الفصل الثاني

المغناطيسية الحيوانية

الحب بين الحيوانات
«صامدٌ لا يعرف التعبَ، عاشق جوار عاشق،
يجدِّفان في الصقيع
يرافقان العواصفَ، أو يتسلقانِ الهواء؛
قلباهما لم يشيخا؛
العشقُ والخضوع، يجولان حيثما يشاءان،
مترافقَين أبدًا.»
ويليم باتلز ييتس
«البجعات البريَّات في كوول»

بينما عواصفُ فبراير الثلجية تدثِّر مروج هوكايدو باليابان، وفي غمرة الشتاء الأبيض، يوجه الثعلبُ الأحمر الذكر بصرَه صوبَ أنثى الثعلب. يحدِّق فيها بتركيز، يتتبَّعُها بهوس. يتوقف حينما تسكن، ينحني ويلعق ويقضم برفقٍ وجهَها، ثم يبدأ في التقافز جوارها في مرح وهي تركض. ثم تنبثق من بوله رائحةٌ مميزةٌ على الجليد. إنه وقتُ التزاوج. وما إن تنتشر تلك الروائح على الصقيع الهش، يبدأ الرفيقان في التودُّد والترافق والتزاوج لحوالي أسبوعين. ثم يبدآن في نَشْر روائحهما في الغابات والحقول ويحفران الجحورَ العديدة حيث سيربِّيان صغارهما.

طاقةٌ مفرطة، تركيزٌ يقظٌ على الشريك، مطاردة عنيدة، ثم فائض من اللعق الحنون والقضم المدلل الرفيق المداعب، يمنحها كلُّ ثعلب لأنثاه. كلُّ تلك الأمور تستدعي في ذاكرتنا مشاهدَ الحب الرومانسي بين البشر. وما الثعالب إلا فصيلٌ من الثدييات التي تُظهر سمات الحب الرومانسي في عالم الحيوان.

في بداية موسم التناسل أو سباقات التزاوج، يختار الكثيرون شركاءَ معينين، ثم يركزون انتباهَهم على هذا الشريك «الخاص»، غالبًا على نحوٍ حصريٍّ دونًا عن بقية الحيوانات من حولهم. يوفر كلَّ طاقته لمطاردة «تلك» الأنثى، وتوفر الأنثى طاقتَها لمطاردة «ذاك» الذكر. يُباغت، يُقبِّل، يلعق، يقضم، يدسُّ خطمه ويشمُّ، يربِّت، يجرُّها بقوة، أو يطارد بمرح تلك الشريكة المُختارة. البعض يغني. البعض يصهل. البعض يُصدر صوتًا حادًّا كالصرير، أو ينعق بصوت أجش، أو ينهق، أو ينبح. البعض يرقص. البعض يختال في مشيته. البعض يتبختر. البعض يلاحق ويطارد. والمعظم يلعب. على الأراضي العشبية في سيرينجيتي الأفريقية، في أدغال الأمازون، المنطقة المتجمدة من القطب الشمالي، تُظهر الكائنات الضخمة والضئيلة طاقاتٍ مفرطةً هائلة في مغازلة الإناث. الفجيعة تُؤجج سعيَهم المحموم نحو الشريك — تمامًا مثلما تُشعل العوائقُ المشاعرَ لدى الإنسان. والبعض يصبح استحواذيًّا غيورًا نحو رفيق ما، ضد مُغازل آخر حتى تمرَّ فترة الإخصاب والتناسل.

حالات الغزل تلك شبيهة ببعض الخصائص في العشق الرومانسي لدى البشر. لهذا أعتقد أن الحيوانات تحب. معظم الكائنات ربما تشعر بتلك المغناطيسية لثوانٍ معدودة فقط؛ البعض الآخر ربما يظل مفتونًا لساعات، لأيام، أو لأسابيع. لكن الحيوانات تشعر بنوع ما من الانجذاب لحيوانات «بعينها». العديد بوسعه حتى أن يقع في الحب من النظرة الأولى. من تلك «الجاذبية الحيوانية» أعتقد أن الحبَّ الرومانسي لدى البشر قد انبثق بكل تأكيد.

(١) الجاذبية الحيوانية

«كانت بكل وضوح حالةَ حب من النظرة الأولى؛ لأنها سبحَت نحو هذا القادم الجديد تُلاطفه … تدفعها مشاعر الرغبة.»١ هكذا قال تشارلز داروين واصفًا أنثى البط البري التي افتُتِنت بذكَر البط البري ذي الذيل المدبب — وهو من فصيلة أخرى. جميعنا يقع في الخطأ.
آمن داروين بأن الحيوانات تنجذب بعضها إلى بعض. ذكر طائر الشحرور الأسود، أنثى طائر السمَّان، طائر القطب الشمالي الأسود، طائر الحَجل، تلك وغيرها الكثير من الطيور، كتب حولها يقول: «جميعها تقع في الحب.»٢ في الواقع أن داروين قد سجَّل أن جميع الحيوانات العليا تتشارك في «المشاعر المتشابهة، العواطف والمشاعر، وحتى في الأحاسيس الأكثر تعقيدًا؛ مثل الغيرة، الشك، التنافس على الحبيب، الاعتراف بالجميل والمروءة والشهامة.» «إن لدى الحيوانات أيضًا ملكة خفة الظل والدعابة؛ تندهش ويتملكها الفضول.»

