مقدمة

أصدر الكاتب الإنجليزي «بولتن كنج» كتابه تاريخ الوحدة الإيطالية سنة ١٨٩٩ وتُرجم إلى الفرنسية سنة ١٩٠١ في مجلدين ضخمين يبلغ عدد صفحاتهما زهاء تسعمائة صفحة، وقد كتب بولتن كتابه هذا بعد ما راجع نحو تسعمائة كتاب يبحث في تاريخ إيطالية الحديث فيما بين سنة ١٨١٤ وسنة ١٨٧١، وقضى عشر سنوات في تأليفه، ويظهر من ذلك أنه شرع في تأليف كتابه بعد انقضاء خمس عشرة سنة على آخر حادثة دَوَّنها، وقد لا يكون انقضاء هذا المدة كافيًا لأنْ يستطيع الباحث المدقق استنباطَ النتائج، غير أن المصادر الإيطالية والفرنسية والإنجليزية التي أُدرجت أسماؤها في نهاية كتابه، من شأنها بفضل مواضيعها وشخصية مؤلفها أن تزود المؤرخ الباحث بكل ما يحتاج إليه من مادةٍ تجعله قادرًا على تمييز الغث من السمين والخبيث من الطيب؛ لا سيما وأن كثيرًا من الكتب الإيطالية التي رجع المؤلف إليها قد دَوَّنها رجالٌ إيطاليون اشتركوا فعلًا في بناء الوحدة الإيطالية.

لقد بذل المؤلف جهده ليكون حياديًّا في بحثه، والواقع أنه عسير على الذي يقْدم على كتابة تاريخ بلاده المعاصر؛ أن يكون حياديًّا في بحثه فلا بد من خضوعه لبعض المؤثرات العاطفية، أما المؤرخ الأجنبي فيستطيع أن يتجرد عن العاطفة وأن يستقصي الحوادث في غير هوًى، لعل المؤرخين الإنجليز في نهاية القرن التاسع عشر كانوا أحسن من يكتب تاريخ الوحدة الإيطالية مجرَّدين عن العاطفة، بعيدين عن الأهواء، فيبدو أن بولتن كنج قد سبق الجميع في هذا المضمار.

لقد عثر أحد أصدقائي على النسخة الإفرنسية لهذا الكتاب منذ أكثر من ٢٥ سنة بعث بها لي فقرأتها وأُعجبت بها أي إعجاب، وعزمت على ترجمتها في أول فرصة تسنح؛ لاعتقادي أن أشد ما يحتاج إليه شُبَّان العرب هو الاطلاع على تاريخ النهضات القومية في القرن التاسع عشر، لا سيما حركة الوحدة الإيطالية.

إن أوجب واجبات الشباب العربي أن يعرفوا كيف نهضت الأمم المستعبَدة وظفرت باستقلالها وأقامت وحدتها؛ ففي ذلك عبرةٌ لهم وحافز.

ولم يتسنَّ لي ترجمة هذا الكتاب إلا في المدة الأخيرة حينما كنت بعيدًا عن الوطن، ولم أشأْ ترجمته حرفيًّا؛ لأن ذلك يتطلب وقتًا طويلًا فضلًا عن أن صعوبة الطبع في هذه الظروف تحول دون إصدار الترجمة في مجلدين ضخمين. وعليه فإنني آثرت ترجمته مُلخصًا على أن لا يخل الإيجاز بأساس الموضوع وتسلسل الوقائع، فهذه الترجمة إذن نسخةٌ مصغَّرة، تحتوي كل ما ورد في الكتاب من أبحاثٍ ومعلومات.

