الفصل الحادي عشر

القوانين الأساسية

١٨٤٧-١٨٤٨

كانت أوائل سنة ١٩٤٨ تتمخض عن تغيرات في جميع أوروبا فالاضطرابات التي وقعت في هنغارية وبوهيمية في سبيل الحصول على الحكم الذاتي، والنزاع بين الهنغاريين والخرواتيين كان ينذر بانحلال الإمبراطورية النمسوية، أما انعقاد الديت البروسي ونقاشه الحكومة نقاشًا عنيفًا ثم حله أمورًا ساقت جميع ألمانية إلى حركةٍ دستورية عظيمة الشأن، وأضعفت الحوادث في فرنسة شأن لويس فيليب ورئيس حكومته «جيزو» وشجعت الأحرار الاشتراكيين على العمل والاندفاع، وظاهرت إنجلترة نجاح الاتحاد التجاري ضد تشريع الحبوب الذي عَدَّهُ الأحرارُ في أنحاء أوروبا مثالًا حسنًا.

وفي إيطاليا عقدت النمسة معاهدات مع دوقيات وادي بو مِنْ شأنه أنْ يجعلها دولة تابعة لها بكل معنى الكلمة، وكانت بيمونته وطوسكانه وروما من ناحية أخرى قد سلكت سياسة حذر تجاه النمسة، وساد الاعتقادُ بألا فائدة من الإصلاحات ما لم يخرج النمسويون من لمبارديه وفنيسيه، وكان في نابولي نفسها قد انضم أحرارها إلى صفوف أحرار إيطالية، وكونت الحوادث اعتقادًا في البلاد بأن النمسة سوف تقهر وأن النمسويين سوف يُطردون إما بمساعدة دولة أجنبية وإما بانتصار جيوش الأحرار في إيطالية، أو بثورةٍ عامة.

ولم تعتمد إيطالية على المساعدة الأجنبية في ذلك الوقت إلا قليلًا، وقد أخبر لويس فيليب شارل ألبرت بإشارة مترنيخ بأنه يجب ألا يعتمد على مساعدة فرنسة، وكانت إنجلترة تعطف كثيرًا على إيطالية إلا أن رئيس حكومتها بالمرستون كان يُلوِّح لها بوعودٍ غامضة يبغي من ورائها أن تمتنع بيمونتيه عن الحرب.

وقد اتفق حزب إيطالية الفتاة مع رجال الحكومة في بيمونتية على أمرٍ واحد وهو الكف عن طلب المعونة من الخارج، وعَبَّرَ شارل ألبرت عن شعور الأمة بقوله: «إيطالية تكوِّن نفسها.» وظن الطليان أن الأمراء والملوك في إيطالية ما عدا أمير مودينه وبارمه سيضمون جيوشهم إلى جيش بيمونتيه في الحرب، ولكن هذا الظن تفاؤل لا يُسَوِّغه الواقع.

وصرح البابا في الوقت نفسه بأنه لا يرغب في الحرب مهما كانت الظروف، أما فرديناند ملك نابولي فكان كثير الحسد لبيمونته ومحبذًا للاستبداد النمسوي مما يحمل على القول بأنه لن يشترك بالحرب برضائه، وكان أمير طوسكانه وحده مستعدًّا للوقوف بجانب ملك بيمونته.

واتجهت الأنظار في لمبارديه لأنها ستصبح ميدانًا للقتال، وكان اللمبارديون أنفسهم في حالةٍ شبه ثورة يترقبون نشوب المعركة بفارغ الصبر، فالطبقة المثقفة تخلصت منذ مدة شيئًا فشيئًا من العوامل التي كانت تُبعدها عن السياسة، فأسس بعضُ الأشراف الأحداث مجلة اسمها «مجلة أوروبا» اجترأت أن تبحث عن أخوة الطليان وتفاهة الاضطهاد للقضاء على فكرة الحرية.

