الفصل الثاني

مفتاح الغريب

إنَّ التضارب في الطبيعة البشرية لهو موضوعٌ شغَل كثيرًا صنَّاعَ الأمثال الشعبية وفلاسفة الأخلاق الذين جعلوا كلَّ همِّهم استكشافَ وتفسيرَ كلِّ ما هو واضح بشكلٍ صارخ، وقد كان هؤلاء معنيِّين خصوصًا بالتعرف على ذلك الشكل من العناد المتعمَّد والذي يُولِّد النفورَ من الأشياء المفروضة، ويُثير الرغبة تجاه تلك الأشياء نفسها بمجرد أن يصبح الحصول عليها من الصعوبة أو الاستحالة بمكان. ويُؤكد لنا هؤلاء أن المرء حين يكون في متناوله شيءٌ ما ويتركه، سيجد في نفسه حاجة ورغبة لذلك الشيء تحديدًا بمجرَّد أن يُصبح بعيدًا عن متناوله؛ فحتى القطة المنزلية التي تركتْ طبقها المفضل وترفَّعتْ عنه، يمكن أن تُرى بعد برهة وقد حشرت وجهها في إبريق الحليب، أو وهي تُطفئ ظمأها خلسةً وباستمتاع رهيب من الحوض المخصَّص لغسل الآنية المتسخة.

ولا شك أن تلك الخصلة الغريبة في العقل البشري قد نجمت عنها حقيقة أنني وبمجرد أن تخليتُ عن ممارسة الجانب الطبي من مهنتي في سبيل ممارسة الجانب القانوني منها وبمجرد أن اتخذتُ من منزل صديقي ثورندايك — خبير الطب الشرعي الشهير — مسكنًا لي كي أعملَ كمساعد أو معاون له، حتى بدأتُ أرى في نمط حياتي السابق — وهو كوني طبيبًا نائبًا أو بديلًا لأشخاص آخرين — الكثيرَ من المميزات المرغوبة، بعد أن كان يبدو مزعجًا بشكل لا يُطاق حين كنتُ متقيدًا به؛ ووجدتُ نفسي أتلهَّف في بعض الأحيان لأن أجلس بجوار السرير وأحاول فهمَ سلسلة الأعراض المرضية المحيِّرة للمرضى وممارسة تلك القوة — التي تُعدُّ رغم كلِّ شيء أعظمَ قوة حازها الإنسان — وهي قوة إنهاء المعاناة وإبعاد شبح الموت نفسه.

ومن هنا وذات صباح في تلك الإجازة الطويلة وجدتُ نفسي في منطقة ذا لارتشس ببيرلنج، وأتولَّى مسئوليات وظيفة صديقي القديم الدكتور هانشو، الذي كان في إجازة للصيد في النرويج. لكنني لم أكن وحيدًا؛ ذلك أن السيدة هانشو ظلت في المنزل، وكان ذلك المنزل القديم الطراز الكثير الغرف يحتوي على ثلاثة زوار إضافيِّين. كان الزائر الأول هو أخت الدكتور هانشو وتُدعَى السيدة هالدين، وهي أرملة قطب من أقطاب صناعة القطن الأثرياء في مانشستر؛ والزائر الثاني هي ابنة أخيها بالمصاهَرة وتُدعَى الآنسة لوسي هالدين، وهي فتاة في غاية الجمال والجاذبية وتبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا؛ أما الزائر الثالث فلم يكن سوى السيد فريد، وهو الابن الوحيد للسيدة هالدين، وهو صبيٌّ ضخم الجسم ويبلغ من العمر ستة أعوام.

«إن رؤيتك جالسًا على طاولة الإفطار لدينا أيها الدكتور جيرفس تذكرني بالأيام الخوالي، والتي كانت سعيدة للغاية.» بتلك الكلمات اللطيفة وبابتسامة ودِّيَّة، أعطتني السيدة هانشو فنجان الشاي.

فانحنيتُ احترامًا لها، ورددتُ عليها قائلًا: «تكمن أقصى سعادة المؤثر في تأمل حسن حظ الآخرين.»

ضحكت السيدة هالدين. وقالت: «شكرًا لك. أرى أنك لم تتغيَّر كثيرًا. ما زلتَ دمثًا وإن جاز التعبير، متملِّقًا؟»

صحتُ بنبرة تنمُّ عن الجزع: «لا، أرجوكِ لا تفعلي!»

«إذن لن أفعل. ولكن ماذا سيقول الدكتور ثورندايك عما تفعله من تراجع؟ كيف سينظر لهذا الانتكاس من ممارسة الطب الشرعي إلى الممارسة العامة للطب؟»

قلت: «إن ثورندايك لا يتأثر بأي كارثة؛ وهو لا يتعامل مع تراجعي عن ممارسة الطب الشرعي بهدوء فلسفي وحسب، وإنما يؤيد الانتكاس أيضًا، كما تصفين الأمر. هو يعتقد أن دراستي لتطبيق أساليب الطب الشرعي في الممارسة العامة قد يكون في صالحي.»

علَّقت الآنسة هالدين قائلة: «يبدو ذلك بغيضًا، أقصد بالنسبة للمرضى.»

أجابت عمتُها موافقةً: «بالتأكيد. إنه قاسٍ. أي نوع من الرجال هو الدكتور ثورندايك؟ أشعر بفضول كبير تجاهه، أهو إنسان بالأساس؟»

أجبتُها: «إنه إنسان بكل ما تَحمل الكلمة من معنًى؛ فاختبارات البشرية المتفق عليها هي — كما أفهم — التبنِّي الدائم لوضعية الظهر المنتصب أثناء الحركة والموضع النسبي لنهاية إصبع الإبهام …»

قاطعتني السيدة هالدين قائلة: «أنا لا أقصد ذلك. إنما أقصد إنسانًا بخصوص الأشياء ذات الأهمية.»

رددتُ عليها قائلًا: «أعتقد أن تلك الأشياء مهمة. تخيَّلي أيتها السيدة هالدين فيما يمكن أن يحدث إذا ما شوهد صديقي المبجَّل وهو يرتدي الثوب والشعر المستعار الخاصَّين بالمحاماة، ويسير إلى المحاكم بأي وضعية أخرى غير الوضعية المنتصبة. سيكون الأمر حينها فضيحة عامة.»

قالت السيدة هانشو: «لا تتحدَّثي معه يا مابيل، إنه لا فائدة منه. ماذا ستفعلين هذا الصباح يا لوسي؟»

فكرت الآنسة هالدين (التي كانت قد وضعت فنجانها لتضحك على الصورة التخيلية التي طرحتُها للدكتور ثورندايك وهو يَسير على أربع) للحظة.

وقالت: «أعتقد أنني سأرسم مجموعة أشجار البتولا التي عند حافة غابة برادهام.»

قلت لها: «إذن في تلك الحالة، يُمكنني أن أحمل عنكِ أمتعتكِ؛ ذلك أنني سأذهب لرؤية مريض في برادهام.»

علَّقت السيدة هالدين في خبث قائلة لمضيفتي: «إنه يستغل وقته أفضل استغلال. إنه يعلم أنه سيتقهقر تمامًا حين يصل السيد وينتر.»

كان دوجلاس وينتر هو خطيب الآنسة هالدين وكان وصوله متوقَّعًا في غضون الأسبوع الحالي. وكانت خطبتهما قد طالت بعض الشيء، ومن المحتمَل أنها ستطول أكثر، إلا إذا تحصل أحدهما فجأة على بعض الموارد المالية غير المتوقَّعة؛ ذلك أن دوجلاس كان يحمل رتبة ملازم أول في سلاح المهندسين الملكي، وكان يجد صعوبة كبيرة في العيش براتبه، فيما كانت لوسي هالدين تعيش على راتب صغير للغاية تركه لها عمُّها.

كنتُ على وشك الردِّ على السيدة هالدين حين أعلن عن وجود مريض، وحيث إنني كنت قد أنهيت إفطاري، فقد اعتذرت لهنَّ وغادرتُ الطاولة.

وبعد نصف ساعة، وحين بدأتُ السير على طول الطريق باتجاه قرية برادهام، كان برفقتي شخصان. كان السيد فريدي قد انضمَّ إلينا وتنازع معي على امتياز حمل «الأمتعة» فانتهينا إلى تسويةٍ، حمَل هو بمفادها الكرسيَّ القابل للطي، وتركني أحملُ حاملَ الرسم، والحقيبة ومجموعة كبيرة مجلَّدة من ورق الرسم.

سألتها حين اجتزنا مسافة معقولة: «أين ستعملين هذا الصباح؟»

«بالقرب من الطريق على اليسار هناك، عند حافة الغابة. ليس ببعيد عن منزل الغريب الغامض.» ثم نظرتْ إليَّ نظرةً ماكرة، وهي تُجيبني، وضحكت مسرورة حين ابتلعت الطُّعم.

