الفصل الرابع والعشرون

الجمعية القومية

١٨٥٥–١٨٥٧

لا شك في أن كافور نال مبتغاه في مؤتمر باريس، فقد كسب جانب فرنسة، ومهما كان التدخُّل الذي أقدمت على القيام به فرنسة وإنجلترة للضغط على روما ونابولي طفيفًا؛ فإن ذلك من صنعه، وكان يعلم جيدًا أن جيش لويس نابليون سوف يعبر جبال الألبة عاجلًا أو آجلًا لطرد النمسويين، وكان الرأي العام قد قَدَّرَ نجاح كافور في المؤتمر، وازداد نُفوذُه حين صار دكتاتورًا في بيمونته، وغدت الأكثرية في المجلس النيابي بيده، أما مجلس الأعيان فخضع له بعد أن هدده بإحداث كَرَاسٍ جديدة فيه.

هكذا أصبح كافور في جميع أنحاء إيطالية رمز الإنقاذ العاجل وكان منهجه — والحالة هذه — لا يحمِّس النفوس لتجتمع الكلمة حوله، وحين كان المؤتمر يعقد جلساته تألف في إيطالية حزبٌ جديدٌ لتأييد سياسة كافور وتنشيطها وانتزاع القيادة المعنوية من أيدي الجمهوريين وتسليمها لحزب الأحرار الكثير العدد الذي نادى بكافور رئيسًا …

وكانت ثورة ميلانو المشئومة سنة ١٨٥٣ ضربة قاضية على نفوذ مازيني وقد قضى على سمعة جمهورية روما، أما في فرنسة فإن الانقلاب الذي قام به لويس نابليون أدى إلى تشتُّت شمل الجمهوريين، وكذلك أخذ أنصار مازيني في روما ونابولي ولمبارديه يلتحقون زرافاتٍ بالقوميين الذين ساروا وراء فكتور عمانوئيل وكافور، وكان سقوط مازيني ذا مغزًى يفوق مغزى سقوط الحزب الجمهوري؛ إذ به ينتهي الدور الذي بلغ سماكه فيما بين السنوات ١٨٤٦–١٨٤٩، وبدأ للعيان أن الحماسة التي لا تستند إلى القوة تعجز عن مقاومة حراب الجيوش الدائمة، على أن القضية لم تقترب من النجاح إلا يوم عاضدتْها قوًى فعالة، أعني: الجيش البيمونتي والسياسة البيمونتية، أما الحماسة المحرومة من الضغط والآراء السياسية المبتسرة فقد فشلت.

وكان شعارُ السياسة الجديدة الحصولُ على أكثر شيء ممكن بأقل جهدٍ وتضحية، وهكذا حلت نزعة كافور الحرة محل نظريات ميماني ومونتانللي وبروفيريو الاجتماعية، وكانت حركة مازيني وجيوبرتي قد سارت مدعمة بتقديس الكنيسة، فحمل متطوعوها الصليب فوق صدورهم وكانوا يتضرعون إلى الله لنيل مقاصدهم.

أما الجيلُ الجديدُ فأخذ يهتم كثيرًا بمخزن العتاد، وكان للأولين شعراؤهم ومؤلَّفاتهم الأدبية المهمة، وكانوا يرجعون إلى التاريخ، أما الأخيرون فصاروا يكتبون الرسالات ويوزعون النشرات ويتكلمون بلسان الصحافة التي ارتفعت منزلتها بعد سنة ١٨٤٧ فضمت المفكرين الوديعين توماسيو وباتسي ونابت النظرية العقلية Rationalism، مناب المثالية idealisme، وأخذت الروح الجديدة تهتم بالحال أكثر من اهتمامها بالمستقبل وتجنبت الإفراط في آمالها، وسلكت سبيل الحذر والتربص عازمة على ألا تجازف على الطريقة الدون كيخوتية منصرفة للاستعداد لا تنزل إلى المعركة إلا بعد أن تضمن النجاح.

وجعلت الحركة الجديدة كل اعتمادها على الضبط والنظام وأعرضتْ في سبيل المحافظة على الوحدة عن المغامرات المفاجئة والاعتداء على الخصوم وسحق الأقلية، وصرفت همها إلى إزالة كل ما يُسبب الخلاف حتى لا يقع مثل الانشقاق بين الملكيين والجمهوريين الذي شَلَّ حركة لمبارديه صيف سنة ١٨٤٨، وكذلك إزالة الشكوك التي جعلت المحافظين يكادون يغتبطون بهزيمة نوفَّاره، وقد تمشت الحركة على أن ملك بيمونته هو الزعيم الوحيد، وأن دستور بيمونته هو الأنموذج الذي يجب أن تحاكيه دساتير إيطالية وأن جيش بيمونته هو الأداة الوحيدة للخلاص.

وكان جيوبرتي إلى حدٍّ ما رئيس دعاة هذا المذهب الجديد وكما أن كتابه بمريماتو كان قد أَوْجَدَ جماعة الجلفي الجديد، فكذلك كان كتابه «البعث المدني» إنجيل جماعة الوحدة الجديدة، ولما مات جيوبرتي سنة ١٨٥٢ انتقل تراثه إلى يد رجلين ممتازين: الأول «جيور جيوباللا فنجينو» من أهل لمبارديه، وقد قضى هذا في سجن شبيلبرج زهاء ١٤ سنة وعاد إلى بيمونته من جملة اللمبارديين اللاجئين سنة ١٨٤٨، وكان من المؤمنين بالجمهورية، بَيْدَ أن اختلاطه للملكيين واتصاله الشخصي بالملك سرعان ما جعلاه من الملكيين، ومع ذلك فقد ظل راديكاليًّا متحمسًا جم النشاط واسع الطموح إلا أنه قليل الكفاية في السياسة، وكان يميل إلى حمية غاريبالدي النزيهة ولا يثق بسياسة كافور الكثيرة الحذر، وثانيهما مانين وكان قد التجأ إلى باريس بعد سقوط البندقية، واكتسب — بنزاهته وإخلاصه ونبل سيرته — احترامَ جميع اللاجئين، وكان متخلِّقًا بالصفات التي يَنْدُرُ أن يتخلق بها رجالُ الدولة.