وهناك زمرةٌٌ أُخرى أكثر شعبية وأقوى عزيمة التفت حول «كرينتي ودي كتانيو» محرر بوليتيكو، وكان كرينتي قد انتقد معاملة الحكومة للإيالات الإيطالية وأثبت فداحة الحصة التي يشترك بها مواطنوه في ضرائب الدولة، وهناك جماعةٌ من الحقوقيين والدكاترة الشبان قبلت برنامج مازيني القومي.

وهكذا وُجد أناسٌ يحملون المشاعل في الدجى الحالك؛ ينيرون أذهان مواطنيهم بنشراتهم وبمؤلفاتهم الحرة وبكتاباتهم على الجدران، وبدعايتهم الصامتة في صفوف العمال والقرويين.

وكان لبيمونته تأثير عظيم في تدعيم الوطنية اللمباردية، وكان القسم الأعظم من أشراف ميلانو يملكون أملاكًا في بيمونتية فكانوا يقضون أوقاتهم بين ميلانو وتورينو، ولما نشبت معركة التعريفة الجمركية سنة ١٨٤٦ فاتح الأشراف ملك بيمونته بأمورٍ استرعت اهتمامه، وكان توريلي قد بحث عن مملكة إيطالية الشمالية وحاول جَذْب الملك إلى هذه الغنيمة الشهية، وفي صيف سنة ١٨٤٧ هزت الحوادث التي وقعت في دويلات البابا لمبارديه وفنيسيه هزًّا عنيفًا.

وكان لموقف البابا بيوس في حادثة احتلال فراره والهتاف بالاستقلال صدًى في الإيالات النمسوية المضطهَدة، وأخيرًا بدأ القرويون يتململون في الأرياف، واتفق الأشرافُ الراديكاليون في المدن، وجهر الرُّهبان بخلافهم لوجهات نظر الحكومة، وقامت المجالس البلدية تُحاسب الموظفين، وازدرى القرويون في الجبال بقانون الغايات، واضطربت الأُسَرات الشريفة والغنية ضد النمسويين، حتى إن أحد الأمراء النمسويين لم يستطع أن يراقص سيدة طليانية في حفلة الرقص.

ولما مات رئيس أساقفة ميلانو اضطرت الحكومة إلى انتخاب إيطاليٍّ خلفًا له؛ عَلَّهَا تجلب رضاء الشعب، وقد أَدَّى هذا الانتخاب إلى مظاهراتٍ صاخبة، أظهر الشعب تعلقه بالمطران الإيطالي فقاومت الشرطة بسلاحها الجمهور المسالم الجذل، وأخذت الدوريات تتجول في الطرقات، تعتدي على الأهلين وتزيد من سخطهم، فألهب هذا الحادث قلوبَ العامة في المدينة وأَدَّى إلى انضمامها إلى الجماعات الصاخبة حتى إن القضاة أنفسهم لم يروا بُدًّا من إخلاء سبيل الموقوفين في هذا الحادث.

ولما تأكدت الحكومة النمسوية من أنها أمام حركة خطيرة أراد مترنيخ أن يلهي أفكار أهل ميلانو بالسماح لهم ببيان ما يريدون وكان «المجمع Cougragtion» هو المؤسسة الوحيدة في لمبارديه التي تمثل الإيالات، وهو بمثابة مجلس استشاري، فقدم «نزاري» مندوب برعامة استدعاء إلى المجمع يطلب فيه تعيين لجنة تحقيق لمعرفة أسباب الاستياء وتقديم مذكرة إلى الإمبراطور، أما «توماسيو» مندوب فنيسيه فطالب بحرية الصحافة، أما «مانين» فسبق اللمبارديين وطالب بالحكم الذاتي وذلك بالتمثيل القومي الحق، وهكذا لم تَتَعَدَّ الحركةُ حدود القانون.