سألتُها: «أيَّ منزل تقصدين؟»

صاحت: «هه! لقد استيقظ محقق الألغاز. عند نفخ البوق يقول: «هه!» ومن بعيد يستروح القتال صياح القواد والهتاف.»

قلت لها آمرًا: «اشرحي لي الأمر في الحال، وإلا فسأُلقي بورق الرسم في بركة الماء التالية.»

قالت: «أنت تخيفُني. لكنني سأشرح لك، ليس هناك أيُّ لغز سوى ما يتراءى لعقول الريفيين. يُطلق على المنزل اسم كوخ اللافندر، وهو يقع وحيدًا وسط الحقول خلف الغابة. وقد تم تأجيره بالأثاث قبل أسبوعين لرجل غريب يُدعى وايتلوك، وقد استأجَرَه بغرض دراسة الحياة النباتية في المنطقة؛ والشيء الوحيد الغامض بشأنه حقًّا هو أن أحدًا لم يره. لقد تمَّ الخوض في كافة الترتيبات مع السمسار عن طريق البريد، وبقدر ما يُمكنني أن أفهم، فلا أحدَ من التجار في المنطقة يمدُّه بأي شيء؛ لذا فلا بد أنه يُحضر ما يحتاجه من مسافة بعيدة، حتى الخبز الذي يتناوله، وهذا أمر غريب جدًّا حقًّا. والآن قُلْ إنني ريفية حمقاء وفضولية وثرثارة.»

أجبتُها: «كنت سأقول ذلك، ولكن لا جدوى من ذلك الآن.»

لقد أراحتْني من أدوات الرسم الخاصة بها في شيء من سخط مزعوم، وذهبتْ إلى المرج، وتركتني أُكمل طريقي وحدي؛ وحين نظرتُ للخلف بعد برهة، كانت تُجهز حامل الرسم والكرسي القابل للطي، ويساعدها فريدي في ذلك بطريقة جدية.

استغرقتْ «جولتي» وقتًا أطول مما كنتُ أتوقع، رغم أنها لم تكن طويلة، وكان الوقت قد تجاوز ساعة الغداء بالفعل حين مررتُ بالمكان الذي تركت فيه الآنسة هالدين. كانت قد ذهبت، كما توقعت، وأسرعتُ أنا نحو المنزل، وأنا حريص على أن أكون دقيقًا في المواعيد قدر إمكاني. وحين دخلتُ غرفة الطعام، وجدت السيدة هالدين ومضيفتنا تجلسان إلى الطاولة، ونظرتَا لي في ترقُّب.

سألتني الأولى قائلة: «أرأيت لوسي؟»

أجبتُها: «لا، ألم تَعُد؟ توقعتُ أنني سأجدها هنا. كانت قد غادرت الغابة حين مررتُ بها لتوي.»

عقَّدت السيدة هالدين حاجبَيها في قلق. وقالت: «هذا غريب جدًّا من جانبها ويُعدُّ استهتارًا شديدًا منها. سيتضوَّر فريدي من الجوع.»

أسرعتُ في تناول غدائي؛ فقد وصلت رسالتان جديدتان من اثنتين من القرى النائية المحيطة قد بدَّدتَا تصوري لقضاء وقت العصر في هدوء؛ وبينما مرَّت الدقائق من دون أن تظهر أيُّ علامة على عودة المتغيبَين، بدأ القلق والاضطراب يَزدادان لدى السيدة هالدين. وبعد برهة أصبح شعورها بالقلق لا يُحتمَل؛ فهبَّت من مكانها فجأة، وأعلنت عن نيتها في الذهاب بالدراجة على طول الطريق لتبحث عن المتغيبَين، وبينما كانت تتحرَّك نحو الباب، انفتح بقوة، ودخلت لوسي هالدين مترنِّحة إلى داخل الغرفة.

بثَّ مظهرُها الرعبَ في نفوسنا. كان لونُها شاحبًا بشدة، وأنفاسُها منقطعةً، وعيناها هائجتَين؛ وكان ثوبُها مقطعًا ومتسخًا، وجسدها كلُّه يَرتجِف وينتفض.

قالت السيدة هالدين لاهثة: «يا إلهي، لوسي!» ثم أضافت في نبرة أكثر صرامة: «ما الذي حدث؟ وأين فريدي؟»

أجابتْها الآنسة هالدين في صوت واهن وأنفاس متقطعة: «لقد تاه! لقد شرد عنِّي بينما كنت أرسم. وبحثتُ عنه في الغابة كلِّها، وناديت عليه، وبحثت في كل المروج. أوه! أين يُمكن أن يكون قد ذهب؟» ثم وقعت «عدة» الرسم التي كانت تحملها في يدها وتبعثرت على الأرض، ثم دفنت وجهها بين يديها وراحت تبكي بكاءً حارًّا.

صاحت السيدة هالدين: «وكيف جرأتِ على العودة بدونه؟»

جاءت إجابتُها بصوت واهن: «التعب قد بلغ منِّي مبلغه، وعدتُ من أجل طلب المساعدة.»

قالت السيدة هانشو: «بالطبع كانت منهكَة. اهدئي يا لوسي واهدئي يا مابيل؛ لا تُبالغَا في الأمر كثيرًا. إنَّ الصغير بمأمنٍ. وسنجدُه سريعًا، أو هو سيعود للمنزل من تلقاء نفسه. تعالي يا لوسي وتناولي بعض الطعام.»

هزَّت الآنسة هالدين رأسها رافضة. وقالت: «لا يُمكنني يا سيدة هانشو، لا يُمكنني حقًّا.» وحين رأيتُ أنها كانت منهكة بشدة، صببتُ لها كأسًا من النبيذ وجعلتها تشربه.

اندفعت السيدة هالدين خارج الغرفة، وعادت في الحال وهي تضع قبعتها، ثم قالت: «لا بد وأن تأتيَ معي وتريني أين فقدتِه.»

رددتُ عليها بغلظة قائلًا: «لا يُمكنها أن تفعل ذلك. ينبغي عليها أن تستريحَ في الوقت الحالي. لكنَّني أعلم المكان، وسأذهب معكِ بالدراجة.»

ردَّت السيدة هالدين: «حسنًا إذن، هذا كافٍ.» ثمَّ سألت ابنةَ أخي زوجها بينما التفتت إليها: «كم كانت الساعة حين فقدتِ الطفل؟ وفي أي طريق …»

ثم توقفتْ عن حديثها فجأةً، فنظرتُ إليها مُتفاجئًا. كان وجهها قد تحوَّل فجأة إلى الشحوب الشديد واعتلته ملامحُ مروِّعة؛ وكأنه تحوَّل إلى قناع حجري، وكانت شفتاها مُتباعدتَين، وعيناها جاحظتَين ونظرُها مثبَّتًا في رعب إلى ابنة أخي زوجها.

ساد صمت مطبق للحظات. ثم سألتها بنبرة فظيعة: «ما هذا الذي على ثوبك يا لوسي؟» وبعد أن سكتت لحظة، ارتفعت حدة نبرة صوتها فقالت صارخة: «ماذا صنعتِ بابني؟»

نظرت مُندهشًا إلى الفتاة المذهولة والمذعورة، ثمَّ رأيت ما رأته عمتُها، كانت هناك بقعةُ دمٍ كبيرة على تنورتها من الأمام، وكان هناك أخرى أصغر من الأولى على كمِّها الأيمن. ثمَّ نظرت الفتاةُ بنفسها إلى تلك البقعة الحمراء المشئومة ثم رفعت نظرها مرة أخرى إلى عمَّتها. وقالت متلعثمة: «يبدو … يبدو أنه دم. أجل، هو كذلك — أعتقد ذلك — بالطبع هو كذلك. لقد أُصيب في أنفه ونزف دمًا منها …»

قاطعتها السيدة هالدين قائلة: «هيا، لنذهب.» ثم هرعت خارج الغرفة، على أن ألحق بها.

رفعتُ الآنسة هالدين على الأريكة وهي يكاد يُغمى عليها من التعب والإنهاك، وهمستُ لها ببضع كلمات تشجيعية في أذنها، ثم التفتُّ إلى السيدة هانشو.

وقلت لها: «لا يُمكنني أن أمكث مع السيدة هالدين كثيرًا. هناك زيارتان لي في ريبوورث. هلَّا أرسلتِ العربة مع أحدهم ليتولَّى مكاني معها؟»

أجابتني قائلة: «حسنًا، سأرسل جايلز، أو سأذهب بنفسي إذا كان بالإمكان أن أترك لوسي وحدها.»

ركضتُ نحو الإسطبل لأُحضر دراجتي، وبينما كنت أُبدِّل على الطريق، رأيت السيدة هالدين وقد قطعت شوطًا كبيرًا أمامي بالفعل، فكانت تقود دراجتها بسرعة جنونية. تبعتها بسرعة كبيرة، لكنني لم ألحق بها حتى وصلنا عند مشارف الغابة، حينها هدَّأتْ هي من سرعتها إلى حدٍّ ما، فلحقتُ بها.

