إننا إذا ما وضعنا صورة قالب أثر قدم المتَّهم اليُمنى على الصورة المقابلة لها لأثر قدم القاتل، ورفعنا الصورتين المتراكبتَين في مقابل الضوء، فلن نتمكَّن من جعلهما تتطابقان. إن الاثنتين تتطابقان تقريبًا من حيث طولُ كلٍّ منهما، لكنَّ شكلَ كلٍّ منهما يختلف عن الآخر. وعلاوة على ذلك، إننا إذا ما وضعنا أحد المسامير في صورة منهما على مقابله في الصورة الأخرى، فلن نتمكَّن من جعل بقية المسامير تَتطابق على بعضها. لكن الحقيقة الفاصلة بعد كل ذلك — والتي لن نجد منها مفرًّا — هي أن عدد المسامير في كلا الحذاءَين مختلف. هناك أربعون مسمارًا في نعل فردة الحذاء اليمنى للمُتهم؛ أما في نعل حذاء القاتل فهناك واحد وأربعون مسمارًا؛ أي إنَّ هناك مسمارًا واحدًا زائدًا.»

ساد صمتٌ مطبق في أرجاء المحكمة فيما انصبَّ القضاة والسيد باشفيلد على القوالب وحذاء المتهم، وفحصوا الصور في مقابل الضوء. ثمَّ سأل رئيس المحكمة: «هل هذه هي الحقائق كلُّها، أم هناك المزيد؟» لا شك أنه كان يتُوق للوُصول لمفتاح هذا اللغز.

قال أنستي: «هناك المزيد من الأدلة سعادة القاضي. لقد فحص الشاهدُ جثَّة الضحية.» ثم استدار نحو ثورندايك وسأله:

«أكنتَ حاضرًا أثناء تشريح الجثة؟»

«أجل.»

«هل كوَّنتَ رأيًا عن سبب الوفاة؟»

«أجل. لقد وصلتُ إلى استنتاج مفادُه أنَّ سبب الوفاة هو جرعة زائدة من المورفين.»

قوبلت تلك الجملة بتأوُّهٍ كبير ينمُّ عن الدهشة. عارض رئيس المحكمة ذلك وقال لاهثًا:

«لكن كان هناك جرح، وقد قيل إنه كفيل بالتسبُّب في وفاة فورية. ألم تكن تلك هي الحال؟»

أجاب ثورندايك: «لا شكَّ في وجود ذلك الجرح. لكن حين أصيب الضحية به كان قد مات بالفعل قبلُ من ربع ساعة إلى نصف ساعة.»

صاح رئيس المحكمة مُتعجبًا: «هذا أمر لا يُصدَّق! لكن، لا شك، أنك تستطيع أن تذكر الأسباب التي دعتْك للوصول إلى ذلك الاستِنتاج، أليس كذلك؟»

قال ثورندايك: «كان رأيي مَبنيًّا على عدة حقائق. في المقام الأول، حين يُصاب جسد الإنسان الحي بجرح فإنه يَنشق شقًّا واسعًا، والسبب في ذلك انفتاح الجلد الحي. أما الجلد في جسد الإنسان الميِّت فإنه لا يَنفتح، ومن ثَم فإن الجرح لا يَنشق. بالنسبة لهذا الجرح فقد انشقَّ الجلد عنه شقًّا بسيطًا للغاية، مما يُوضِّح أن القتيل كان حديثَ الوفاة، والتي يُمكنني القول إنها كانت قبل نصف ساعة من الإصابة به. ثم إنَّ الجرح في الجسد الحي يَمتلئ بالدماء، ثم يُراق الدم على الملابس. لكن الجرح في جسد الضحية كان يَحتوي على تجلُّطٍ دموي صغير. وبالكاد كان هناك دماء على ملابسه، وقد لاحظتُ مسبقًا أنه لم يكن هناك أيُّ أثر للدماء على الرمال حيث كانت ترقُد الجثة.»