وبينما كان كافور يُقنع الناس بالعقل والمنطق كان مانين يمس قلوبهم، وكما فعله زميله باللافجينو ترك مانين الآراء الجمهورية وأدرك أن لإيطاليا قوتين أساسيتين هما: الرأي العام والجيش البيمونتي، ولاكتساب القوة الثانية يجب تنظيمُ القوة الأولى واستخدامها في حمل فكتور عمانوئيل، على أنْ يترأس الحركة القومية، وهكذا، فإن مانين كان يتوخى تثبيت الشعور القومي الذي يشتد ميلًا نحو بيمونته، وأصبح يتتبع باهتمام تطوُّرها الدستوري وجهادها ضد البابوية، ويصفق استحسانًا لها حين احتجتْ على حجز أملاك اللمبارديين من قبل النمسة مغتبطًا بتحالفها مع الدول المعظمة على الرغم من إخفاقها في تحقيق الآمال.

وظل يعتبر أن بيمونته هي بطل إيطالية المجاهد التي قدر لها أن تحتضن سياسة الإنقاذ القومي، وكان لافارينا المؤرخ وزير صقلية السابق هو القائم بالدعاية لهذا المذهب.

وكان لافارينا رجلًا نزيهًا نشيطًا، مجتهدًا كادحًا هادئًا، يقبل على العمل بكليته، وقد ظل ثلاث سنوات يكتب بيده كل المراسلات الخاصة بالجمعية التي مثلت المذهب الجديد، وقد أسس أولئك الذين ذُكرت أسماؤهم الجمعية القومية غير متأثرين بنفوذ رجال السياسة والصحافة، وكان شعارهم: «الاستقلال والوحدة وطرد النمساويين والبابا معًا.»

وكانت هذه أول جمعية أسسها رجال غير ثوريين، فكانوا على خلاف أنصار مازيني الذين كانوا يفضلون الجمهورية على إيطالية، وعلى خلاف البيمونتيين الأقحاح الذين يضحون في إيطالية في سبيل تورينو، وقد عاهدوا أنفسهم على أن يظلوا مخلصين لآل صافويه شريطة أن يعتنق الملك سياسة الوحدة، أما إذا تردَّد فقد هددوه برفع علمٍ آخر.

وقد كتب مانين للملك يقول له: «كون إيطاليا الموحدة، فنحن رجالك، وإلا فلا.» ولما تأكدوا مِن تعلُّق الملك بقضيتهم؛ التفُّوا حوله ناشطين، فأصبح شعارهم الوحيد «الوحدة والاستقلال، فكتور عمانوئيل ملك إيطالية»، وكان الطليان يرغبون في الوحدة، ومن العدل والإنصاف أن ينالوها.

ولكن خصوم الوحدة كانوا يدعون بأن الاتحاد لا الوحدة هو الذي يقود الأمة إلى الانتعاش الاقتصادي والرقي الاجتماعي الحقيقي، وبه تزول الحواجز الجمركية وتتوحد العملة والموازين والمقاييس وهو يساعد على وضع قوانين عامة، وقد يؤدي إلى الأخذ بسياسة خارجية وعسكرية موحَّدة ويجعل العلاقات بين الدويلات أكثر نشاطًا ويكون نوعًا من الوحدة الأدبية، أما الوحدة فكانت بنظرهم عملًا يتعذر تحقيقه.

إن توحيد الدول الملكية القديمة لا يتم إلا إذا بلغ أعضاء الاتحاد من القوة ما يستطيع بها أن يملي سياسته على جميع أعضاء الاتحاد، ولو فرضنا أن بيمونته قد استولت على إيطالية الشمالية كلها فلم يكن لها من التفوق ما يكفي للتغلب على نابولي، أضف إلى ذلك مشكلة سلطة البابا الزمنية الخاصة وكونها عقبة دون الوحدة، وفضلًا عن ذلك كله للفروق الموجودة بين الشمال والجنوب محاذيرها وأثرها.

بَيْدَ أنه فات هؤلاء الاتحاديين أن تمركُز القوى بيد دولة تحكم إيطالية جميعها والنخوة الوطنية التي تجمع كافة الطليان في صعيدٍ واحد، أضفْ إلى ذلك اتساع نطاق العمل لدولةٍ عظيمة تُضاهي دول أوروبا الغربية، كل ذلك أُمورٌ لا شك في أنها تتفوق على رخاءٍ شحيحٍ في بلادٍ صغيرة.

وكان مانيين مقتنعًا بأن الجمهوريين سوف ينضمون إلى معسكره الجديد، والواقع أنهم أخذوا ينشقُّون عن مازيني ويتخلَّون عن سياستهم الخاصة ويلتحقون بمعسكر مانين أفواجًا، وظل مانين يأمل بأنه يقنع مازيني بالانضمام إليه، ولكن جُلَّ ما حصل عليه من مازيني هو وعده بأنْ يقف موقف الحياد، وأن يتجنب كُلَّ ما مِنْ شأنه أن يعرقل سير العمل للاستقلال والوحدة، على أن يترك شكل الحكومة القادمة إلى المجلس بعد أن تنال حريتها، وكان مازيني لا يثق بالملك إلا قليلًا، ومع ذلك فقد اقتنع الآن بأنه لا يطرد النمسويين إلا الجيش البيمونتي.