وقلت بينما وصلنا إلى البقعة التي تركت فيها الآنسة هالدين: «هذا هو المكان.» ثم ترجلنا عن دراجتَينا وسحبناهما عبر البوابة، ثم وضعناهما بجوار السياج، وعبرنا المرج ودخلنا الغابة.

كانت تجربة فظيعة، لن أنساها أبدًا؛ كانت المرأة الذاهلة ذات الوجه الشاحب تخطو في حذائها المنزلي الرقيق على الأرض القاسية، وكانت تَقتحم الأدغال، غير مبالية بالأغصان المليئة بالأشواك التي أصابتها في جسدها وشعرها وملابسها الأنيقة الرقيقة، وكانت بين الحين والآخر تُطلق صيحةً مرتعشة، وكانت صيحاتها بائسة ومثيرة للشفقة إلى أقصى حدٍّ؛ وذلك بفعل اختلاط شعورها بالرعب بالرقة الشديدة، حتى شعرتُ بغصَّة في حلقِي وبالكاد كان يُمكنني أن أتمالك نفسي.

«فريدي! يا بُني! أمك هنا يا عزيزي!» كان عويلها يتردَّد بين أرجاء الغابة الخاوية إلا من الأشجار؛ لكن لم يكن هناك أيُّ إجابة سوى صوت رفرفة أجنحة الطيور المذعورة أو زقزقتها. ولكن ما كان صادمًا أكثر من صيحتها المرعبة تلك — أي أكثر إثارةً للذعر والرعب — هو الطريقة التي كانت تنظر بها، فكانت تُفتِّش في ترقُّبٍ ناشئ عن خوف بين جذور الأشجار، أو كانت تقف لتُحدِّق فوق الركام الترابية والأكمة والمنخفَضات والأشكال المختلفة التي تتَّخذها الأرض هناك.

وهكذا رُحنا نسير لبرهة من الوقت، من دون أن نتحدَّث بأيِّ كلمة، حتى وصلنا إلى مسار مطروق أو ممر يعبر الغابة. هنا وقفتُ لأتفحص آثار الأقدام، والتي كان العديد منها واضحًا على التراب الناعم، رغم أن أيًّا منها لم يَبدُ حديثَ العهد جدًّا؛ لكنَّني حين تقدمتُ قليلًا على هذا المسار، رأيتُ بضعة آثار حديثة تقطعه، وأدركت في الحال أن تلك الآثار تعود للآنسة هالدين. كانت ترتدي — حسب ما يَنتهي إليه علمي — حذاء جولف بُنِّيًّا مزودًا بوسادات مطاطية في نعليه الجلديَّين، وكانت آثار ذلك الحذاء جليَّة لا لبس فيها.

قلت وأنا أشير إلى آثار الأقدام: «لقد عبرت الآنسة هالدين هذا المسار هنا.»

صاحت السيدة هالدين: «لا تتحدث عنها أمامي!» لكنها ومع ذلك حدَّقت بحماسة في آثار الأقدام، ودلفت إلى عمق الغابة في الحال لتتبع الآثار.

ثم غامرتُ بمحاولة للاحتجاج عليها قائلًا: «أنتِ غير عادلة تمامًا تجاه ابنة أخي زوجك أيها السيدة هالدين.»

توقفت عن السير وواجهتني بوجه عابس غاضب.

وصاحت قائلة: «أنت لا تفهم! ألا تعرف أن لوسي هالدين ستُصبح امرأةً ثرية لو أن ابني المسكين مات فعلًا، وحينها يمكنها أن تتزوَّج غدًا إذا ما قررت ذلك؟»

أجبتُها: «لم أكن أعلم ذلك، لكن حتى ولو كنتُ أعلم، فما كنتُ سأغير رأيي.»

ردَّت بنبرة فيها مرارة: «لا، كنت ستفعل. يمكن دومًا لجمال الوجه أن يخدع أيَّ إنسان.»

ثم استدارت فجأة لتُكمل بحثها، وتبعتُها في صمت. كان المسار الذي نتبعُه مُتعرجًا ويمتدُّ عبر أكثر أجزاء الغابة كثافة، إلا أن التواءاتِه أفضت بنا في النهاية إلى مساحة مفتوحة عند الجهة الأقصى للغابة. وهنا لاحظنا في الحال آثارًا من نوع آخر. وكانت تلك الآثار هي عبارة عن خِرَق بالية متناثرة، وقِطَع من الورق، وكسرات من خبز يابس قديم، وعظام وريش، وآثار لحوافر، وآثار عجلات ورماد خشب محترق، وكانت كلُّ تلك الآثار تُشير بوضوح إلى مخيم للغجر قد انفضَّ حديثًا. وضعتُ يدي على كومة الرماد ووجدتُ أنها كانت لا تزال دافئة، وحين بعثرتها بقدمي ظهرت من تحتها طبقة من الجمر المتوهِّج.

قلت: «لقد غادر هؤلاء قبل ساعة أو اثنتين فقط. وسيكون من الأفضل لو تبعناهم دون تأخير.»

لمع بريق الأمل على الوجه الشاحب المرهَق للأم الثكلى، فيما بدأتْ تُنفِّذ اقتراحي بلهفة.

وصاحت بأنفاس متقطِّعة: «أجل، ربما قدَّمت لهم رشوة لكي يأخذوه بعيدًا. لنرَ أيَّ طريق سلكوا.»

تبعنا آثار العجلات حتى وصلنا إلى الطريق، ووجدنا أنهم استداروا باتجاه لندن. في نفس اللحظة لاحظتُ قدوم عربة من بعيد، وكانت السيدة هانشو تقف بجوارها؛ وحين رآني سائق العربة، هوى بسوطه على حصانه واقترب.

قلت: «سيتعيَّن عليَّ أن أذهب، لكن السيدة هانشو ستساعدك في استكمال البحث.»

قالت: «وستُحقق أنت في أمر الغجر، أليس كذلك؟»

قطعتُ وعدًا بأن أفعل، وحيث إن العربة كانت قد وصلت الآن، قفزتُ إلى المقعد الأمامي، وقدتُها بسرعة على الطريق المؤدي إلى لندن.

لا يمكن أبدًا أن نتنبأ بالمدة التي تستغرقها جولة الطبيب في الريف. وفي هذه المناسبة الراهنة، قمتُ بزيارة ثلاثة مرضى إضافيين، وحيث إن حالة أحدهم كانت التهابًا خفيفًا في الغشاء المحيط بالرئة — الأمر الذي تطلَّب ربطَ صدرِه بحزام — وكانت حالة آخر هي انخلاع في الكتف تم إهماله، فقد استغرقت جولتي وقتًا طويلًا. وعلاوة على ذلك، تأخَّرتُ كثيرًا بفعل مطاردتي للغجر والتي امتدت حتى وصلت إلى ريبوورث كومون، رغم أنه كان عليَّ أن أترك للشرطي الريفي إجراء عملية التفتيش الفعلي، ونتيجة لذلك، كانت ساعة كنيسة بيرلنج تدق السادسة حين كنتُ أقود العربة خلال القرية في طريقي إلى المنزل.

نزلتُ من العربة عند البوابة الأمامية، وتركت سائق العربة ليأخذها، وسرتُ على الطريق المؤدي إلى باب المنزل؛ ويمكن أن تتخيل دهشتي حين استدرتُ عند زاوية المنزل ووجدت على نحوٍ مفاجئ أن مفتش الشرطة المحلية يتحدث على نحوٍ جديٍّ مع شخص عرفتُ أنه جون ثورندايك.

صحتُ متعجبًا وقد نال اندهاشي من التهذيب في حديثي: «ما الذي أتى بك إلى هنا بحق السماء؟»

أجابني: «الدافع الأول والرئيسي هو سيدة مندفعة تُدعى السيدة هالدين. لقد أرسلت لي برقية باسمك.»

قلت: «لم يكن ينبغي لها أن تفعل ذلك.»

«ربما. إلا أن مناقشة سلوكيات امرأة قلقة ومرتبكة هو أمر لا جدوى منه، وقد فعلت شيئًا أسوأ بكثير؛ لقد تواصلت مع قاضي الصلح المحلي (وهو لواء متقاعد)، وقد أصدر صديقُنا النبيل الغِرُّ مذكرةَ توقيفٍ للوسي هالدين بتهمة القتل.»

صحتُ متعجبًا: «لكن ليست هناك أيُّ جريمة قتل!»