من الأقوال المأثورة أن التاريخ يُعيد نفسه، بَيْدَ أن الاستقصاء الحديث دل على أن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه ما لم تتوفر شروطٌ جغرافية واجتماعية ونفسية. فيجدر بنا الآن أن نتساءل: هل في البلاد العربية اليوم تتوفر تلك الشروط التي ساعدت بلاد إيطالية على تأسيس وحدتها في مدى نصف قرن؟ وبتعبيرٍ آخر: هل تُشْبِهُ البلاد العربية في جميع أوضاعها الراهنة أوضاع إيطالية بعد حرب نابليون؟ أو قبل ثورة ١٨٤٨؟

قد يسهل على الذين يزعمون أن التاريخ يعيد نفسه أن يجدوا شَبَهًا كبيرًا بين حالة البلاد الإيطالية بعد حرب نابليون وبين حالة البلاد العربية بعد الحرب الماضية فيقارنوا بين هاتين الحالتين، ويقولوا مثلًا إن نابليون شجع الإيطاليين على تأسيس وحدتهم، وأسس المملكة الإيطالية فعلًا واشترك الطليان في حروبه، وإن الحلفاء لوحوا وقتئذٍ للطليان باستقلالهم فلما انتصروا على نابليون ضربوا بوعدهم عرض الحائط، وأرجعوا إيطالية إلى ما كانت عليه قبل الثورة الإفرنسية فأصبحت مجزَّأة، فيها ثماني دول مستقلة وشبه مستقلة.

كذلك الأمر في البلاد العربية؛ إذ كانت قبل الحرب العامة خاضعة لدولةٍ واحدة، وكان أهلها يتشوقون إلى الحكم الذاتي، فلما نشبت الحرب المذكورة أخذ بعضُ الأقطار يطالب بالاستقلال لقاء مساعدتها إياهم، فلما انتصروا على أعدائهم ضربوا بوعودهم عرض الحائط وأقاموا في البلاد العربية التي انسلختْ من المملكة العثمانية دولًا عديدة شبه مستقلة ومستعبدة.

وإذا أراد أولئك الزاعمون الإسهابَ في المقارنة فإنهم يقولون: إن الناس في بلاد إيطالية كانوا يتكلمون لغةً واحدة ويَدينون بدينٍ واحد وكان أجدادهم — فيما مضى — يحكمون العالم وينشرون الحضارة من عاصمتهم روما، فلأحفادهم أن يعتزوا بمفاخرَ وأمجادٍ جديرة لأن تجعلهم في مصاف الأمم الراقية.

وكذلك شأن سكان البلاد العربية فهم يتكلمون لغةً واحدة ويدينون بدينٍ واحد، وقد حكم أجدادُهُم العالمَ ونشروا ألوية الحضارة من عواصمهم بغداد، دمشق، القاهرة، والقيروان، وسجل التاريخُ لهم من المفاخر والأمجاد ما جعلهم جديرين بأنْ يتحدوا وأن يقيموا لهم دولة تخدم الحضارة وتساهم في العمل على استقرار السلم العالمي.

فإذا أردنا إذن أن نُجاري من يقول: إن التاريخ يعيد نفسه؛ فإننا نستطيع أن نُفسح مجال المقارنة بين إيطالية بعد حروب نابليون والبلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأن نستند إلى هذه المقارنات فنجزم بأنه لا بد للوحدة العربية من أن تتم كما تمت الوحدة الإيطالية شاء الناس أم أَبَوْا ذلك.

ولكننا نرى أن قضية العرب في تأسيس وحدتهم لا تحتاج إلى كل هذه المقارنات؛ فنحن لا نريد أن نجاريَ القائلين بأن التاريخ يُعيد نفسه فنقضي الوقت بالتفتيش على أوجُه الشبه بين البلاد الإيطالية والبلاد العربية، وإنما نَوَدُّ أن نقول إن العرب يستندون في الدفاع عن قضيتهم إلى حقائقَ ملموسة ودلائل قوية:
  • أولًا: كان العرب في العهد العثماني يتمتعون بكل الحقوق التي كان يتمتع بها الأتراك، ولم يشعروا قط بأنهم أُمَّة محكومة، وكان يتسنى للعربي أن يكون واليًا أو قائدًا أو حاكمًا، فلم ير العربي حينذاك حاجة للمطالبة بالانفصال أو بالاستقلال.

    ولما أخذ غلاة الأتراك بعد إعلان الدستور يستأثرون بالحكم ويدعون بأن الأمة التركية هي الأمة الحاكمة وأن الأمم الأخرى هي المحكومة؛ كان لِزامًا أن يكون لهذه الدعوة رد فعل في نفوس العرب فراح عقلاؤهم يفكرون في مصير بني قومهم ويُطالبون بالإصلاح تارة وباللامركزية تارة أخرى، ثم استهدفت الجمعيات العربية السرية بعد حرب البلقان الحكم الذاتي غايةً لِمَساعيها.