وقد خيل له بأن بيمونته لن تتحرك ما لم تجبرها على ذلك حركة خارجية، فإذا ما بدأت الثورة في نابولي وفي صقلية أو في كراره اضطر فيكتور عمانوئيل وجيشه إلى التدخُّل لمساعدتها.

غير أن مانين وباللافيجينو عارضا هذا الموقف الحيادي خشية أن يتخذه أنصارُ الحكم الذاتي وأنصار موارت في نابولي ودُعاة الانفصال في صقلية والقائلون بالجمهورية في جنوة ستارًا، ومعنى ذلك الانشقاق الذي حدث سنة ١٨٤٨ ونجاح حركة الاتحاد دون الوحدة، فضلًا عن أن فكتور عمانوئيل وحكومته لن يحبذا منهجًا من شأنه أن ينحيهما عن الميدان بعد انتهاء العمل.

ولكن مازيني بينما كان يميل إلى التفاهُم من جهة كان يجهر من جهةٍ أخرى بعدم ثقته بالملك وباقتناعه بأنه لا يصلح لإيطالية إلا الجمهورية، وقد اشتد الخلاف بين مانين ومازيني حتى أصبح هذا الأخير عدوًّا لدودًا للجمعية القومية، وحين فتح باب الاكتتاب لشراء مدافع للكسندرية سارع مازيني إلى فتح اكتتاب لشراء عشرة آلاف بندقية «تخصيص لأول إيالة إيطالية تثور ضد العدو المشترك.»

وشرعت الجمعية القومية بالقيام بدعاية متقنة، ولما كان الحزب البيمونتي قويًّا في شمال إيطالية؛ فإنه أخذ يوطد قدمه في الأنحاء الأخرى، وقد استطاعت الجمعيةُ أنْ تجذب إليها جميعَ الناس في لمبارديه وفنيسيه وفي الدوقيات، أما في طوسكانه فظل أنصار الحكم الذاتي من الأحرار أقوياء، ولكن نفوذهم أخذ يتضاءل أمام دعاية الجمعية القومية، ثم انحاز معظمُ أنصار مازيني إلى جانب الجمعية، وشرع الشبان من أهل طوسكانه ينخرطون في سلك جيش بيمونته وأخذ ريكاسولي يبشر بالثورة وبالوحدة.

وقد رسخت الجمعية أقدامها في الروماني وفي روما نفسها، وانحاز معظمُ أنصار مازيني إلى صفوفها، وكان نفوذ الجمعية في نابولي وكلبريه وفي لاباسيلكانة عظيمًا بفضل مساعي الحزب البيمونتي فيها وجمعية الوحدة الإيطالية.

أما في بيمونته التي كانت مطمح الآمال، فلم تتقدم الفكرة الجديدة فيها بادئ الأمر إلا قليلًا، وكانت الجمعيةُ القوميةُ قد استهدفت في منهاجها ملكية تتعدى حدود إيطالية الشمالية، ولا تريد أن تختار تورينو ولا ميلانو قاعدة للحكم، بل ترغب في أن تجعل فلورنسة أو روما عاصمة إيطالية المتحدة.

واتخذت الجرائدُ — ما عدا واحدة منها — خطة الحذر من الجمعية وأظهرتْ حكومةُ بيمونته نفسها ترددًا تجاه «المنهج العظيم الشأن» وعادت سياسة كافور، بعد أن خَفَتَ الهياج الذي أحدثه المؤتمر، كما كانت، سياسةً تقدميةً حذرةً، وظل هدفه في هذه السياسة ترقُّب الفرص؛ للظفر بمحالفة فرنسة مهما كلف الأمر وتَجنَّبَ — جهدَه — كُلَّ عمل ثوري، قانعًا بمراقبة الأُمُور وسحق الجمهوريين، واستغلال الحركة القومية لمصلحة الملكية، وحث الآخرين على السير بالحركة إلى الأمام وعدم السير وراءهم إلا في حالة نجاحهم.

وقد رفض كافور أن يتنزل عن آرائه في النقاط الجوهرية التي كان على خلاف مع البابا بشأنها، رغم رغبة الملك في المهاودة معه، واستعد لمساجلة طوسكانه وبارمه الخصومة، وكان يميل إلى إعادة العلاقات السياسية مع النمسة؛ إذ بادرت النمسة إلى طلب ذلك، بَيْدَ أنه كان يحذر كثيرًا سلوك سياسة تتعارض ومشاريع الإمبراطور نابليون، ثم اتجهت ميولُهُ نحو السير إلى الأمام بخُطًى واسعة وإقدام إذا سمحت الظروف بذلك، حتى إنه قال لفارينا في تلك السنة: «إنه يؤمن بأن إيطالية سوف تُصبح دولة موحدة عاصمتها روما.»

وقد تظاهر بميله إلى الجمعية القومية لا لأنه كان يعتبرها واسطة مكافحة للآراء الجمهورية فقط، بل لأنها احتملت تبعة السير على نهج جريء، وإذا استطاعت الجمعية القومية أن تكوِّن في إيطالية قوةً تساعد على الاستغناء عن الإمبراطور وتقود الثورة على ألا تمس العرش، فإن ذلك هو ما يرجوه وينشده وكان يترقب الحوادث ويقول: «لا فائدة من وضع الخطط فكل شيء يتوقف على الحوادث فيما إذا كنا نستطيع أن ننتهز الفرص.»