قال ثورندايك: «وتلك مهارة قانونية لا يتمتع بها الرجل. لقد تعلَّم القانون في الوحدة العسكرية حيث تعتبر مؤهلات المهنة هي سرعة الانفعال والصوت العالي. لكن نقطة الضعف العملية في هذا أيها المفتش هي أن المذكرة تُعدُّ مخالفة للقواعد؛ حيث لا يمكنك أن تُلقيَ القبض على الأشخاص لارتكابهم جرائم افتراضية.»

أخذ الضابط نفَسًا عميقًا تعبيرًا عن الارتياح. كان يعلم أن مذكِّرة التوقيف مخالفة للقواعد، وهو الآن كان يحتمي بسعادة بسمعة ثورندايك الطيبة.

وحين غادر الضابط — ومعه رسالة قصيرة من صديقي إلى اللواء — شبك ثورندايك ذراعه في ذراعي وسرنا نحو المنزل.

وقال: «هذه القضية صعبة يا جيرفس. لا بد وأن نجد ذلك الصبي من أجل صالح الجميع. أيمكنك أن تأتيَ بصحبتي بعد أن تتناول بعض الطعام؟»

«بالطبع يمكنني ذلك. كنت أوفر طاقتي طيلة فترة ما بعد الظهيرة حتى أُكمل البحث.»

قال ثورندايك: «رائع، إذن فلتدخل وتتناول الطعام.»

تم إعداد وجبة لا معالم لها، نصفُها طعام ونصفها الآخر شاي، وكانت السيدة هانشو تجلس متجهمة على رأس الطاولة لكنها كانت محافظة على رباطة جأشها.

قالت: «ما زالت مابيل في الخارج تبحث مع جايلز عن الصبي. أعتقد أنك عرفتَ بما فعلتْ!»

أومأتُ برأسي.

أكملتِ السيدة هانشو حديثها قائلة: «كان هذا تصرُّفًا كريهًا من جانبها، لكنها تكاد تُجنُّ، يا لها من مسكينة. ربما بإمكانك أن تصعدَ للأعلى وتقولَ بعض الكلمات اللطيفة إلى لوسي المسكينة بينما أقوم بإعداد الشاي.»

صعدتُ للأعلى في الحال، وطرقتُ باب الآنسة هالدين، وبعد أن سمحت لي بالدخول، وجدتُها ترقد على الأريكة، وكانت عيناها حمراوَين ووجهُها شاحبًا، فكانت وكأنها شبحُ تلك الفتاة المرحة الضاحكة التي خرجت معي في الصباح. سحبتُ كرسيًّا وجلستُ إلى جوارها، وبينما أخذتُ بيدها التي مدَّتها في يدي قالت:

«من اللطف منك أن تأتيَ لرؤية فتاة بائسة وحزينة مثلي. كانت جين لطيفةً للغاية معي يا دكتور جيرفس؛ لكن العمة مابيل تعتقد أنني قتلتُ فريدي — وأنت تعلم ذلك تمامًا — وكان فقدانه هو خطئي حقًّا. لن أُسامح نفسي أبدًا!»

ثم راحت تبكي بحرقة، فقلتُ لها موبخًا إياها برفق:

«أيتها الفتاة الغبية، لا تأخذي ما حدث على عاتقك. إن عمَّتَكِ غير مسئولة عن تصرفاتها الآن، وينبغي أن تكوني على علمٍ بذلك؛ لكن حين نُعيد الصبي إلى المنزل، فستعتذر هي لك اعتذارًا لطيفًا. سأحرص على أن تفعل ذلك.»

ضغطت الفتاة على يدي تعبيرًا عن امتنانها، وحيث رنَّ الجرس معلنًا عن أن الشاي قد أصبح جاهزًا، طلبتُ منها أن تتحلى بالشجاعة، ثم نزلت إلى الطابق السفلي.

قالت السيدة هانشو بينما كنت أُنهي وجبتي السريعة وكان ثورندايك قد ذهب ليُحضر دراجتَينا: «لستَ في حاجة لأن تقلق بشأن عملك. لقد سمع الدكتور سايمونز بالضرَّاء التي ألمَّت بنا، وقد تواصل معي ليقول إنه سيتولى أمر أيِّ مريض يطرأ؛ لذا نتوقَّع أن تكون موجودًا حين نحتاجك.»

سألتُها: «ما رأيك في ثورندايك؟»

ردَّت بحماسة قائلة: «إنه لطيف إلى حدٍّ كبير، وهو لبق وودود، كما أنه وسيم جدًّا أيضًا. أنت لم تُخبرنا بذلك. لكن ها هو. وداعًا وأتمنى لكما حظًّا طيبًا.»

وضغطَت على يدي وخرجت إلى الطريق خارج المنزل، حيث كان ثورندايك وسائق العربة يقفان ومعهما ثلاثُ دراجات.

قلت بينما كنا نستهلُّ الطريق: «أرى أنك أحضرتَ عدتك.» لقد كانت دراجة ثورندايك تحمل حقيبة كبيرة مغطاة بالقماش ومربوطة إلى حامل قوي.

«أجل؛ هناك الكثير من الأشياء التي قد نحتاج إليها في مسعانا هذا. كيف وجدتَ الآنسة هالدين؟»

«حالُها بائس جدًّا، تلك الفتاة المسكينة. بالمناسبة، هل سمعتَ أيَّ شيء عن الفوائد المادية التي ستحصل عليها بموت الطفل؟»

قال ثورندايك: «أجل. يبدو أن السيد هالدين الراحل قد استنفد عقلَه كلَّه في عمله، ولم يتبقَّ شيءٌ منه عند كتابة وصيته، كما يحدث في الغالب. لقد ترك كلَّ ما يملك تقريبًا — أي نحو ثمانين ألف جنيه — إلى ابنه، وتحصل أرملتُه من ذلك على انتفاع مدى الحياة. كما ترك للوسي ابنة أخيه الراحل خمسين جنيهًا في العام، وترك لأخيه بيرسي الذي لا يزال على قيد الحياة والذي يبدو أنه عديمُ الفائدة مائة جنيه تُصرَف له كلَّ عام طوال حياته. لكن — وهنا تكمن الحماقة كلُّها في هذا الشأن — إذا مات ابنه، فسيتم تقسيمُ ممتلكاته بالتساوي بين أخيه وابنة أخيه، مع استثناء خمسمائة جنيه تُصرف كلَّ عام إلى أرملته مدى الحياة. وهذه تسوية مختلَّة.»

أجبتُه موافقًا: «أجل، وهذا يُعدُّ أمرًا خطيرًا جدًّا بالنسبة للوسي هالدين، كما هو الحال في الظروف الحالية.»

«في غاية الخطورة، خاصة إذا حدث أيُّ مكروه للطفل.»

سألته حين رأيت أن ثورندايك يقود دراجته من أجل غرض محدد: «ماذا ستفعل الآن؟»

أجابني: «هناك ممرٌّ في الغابة أريد أن أفحصه. وهناك منزل يقع خلف الغابة أريد أن أُلقيَ نظرة عليه.»

قلت: «منزل الغريب الغامض.»

«بالضبط؛ فالغرباء الغامضون المنعزلون يجتذبون التحقيقَ في أمرهم.»

توقفنا عند بداية الممر تاركين ويليت سائق العربة مع الدراجات الثلاث، وتقدَّمنا سيرًا على الممر الضيِّق. وأثناء سيرنا، التفت ثورندايك ونظر إلى آثار أقدامنا وأومأ باستحسان.

وقال ثورندايك: «يُسفر هذا المسار الرملي الطيني الناعم عن آثار واضحة للغاية، وقد جعلتْه أمطارُ الأمس مثاليًّا.»

لم نكن قد قطعنا مسافة طويلة حين رأينا مجموعة من آثار الأقدام التي تعرَّفتُ عليها، كما فعل ثورندايك أيضًا؛ وذلك لأنه قال: «تلك آثار أقدام الآنسة هالدين وهي تجري بمفردها.» وسرعان ما رأينا تلك الآثار مرة أخرى وهي تقطع الطريق في الاتجاه المعاكس وتصحبها آثارُ أقدام لحذاء صغير ذي كعب طويل للغاية. وكان تعليق ثورندايك على ذلك: «تلك آثار السيدة هالدين وهي تتبع مسار ابنة أخي زوجها.» وبعد ذلك بدقيقة صادفنا الأثرَين نفسَهما مرة أخرى، ويصحبهما هذه المرة آثارُ أقدامي.

قلت بينما كنا نُكمل مسيرنا ونحاول أن نظلَّ بعيدًا عن الممر لنتجنب تخريب الآثار: «لا يبدو أن الصبي قد عبر هذا الممر على الإطلاق.»