    والذي لا شك فيه أن العرب كانوا في العهد العثماني أحرارًا في بلادهم، وظلوا يُشاركون الأتراكَ الحكم والسيادة، لا كما يزعم رجال الاستعمار بأنَّ العرب ظلوا مستبعَدين مدة طويلة، ثم يتخذون هذا الزعم ذريعة لهم يسوغون بها احتلال البلاد العربية لاستعمارها!

  • ثانيًا: حين أدرك العرب أن الحلفاء قد نكثوا في عهدهم، وحرموهم نعمةَ الاستقلال وجزَّءوا بلادهم، حتى بلغ أمر هذه التجزئة في دورٍ من أدوار الانتداب البغيض أنْ تأسست ثماني دول في سورية وحدها؛ ثاروا في كل قُطر ولم يعترفوا بالانتداب قط.

    وكانت أُولى الثورات التي نشبت في البلاد العربية الثورة المصرية سنة ١٩١٩، وقد طالب قادتُها بالاستقلال، ثم تلتْها الثورة العراقية التي نشبت سنة ١٩٢٠ ودعا رجالها إلى إنهاء الحكم العسكري وإقامة الحكم الوطني.

    وقد نجحت تلك الثورة واضطر الإنجليز إلى الاعتراف بحقوق العراق، وإقامة الحكومة المؤقتة، ثم تلتها الحكومة الوطنية في عهد الملك فيصل، وظل رجال العراق يطالبون باستقلال بلادهم رافضين الانتداب إلى أنْ تم استقلال البلاد سنة ١٩٣٢، وظلت مصر تناضل في سبيل استقلالها ثم اعتُرف لها في معاهدة سنة ١٩٣٦ باستقلالها.

    وتعاقبت في سورية الثورات، وكانت الثورة الكبرى سنة ١٩٢٥، حتى اعتُرف باستقلالها سنة ١٩٤٢، أما الثورات العديدة التي نشبتْ في فلسطين واستمرتْ مدة طويلة فأمرُها معلوم.

    ولقد كبَّدت هذه الثوراتُ العربَ خسائرَ في الأنفس، ويُقدر عدد ضحاياهم فيها بالألوف، ودلت هذه الثورات على ما كان كامنًا في نفوس العرب من حيويةٍ زاخرة؛ لم يسبق في تاريخ الأمم أن ناضلت أمة عزلاء دولًا قوية الشكيمة في سبيل الحصول على استقلالها وثارت مرات عديدة في مدةٍ لا تتجاوز ربع القرن، وقد كذبت هذه الثورات زَعْمَ القائلين إن العرب قد قبلوا ما اختارتْه لهم الحكومات الأجنبية راضين طائعين، ودلت على أنهم لم يرضَوا قط بما فرض عليهم فرضًا وأنهم ظلوا يناضلون عن حقوقهم حتى نالوا استقلالهم.

    وعندنا أن هذين الأمرين وحدهما كفيلان بأنْ يحققا للعرب وِحدتهم، وهنالك عواملُ أخرى تساعد العرب على إقامة وحدتهم؛ فالبلاد بوضعها الجغرافي؛ أي بسهولها وأنهارها ووديانها تؤلف وحدة جغرافية، وإذا كانت البادية تفرق بين بعض أقطارها فإن السيارة والطيارة قد قَرَّبَتَا هذه الأقطارَ أكثر مما كانت تُقرب المركبة أو السكة الحديدية بين الأقطار الإيطالية في القرن الماضي، وتلفت أنظار أهلها جميعًا إلى ماضٍ مجيد، وتتطلع نحو مستقبلٍ زاهر، وتجمعهم وحدة اللغة والدين، وتوثق عراهم عاداتٌ مشتركة وتقاليدُ موروثة وذكريات سارة وأخرى محزنة.