إذ ليس من مصلحة البلاد أن يُخاطر بالحكومة أو بنفسه من أجل تقاعُسه عن تقديم مساعدة للثورة في «بنتي فيجنه» في صقلية، وامتنع من تشجيع الحركة الثورية في طوسكانه وساعد على قمع الثورة في كرارة، واتخذ جميعَ التدابير لمنع التبرعات لشراء البنادق، بَيْدَ أن ذلك كله لم يمنعه من تشجيع رجال الطليعة سرًّا واستطاع بمقابلاته لفارينا في اجتماعاته الصحفية والسرية أن يدير أكثر حركات الجمعية القومية.

وقد اجتمع بغاريبالدي وقال له بأن يشجع أصحابه الآخرين، كذلك شجع حركات الانفصال في صقلية ومشروع بانيزي بإخراج سيتمبريني ورفقائه من السجن، حتى إن مازيني نفسه اعترف بأن كافور إيطاليٌّ قلبًا وقالبًا.

على أن كافور وقف في أوائل حركة الجمعية القومية موقف السياسي المتردد، ولما كان باللافيجينو خصمًا لفكرة الحلف الإفرنسي على الضد من كافور؛ فإنه كان لا يثق بكافور، وأراد أن يُسقطه من رئاسة الوزارة مؤملًا أن يخلفه مانين، بَيْدَ أن مانين استطاع بمحاكمته الهادئة أن يقنع باللافيجينو بأن كافور يسير وراء الجمعية القومية إذا استطاعت أن تهدي الرأي العام، وأن أحسن سياسة تقضي باكتساب كافور في الاستيلاء عليه وحمله على الانضمام إلى معسكر أنصار الوحدة.

على أن مانين نفسه كان لا يعتمد على كافور إلى الحد الذي يضع فيه جميعَ ثقته، فاعتزم أن يكسب جانب الملك، وكانت طبيعة الملك أكثر انبساطًا في إباحة الأسرار وأشد صفاءً، بينما كان كافور يتجنب الانفتاح، ومع أن عطف كافور على الحركة القومية كان لا يَقِلُّ حماسة عن عطف الملك ولكن هذا الأخير كان بصفته جنديًّا يمقت النمسويين كل المقت وينتظر — بفارغ الصبر — يوم المعركة والانتقام، حتى إنه قال ذات يوم لبلافيجينو: «إذا لم تُبَكِّروا بالشروع فسأبدأ أنا.»

ولم يَحُلْ وجود فيكتور عمانوئيل زعيمًا للحركة دون حاجتها بطلًا شعبيًّا، وقد استطاع باللافيجينو أن يجد هذا البطل في شخص غاريبالدي، وقد استحق غاريبالدي هذه المنزلة بفضل شجاعته الخارقة في مونته فيديئو وروما، وشمائله الكريمة النزيهة التي كَوَّنَتْ منه رجلًا دموقراطيًّا نبيلًا، أما جرأته الخارقة وتفانيه في القيادة فقد جَعَلَتَاهُ معبودَ إيطالية، وكان يكره الدسائس السياسية ويمقت ألاعيبها وكان ذا ثقافة محدودة، قاصر الرأي في المفاهيم السياسية.

ولقد كان يتحين الفرصَ فتارةً يحسن انتهازَها وتارة تفلت منه، وأحيانًا يتمسك بها في عنادٍ، على الرغم من أن الظروف قد تتطلب التخلي عنها، وكثيرًا ما كانت أساليبُهُ مؤثرة لبساطتها ونزاهتها، إلا أنها يعوزها التبصُّر واتساع الأفق، وكان يؤثر الدكتاتورية على الحكم البرلماني.

وخلاصة القول: كان غاريبالدي عبارة عن قوة جمة النشاط لكنها غير منظمة، تستطيع ببطولتها أنْ تُسَطِّرَ صحيفةً خالدةً في التاريخ، كما كان يمكن أن ينجم عنها ضررٌ بليغٌ.

وقد أُقصي غاريبالدي عن بيمونته سنة ١٨٤٩، ثم سُمح له بالعودة بعد انقضاء أربع سنوات على نفيه فأقام في كاربيره، تلك الجزيرة الصحرية الصغيرة القريبةُ من ساردينه، وعاش فيها عيشة مزارع، تلك هي الحياة التي كان يتعشقها وكان وقتئذٍ لا يزال جمهوري النزعة، يمقت النمسويين والبابا مقتًا شديدًا.

ولكن جميع الظروف ومقتضيات الأحوال كانت تعمل على استجلابه إلى حظيرة الحزب الجديد، وقد انتهى الأمرُ أخيرًا كأكثر الجمهوريين إلى وضع ثقته في فيكتور عمانوئيل وفي كافور إلى حدٍّ ما، وكان على استعدادٍ لمحاربة النمسة مع أي حليف كان حتى مع الشيطان نفسه إذا كان الشيطان خصمًا للنمسويين، وانضم بناء على إلحاح رجال لافارينا إلى الجمعية القومية في صيف سنة ١٨٥٦.

وبينما كانت الجمعية القومية تعد العدد وترسم الخطط التي تضمن المستقبل كان أهل الجنوب يتشوقون إلى ظفرٍ عاجل، وكانت إنجلترة لا تريد أن تقوم بأي عملٍ يساعد إيطالية الشمالية، بَيْدَ أنها كانت في الوقت ذاته ملتزمة أدبيًّا مثل فرنسة بالضغط على روما ونابولي، وكاد الإمبراطور يسحب جنوده من روما ويجبر النمسة بالقوة إذا اقتضى الحال على إخلاء الروماني لولا خضوعه في أغلب الأحيان لنفوذ الإمبراطورة والإكليريكيين.