أجاب ثورندايك وهو يُعمِل عينيه على الأرض: «سنعرف حين نفحص الممر كلَّه.» ثم أضاف بعد أن توقف بسرعة وانحنى للأسفل في حماسة كبيرة: «هه! هاك شيء جديد. آثارُ رجل ومعه عصًا غليظة؛ رجل صغير الحجم، وبه شيء من عرج. لاحظ الفرق بين القدمين، والطريقة الغريبة التي يستخدم بها عصاه. أجل يا جيرفس، هناك الكثير الذي يُثير انتباهنا بشأن هذه الآثار. هل تلاحظ بها أيَّ شيء يمكن أن يوحي لك بشيء؟»

أجبتُه: «لا شيء سوى ما ذكرتَ. ماذا تقصد؟»

«في الواقع، أولًا، هناك الطابع الغريب للغاية للآثار نفسها، وهذا أمر سننظر فيه عما قريب. أنت تلاحظ أن هذا الرجل جاء سيرًا على الممر، وعند هذه النقطة انعطف ليدخل إلى الغابة؛ ثم عاد من الغابة وسار على الممر مرة أخرى. وشكلُ الآثار يجعل هذا في غاية الوضوح. لكن انظر الآن إلى مجموعتَي الآثار، وقارن بينهما. هل تلاحظ أيَّ اختلاف؟»

«الآثار العائدة تبدو أكثر بروزًا، بصماتهما أكثر وضوحًا.»

«بالفعل؛ إنها أعمق بصورة ملحوظة. لكن هناك شيء آخر.» أخرج من جيبه شريط قياس وأخذ ستة قياسات، ثم قال: «أترى؟ للمجموعة الأولى من الآثار طول خطوة بين الكعبين يصل إلى إحدى وعشرين بوصة، وهي خطوة قصيرة؛ لكنه رجل صغير الحجم، وبه عرج، أما الخطوات العائدة فطول الخطوة يصل إلى تسع عشرة بوصة ونصف البوصة؛ ومن ثَمَّ فإن الآثار العائدة أعمق من الأخرى، والخطوات أقصر. ماذا تستنتج من هذا؟»

أجبتُه قائلًا: «قد يوحي ذلك بأنه كان يحمل شيئًا حين عاد.»

«أجل، بل وشيء ثقيل ليتسبب في هذا الاختلاف في عمق الآثار. أعتقد أنني سأطلب منك أن تذهب وتُحضر ويليت والدراجات.»

ذهبتُ عائدًا على الممر نحو بدايته، وبعد أن أخذتُ دراجة ثورندايك وعليها حقيبة الأدوات المهمة، طلبتُ من ويليت أن يتبعني بالدراجتين الأخريين.

وحين عدتُ كان زميلي يقف ويداه خلف ظهره، ويحدق بتركيز شديد في الآثار. ثم رفع عينيه في حدة حين اقتربنا، وصاح طالبًا منا أن نبتعد عن الممر إذا أمكننا.

قال ثورندايك: «ابقَ هنا بصحبة الدراجات يا ويليت. أما أنت وأنا يا جيرفس فينبغي أن نذهب ونرى أين توجَّه صديقنا حين غادر الممر، وما هو الشيء الذي كان يحمله.»

دلفنا إلى الغابة، حيث تسببت أوراق الأشجار الساقطة منذ العام الماضي في جعل الآثار مجهولة ومن العسير تمييزها، وتبعنا آثارَ الأقدام المزدوجة غير الواضحة لمسافة طويلة بين كُتَل الشجيرات الكثيفة. وفجأة وقعت عيني على صفٍّ ثالث من آثار الأقدام بجوار الآثار المزدوجة، وكانت الآثار فيه أصغر من حيث الحجم وأكثر تقاربًا من بعضها. كان ثورندايك قد لاحظه أيضًا وأخرج شريط قياسه بالفعل.

قال ثورندايك: «طول الخطوة إحدى عشرة بوصة ونصف البوصة. هذه هي آثار الطفل يا جيرفس. لكن ضوء النهار يخفت، فينبغي أن نستمر في البحث سريعًا، وإلا فسنفقدها.»

وبعد حوالي خمسين ياردة، توقفت آثار أقدام الرجل فجأة، لكن الآثار الصغيرة استمرت وحدها؛ وتبعناها بأسرع ما يمكننا في ظل الضوء المتلاشي.

قال ثورندايك: «لا يوجد شكٌّ منطقي أو مقبول يقول بأن هذه الآثار ليست للطفل، لكنني أريد أن أجد أثرًا واضحًا من أجل أن تكون عملية التحديد صحيحة تمامًا.»

وبعد ثواني قليلة، توقف ثورندايك وهو يهتف متعجِّبًا، ثم جثَا على ركبته. كانت هناك كتلة صغيرة من التراب تغطي الأوراق الجافة وقد تسبب بها حيوان الخلد وهو يحفر مسكنًا له؛ وعلى تلك الكتلة الترابية الحديثة العهد، كانت هناك بصمة واضحة وقاطعة لقدم صغيرة، وكان على الكعب المطاطي نجمة في منتصفه. أخرج ثورندايك من جيبه حذاءً صغيرًا، وضغط به على التراب الناعم بجوار أثر القدم؛ وحين رفعه كانت البصمة الثانية مطابقة للأولى.

قال ثورندايك: «كان الفتى يمتلك حذاءين متماثلين؛ لذا فقد استعرت الآخر.»

ثم استدار ثورندايك وبدأ يتتبع خطواتِه بسرعة، متبعين في ذلك خطواتِنا الحديثة العهد، ولم نتوقف سوى لنحدد المكان الذي حمل فيه الرجل المجهول الطفل. وحين عدنا إلى الممر تقدمنا فيه سيرًا على الفور، حتى خرجنا من الغابة على بعد مائة ياردة من الكوخ.

علَّق ثورندايك قائلًا بينما دفع بوابة الحديقة وفتحها: «أرى أن السيدة هالدين كانت هنا مع جايلز. أتساءل إن كانَا قد رأيَا أيَّ أحد.»

تقدم ثورندايك نحو الباب، وبعد أن طرقه بشدة بأصابعه ثم ركله بقوَّة، حاول أن يفتحه باستخدام المقبض.

قال: «إنه موصد، لكنني أرى أن المفتاح في القفل؛ لذا يمكننا أن ندخل إذا ما أردنا. لنحاول من الخلف.»

كان الباب الخلفي موصدًا أيضًا، لكن المفتاح كان غيرَ موجود.

قال ثورندايك: «لا شك أنه خرج من الخلف، رغم أنه دخل من الباب الأمامي، كما أعتقد أنك تلاحظ. لنرَ إلى أين ذهب.»

كانت الحديقة الخلفية عبارة عن قطعة أرض صغيرة محاطة بسور، وبها ممرٌّ ترابيٌّ يؤدي إلى البوابة الخلفية. وبعد البوابة بمسافة صغيرة كانت توجد حظيرة أو مبنًى خارجيٌّ صغير ملحق بالمنزل.

علَّق ثورندايك وهو ينظر إلى الممر: «إننا محظوظان. لقد محت أمطارُ الأمس كلَّ الآثار القديمة ومهَّدت سطحَ الممر لتلقِّي الآثار الجديدة. ترى أن هناك ثلاثَ مجموعات من الآثار ذات بصمات ممتازة، اثنتان تقودان إلى خارج المنزل، وواحدة تؤدي نحوه. والآن، أنت تلاحظ أن مجموعتَي الآثار اللتين تقودان خارج المنزل تتسمان بعمق البصمة وقِصَر طول الخطوة، فيما تتسم المجموعة المؤدية إلى المنزل ببصمة أقل عمقًا وخطوة أطول. والاستنتاج البديهي هنا هو أنه خرج من المنزل إلى الممر بحمل ثقيل، ثم عاد خاوي الوفاض، ثم خرج أخيرًا ولمرة أخرى بحمل ثقيل آخر. وتلاحظ أيضًا أنه كان يسير وبيده عصاه في كل مرة منها.»

في تلك اللحظة كنا قد وصلنا إلى آخر الحديقة. وبعد أن فتحنا البوابة، تبعنا الآثار التي تؤدي نحو المبنى الخارجي، والذي يوجد بالقرب من طريق للعربات؛ لكن وحين اجتزنا زاوية الحديقة، توقف كلانا فجأة ورحنا ننظر إلى بعضنا. كان هناك على التراب الناعم آثارٌ واضحة لإطارات سيارة تمتد من الباب الكبير للمبنى الخارجي. وحين وجدنا أن الباب لم يكن موصدًا، فتحه ثورندايك، ونظر بداخله فقط لكي يتأكد من أن المكان كان خاليًا. ثم انحنى لينظر في الآثار.

ثم قال معلِّقًا: «إن مسار الأحداث واضح إلى حدٍّ كبير. أولًا، أنزلَ صاحبُنا أمتعتَه، ثم أدار المحرك، وأخرج السيارة — يمكنك أن ترى أين توقفت السيارة، بفعل كلٍّ من بقعة الزيت الصغيرة وكذلك اتساع وعدم وضوح آثار الإطارات وذلك ناتج عن اهتزاز المحرك؛ ثم عاد وأحضر الصبي — وأقول إنه كان حاملًا إياه على ظهره بسبب عمق آثار أصابع القدم في المجموعة الأخيرة من آثار الأقدام. كان ذلك خطأً فنيًّا؛ حيث كان ينبغي عليه أن يأخذ الصبي مباشرة إلى المبنى الخارجي.»