سأله رئيس المحكمة بارتياب: «وهل ترى أن هذه حقيقة فاصلة؟»

أجاب ثورندايك: «أجل، أرى ذلك. لكنَّ هناك دليلًا آخر لا يُمكن أن يكون محلَّ شك. كان السلاح الذي أحدث الجرح قد تسبَّب في فصل الشريان الأورطي جزئيًّا عن الشريان الرئوي، وهما الشريانان الرئيسيان في الجسم. وحين يكون المرء على قيد الحياة، يكون هذان الشريانان الرئيسيان مليئَين بالدماء بضغط داخلي كبير، لكن بعد الوفاة يكونان فارغَين من الدماء تقريبًا. ويستتبع ذلك أنه إذا ما أصيب الضحية بالجرح وهو على قيد الحياة، فإنَّ التجويف الذي يوجد به هذان الشريانان كان سيَمتلئ بالدم. وفي واقع الأمر، فإن ذلك التجويف لم يكن به أيُّ دماء، فقط ترشيح بسيط من بعض الأوردة الصغيرة؛ لذا فمن المؤكَّد أن الجرح جاء بعد الوفاة. وقد تحققتُ من وجود السم وطبيعته وذلك عن طريق تحليل إفرازات معينة للجسم، وقد مكَّنني التحليل من القطع بأن كمية السمِّ كانت كبيرة؛ لكن تمَّ إرسال محتويات المعدة إلى البروفيسور كوبلاند من أجل إجراء فحص أكثر دقة.»

سأل رئيس المحكمة أنستي: «وماذا عن نتيجة تحليل البروفيسور كوبلاند؟»

أجاب أنستي: «البروفيسور موجود هنا سعادة القاضي، وهو على استعداد ليُقسم بأنه استخرج مقدارًا ضئيلًا من المورفين من محتويات المعدة؛ ورغم أن تلك الجرعة التي استخرجها تُعدُّ في حد ذاتها مميتة، فإنها ما هي إلا البقايا غير الممتصَّة لما تمَّ ابتلاعه في الواقع، ولا بد أن حجم الجرعة التي تناولها كانت كبيرةً للغاية.»

قال رئيس المحكمة: «شكرًا لك. والآن أيها الدكتور ثورندايك، إذا كنتَ قد ذكرتَ لنا كافة الحقائق، فلعلك ستُخبرنا بما توصلتَ إليه من استنتاجات بشأنها.»

قال ثورندايك: «الحقائق التي عرضتُها يبدو أنها تُشير إلى التسلسل التالي للأحداث. تُوفي الضحية تقريبًا بحلول منتصَف ليل السابع والعشرين من شهر سبتمبر، بأثر جرعة سامة من المورفين، ولا أعرف كيف أخذها ولا مَن أعطاه إياها. وأعتقد أن جثته جاءت في قارب إلى فجوة ثاندرسلي. كان القارب يَحتوي على ثلاثة رجال على الأرجح، ظلَّ واحد منهم بالقارب، بينما سار الثاني وصعد إلى الفجوة وعلى طول المنحدَر باتجاه خليج سانت بريدجيت، وأما الثالث فقد ارتدى حذاء الضحية، وحمل الجثة وسار بها على طول الشاطئ باتجاه الخليج. ومن شأن هذا أن يفسر العمق الكبير والخطوة القصيرة لآثار أقدام ما قيل إنها آثار أقدام الضحية. وبعد أن وصَل الرجل الثالث إلى الخليج، أعتقد أنه وضع الجثَّة على الآثار التي صنعها بنفسه، ثم دهَس الرمال بجوار الجثَّة. ثمَّ بعد ذلك خلع حذاء الضحية ووضعه على الجثة، ثم ارتدى حذاء كان يحمله — وربما كان معلَّقًا حول رقبته — وكان الحذاء مسمَّرًا بحيث يُحاكي حذاء درابر. ثم دهَس الرجل الرمال بالقرب من الجثَّة مرة أخرى وهو يَرتدي هذا الحذاء. ثمَّ سار الرجل بظهره حتى ممرِّ شيبرد، ومنه سار بظهره أيضًا حتى وصَل إلى سفح المنحدَر. هناك كان رفيقه قد ألقى له حبلًا، فتسلق المنحدر إلى قمته باستخدامه. وبالأعلى خلع الحذاء المسمَّر، وسار الرجلان عائدَين إلى الفجوة، حيث قام الرجل الذي ألقى بالحبل بحمل صديقه على ظهرِه، ونزل به باتجاه القارب ليتجنَّب أن يُخلِّف الأخير آثار جواربِه على الرمال. فقد كانت الآثار التي رأيتُها عند الفجوة تُشير بكل تأكيد إلى أن الرجل كان يَحمل شيئًا ثقيلًا للغاية حين عاد إلى القارب.»