وبقيت الحكومة مترددة، بينما كانت الشرطة والجيش يغليان غضبًا ويستعدان لصب الزيت في النار، وكان قائد الجيش الجنرال «راديتسكي» نموذجًا للظالم المستبد في الجيش النمسوي، وكان يجهر بأن «سفك دماء ثلاثة أيام يوصلنا إلى سلم يمتد ثلاثين سنة.» ولكن نائب الملِك وحاكم ميلانو كانا يميلان إلى تدابيرَ أكثر هوادة من تدابيره، وكان راديتسكي يدعو الله أن يهيئ له الميلانيون الفرصة بتصرفهم ليطلب المدد من المركز ويحكم بالقوة الساحقة.

وأخيرًا هيأ له الميلانيون تلك الفرصة؛ ذلك أنهم فكروا في الإضراب عن استعمال التبغ إضرارًا بالخزينة النمسوية، ولا سيما لأن التضحية به من جانب الطليان ممكنةٌ، وأصبحت الشوارع في ميلانو في أوائل شباط خالية من المدخنين، وعَرَفَ الجيش كيف يستغل هذا الإضراب فوزع مقاديرَ كبيرة من السجاير على الحامية، وأخذ الضباط والجنود ينفخون الدخان في وجوه المارة، وحين غضب الأهلون من هذا التحدي أمر راديتسكي خَيَّالته بمهاجمتهم وهم عزل، وأعمل الجنود حرابهم في العمال الراجعين إلى بيوتهم فقتل عدة أشخاص وجرح أكثر من خمسين شخصًا.

ولم تقف ميلانو ساكتة إزاء هذه الإهانة، فاحتج الأشراف والموظفون على هذا العمل الشائن، ودعا المطران من الكتدرائية الباري تعالى أن يلهم الحكومة الرأفة بالبشر فأصدر الإمبراطور بلاغًا يتهدد فيه الناس بالعقوبة الصارمة، وقضى بهذا على كل أمل في إزالة الاختلاف بين الحكومة والأهلين وأصبح الشعب والجيش على طرفي نقيض.

وقد ولَّدت فتنة التبغ حقدًا عامًّا في كل أنحاء إيطالية، وكانت الحركة القومية والحركة الإصلاحية قد ارتبطتا برباطٍ واحد ارتباطًا محكمًا حتى أصبحت الواحدة تؤثر في الأخرى فتتحمس الواحدة لنجاح الأخرى أو لفشلها، إلى أن حصر الإصلاحيون مطالبَهم بالتعديلات الإدارية، وكان المعتدلون قد اتخذوا مبدأ العمل بمبدأ الأمراء شعارًا لهم.

وحتى احتلال «فراره» كان الأمل ضعيفًا جدًّا في الحصول على القانون الأساسي من بيوس أو لئوبولد أو شارل ألبرت، وكان الأحرار قد وَحَّدُوا جهودهم في ثلاث موادَّ، هي: حرية الصحافة، وإيجاد الحرس المدني، وإقامة مجلس للدولة، وقد حصلوا عليها في طوسكانه ودويلات الكنيسة، وكانت الظواهرُ تدل على أن البلاد رضيتْ بما تم، وأخذت الحربُ ضد النمسة تشغل بال أنصار مازيني في ذلك الوقت أكثر مما تشغله فكرةُ الحكومة الشعبية.

ويتضح من ذلك أن جميع الأحزاب لم تفكر في الدستور، وأن الاشتراكية النظرية لم تكن قد انبثقت إلا قليلًا بينما كان الاستياء الاقتصادي عظيمًا، وحدث أن جاء الشتاء قاسيًا جدًّا فقضى على كثيرٍ من أشجار الزيتون، وأدت حرية التجارة في إنجلترة وأيرلندة إلى جَرِّ الحبوب إلى أسواقهم، فارتفعتْ بذلك أسعارُ الحبوب في إيطالية وبلغ الضيق في جنوة أشده.