وأشار بينما كان يتحدث إلى أحد الآثار المجاورة لآثار الإطارات، وكانت أصابع القدم تعكس قطاعًا صغيرًا من رسمة على نعل مطاطي صغير.

عُدنا الآن إلى المنزل، حيث وجدنا ويليت يقرع على الباب الأمامي باستخدام مفتاح الربط الخاص بالدراجات. وبينما كانت يده في جيبه، ألقى ثورندايك نظرة أخيرة على نافذة مفتوحة في الطابق العلوي، ثم أخرج ما بدا وكأنه سلسلة صغيرة من المفاتيح الهيكلية التي تفتح كلَّ الأقفال، وهو ما أثار دهشة السائق كثيرًا. وأدخل أحد هذه المفاتيح في ثقب المفتاح وأداره، فأصدر القفل صوت طقطقة، وانفتح الباب.

دخلنا الآن حجرة الجلوس الصغيرة، وكانت مفروشة بأقل الضروريات. كان منتصف الحجرة يحتوي على طاولةٍ مفروش عليها مشمع، وقد دُهِشتُ حين رأيتُ عليها منبهًا مفكَّكًا (وكان قد استُخدم في تفكيكه فتاحةُ علبٍ كانت موضوعةً بجانب أجزائه)، ورأيتُ كذلك صندوقًا خشبيًّا صغيرًا لمحاكاة أصوات الطيور. نظر ثورندايك إلى هذين الشيئين وأومأ وكأنها تتوافق ونظرية كان قد شكَّلها في عقله؛ ثم فحص بدقة المشمع من حول العجلات والتروس المبعثرة، ثم راح في جولة تفقدية في الغرفة، وكان يُمعن النظر بفضول في المطبخ وخزانة المؤن.

وعلَّق قائلًا: «لا شيءَ مميزٌ أو شخصيٌّ جدًّا هنا. لنصعد إلى الأعلى.»

في الطابق العلوي كان هناك ثلاث غرف للنوم، وكان من الواضح أن اثنتين منهما غيرُ مستخدمتين، رغم أن نافذتَيهما كانتَا مفتوحتين على مصراعَيهما. أما الغرفة الثالثة فأظهرت آثارًا واضحة تدل على أنها مشغولة، رغم أنها كانت فارغةً كالأخريات؛ ذلك أن الماء كان لا يزال في حوض غسيل الوجه واليدين، وكان السرير غير مرتَّب. وقد تقدَّم ثورندايك نحو السرير، وبعد أن أزال مفرش السرير، قام بفحص الجهة الداخلية منه باهتمام، خاصة عند موضع القدمين والوسادة. كان موضع الوسادة ملطَّخًا — وليس معنى ذلك أنه كان متَّسخًا — رغم أن بقية مفرش السرير كان نظيفًا إلى حدٍّ كبير.

علَّق ثورندايك قائلًا: «آثار صبغة شعر»، وذلك حين لاحظ أنني أنظر إلى الوسادة؛ ثم استدار ونظر من النافذة المفتوحة. وسألني: «أيمكنك أن ترى المكان الذي كانت الآنسة هالدين تجلس فيه وهي ترسم؟»

أجبتُه: «أجل، هذا هو المكان، إنه واضح تمامًا، ويمكنك أن تنظر أيضًا على طول الطريق. لم يكن لديَّ أدنى فكرة أن هذا المنزل بهذا الارتفاع. يمكنك أن ترى الريف كلَّه من النوافذ العلوية الثلاث، عدا أنك لا تستطيع أن تنظر في الغابة.»

قال ثورندايك: «أجل، وعلى الأرجح أنه كان يراقب المكان من هنا بمنظار أو نظارة ميدانية. في الواقع، ليس هناك الكثيرُ من الأشياء المثيرة للاهتمام في هذه الحجرة. لقد كان يضع متاعه في صندوق كبير كان موضوعًا تحت النافذة. وقد حلق ذقنه هذا الصباح. إن له ذقنًا بيضاء، وذلك طبقًا لما تبقَّى منها على منديل الحلاقة، وهذا كل شيء. ولكن انتظر، هناك مفتاح معلَّق على ذلك المسمار. لا بد وأنه نسيَ أمره؛ ذلك أنه لا ينتمي تمامًا إلى هذا المنزل. إنه مفتاح قفل باب عادي في المدينة.»

أخذ المفتاح، وبعد أن أخرج من جيبه ورقة من دفتر ملحوظاته ووضعها على طاولة الزينة، أخرج مسمارًا وبدأ يستقصي به بدقة الجزء الداخلي من المفتاح. ثم أخرج بعد ذلك بكل حذر كرةً كبيرة من زغب رمادية وقام بلفِّها في الورقة بدقة بالغة.

وقال: «أعتقد أننا لا ينبغي أن نأخذ المفتاح، لكنني أرى أن نأخذ نسخة شمعية منه.»

ثم أسرع إلى الأسفل، وبعد أن فكَّ حقيبته من الدراجة، جلبها إلى داخل المنزل ووضعها على الطاولة. وحيث كان الظلام قد انسدل كثيرًا في الأرجاء، فصل ثورندايك مصباح الأسيتيلين القوي من دراجته وأضاءه وشرع في فتح حقيبته الغامضة. وقد أخرج منها أولًا منفاخًا صغيرًا، أو نافثَ مسحوق، ثم نفخ بها على الطاولة حول ما تبقَّى من المنبه سحابةً من مسحوق لونه أصفر فاتح. استقرَّ المسحوق على الطاولة في انتشارٍ متساوٍ، لكنه حين نفخ فيه بفمه برفق، تطاير المسحوقُ تاركًا عددًا من الآثار الملطَّخة بالمسحوق والتي برزت بلون أصفر واضح على المشمع الأسود. وأشار ثورندايك إلى أحد هذه الآثار، فقد كانت أثرًا ليدِ طفلٍ.

ثم أخرج مجهرًا صغيرًا محمولًا وبضعَ شرائح زجاجية وأغطية لها، وبعد أن فتح الورقة وأزاح كرة الزغب التي أخرجها من الجزء الداخلي للمفتاح إلى إحدى الشرائح الزجاجية، شرع في العمل باستخدام زوج من الإبر الداعمة لكي يستنبط منها أجزاءها المكونة لها. ثم وجَّه ضوء المصباح إلى مرآة المجهر وبدأ في فحص العينة.

ثم قال وعينُه مثبتةٌ على المجهر: «تلك مجموعة متنوعة وحافلة بالمعلومات يا جيرفس، فهي تتكون من ألياف صوفية، وليس هناك ألياف من القطن أو الكتان؛ أن تكون جيوبه من الصوف فإن هذا يعني أنه يعتني بصحته، وهناك شعرتان؛ وهما مثيرتان للفضول كثيرًا أيضًا. انظر إليهما فقط، ولاحظْ بُصيلة الجذر فيهما.»

وضعتُ عيني على المجهر ورأيتُ شعرتين من بين أشياء أخرى، كانتَا باللون الأبيض، لكنهما كانتَا مغطتين بصبغة سوداء لامعة غير شفافة. ولاحظتُ أن بُصيلة الجذر في كلٍّ منهما كانت ذابلةً وضامرة.

قلت متعجبًا: «لكن كيف وصلت الشعرتان إلى جيبه بحق السماء؟»

أجابني: «أعتقد أن الشعرتين تُجيبان على هذا السؤال؛ وذلك حين ننظر إليهما إلى جانب الأشياء الغريبة الأخرى. من الواضح أن الصبغة هي كبريتيد الرصاص؛ لكن ماذا ترى أيضًا؟»

«أرى بعض الجسيمات المعدنية — من الواضح أنه معدنٌ ذو لون أبيض — وفتات ألياف خشبية وحبيبات نشا، لكنني لا أعرف نوع النشا. إنه ليس بنشا القمح، ولا بنشا الأرز، ولا بنشا البطاطا. أتعرف ما نوعه؟»

figure
زغبة من الجزء الداخلي للمفتاح، مكبرة بنسبة ٧٧ ضعفًا.

ضحك ثورندايك وقال: «الخبرة هي ما ستُخبرك بنوعه. سينبغي عليك يا جيرفس أن تدرس المكونات والخصائص الدقيقة للغبار والتراب. إن قيمتهما كدليل كبيرة للغاية. لنُلقِ نظرة أخرى على تلك الحبيبات النشوية؛ أعتقد أنها متشابهة جميعًا.»