سأل رئيس المحكمة: «ولكن لماذا يتسلَّق الرجل المنحدِر باستخدام الحبل، في حين أنه كان بإمكانه أن يَصعد على ممرِّ شيبرد؟»

أجابه ثورندايك: «لأن حينها ستكون هناك مجموعة من الآثار التي تؤدي إلى خارج الخليج من دون وجود مجموعة مماثلة من الآثار تؤدي إلى داخله؛ ومن شأن هذا أن يُوحي في الحال إلى ضابط شرطة ذكي فَطِن — كالرقيب باين — بأن هناك مَن نزل عن قارب.»

قال رئيس المحكمة: «تفسيرك في غاية البراعة، ويبدو أنه يُغطِّي كلَّ الحقائق اللافتة للنظر. هل لديك المزيد لتُخبرنا به؟»

كانت الإجابة: «لا يا سعادة القاضي، عدا …» (وهنا أخذ من بولتون آخرَ زوج من القوالب ومرَّره إلى رئيس المحكمة) واستأنف حديثه قائلًا: «إنك قد تجد هذَين القالبَين ذَوي أهمية عما قريب.»

وبينما كان ثورندايك يخرج من منصَّة الشهود — حيث لم يكن هناك استجوابٌ له من جهة الادعاء — دقَّق القضاة في القالبَين بشيء من الحيرة؛ لكنهم كانوا مُتحفظين جدًّا لدرجة أنهم لم يُبدُوا أيَّ ملاحظة.

وحين أُخذت شهادة البروفيسور كوبلاند (والتي أوضحت أن الضحية ابتلع جرعة قاتلة من المورفين بلا أدنى شك)، نادى الحاجب على اسم غير مألوف لي وهو جيكوب جامر. هنا نهض فتًى يرتدي معطفًا بُنِّيًّا فضفاضًا للغاية، ومن فتحة المعطف العلوية برزت رأسه وكتفاه، وصعد إلى منصة الشهود.

قال جيكوب في البداية إنه يعمل مساعد ربَّان، وإنه عُيِّن من قِبَل رئيسه لدى السيد جيزارد ليكون عاملًا وخادمًا على متن اليخت أوتر.

قال أنستي: «والآن يا جامر، هل تتذكَّر إن كنتَ قد رأيتَ المتَّهم على متنِ اليخت؟»

«أجل، لقد ركب اليخت مرتين. المرة الأولى كانت قبل شهر تقريبًا. لقد جاء في صحبتنا للإبحار حينَها. والمرة الثانية كانت ليلةَ مقتل السيد هيرن.»

«هل تتذكر نوع الحذاء الذي كان يَرتديه في المرة الأولى؟»

«أجل. كان حذاءً به الكثير من المسامير في نعلَيه. وأتذكَّره لأن السيد جيزارد جعله يخلعه ويرتدي حذاءً آخر من القنب.»

«ما الذي صُنع بالحذاء المسمَّر؟»

«أخذه السيد جيزارد إلى الكابينة بالأسفل.»

«وهل صعد السيد جيزارد إلى السطح بعدها مُباشَرة؟»

«لا، لقد ظلَّ في الكابينة بالأسفل لحوالي عشر دقائق.»

«هل تتذكر طردًا تم توصيلُه لمتن اليخت من أحد صُناع الأحذية في لندن؟»

«أجل، أحضره ساعي البريد بعد أن كان السيد درابر على متن اليخت بأربعة أو خمسة أيام. كان مكتوبًا عليه «ووكر براذرز لصناعة الأحذية، لندن.» وقد أخرج السيد جيزارد حذاءً من الطرد، لأنني رأيتُ ذلك الحذاء في الخزانة الموجودة بالكابينة في اليوم نفسه.»

«أرأيتَه وهو يَرتديه من قبل؟»

«لا، لم أرَ ذلك الحذاء مرة أخرى.»

«هل سمعتَ من قبل أصوات طَرقٍ على اليخت؟»

«أجل، في الليلة التالية لوصول الطرد، كنت على الرصيف بجوار اليخت وسمعت شخصًا يطرق شيئًا في الكابينة.»

«كيف كان صوت الطرق؟»

«بدا كصوت إسكافي يطرق على المسامير.»

«هل رأيتَ من قبل حذاءً مسمَّرًا على متن اليخت؟»

«أجل، حين كنتُ أُنظِّف الكابينة في الصباح التالي، وجدتُ حذاءً مسمَّرًا على الأرض في زاوية بجوار الخزانة.»