وكان العُمَّال يحملون حقدًا دفينًا على أسيادهم، وفي فلورنسة ثار الصناع ضد أسلوب تأدية الأجر بالسلعة، وأَدَّى فقدانُ الخبز إلى كثرة الفتن واشتدادها، أما في طوسكانه فالأزمة أصابتْ صغار المزارعين والعمال، فأخذ المحرضون — من أي حزبٍ كان — يستغلونهم، وفي الروماني نهب الناس المخابز على مرأًى من الشرطة، وكان الناس يعدون هذه الفتن من عمل العملاء النمسويين أو رجال السانفيديست، واتخذت الأُمُور في ليفورنة شكلًا جديًّا، وكان أهلها الأشداء قد تعلموا من «جرازاني» حُبَّ الدمقراطية فامتدت دعاياتُ التحريض والإثارة طول الخريف، واستولى الشعب بعد يومين من فتنة التبغ على المدينة ودعى جرازاني لقيادة الحركة، فاستلم زمامها وأصبح الدكتاتور، بَيْدَ أن الحركة لم تلق إلا عطفًا قليلًا في القسم الباقي من طوسكانه، ولما رأى الناسُ ضعف الحكومة أخذوا يلحون عليها بتأسيس حكومةٍ دستورية، وأصبح مؤكَّدًا بأن الدستور وحده هو الذي يُقلِّل من عجز القوة الإجرائية.

وساد الاقتناعُ نفسه في بيمونته؛ حيث كان المحافظون والإصلاحيون المفرطون على طرفي نقيض، وكانت الجمعية الزراعية في خلال السنتين الأخيرتين قد انشقت على نفسها بالنزاع بين الأشراف الأحرار بزعامة «كاميل كافور» والفرع الدموقراطي بزعامة سكرتير الجمعية «فاليريو» وامتد هذا النزاع إلى الشعب أيضًا فسعى دازجيلو وفانتي مدبر مظاهرة ريميني إلى إزالة الاختلاف، وبدا للجميع أن الدستور وحده هو الذي يستطيع أن يطمن رغبات البلاد فرفع بالبو بنفسه مذكرة إلى الملك يرجوه فيها أن ينظر بعين الاعتبار إلى هذه الرغبة، إلا أن الاندفاع الحقيقي ظهر من قِبَل رجل كان الديموقراطيون يعدونه من المعتدلين المكروهين بل وأدعاهم إلى الريبة وهو كاميل كافور.

كان كافور ابن وزير من أشد وزراء الملك شارل ألبرت رجعية، وكان عمره حينئذٍ سبعًا وثلاثين سنة، وكان في شبابه من الراديكاليين إلا أنه أخذ يميل إلى الاعتدال حتى أصبح من أنصار طريقة العقار الإنجليزي والارتباط المتقابل بين الطبقات، إلا أنه كان من الوطنيين الذين يكرهون اضطهاد النمسة والبابا ويحنق على الاستبداد الداخلي الذي عرقل التجارة وعد كل قريحة كفرًا أو خيانة وطنية.

وقد ساح كثيرًا في إنجلترة وفي فرنسة ورجع إلى بلاده يحمل حقدًا على الإكليريكية وإيمانًا قويًّا بالتجارة الحرة وبالحرية الاقتصادية وبالنشاط السياسي السليم، ورغم أنه كان أرستقراطيًّا بالولادة وبالبيئة التي نشأ فيها وبكثيرٍ من العادات؛ فقد أظهر بأطواره وبلباسه كُرْهَهُ للمظاهر الأرستقراطية كزينة الرتب اعتقادًا منه أن الأرستقراطية مائلةٌ للزوال في المجتمع الحديث.

وبالجملة فإنه كان نبيلًا، جَسورًا مثقَّفًا طويلَ الأناة، لا ينفعل بسرعة حتى قال عنه «كويدن» إنه أقدر رجل عرفه، متحليًا بعقلٍ سليم، ومن البديهي أن ينضم إلى الحركة القومية المعتدلة، وكان كافور لا يثق بالبابا المصلح، وسرعان ما آمن بعقيدة بالبو التي تقول بزعامة بيمونته.