وطالما كان ينصب نفسه مدافعًا حارًّا عن الإصلاحات، أما الوزير المفوض البريطاني «كلارندن» فكان طليقَ اليد لا يهاب من ناحيته الإكليريكيين؛ فلذلك نراه يستعمل كلماتٍ قاسيةً في وصف الاستبداد، إلا أن أنتونللي أجابه بحذق بأن الشغب الذي ولده مؤتمر باريس حَالَ دون أَيِّ تساهُل مع الأحرار وتوقع بأن يعتصم ضد اتهامات الإمبراطور برسالة التبرئة التي أرسلها السفيرُ الإفرنسي إلى الإمبراطور، ولعل أنتونللي كتبها بنفسه، أما الإمبراطور فلم يقتنع بتلك الرسالة بل استدعى سفيره وخاطب البابا بكلامٍ قاسٍ حتى أظهر أنه سيطالب بمنح الروماني والمارك حكمًا ذاتيًّا مما اضطر أنتونللي إلى أنْ يتظاهر بعزمه على التساهُل فطبعت لائحة قانون منقح للعقوبات إلا أنها لم تُنشر أبدًا، وبت في مصير انسحاب الحاميات النمسوية من بولونيه وإنكونه.

وشرع البابا في جولة في أنحاء الروماني، وقد تلقى الأوامر بتنظيم مظاهرات الإخلاص إلا أن الأحرار — بالاشتراك مع كافور والسفير البريطاني في تورينو هدسن — قاموا بتدابيرٍ معاكسة، وتقدمت المجالس البلدية بطلبات الإصلاحات، ولما منعت الحكومة المجالس من عقد الاجتماعات الرسمية قدمت هذه مذكرات غير رسمية، واستقبل الناس البابا بفتور، أما في بيروزه فاستقبلوه بصرخات «الخبز والدستور».

وحين بدأ البابا يميل أخيرًا إلى تلبية طلب الأهلين؛ اعترف بمرارةٍ بأنه ليس لديه الجرأة الكافية بالإصلاحات، وبذلك حكم على نفسه بالعجز وقضى على آخر ما يُمكن أن يُعقد عليه من الآمال، وقد اشترك أهلُ روما أنفسهم أيضًا بالطلبات ولكن حكومتَي باريس ولندن ارتأتا أن تَصْرِفا النظر في الوقت الحاضر عن اتخاذ تدابيرَ جدية.

وكانت الأمورُ في نابولي أسوأَ مما هي عليه في روما، وقد ألح والويسكي وكلارندن كثيرًا على فرديناند أن يمنح العفو وأن يُصلح الحكومة، وكانا يقولان له بأن لهما الحق في التدخُّل لأن وضع المملكة يُنذر بالثورة ويدعو لها ويهدد السلمَ في أوروبا، ولكن فرديناند رفض إجراء أي إصلاح بتعنتٍ شديد، وكان المسجونون السياسيون على الرغم من الصرخات الاستنكارية التي تصاعدتْ مِنْ أنحاء أوروبا المتمدنة يعاملون دائمًا في وحشةٍ زائدة، وقد حبط المشروع الذي رتبه هدسن وبانيزي لإخراج المسجونين من السجن.

وقد تظاهر فرديناند في حرب القريم بخصومته للحلفاء ورفض مساعدتهم على شراء الكبريت من صقلية، ولما قابله ممثلا الدولتين لمباحثته في هذه الشئون أجابهما بخشونةٍ أنه كان يوشك أن يمنح العفو ولكنه عدل عن ذلك مُؤْثرًا أن يظل أمرُ هذا العفو مطلقًا على أن ينفذه بالإكراه، وقال لهما: «إن دولته مستقلة ولا يوافق أن يمنح أي امتياز إلى حكوماتٍ تحمي الثوار.» وأخذ يستعد للحرب أملًا أن تساعده النمسة وروسية، ولما نصحته النمسة نفسها بأن يتساهل خفف من غلوائه وارتأى الاقتصار على نفي المسجونين السياسيين إلى جمهورية الأرجنتين، ومع أن الحليفتين كانتا قد استدعتا سفيريهما في تشرين الأول ١٨٥٦ فإنهما لم يخجلا بعد ذلك من قبول هذا الحل المخزي؛ خشية إغضاب النمسة وروسية، وأن يؤدي ذلك إلى إعلان الحرب، والأغربُ من ذلك أن فرديناند عاد فصرف النظر عن النفي فلم يتجاوز عمل الحليفتين قطع العلاقات.

وكان لوسيان مورات ابن ملك نابولي السابق يواكيم مورات يقيم في ذلك الوقت في باريس، وقد أوصى إليه ابن عمه الإمبراطور بأنَّ له بعض الحق في المطالبة بعرش نابولي، واتخذه أداة خاضعة بيده، ووضع سالسيتي وزير فرديناند السابق بتحريضٍ من مورات رسالة يدعو فيها إلى تأييد مورات في حقه بالجلوس على العرش فيما إذا رشح نفسه له، وكانت الرسالة عبارة عن نداء لبق وجهه للأحرار يدعو إلى تقسيم إيطالية بين بيمونته ونابولي والتعاون على طرد النمسويين والأمراء وترك روما ولاكورماكا للبابا.

وقد لعبت هذه الدعوة شطرًا وافرًا من النجاح، وكانت البلاد بأجمعها — باستثناء جمعية لازاروني — تطالب بخلع فرديناند، وكان أنصارُ الوحدة في مملكة نابولي ضعفاء، وقد أحبط كافور مساعيَ جميع أنصار الانضمام إلى نابولي، ولما كان الأحرار ضعفاءَ فإنهم لم يستطيعوا القيام بأي عملٍ جِدِّيٍّ، فلَاحَ للناس أن في تنصيب مورات بدلًا من فرديناند ما يبشر بخلاصٍ عاجل.