    وقد وثق الاتصال بين أقطارها وأخذ بعضها يستقدم موظفين من البعض الآخر، وأصبح العراقي يدرس في معاهد مصر الثقافية، والأردني واليماني بتدرب في معاهد العراق العسكرية والسوري يمتهن الطبابة والهندسة والتدريس في الأقطار العربية، وكذلك شأن الفلسطيني واللبناني، أما المصري فيدرس في كل الأقطار.

لقد ابتدعتْ معاهدات السلم التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى بخلقها الدويلات الصغيرة بدعة سيئة؛ إذ دلت الوقائع على أن هذه الدويلات كانت عاملًا من عوامل الضعف والارتباك في السياسة الدولية العامة، وقد ولدت تنافرًا وتشاحنًا، فضلًا عن كونها شجعت الدول الكبيرة الاستعمارية على الاستئثار بها والاستيلاء عليها.

وقد أظهرت الحربُ العالمية الأخيرة بُطلان سياسة خلق دول صغيرة حتى رأينا رجال الحكومات في هذه الدول يَدْعون إلى تأسيس اتحادات أو وحدات فيما بينهم؛ لتستطيع أن تعيش بسلامٍ، وأن تكون دعامة من دعائم السلم، والغريب أن بعض أولئك بين أممٍ لا تتكلم لغة واحدة ولا تدين بدينٍ واحد فضلًا عن أن تقاليد بعضها يخالف تقاليد البعض الآخر، وليس من شكٍّ في أن نظام العالم المُقبل سوف يرتكز على اتحاداتٍ تجمع بين الأمم الصغيرة أو وحدات تمتع كل دولة فيها باستقلالها الداخلي.

وأية أمة أجدرُ من العرب بتأسيس هذه الوحدة أو الاتحاد بين دولها، وعلى العرب أن يعلموا أنه لا يتسنى لهم أن يحتفظوا بكيانهم إلا إذا هم أقاموا وحدتهم وأنقذوا أنفسهم من قيد الحكومات الإقليمية الضعيفة ودخلوا نطاق دولة عربية، ومعنى ذلك وحدة عزهم ومنعتهم.

حقًّا لا سبيل لأن يعيشوا أقوياء أعزاء سعداء إلا في نطاق الوحدة الشاملة، ولا يمكن أن تكون بلادهم عاملًا من عوامل الاستقرار في السياسة الدولية العامة إلا بتأسيس الدولة العربية الكُبرى، فعليهم أنْ يوقنوا بأن في التجزئة ذُلَّهم وشقاءهم، وأن في الوحدة عزهم وبقاءهم.

وأريد الآن أن أذكر السبب الذي ساقني إلى ترجمة هذا الكتاب، لا شك في أن الأمة العربية قد ضحتْ بكثيرٍ من مالها وأرواحها في سبيل الحصول على استقلالها، وقد يظن بعض قادة أمورها أن الاستقلال والوحدة لا يحتاجان إلى كل هذه الثورات والتضحيات، وإنما الهدوء والاستقرار والمداورات السياسية؛ هي وحدها كفيلة بإيصال الأمة إلى استقلالها ووحدتها. وقد يتأثر كثيرٌ من ضعاف النفوس بهذا الظن فيَحُولون دون اندفاع الأمة في جهادها ويخففون من غلوائها في مساعيها، وبذلك يعرقلون سير القضية — خاطئين أو متعمدين.

فهؤلاء القادة يجدون في طيات هذا الكتاب كثيرًا من الأدلة التي تكذِّب ظنهم وتبرهن على أنهم خاطئون، كما يجد الشبان فيه ما يؤكد إيمانهم بأن استقلالهم يُؤخذ ولا يُعطى وهو إنما يُؤخذ بالتضحية، وأن الوحدة لا تتم إلا بالقوة والإيمان.