ومع أنه خاصم الدمقراطيين في الجمعية الزراعية فإن أنظاره كانت تمتد إلى أبعدَ من نطاق مدرسة المعتدلين الضيقة؛ فسعى جاهدًا إلى تأسيس حزب جديد، يفتح أبوابه لكل مَن يحارب في سبيل الاستقلال القومي تحت راية آل صافويه، وكان يعلم — بثاقب فكره — أن الدستور ضروريٌّ جدًّا؛ لتأمين حكومة صالحة تُفسح المجال للطموح الظاهر كطموحه.

وسرعان ما حانت الفرصة المناسبة، عقيب عودة الملك من جنوة، أدى جزع الناس إلى هياجٍ جديد فاشتدت النقمة على اليسوعيين مما جعل المجلس البلدي يلتمس من الحكومة الموافقة على تأسيس حرس مدني لصيانة الأمن، وقد عزز هذا الطلب بالتماسٍ آخرَ موقَّع بتواقيعَ كثيرة، واجتمع محررو الصحف الكبيرة في تورينو ﺑ «كافور وفاليريو وجياكومو دوراندو وبروفيريو» للبحث في أفضل الطرق لتأييد هذا الطلب، واقترح كافور على المجتمعين المطالبة بالدستور، ومع أن الأعضاء لم يتفقوا على هذا الاقتراح، إلا أن قرار الاجتماع أوضحَ القضيةَ، وبدا أنه في أول فرصة مناسبة سمع صرخة مدوية في سبيل الدستور.

ودلت الأحوالُ على أن أول مطالبة قوية مؤثرة قد حصلت في الجنوب، فنابولي كانت من الوجهة النظرية تملك الشيءَ الكثيرَ مما تُطالب به الدول الإيطالية الأخرى، ومع ذلك فلم يكن هناك أملٌ في أنْ تدخل النظريات في ساحة العمل ما لم يراقب البرلمان السلطة الإجرائية.

وكانت الأيام قد قَوَّتْ شهوة الملك للحكم المطلق وزادت في استبداده شكوكُهُ حتى إن اعتبر المعتدلين والديموقراطيين والأشراف والطبقة الوسطى والنابوليين والصقليين خصومَه على السواء.

وقد نشر أحد الحقوقيين الشبان «ستمبريني» في شهر تموز الماضي رسالةً بعنوان: احتجاج شعب الصقليين «نابولي وصقلية»، وصف فيها الاستبداد وصفًا دقيقًا قضى على الخرافة القائلة إن نابولي تتمتع بمؤسسات سياسية جيدة، وختم رسالته بالعبارة الآتية: «إن العلاج الوحيد هو السلاح.» وبما أنه قد عَبَّرَ برسالته عن الشعور العام؛ فإن دعوته إلى الثورة لقيت آذانًا صاغية.

وحيث إن اللجنة الثورية في كلبريه قد حاولت — عبثًا — أن تجلب أحرار نابولي وصقلية إلى جانبها في سبيل التحرر؛ لذلك قررت أن تعمل وحدها، وفي ١ أيلول شقت رجيو ومسينة عصا الطاعة، إلا أن الحكومة سريعًا ما قضتْ على الحركة وأعدمت حياة سبعة وأربعين رجلًا، وكان من تأثيرِ هذا العمل الظالمِ أن اشتدت المطالبة بالدستور.

وبينما كان الراديكاليون ينزعون إلى القتال للحصول على الدستور كان المعتدلون يأملون أن يوافق الملك على منح الدستور خوفًا أو طموحًا، وكانوا يرغبون في دستورٍ يقضي بوجود مجلسين، وكان الملك قد تأثر من الاجتماع الذي تم بينه وبين مَن يمثلون الأحرار ويتكلمون بلسانهم بعد أن لَوَّحَ له هؤلاء بتاج إيطالية.