وكانت إنجلترة وفرنسة تتشوقان لطرد آل بوربون إلا أنهما لا ترغبان في تحبيذ أي حركة ترمي إلى الوحدة، وقد استطاع مورات أن يكسب تأييد الكثير من الأشراف واللاجئين من حزب الاعتدال في باريس وتورينو، ولا سيما بعد أن لوحت له فرنسة بمساعدتها الأدبية وكان له أنصارُهُ الأقوياء في نابولي، وفي نفس صقلية كان له بعض الأنصار.

كاد كافور نفسه أيضًا ينجرف بهذا التيار، لولا أنه خشي أن يُثير المشروعُ حسد إنجلترة، بَيْدَ أنه لما تأكد من أن الإمبراطور يعاضد مورات لم يجرؤ على أن يَظهر بمظهر المعارض له، ولاح له أخيرًا بأن المشروع قد ينقذ نابولي من حالتها البائسة، وقد يؤدي إلى التحالُف مع مورات ضد النمسة، وقد يساعد نفوذُ إنجلترة على إلحاق صقلية إلى بيمونته، فإذا ما ارتقى مورات عرشَ نابولي أصبح من الصعب — بل من المستحيل — خَلْعُهُ، أضف إلى ذلك أنه في حالة انضمام صقلية إلى بيمونته سيقف مورات موقف الخصم من بيمونته فتعاضده في ذلك جميعُ العناصر التي تكره الوحدة في شمالي إيطالية فضلًا عن مساعدة فرنسة له.

وإذا ما تولت حكومةٌ حرة زمام الأمور في عهد مورات؛ فإنها تستطيع أن تستميل إلى طرفها جماعات الشعب المعارضة؛ لذلك اعترض مانين على هذا المشروع وصَرَّحَ بأنه إذا ارتقى مورات العرش سوف يصبح خصمًا لفكتور عمانوئيل بتأثير الظروف، ويكون بهذا حليفًا للنمسا بالسر والعلانية، واحتج البارزون من اللاجئين على المشروع، أما المسجونون السياسيون فصَرَّحُوا بأنهم يُفضِّلُون الموتَ في السجن على أنْ يُصافحوا ذلك الأجنبي الأفاق.

أما مازيني فدَبَّرَ ثورة تبدأ من نابولي وصقلية وتمتد في جميع أنحاء الجزيرة وتجرف بتيارها فرديناند والبابا والنمسويين معًا، فقد أصبح الحزبُ الانفصالي في صقلية في خبر كان، وسارت السياسة التي ترمي إلى صب الشعب في بوتقةٍ إيطالية واحدة، وكانت صقلية في نظر الثوار «جزيرة البدء بالعمل ونقطة الشروع نحو الوحدة الإيطالية وكان نيكولا فابريزي تلميذ مازيني الشجاع أخذ يسعى في مالطة ناشطًا منذ خمس سنوات لتنظيم عناصر الاستياء والاشتياق للعمل.

وقد تباحث مازيني وغاريبالدي في إعداد خطة لإرسال قوة لإثارة الجزيرة، ولكن غاريبالدي لم يوافق على الذهاب ما لم يعد كافور بالمساعدة، واستطاع لافارينا تنظيم حزب أنصار بيمونته في الجزيرة، وأكد بالمرستون بأنه يوافق على إنزال القوة الإنجليزية الإيطالية إلى صقلية حين عودتها من القريم، وفي نهاية سنة ١٨٥٦ رفع البارون الفتى بنتي فيجنة العلم المثلث الألوان في الجزيرة قرب ترميني؛ آملًا أن تنجده إنجلترة وفرنسة، ولكن لم يُلَبِّ النداء من أهل صقلية إلا قليلٌ منهم، وقد طارده رجال الحكومة وأُعدم رميًا بالرصاص.

وثمة هيئة عُرفت (بلجنة النظام) لجماعة الأحرار كانت تعمل في الجزيرة، لها دُعاتُها وصحافتها السرية، ولكن الجميع كانوا يعتقدون أن الثورة في العاصمة باليرمو غير مضمونة النجاح، وكان أحرار لاباساليكانة ونابولي منظمين تنظيمًا جيدًا، وقد اتخذوا للثورة الأُهْبَة وأعدوا مئاتٍ من الرجال المسلحين.

ومما يلفت النظر أن أنصار مازيني وأنصار بيمونته كانوا يعملون متفقين، واشتدَّ صخبُ الناس على آل بوربون حتى إن أحد الجنود من كلبريه حاول اغتيال الملك حين استعراضه الجنود في ٨ كانون الأول ١٨٥٦، واستطاع الملك فرديناند بهدوئه أن يحول دون تبادُل الجنود السويسريين والطليان إطلاقَ النيران من بنادقهم، وحدثت بعد ذلك انفجاراتٌ دمرت مخزن بارود بالقرب من البلاد وسفينة حربية كانت راسية في الميناء، وكان أخو الملك وعمُّه متصلين بالأحرار.