ثم إن القارئ يرى في هذا الكتاب كثيرًا من العِبر، ويطلع على وقائعَ ما أعظم أوجه الشبه بينها وبين الوقائع التي حدثت في تاريخ القضية العربية، حتى لَيكاد يخيل له أنه يقرأ سيرة بعض رجال العرب؛ من زعيمٍ ظل يجاهد رغم كل العقبات التي قامت في وجهه، وآخرَ سياسيٌّ حاد عن مبدئه وأخذ يُموِّه على الناس، ودجال منافق خان القضية وصار يعمل لحساب المستعمر، وأشباه ونظائر لشيوخ وكهول وشباب مؤمنين عاهدوا الله على العمل في إخلاص ولم يبدلوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

وفي الكتاب عبرٌ جديرة بأن يَعتبر بها قادةُ الرأي العربي العام، ومن أبرز ما يُستنتج منها: أن الوحدة لا تتم إلا بالقوة، وقد شنت دولة بيمونته ثلاث حروب في سبيل الوحدة وحارب فيها المتطوعون من جميع الأقطار الإيطالية في صفوف الجند البيمونتين، وقد شنت بيمونته وحدها إحدى هذه الحروب كما ساعدتها حليفتها فرنسة في الأخرى، كما أن اشتراكها في حرب القريم — حيث لا ناقة لها فيها ولا جمل — إنما كان في سبيل الوحدة أيضًا.

وفي التاريخ أمثلةٌ كثيرةٌ تدل على أن الوحدة القومية والسياسية لا تؤسَّس إلا بقوة السلاح، حتى إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها لم تنقذ وحدتها من الانهيار إلا بحد السيف، وقد شنت في سبيلها حربًا شعواء استمرت خمس سنوات، وضحَّت من أجلها بنفوسٍ كثيرة، وقد نوه المؤرخون الأمريكيون بهذه الظاهرة التي ربما عَدَّها الكثيرون خروجًا على المبدأ الديموقراطي، زاعمين أن من حق الحكومات الجنوبية أن تقرر الانفصال إذا شاءت، إلا أن الرئيس إبراهام لنكولن لم يعترف بمثل هذا الحق، بل رأى أن الوحدة فوق جميع الحقوق فحارب الجنوبيين بكل ما أُوتي من قوةٍ، وقد أحسن فيما فعل.

وقد يستغرب القراءُ تلويحي بمبدأ القوة في عهد شنت فيه جميع الدول الديموقراطية حربًا عنيفة على مبدأ القوة وضحَّت في سبيل هدمه بكثيرٍ من أبنائها، ولكن استغرابهم يزول إذا قُلت إن هذه القوة التي أشرت إليها هي عين القوة التي استخدمتْها الدول الديموقراطية في سبيل نشر السلام العالمي، فتَرْك أمة مجزئة ضعيفة عرضة لأطماع الطامعين بها من الدول المجاورة أو الدول الاستعمارية التي تحتل قواعدها وتتصرف بشئونها متذرعة بحججٍ واهية لَهو أمرٌ لا شك في مخالفته ومناقضته لمبدأ السلام العالمي، والأمة التي انقسمت أقطارها إلى حكوماتٍ وخضعتْ سياستها الخارجية إلى سياسة حكوماتٍ أجنبية مناوئة لا يمكن أن تستقر وستظل خطرًا يهدد السلم.

وثمة نقطة أخرى جديرة بأن تلفت نظر قادة الرأي العربي، وتلك هي أن الأجنبي الذي يتظاهر بنصرته للوحدة ويساعد بجيوشه على إنجازها إنما يعمل لمصلحته ولقاء فائدة قد تكون أشدَّ ضررًا من التجزئة، وإذا ما ساعد بحلفه على أن تخطو الأمة خطوة في سبيل الوحدة قد تعرقل مساعدته سير القضية وترجعها إلى الوراء خطوات؛ فلذلك يجب على الأمة أن تعتمد على نفسها فقط وأن تتجنب الحليف الأجنبي جهد طاقتها.

والقارئ مدركٌ — لا محالة — بأن أهم العوامل التي ساعدت على إنجاز وحدتها، هو وجود دولة بيمونيه المستقلة الإيطالية لحمًا ودمًا، ورعاية الأسرة المالكة فيها لقضية الوحدة، واقتناع رجال حكومتها بأن واجبهم يقضي عليهم بمساعدة الأقطار الإيطالية الأخرى بالسلاح والمال غير مبالين بما تجر هذه المساعي على بلدهم من أخطارٍ وأضرار، واعتقاد الزعماء الإيطاليين في جميع الأقطار المستعبدة منها والمستقلة وشبه المستقلة؛ بأن على دولة بيمونيه أن تتزعم قضية الاستقلال والوحدة.