وبينما كان أهلُ نابولي يترقبون مجرى الأُمُور في غير نشاطٍ قَرَّرَ أهل صقلية الحركة فوحد «كريسبي» أحد الحقوقيين الشبان حركة التآمر في الجزيرة وفي الساحل، وقد اضطرت لجنة نابولي — شاءتْ أم أبتْ — إلى الموافقة على الثورة بالاشتراك مع الصقليين في بداية السنة، فتثور مدينة باليرمو أولًا مطالبة بدستور ١٨١٢ وبالحكم الذاتي ثم تثور نابولي بعدها لأخذ الدستور نفسه معدلًا بعض التعديل.

وبينما كان الناس في باليرمو ينتظرون — بهدوء — شارة إعلان الثورة وإذ بالجمهور يتنكب السلاحَ ويهاجم الجنود صباحًا، ثم انضم القرويون إلى المهاجمين، واشتد القتال في الطرقات واستمر ثمانية أيام كانت فيها الحامية في موقفٍ حرج.

وحاولت الحكومةُ تلافي الحالة بالتساهُل على الأساس القديم؛ أي بمنح الحكم الذاتي وحرية المطبوعات والعفو العام ولكن زعماء الثورة من جميع الطبقات أجابوا بأنهم لا يرضون عن دستور ١٨١٢ بديلًا، ولما فشل قائد الحامية في مباحثات الهدنة انسحبت فجأة من الساحل، وعبر البحر إلى نابولي، وكانت المدن الأخرى قد ثارتْ أيضًا فلم يبقَ لحكومة نابولي معقلٌ في الجزيرة إلا قلعة مسينة وثلاثة حصون أخرى.

وكانت الثورة في صقلية فاتحةَ ثورات هزتْ أوروبا في ربيع سنة ١٨٤٨، وكان للجرأة التي أظهرها بضعةُ رجال في هجومهم على الحامية القومية وانتصارهم العجيب وإسقاطهم الفجائي لحكم آل بوربون؛ تأثيرٌ عميق في إيطالية وفي أوروبا، ولم يف أهل نابولي بوعدهم الذي قطعوه لباليرمو لأن «كارلوبوئيريو» أنشط رؤساء المؤامرة كان سجينًا فظل الأحرار مكتوفي الأيدي.

وثار أولًا قرويو «سيلنتو» وانتشرت الثورة في إيالة ساليرنة، ولما شاع خبر اقتراب العصاة انتشر الذعر في المدينة وتململ الأحرارُ الضعفاء وارتعد البلاط للأخبار المبالَغ فيها، فاضطرت الحكومة إلى إخلاء سبيل «برئيريو» فنشط على إثر ذلك أنصاره للعمل، وأعدوا مظاهرة كبرى لإقلاق الملك، ولما رأى فرديناند ضعف قواته استشار قُوَّادَه مساء يوم ٢٧ كانون الثاني ثم منح الدستور.

قَوَّى مَنْح الدستور في نابولي عزيمةَ الأحرار في جميع أنحاء شبه الجزيرة، وأخذوا يطالبون بمثله في كل محل، وكانت بيمونته أول مَنْ تأثر بهذا الخبر، وأشار الوزراء على الملك في ٢ شباط بمنح الدستور، فكلف الوزراء بوضع لائحة دستور وظل مترددًا بين الرفض والقبول.

وأخذ جزعُ الناس يشتد يومًا فيومًا ثم صوتت المجالس في تورينو وفي جنوة للدستور، وارتعد قسم كبير من الرجعيين من العاصفة فضموا أصواتهم إلى أصوات المطالبين به أملًا من أن ينالوا الأكثرية في مجلس الأعيان، وأشار مجلس الدولة على الملك بالموافقة لأن كل محاولة أخرى ستؤدي إلى حرب أهلية، وارتاح ضميره حين نصحه مطرانٌ وطنيٌّ، وتمت الموافقة على منحه في ٨ شباط.