وكان مازيني رغب في تدبير حركةٍ ثوريةٍ في جنوة وليفورنه، غير أنه قرر أخيرًا أن يضل الحركة بمؤامرة دبرها أحرار نابولي ولاباسيلكانة وبعض اللاجئين النابوليين والصقليين في جنوة، وحاول كارلوببساكانة أحد دوقات نابولي مع آخرين الاستيلاءَ على الباخرة كاجلياري — وكانت تمخرُ بين جنوى وساردينية — والسفر بها إلى بونزي بالقرب من جايته؛ لإخراج المسجونين من السجن وإنزالهم إلى سابري ليلتحقوا بثوار باسيلكانة، ويعقب ذلك الزحف على نابولي، وأُنيطت بالدموقراطيين في جنوة وقتئذٍ مهمة الاستيلاء على المدينة وحصونها وإرسال المدد، ومع أن المتآمرين أنكروا أي محاولة لقلب حكومة جنوة وزعموا أنهم لا يريدون سوى الحصول على السلاح والرجال مددًا للحركة؛ فإن مازيني كان يعتبرها ثورة جمهورية مما حدا بعقلاء الدموقراطيين كغاريبالدي وبرتاني إلى الإعراض عن مظاهرتها.

لقد استولى بيساكانة على الباخرة كاجلياري في ٢٥ حزيران ١٨٨٧ وفق برنامجه، إلا أنه بإنزاله أربعمائة سجين من المحكوم عليهم إلى سابري؛ قد أضر بسمعة الحركة، فضلًا عن أن أهل باسيلكانة — بسبب إهماله — لم يكونوا على أُهْبَةٍ للحركة حتى إن القرويين قاوموا رجاله، وأخيرًا — وبعد عراك — تَغَلَّبَ القرويون والملشيا على عصابة الصغيرة، ومات بيساكانة ونصف رجاله، أما النصف الباقي فوقع في مخالب قضاة فرديناند وانتهت الحركة في جنوة وليفورنة دون أن تجدي، وبعد أن سببت خسائر على غير فائدة.

وقد عاملت حكومة بيمونته المتآمرين المقبوض عليهم معاملةً قاسية، لا تقلُّ في قسوتها عن معاملة فرديناند للثائرين، وجاءتْ حركة باسيلكانه هذه آخر ضربة طعنتْ نفوذ مازيني، وعاد أخلصُ رجاله لا يثقون بزعامة رجل كان الفشلُ نصيبَه في جميع الحركات، فضلًا عن أن تلك الحادثة قد قضتْ على مشروع مورات أيضًا، وطبعت حركة الوحدة في الجنوب بطابعٍ جديد.

وكان من نتيجة الحركة المذكورة أن اشتد التوترُ بين نابولي وبيمونته، واستولى أُسطول نابولي على الباخرة كاجلياري بعرض البحر، وألقى ببحارتها وبينهم ميكانيكيان إنجليزيان في السجن النابولي، وطلب سفير ملك تورينو الباخرة، وطلبت الحكومة الإنجليزية إخلاءَ سبيل الرعايا البريطانيين، ولكن فرديناند رفض أن يسلم الباخرة وبحارتها.

وأخذت الحادثةُ تهدد بنشوب الحرب، فتدخلت وزارة دربي البريطانية في الأمر وبإطلاق فرديناند سبيلَ الإنجليزيين تخلتْ الحكومةُ البريطانية عن التدخُّل في الأمر، فحنق الرأي العام في إنجلترة على حكومته؛ لخضوعها المزري وأَكره الحكومةَ على طلب الغرامة والعمل مع حكومة تورينو في الموضوع، فخشي فرديناند سوءَ العاقبة وأخلى سبيل الباخرة وقَدَّمَ تضمينات للميكانيكيين، فأضافتْ هذه الحادثةُ إكليلًا جديدًا من النصر إلى سياسة كافور.

وبلغتْ سلطةُ كافور في بيمونته المرتبة التي لا تُعْلَى، وقد تمتعت بيمونته في العهد الذي تولى فيه كافور رئاسة الوزارة على الرغم من العجز السنوي الذي أصاب الميزانية والزيادة الخطيرة المطردة في القرض القومي؛ رخاء لا مثيل له، فنمت الزراعةُ وراجتْ التجارة وعمت السكك الحديدية.

وفي عهده توفق «لانزه» وزير المعارف إلى رَفْع مستوى المدارس الأولية والثانوية، وأوجب القانون الذي صدر سنة ١٨٤٨ ففتح مدرسة أولية في كل ناحية، فبلغ عددُ المسجلين في المدارس عشرة بالمائة من مجموع الأهالي رغم النقص البارز في المعلمين الأكفاء، وترك قانون لانزه المدارس الخصوصية إلا أنه أقر لوزارة المعارف بسلطاتٍ محدودة لمراقبة تلك المدارس، وفرض المعلمين اختيار الامتحان وفتح دور المعلمين وحدد الحد الأدنى لأجور المعلمين، واقترح تأسيس مدارس للصناعة.

بَيْدَ أن لانزه جَابَهَ معارضةً شديدة، فالإكلريكيون عارضوا في فرض رقابة على المدارس الخصوصية، ومع أن كافور وكثيرًا من الأحرار كانوا يقولون بقول رِجال الدين في ضرورة إطلاق حرية التعليم إلا أن رجالًا كثيرين آخرين كانوا يقولون بضرورة رقابة الدولة على التعليم، وكانوا يحذرون امتداد نُفُوذ الإكليروس عن طريق إطلاق حرية التعليم، ضاربين المثل بما كان يتمتع به الإكليريكيون في فرنسة وبلجيكة من نفوذ باسم حرية التعليم، واضطر كافور أن يضحي برأيه الشخصي ثم أقر المجلس القانون.