«هل كنتَ على متن اليخت ليلة وفاة السيد هيرن؟»

«أجل، كنت على الشاطئ، لكنَّني صعدتُ على متن اليخت بحلول الساعة التاسعة والنصف.»

«هل رأيتَ السيد هيرن يذهب إلى الشاطئ؟»

«رأيتُه وهو يُغادِر اليخت. كنت قد ذهبتُ إلى مهجعي وخلدت إلى النوم حين نادى عليَّ السيد جيزارد وقال: «سنوصل السيد هيرن إلى الشاطئ، ثم سنذهب للصيد لمدة ساعة. ليس هناك حاجة لأن تظل مستيقظًا.» وبتلك الكلمات، أغلق الكوَّة. بعدها قمتُ وفتحت الكوَّة وأخرجت رأسي منها، ورأيت السيد جيزارد والسيد ليتش يُساعِدان السيد هيرن على سطح اليخت. بدا وكأن السيد هيرن كان ثملًا. أدخلاه إلى القارب — وهذا أمر نادرُ الحُدوث — أما السيد بيتفورد الذي كان على متن القارب بالفعل فقد بدأ بالتجديف. ثم أدخلتُ رأسي داخل الكوَّة مرة أخرى؛ لأنَّني لم أُردْ لهم أن يَروني.»

«وهل جدَّفوا باتجاه الدرج؟»

«لا، لقد أخرجتُ رأسي مرة أخرى حين كانوا قد ذهبوا، وسمعتهم وهم يُجدفون حول اليخت، ثم توجهوا نحو مدخل الميناء. لم أستطع أن أرَ القارب؛ لأنَّ الليل كان حالكَ الظلمة.»

«جيد جدًّا. والآن سأسألك عن أمر آخر. أتَعرف أيَّ شخص يَحمل اسم بولتون؟»

أجاب جامر وقد احمرَّ وجهُه: «أجل، لقد اكتشفتُ اسمه الحقيقي قبل قليل. اعتقدتُ أنه يُدعى سيمونز.»

قال أنستي وهو يَبتسم ابتسامة ماكرة: «أخبرْنا بما تعرفُه عنه.»

قال الفتى وهو ينظر في تجهُّم شديد إلى وجه بولتون الهادئ والمبتسم: «في الواقع، لقد أتى إلى اليخت ذات يوم حين كان السادة قد ذهبوا إلى الشاطئ. أعتقد أنه رآهم وهم يُغادرُون. وقد عرض عليَّ عشرة شلنات لأسمح له بأن يُلقيَ نظرةً على كل الأحذية التي لدينا على اليخت. لم أرَ في ذلك ضيرًا؛ لذا أحضرت له مجموعة الأحذية كلها التي في الكابينة لينظر فيها. وبينما كان ينظر إليها، طلب مني أن أُحضرَ له زوجًا من أحذيتي من مكان إقامتي باليخت، لذا ذهبتُ وأحضرتُه له. وحين عدتُ كان يُعيد الأحذية إلى الخزانة. وبعد برهة غادر اليخت، وحين فعل ألقيتُ نظرة على الأحذية ووجدتُ أن زوجًا كان مفقودًا. كان الحذاء هو حذاءً قديمًا للسيد جيزارد، ولكنَّني لا أعرف ما الذي حملَه على أخذِه.»

«أتستطيع أن تتعرَّف على ذلك الحذاء لو رأيتَه!»

أجاب الفتى: «أجل، أعتقد أنني أستطيع ذلك.»

«هل هذا هو الحذاء؟» أعطى أنستي الفتى حذاءً مهلهًا من القنب، فأمسك الفتى بالحذاء في لهفة.

ثمَّ صاح قائلًا: «أجل، هذا هو الحذاء الذي سرقه!»

أخذ أنستي الحذاء من يدِ الصبي الذي تردَّد في إعطائه إياه، ومرَّره إلى مكتب رئيس المحكمة وقال: «في رأيي سعادة القاضي أنك إذا ما قارنتَ هذا الحذاء بآخِرِ قالبَين من الآثار، فلن يكون لديك أدنى شك أن هذا الحذاء هو ما صنع آثارَ الأقدام من البحر وحتى فجوة ثاندرسلي ومنها إلى البحر مرةً أخرى.»