وامتدت الحركةُ من بيمونته إلى طوسكانه وكانت الحكومة قد أضاعت كل قوتها في مقاومة الشعب، ولم يبق لديها إلا الحرسُ المدنيُّ الذي كان هو في مقدمة المطالبين بالإصلاحات.

وكانت الوزارة بين الأخذ والرد حتى وصلتْ أخبارُ فوز الحركة الدستورية في بيمونته فقضت على التردُّد، وأعلن الدوق الكبير الدستور في ١١ شباط.

وبعد فوز الأحرار في بيمونته وطوسكانه أصبح صعبًا أن ترفض روما الدستور، ولم يستطع البابا أن ينسى الإهانة التي لحقتْه في حادثة «فراره»، فرفض الموافقة على طلب الحكومة النمسوية بمرور القوات من ممتلكاته لسحق حركة الأحرار في نابولي، فأذعن للحركة الجديدة؛ إذ مال إلى جانب أشد المعتدلين، وحمى التعليم، ورعى خطط الإصلاحات، ومنح الامتيازات لشركات السكك الحديدية، وكان مازيني قد أرسل كتابًا مفتوحًا ألح عليه فيه بمسايرة جيله ليؤسس الوحدة الإيطالية، ولكن الأحرار كانوا ينسبون جميع الإهمال إلى الكرادلة الذين ظل البابا متمسكًا بهم، فمل الناسُ الانتظار الطويل، وفقد البابا سحره، وأخذ حبهم له يتضاءل، وأصبحت حظوته لدى الشعب تتوقف على إسراعه في تلبية طلبات الشعب الملحة المتزايدة.

وقد أصر «روسي» على إسراعه في تلبية طلبات الشعب الملحة المتزايدة، وقد أصر «روسي» على البابا بالموافقة على وزارة علمانية وإقامة مؤسسات تمثيلية مهما كان شكلها؛ وذلك لجلب المعتدلين إلى جانبه والقضاء على نفوذ المتطرفين، وسئم المعتدلون الذين يؤلفون الأكثرية في مجلس الدولة معارضةَ الحكومة لقراراتهم، وأصاب مساعيَهم في إصلاح التعليم والإدارة والجيش العقمُ حتى إنهم بعد مناقشة حادة مع البابا تركوا الميدان، وأفسحوا مجال العمل للمتطرفين وحدهم.

وقد مالت الأُمُور في بعض أنحاء الروماني إلى الفوضى ووقعت اغتيالاتٌ سياسيةٌ في بعض الأماكن؛ بحجة القضاء على السنتوريون، وأخذ مازيني على الرغم من الكتاب الذي أرسله يشجع أصحابه على الطعن في البابا، وحين أصبح المجلس مشلولَ الحركة اتفق الأحرار على تركيزِ مطاليبهم في القيام بإصلاح داخلي وتعيين وزارة علمانية تستعد للحرب، وكان القوميون المحافظون على أهبة الانضمام للمتطرفين؛ لحمل البابا على تلبية المطالب الوطنية فاضطر بعد ترددٍ طويل إلى الموافقة على تأليف وزارة أكثريتها علمانية، ولكن إرضاء البلاد بوزارة علمانية قدْ فات وقته.

وأخذت الالتماسات تتوارد من سائر أنحاء الروماني وأومبريه وروما؛ يطالب فيها المعتدلون والدمقراطيون بمؤسسة تمثيلية، وأراد البابا وحكومته المماطلة، ولكن لهيب الثورة أخذ يندلع في فرنسة، وتعاظم هياجُ الناس حتى أصبح التسويفُ يؤدي إلى نتائجٍ خطيرة، فأظهر البابا آنئذٍ ميلَه للدمقراطية، ووافق على مطالبهم، لكن الكرادلة رفضوا الدستور الذي وضعه روسي وقبلوا دستورًا من صُنع أيديهم، واتخذوا الألوان الثلاثة رايةً قومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