وفي تاريخ الوحدة الإيطالية بعض مواقف تدل على أن رجال الحكم في بيمونيه قد تنصلوا أحيانًا من تحمل أعباء الزعامة، ولم يُظهروا الجرأة الكافية، فأضر عملهم هذا سير القضية الإيطالية كثيرًا، وكبد الطليان خسائرَ فادحة في الأرواح والأموال.

ومما يلفت النظر زعم خصوم الوحدة الإيطالية استحالة اتحاد أهل نابولي بأهل طوسكانه واجتماع ابن صقلية بابن بيمونيه في صعيدٍ واحد؛ لما بينهم من اختلافٍ في الميول والنزعات وتبايُن في المشارب والعادات.

ثم دلت الحوادث في إيطالية على بطلان هذه المزاعم التي كثيرًا ما يتوكأ على أمثالها خصوم الوحدة العربية؛ إذ لم تلبث إيطالية أن كونت دولة عظيمة رغم أنف المعاندين المكابرين، وطالما سمع أبناء الأقطار العربية مثل هذه المزاعم من رجال الاستعمار وأذنابهم، ولكن من حسن حظ القضية العربية أنهم لم يلتفتوا إليها.

سيرى شباب العرب — عند قراءتهم هذا الكتاب — كثيرًا من مُثُل التضحية التي أقدم عليها شباب إيطالية في أثناء كفاحهم في سبيل الاستقلال وإنجاز الوحدة، تلك المُثل العالية التي لم تذهب سُدًى، والتي لولاها لَما تمت الوحدة، وفي هذا كله حافزٌ لشبابنا على مواصلة العمل الذي سبقهم فيه الآباءُ والأجدادُ، ويجعلهم يقدرون تلك التضحية، ويودون لو يُقْدِموا على مثلها.

حقًّا لقد ضحت الأمة العربية بالكثير في سبيل استقلالها وستضحي بالكثير في سبيل وحدتها، وقد ظلت الأمة الإيطالية تجاهد نصف قرن حتى تمت وحدتها، أما الأمة العربية فقد مَرَّ على كفاحها في سبيل الاستقلال أكثرُ من ربع قرن، وقد نالتْ أجر بعض هذا الكفاح وهي ستنال أجر كفاحها القادم لا محال، فليعلمْ شبابها وكهولها أن التضحية وحدها هي التي توصل الأمة إلى إكمال استقلالها وإنجاز وحدتها.

طه الهاشمي

حاشية

كتبت هذه المقدمة قبل ست سنوات، وقد وقعت بعد ذلك حوادثُ جسامٌ في دنيا العرب، فأخذت الجامعة العربية على عاتقها قضية الدفاع عن فلسطين، وبذلت جهودها في توحيدِ مساعي الدول العربية في نَجْدَة فلسطين.

وكان من نتيجة هذا الجهد أن ساقت الدول العربية جيوشها إلى فلسطين وحاربت القوات الصهيونية وحدث ما حدث وأمره معلوم، وحلت النكبة ووقعت الكارثة في فلسطين رغم كل المساعي، وأخذ المفكرون العرب يبحثون عن أسباب هذه النكبة؛ ففريقٌ يرى أن الدول العربية استَضعفت شأن العدو، وآخر يرى أنها لم تستعد له الاستعدادَ الكافي، ومن يرى أن سبب الكارثة عدم تضامن الدول العربية وتخاذلها.

والذي لا ريب فيه أن التجزئة القائمة في دنيا العرب هي السبب المباشر لحدوث النكبة؛ لأن العدو استغل التجزئة والمستعمر استأثر بها وذوي النفوس الضعيفة احتموا بها، ولو كانت الوحدة جمعتْ بعض الأقطار العربية ولو كان الاتحاد قائمًا فعلًا بين الدول العربية؛ لَما انتهت قضية فلسطين على هذه الصورة المُحزنة.

لهذا لا سبيل إلى أن يزيل العرب عنهم وصمة هذا العار ويقضوا على الدولة اليهودية؛ إلا إذا اتحدت أقطارُهُم وأَلَّفُوا منها الدولة العربية الكبرى، على غرار ما تم في إيطالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