قارن القضاة الحذاء بالقالبَين وسطَ صمتٍ مُطبق في القاعة. وبعد برهة وضع رئيس المحكمة الحذاء والقالبين على المكتب.

وقال: «من المستحيل أن يكون هناك شكٌّ في ذلك. فالكعب المكسور والقطع في النعل المطاطي، مع بقايا النمط المضلع، تجعل من التماثُل بينهما أكيدًا.»

وبينما كان رئيس المحكمة يُدلي بهذا التصريح، وجدتُ نفسي لا إراديًّا أنظر إلى المكان حيث كان جيزارد جالسًا. لكنه لم يكن في مكانه؛ لا هو ولا بيتفورد ولا ليتش. كانوا قد تسلَّلوا عبر الباب في هدوء مُستغلِّين حالة الانشغال الكامل في قاعة المحكمة. لكنَّني لم أكن الشخص الوحيد الذي لاحَظَ غيابَهم. كان المفتش والرقيب يتحدَّثان أحدهما إلى الآخر بصورة جدية، وفي لحظة كانَا قد غادرَا أيضًا مسرعين.

في تلك اللحظة، كانت إجراءات المقاضاة قد وصلت إلى نهايتها. وبعد نقاش سريع مع القضاة المساعدين، خاطَبَ رئيس المحكمة الحضور قائلًا:

«إنَّ الأدلة المهمَّة، والمذهلة إن جاز التعبير، والتي استمعنا إليها في هذه المحكمة اليوم، وإن لم تكن قد ألقَت بأصابع الاتهام على فردٍ بعينِه، فإنها وعلى أيِّ حالٍ قد أوضحت كما وصلتْ إليه قناعتُنا أن المتَّهم ليس مذنبًا وأنه سيُخلى سبيله بناءً على ذلك. سيد درابر، يسعدني كثيرًا أن أُعلِمك أنك تستطيع أن تغادر المحكمة وأنك بريء تمامًا من كل الشبهات؛ وأهنئك من كل قلبي على مهارة محاميَّيك وبراعتِهما، وأخشى أن لولاهما لكانت قرارات المحكمة مختلفة تمامًا.»

في مساء ذلك اليوم، اجتمع المحاميان والشهود والعميل المبتهج والممتن حول طاولة بهيجة حقًّا ليتناولوا العشاء، ويَتناقشوا حول ما مرُّوا به من أحداث يومها. لكننا لم نكد نُنهي نصف طعامنا حين اندفع الرقيب باين لاهثًا عبر الغرفة، رغم سخط الخدم.

صاح الرقيب باين وهو يتحدث إلى ثورندايك: «لقد ذهبوا يا سيدي! لقد هربوا منا إلى الأبد.»

قال ثورندايك: «ماذا؟ كيف حدث ذلك؟»

«لقد ماتوا يا سيدي! مات ثلاثتُهم!»

صحنا جميعًا في تعجب: «ماتوا!»

«أجل، لقد انطلقوا نحو اليخت حين غادرُوا المحكمة، وصعدوا على متنه وانطلقوا إلى البحر من فورهم، لا شك أنهم كانوا يأمُلُون أن يتمكنوا من الفرار بينما كان ضوء النهار يخفت. لكنهم كانوا في عجلة من أمرهم بحيث لم يُلاحظوا سفينة صيد بخارية كانت تدخل المرفأ، وكان الرصيف يُخبِّئُها. وعند مدخل المرفأ تمامًا، وبينما كان اليخت يَخرج منه، اصطدمت به السفينة في منتصفه، فانقسم اليخت إلى نصفين. وفي لحظة كان الرجال الثلاثة في الماء، وجرَفَهم التيار العكسي خلفَ الرصيف الشمالي؛ وقبل أن يتمكَّن أيُّ قارب من الوصول إليهم لإنقاذهم، كانوا قد غرقوا جميعًا. وقد ظهرت جثة جيزارد عند الشاطئ في الوقت الذي كنتُ أُغادرُه فيه.»

كنا جميعًا صامِتِين ومذهولين إلى حدٍّ ما، لكن إن كان هناك أحدٌ يشعر بالأسى تجاه تلك المأساة، فذلك بسبب فكرة أنَّ الهروب يَنبغي أن يكون أسهلَ كثيرًا لدى مثل أولئك الأشرار الوحشيِّين؛ لكن تلك الأخبار كانت تُثلج صدرَ واحد منا على الأقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