كانت جميعها كذلك، وكان ثورندايك قد تأكد لتوِّه من تلك الحقيقة حين انفتح الباب ودخلت السيدة هالدين الحجرة وتبعتها السيدة هانشو ومفتش الشرطة. نظرت المرأة الأولى إلى صديقي نظرةً تنمُّ عن ازدراء شديد.

وقالت: «سمعنا أنك أتيتَ إلى هنا يا سيدي، وكنا نعتقد أنك تشارك في البحث عن طفلي المسكين. لكن يبدو لي أننا كنا مخطئين؛ حيث إنكما هنا تُسلِّيان أنفسكما من خلال العبث بتلك الأدوات التافهة.»

قالت السيدة هانشو بنبرة جادة: «ربما كان من الحكمة أكثر يا مابيل — والأكثر تهذيبًا — لو سألتِ الدكتور ثورندايك إن كان لديه أيُّ أخبار لنا.»

وافق المفتش على كلام السيدة هانشو قائلًا: «كلامك صحيح، يا سيدتي.» ويبدو أنه تضايق أيضًا من اندفاع السيدة هالدين.

قالت السيدة الأخيرة: «إذن ربما ستُخبرنا لو أنك اكتشفتَ أيَّ جديد.»

أجاب ثورندايك: «سأقول لكم كلَّ ما نعرف. لقد اختُطِف الطفل على يد الرجل الذي كان يسكن هذا المنزل، ويبدو أنه كان يراقبه من نافذة علوية، باستخدام نظارة مكبرة على الأرجح. لقد استدرج هذا الرجل الصبيَّ إلى الغابة عن طريق النفخ في أداة محاكاة أصوات الطيور هذه؛ وقابله في الغابة، وأغراه — ببعض الوعود دون شك — حتى ذهب معه. ثم رفع الطفل وحمله — أعتقد على ظهره — حتى وصل إلى المنزل، ودخل به من الباب الأمامي ثم أوصده خلفه. وقد أعطى الطفل ذلك المنبه وأداة محاكاة صوت الطيور ليتسلَّى بهما بينما صعد هو إلى الطابق الأعلى وجمع أشياءه في حقيبة كبيرة. ثم أخذ الحقيبة إلى خارج المنزل من الباب الخلفي وعبر بها الحديقة حتى وصل إلى المبنى الخارجي هناك، والذي كان يحتوي على سيارة. ثم أخرج السيارة وعاد لأخذ الطفل فحمله إلى السيارة وأغلق الباب الخلفي خلفه. ثم انطلق بعيدًا.»

صاحت السيدة هالدين: «تعرف أن الرجل قد ذهب وما زلت هنا تلهو بتلك الأشياء السخيفة. لماذا لم تتبعه؟»

أجاب ثورندايك في هدوء: «كنا قد انتهينا من التأكد من الحقائق للتوِّ، ولولا أنكم أتيتم لكنَّا في إثرهما على الطريق الآن.»

هنا تدخَّل المفتش بنبرة تنمُّ عن القلق: «أنت بالطبع يا سيدي لا تستطيع أن تُقدِّم لنا أيَّ وصف للرجل. أعتقد أنك لا تمتلك أيَّ دليل على هويته، أليس كذلك؟»

أجابه ثورندايك: «لدينا فقط آثارُ أقدامه، وتلك الزغبة التي استخرجتها من الجزء الداخلي لمفتاح القفل الخاص به، والتي كنتُ أفحصها لتوِّي. ومن تلك البيانات أخلُصُ إلى أن الرجل قصيرٌ ونحيلٌ إلى حدٍّ ما، وبه شيءٌ من عرج. وهو يسير بمساعدة عصًا غليظة لها مقبضٌ — وليس انعقافًا — في أعلاها ويحملها الرجل في يده اليُسرى. وأعتقد أن ساقه اليُسرى مبتورة من فوق الركبة، وأنه يرتدي طرفًا صناعيًّا. وهو كبير في السن، وحليق، وله شعر أبيض مصبوغ بصبغة سوداء مائلة للرمادي، وهو أصلع بصورة جزئية، وعلى الأرجح أنه يمشِّط خصلة شعر على الجزء الأصلع من رأسه؛ وهو يستخدم النشوق ويحمل في جيبه مشطًا رصاصيًّا.»

وبينما كان ثورندايك يُقدِّم وصف الرجل، كان فم المفتش ينفتح بالتدريج حتى بدت على وجهه في النهاية أماراتُ الاندهاش الشديد. لكنَّ أثرَ ذلك الوصف الذي قدَّمه كان لافتًا للنظر أكثر على السيدة هالدين. فبعد أن انتصبت من الكرسي الذي كانت تجلس عليه، اتكأت على الطاولة وحدَّقت بثورندايك في تعبير عن الإجلال — بل وحتى عن الرهبة — وحين أنهى ثورندايك وصفه، غاصت مرة أخرى في كرسيها، ويداها مقبوضتان ثم استدارت إلى السيدة هانشو.

وقالت لاهثة: «جين! إنه بيرسي، أخو زوجي! لقد وصفه بدقة، لقد ذكر حتى عصاه ومشط الجيب الخاص به. لكنني كنتُ أعتقد أنه في شيكاجو.»

قال ثورندايك وهو يُعيد جمْعَ محتويات حقيبته بسرعة: «إذا كانت هذه هي الحال، فمن الأفضل أن نذهب في الحال.»

قالت السيدة هانشو: «لدينا العربة على الطريق.»

أجابها ثورندايك: «شكرًا لك، ولكننا سنركب دراجتَينا، ويمكن للمفتش أن يستعير دراجة ويليت. سنخرج من الخلف عبر مسار السيارة، والذي سيلتحم بالطريق فيما بعد.»

قالت السيدة هالدين: «إذن سنتبعكم في العربة. هيا بنا يا جين.»

وانصرفت السيدتان فيما أعددنا دراجاتنا وأضأنا مصابيحنا.

قال ثورندايك: «اسمح لي أيها المفتش أن نأخذ المفتاح معنا.»

قال الضابط معترضًا: «هذا غير قانوني. ليس لدينا سلطة تخوِّلنا فعل ذلك.»

قال ثورندايك: «هذا غير قانوني إلى حدٍّ كبير، لكن من الضروري فعل ذلك؛ والضرورة لا تعرف القانون، مثلما يعرف قاضي الصلح العسكري الخاص بكم.»

ابتسم المفتش وخرج بعد أن رمقني بنظرات مرتعشة فيما كان ثورندايك يوصد الباب بمفتاحه الهيكلي. وحين كنا على وشك أن نتحول إلى الطريق، رأيتُ نور العربة خلفنا، ورحنا نقود الدراجات بوتيرة سريعة، متبعين الآثار بسهولة على الطريق الممهد المبلل.

قال لي المفتش على انفراد بينما كنا نقود: «ما يشغل تفكيري حقًّا هو كيف عرف أن الرجل أصلع. أكان ذلك من آثار أقدامه أم من مفتاح القفل؟ وأمرُ ذلك المشط أيضًا، كان استنتاجًا احترافيًّا مذهلًا.»

كان أمر تلك النقطتين واضحًا جدًّا لي في ذلك الوقت؛ فقد رأيتُ الشعرتين وبُصَيلَتَيه الضامرتين، كتلك التي يجدها المرء على هامش رقعة صلعاء؛ ولا شك أن المشط كان قد استُخدِم لغرضين هما تغطية الرقعة الصلعاء بالشعر وكذلك صبغ الشعر بصبغة كبريتيد الرصاص. لكن أمر العصا ذات القبضة والطرف الاصطناعي قد تسبَّبَا في حيرتي كثيرًا حتى إنني سرعان ما لحقتُ بثورندايك مطالبًا إياه بتفسير.

قال ثورندايك: «أمر العصا في غاية البساطة. النهاية المعدنية للعصا ذات المقبض تبلَى بالتساوي من جميع جهاتها؛ أما تلك المستخدمة في العصا المعقوفة فتبلى عند جانب واحد، وهو الجانب المقابل لجهة الانعقاف. وقد أوضحت آثارُ نهاية العصا أنها كانت محدَّبة بالتساوي؛ ومن ثَم فلم تكن العصا معقوفة. وعن الأمر الآخر فهو أكثر تعقيدًا. في البداية، القدم الاصطناعية تتسبب في آثار مميزة للغاية، وذلك بسبب الغياب التام للمرونة فيها، كما سأريك غدًا. لكن الساق الاصطناعية المثبتة من عند أسفل الركبة تكون مثبَّتة بصورة كبيرة، في حين أن الساق الاصطناعية المثبَّتة فوق الركبة — أي المربوطة بمفصل ركبة اصطناعي بزنبرك — تكون أقل موثوقية. والآن، هذا الرجل كان يرتدي قدمًا اصطناعية، ولا شك أنه كان لا يثق بمفصل الركبة، كما يتضح من خلال تثبيته إياه عن طريق الاتكاء على العصا في نفس الجانب. فلو أنه كان يمتلك ساقًا ضعيفة فقط، كان سيتكئ على العصا بيده اليُمنى — مع الاعتماد على التأرجح الطبيعي للذراع — إلا لو كان الرجل أعرج جدًّا، ومن الجليِّ أنه لم يكن كذلك. ومع ذلك، كانت تلك مسألة احتمالات، رغم أن الاحتمال كبير جدًّا. وأنت تفهم بالطبع أن جزيئات الألياف الخشبية وحبيبات النشا كانت حبيبات نشوق فاسدة.»