وكان تأثيرُهُ في المدارس الثانوية مباغتًا؛ ففي خلال سنوات بلغ عددُ التلاميذ فيها أربعةَ أضعاف ما كان قبل القانون، وأقر مجلس الأمة مشروعَ لامارمورا الذي يقضي بإقامة شبكة حصون بين ألكسندرية وكاساله وفالانسه لإعاقة تقدُّم النمسويين في حالة نشوب الحرب ريثما ترد النجدات الإفرنسية، وقد دشن اللمبارديون من وراء نهر نستينا زيارة الإمبراطور فرنسوا جوزيف للمبارديه بفتح اكتتاب لإقامة تمثال في تورينو باسم الجيش البيمونتي، مما اضطر حكومة النمسة إلى استدعاء القائم بأعمالها من تورينو، إلى تبادل الكتب الشديدة اللهجة بينها وبين حكومة تورينو، ثم إلى قَطْع العلاقات بينهما، ولم ينجح بالمرستون في إقناع بيمونته بإعادة العلاقات.

وأدتْ دعايةُ الجمعية القومية إلى لَمِّ شمل الأحرار في إيطالية كلها، وبذرت بذور الثورة في جميع الدول المستبدة، وأدى فشل الجمهوريين النهائي إلى زوال احتمال خطر الانشقاق في صفوف الأحرار، حتى إن بعض أعضاء حزب أقصى اليمين كانوا على استعدادٍ لمعاضدة الحركة القومية ضد النمسة، واستمرت بيمونته في مساعيها للتأهب للحرب ولاح لها احتمال معاضدة فرنسة إياها، فراحت تنتظر بثقة بدءَ المعركة بعد أن اطمأنت إلى إمكان الظفر بجيشٍ حليف يُساعدها في الميدان، وبعد أن تأكد لها إقبال أحسن العناصر في إيطالية على تأييدها.

بَيْدَ أن العناصر الرجعية قررت أن ترمي آخر ما في جعبتها من سهامٍ وأن تقدم بتجربةٍ أخيرة، ولاح لها أنه يمكنُ استرضاءُ إنجلترة ببعض إصلاحات تجرى في لمبارديه والروماني، ولا سيما لأنها كانت تميل إلى النمسة وتخشى مطامعَ فرنسة، وشجعهم على الإقدام ارتيابُهُم بإقدام فرنسة على مساعدة بيمونته؛ لأن الإمبراطور كان يتحاشى الاصطدام بروما، فضلًا عن أن الانتقادات التي وجهتها إليه الصحافة المتطرفة في تورينو وجنوة قد أغاضته كثيرًا.

ورأى الرجعيون أن سبيلهم للعمل هو تقويةُ مركزهم في الداخل وخوض غمار انتخابات تضمن فوز أكثرية لهم، وهذه الانتخابات تجرى قريبًا في بيمونته فيستعدوا لها، وكانت هذه الخطة محكمةَ التدبير فالضرائبُ الباهظةُ كانت جَمَّةً يسهل استغلالها لإثارة الناس، وكانت إيالة صافويه نفسها لا تعطف على الآمال الإيطالية إلا قليلًا، وكان الأشرافُ ورجالُ الدين ذوي نفوذ كبير فيها، أضف إلى ذلك أن الأحرار في بيمونته كانوا متفرقين يهاجم بعضهم البعض الآخر بدلًا من التضامن في مقاومة العدو المشترك.

وقد تزعمت روما هذه الحركة واستعدت لها في الخفاء استعدادًا عظيمًا شرع بالعمل بأن دوت في جميع الأنحاء صرخة: «الكنيسة في خطر»، وجرف التيار حتى أكثر الأساقفة وطنية، فآثروا الكنيسة على بلادهم وجرت الانتخاباتُ في تشرين الثاني سنة ١٨٥٧، ولم يُبدِ الأحرارُ حتى النهاية أيَّ تخوُّف ولم تأبه الحكومة للأمر ولم تستخدم نفوذها في الانتخابات كالمعتاد.

وتقدم في اللحظة الأخيرة مرشحون إكليريكيون في جميع الدوائر الانتخابية، فانتخبت صافويه وريفييرا وجنوة نفسها التي كانت إلى ذلك الحين معقل أقصى اليسار جماعة من الرجعيين، أما في بيمونته فقد خسر الأحرار بعض الكراسي في الدوائر الريفية، ولو لم يجمع الأحرارُ شملّهم ويلموا شعثهم في الساعة الأخيرة؛ لَكانت أكثريةُ المجلس النيابي الجديد من الإكليريكيين، ولكنهم بيقظتهم الأخيرة واتحادهم أَدَّيا إلى تغلُّب الأحرار على العناصر الرجعية على الرغم من كل المساعي التي بذلتها.

وكانت نتيجة المنافسة أنْ تلاشتْ جماعةُ اليسار وجماعةُ اليمين المعتدل وأنْ أصبح الحزبان الكبيران وحدهما وجهًا لوجه: الأحرار والرجعيون، ودَلَّ فوزُ واحدٍ وأربعين من الأشراف بمقاعدَ في المجلس النيابي على ما بذله المحافظون من رجال المعارضة من المساعي، وعلى أنَّ طبقة الأشراف أخذتْ تشترك في الحياة السياسية.

وبنتيجة الانتخابات صار كافور يستند إلى أكثريةٍ متجانسة عاهدتْه على أن تسير وراءه حتى إن بروفيريو وفاليريو كَفَّا عن انتقاداتهما حين أدركا الخطر، وطالبت الأكثريةُ — لأسبابٍ مختلفة — باستقالة رتازي. ولما كان كافور ينقم على وزيره لنكثه بوعده في مساعدته على التفريق بين الملك وخليلته؛ فإنه استوصى مصلحة الدولة أكثر من واجب الصداقة، ورجا رتازي أنْ يتخلى عن منصبه ففعل في وقارٍ وعدم اكتراث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