كان هذا التفسير، كالتفسيرات الأخرى، بسيطًا جدًّا حين يسمعه المرء، رغم أنني استغرقتُ وقتًا كثيرًا في التفكير فيه بينما كنا نقود على الطريق المظلم ومصباح ثورندايك يومض في الأمام والعربة تهدر على الطريق في أعقابنا. لكن كان هناك الكثير من الوقت للتفكير؛ ذلك أن وتيرتنا جعلت المحادثة مستحيلة، واستمررنا في قيادة الدراجات، قاطعين الميل تلو الآخر، حتى آلمتْني ساقاي من التعب. ورحنا نقطع الطريق مارين بالقرية تلو الأخرى، وكنا نفقد الأثر في الشوارع المكتظة، لكننا كنا نجده مرة أخرى وبكل سهولة حين نعود إلى الطريق الريفي، حتى فقدناه تمامًا في الشارع الرئيسي المرصوف لمدينة هورسفيلد الصغيرة. وقد قُدْنا دراجاتنا عبر طرقات المدينة وحتى الطريق الريفي؛ لكن وعلى الرغم من وجود عدة آثار لسيارات كانت قد عبرت به، فإن ثورندايك نفى أن يكون أيٌّ منها هو مبتغانا، حيث قال: «لقد فحصتُ آثار تلك الإطارات حتى كدتُ أحفظها عن ظهر قلب. لا، إنه إما يكون في المدينة، أو أنه غادرها من طريق جانبي.»

لم يكن أمامنا سوى أن نضع الدراجات والجواد في الفندق، فيما رحنا نسير في الأرجاء للاستطلاع؛ وبينما كنا نسير في الشوارع الواحد تلو الآخر، كانت أعيننا مثبتة على الأرض باحثين بلا جدوى عن أثر للسيارة المفقودة.

وفجأة وعند باب متجر أحد الحدادين، توقف ثورندايك. كان المتجر مفتوحًا حتى ساعة متأخرة لأجل وضع حدوة لحصان يجرُّ عربة، وكان صاحب الحصان قد ابتعد به للتوِّ وخرج صاحب المتجر ليتنفس بعض الهواء العليل. اقترب منه ثورندايك في لطف.

وقال له: «مساء الخير. أنت الرجل الذي أردتُ أن أقابله. لقد تهتُ عن عنوان صديق لي، والذي أعتقد أنه زارك ظهر اليوم؛ إنه رجل أعرج ويسير بمساعدة عصا. أعتقد أنه أراد منك أن تفتح له قفلًا أو أن تصنع له مفتاحًا.»

قال الرجل: «أوه، أنا أتذكره! أجل، كان قد فقد مفتاح قفله، وأراد أن أفتح له القفل حتى يتمكن من الدخول لمنزله. كان عليه أن يترك سيارته في الخارج حين يأتي إلى هنا. لكنني أخذتُ بعض المفاتيح معي، وأعددتُ له واحدًا.»

ثم أرشدَنا إلى منزل في نهاية أحد الشوارع القريبة، وبعد أن شكرناه انطلقنا بروح معنوية عالية.

سألت ثورندايك قائلًا: «كيف عرفتَ أنه زار الحداد؟»

«لم أعرف؛ لكن كانت هناك علامة عصًا وعلامة جزء من قدم يسرى على التراب الناعم بداخل المدخل، وكان أمر زيارته للحداد طبيعيًّا؛ لذا فقد غامرت بتلك المحاولة.»

كان المنزل يقف منعزلًا عند النهاية القصوى لشارع به منازل متناثرة، وكان يحيط بالمنزل جدارٌ عالٍ، وفي ذلك الجدار ومن الجهة المواجهة للشارع، كان هناك بابٌ وبوابة كبيرة لمرور العربات. تقدمنا نحو الباب وأخرج ثورندايك من جيبه المفتاح المختَلَس، وجرَّبه في القفل، فدخل على نحو جيد، وحين أداره وفتح الباب، دخلنا إلى فناء صغير. وبعد أن عبرناه، وصلنا إلى الباب الأمامي للمنزل، ولحُسنِ الحظ أن المفتاح معنا يتناسب مع قفله؛ وبعد أن فتح ثورندايك هذا الباب، دخلنا مجتمعين إلى الردهة. سمعنا في الحال صوتَ بابٍ يُفتح بالأعلى، وجاء صوت رفيع حاد يقول:

«مرحبًا! مَن بالأسفل؟»

تَبِع الصوتَ ظهورُ رأس عبر الدرابزين ذي الأعمدة التزيينية.

قال المفتش: «أنت السيد بيرسي هالدين حسبما أعتقد.»

وحين نطق المفتش بذلك الاسم، انسحبت الرأس، وسمعنا صوتَ خطوات سريعة، تَبِعها صوتُ طقطقة عصا على الأرض. بدأنا نصعد السلم، وكان المفتش يتقدمنا، حيث إنه هو المسئول المخوَّل؛ لكننا لم نكد نصعد بضع درجات، حين قفز أمامنا على بسطة السلم رجلٌ قصير بغيض وشرس، وكان يُمسك في إحدى يديه بعصًا غليظة، وفي الأخرى بمسدس كبير للغاية.

وصاح وهو يوجِّه المسدس نحو المفتش: «إن تحرَّك أيٌّ منكم خطوةً أخرى، فسأُطلق النار، وحين أُطلق فإنني أصيب.»

figure
تم بنجاح الإمساك بالغريب.

بدا الرجل كما لو كان يعني تمامًا ما يقوله، ومن ثَم فقد توقفنا فجأة، فيما شرع المفتش في التفاوض.

قال المفتش: «والآن ما جدوى هذا يا سيد هالدين؟ لقد انتهت اللعبة، وأنت تعرف ذلك.»

ردَّ الآخر الشرس: «اخرجوا من منزلي، وابتعدوا عنه، وإلا فسيكون عليَّ دفنكم في حديقتي.»

نظرتُ حولي لأتشاور مع ثورندايك، وقد انتابتني الدهشةُ حين وجدتُ أنه اختفى عبر باب الردهة المفتوح على ما يبدو. وكنتُ أفكر في الاتجاه الذي سلكه حين حاول المفتش أن يعيد التفاوض، لكن سرعان ما قاطعه الآخر.

قال السيد هالدين: «سأعدُّ حتى خمسين، وإذا لم تذهبوا، فسأُطلق النار.»

بدأ يعدُّ بتروٍّ، ونظر إليَّ المفتش في حيرة تامة. كانت السلالم طويلة، وكانت جيدة الإضاءة بالغاز؛ لذا فكانت مباغتة الرجل أمرًا مستحيلًا. وفجأة، خفق قلبي بقوة وانقطعت أنفاسي؛ ذلك أن رجلًا ظهر من باب مفتوح خلف طريدنا بهدوء وبطءٍ واتجه نحو بسطة السلم. كان الرجل هو ثورندايك قد خلع حذاءه وسترته.

تسلل ثورندايك ببطء وخفة كالقطة حتى صار على بعد ياردة واحدة من الرجل الهارب غير الواعي له، وكان لا يزال صوتُه الحادُّ يدوي بنبرة رتيبة وهو يعدُّ الثواني التي حددها.

«واحد وأربعون، اثنان وأربعون، ثلاثة وأربعون …»

ثم بعد ذلك وقعت حركةٌ سريعة خاطفة، وصيحة، وطلقة رصاص، وجصٌّ متساقط بكثافة، ثم سقط المسدس يتدحرج على السلم. هرعتُ والمفتش إلى الأعلى، وفي غضون لحظة، أعلن صوت غلق الأصفاد على يد السيد هالدين أن اللعبة قد انتهت فعلًا.

•••

بعد خمس دقائق كان الصبي فريدي يدخل على كتفَي ثورندايك إلى حجرة الجلوس الخاصة بفندق بلاك هورس، وهو نصف ناعس لكنه كان مبتهجًا بشدة. صاحب دخوله صيحات الفرح، وكاد الصبي يختنق من شلال القبلات الذي صبته عليه والدته. وفي النهاية، استدارت السيدة هالدين المندفعة فجأة نحو ثورندايك وأمسكت بكلتا يديه، وللحظة كنتُ آمل أن تُقبِّلَه هو أيضًا. لكنها خلت سبيله، ولم أتعافَ أنا من خيبة الأمل حتى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