يعد داروين من العلماء القلائل الذين اتفقوا على أن الحيوانات تشعر بالحب فيما بينها. علماء التاريخ الطبيعي وعلماء الحيوان عادة يصفون الغضب والخوف لدى الكائنات الأخرى. يشاهدون مرح الحيوان فيعتقدون أنه يشعر بالبهجة. يصفون حالات التعبير عن المفاجأة، الخوف والهرب، الفضول، والنفور. حتى إنهم سجلوا لحظات الخضوع العاطفي والغيرة. لكن العلماء نادرًا ما قالوا إن الحيوانات تقع في الحب، حتى ولو وصفوا مشاهد الغزل بين الحيوانات تلك المليئة بإشارات للسلوك الذي يسلكه الإنسان في حالات عشقه الرومانتيكي.

الأفيال الأفريقية مثالٌ جيد. تأتي أنثى الفيل الأفريقي في فترة الدورة الذروية (أو الحرارة) في حوالي خمسة أيام متعاقبة في أيِّ وقت خلال العام. إذا حدث وحملت نتيجة تزاوج في تلك الفترة، تنتهي رغبتُها الجنسية طوال فترة حملها الاثنَي وعشرين شهرًا وخلال عامَي الحضانة التاليَين. معظمها لا تتزاوج ثانية خلال الأربعة أعوام التالية. لهذا تبقى تلك الإناث مرافقة لأزواجها حصريًّا. الإناث تفضِّل البعض، وترفض الآخرين. ولأنثى الفيل معجبون كثيرون لتختار من بينهم. تهجر ذكور الأفيال جماعة الميلاد الأمومية بمجرد البلوغ (الذي يحدث بين عمر العاشرة والثانية عشرة) لكي يتجولوا مع ذكور آخرين في تجمعات ذكورية صغيرة. ولكن ليس بعد الثلاثين من عمره يصل الفيل إلى حال العنفوان الذكري.

حالة الهياج الذكري لدى الأفيال تعتبر إعلانًا عن الرغبة الجنسية. إذا كنت تظن أن النساء في تنورات قصيرة ضيقة، وبلوزات منخفضة دون أكمام، وأحذية بكعوب عالية يتباهين برغباتهن الإيروتيكية، فإنك لا بد أن ترى ذكور الفيلة. إذا ما دخل الذكر في حال الهياج الجنسي، تلك التي تستمر شهرين أو ثلاثة كل عام، فإنه يبدأ في إفراز سائل لزج من الغدة التي تقع في منتصف المسافة بين العين والأذن في كل جانب. ويدر البول باستمرار. يصبح غلاف عضوه الذكري سميكًا مغلفًا برغوة ذات اخضرار وبياض. ثم يفرز رائحة لاذعة جدًّا حتى يكون بوسع الإناث أن يشممنَ رائحته قبل رؤيته. وما إن يقترب من قطيع الإناث حتى يشرع في التبختر والغزل، ويبدأ هياجه الجنسي في الاشتعال. الرأس مرفوع عاليًا، الذقن منثنية، الأذنان تتماوجان بقوة، الخرطوم يرتفع لأعلى ويُصدر صوتًا خفيضًا يعبر عن الثقة بالنفس، فيما يتقدم بخطوات واسعة.

تجد إناث الفيلة كل تلك الإفرازات، ورائحة الذكورة تلك، و«مشية العنفوان الجنسي» هذه، جاذبةً على نحو هائل. تنجذب الإناثُ اللواتي في دورتهن الشبقية مثلما تنجذب الفتيات لنجوم الروك. هكذا كانت «تيا». خلال السنوات العديدة التي تتبعت فيها عالمة العلوم الطبيعية «سينثيا موس» جماعات التيا الأمومية في الأفيال الأفريقية المنتشرة عبر حدائق أمبوسيلس القومية في كينيا، شاهدت العديد من الإناث يخترن شركاءَهن على نهج «تيا».

لا تُظهر «تيا» أيَّ اهتمام بالذكور الشباب الصغار الذين يتزاحمون حولها حينما تبدأ فترة دورتها الشبقية. تمشي بعيدًا حين يحاول الذكور أن يعرقلوا حركتها فوق الأعشاب. لأن حجم إناث الفيلة حوالي نصف حجم الذكور، فإن المدربات فقط يمكنهن الإفلات أو المراوغة، تقريبًا من أيِّ ذكر يرغبن في تجنبه. هذا بالضبط ما تفعله «تيا». ولكن حينما ترى تيا ذكرًا هائلًا، أو مسيطرًا، ذكرًا كبيرًا في ضخامة العنفوان الشبقي، تغيِّر «تيا» رأيها.

تريد «تيا» الفيل الضخم الهائج لحظة تشاهده يختال في مشيته، بينما يتقاطر الاستحلابُ من أُذُنَيه، وشلال البول من بين ساقَيه، والرغوة تخرج رذاذًا من عضوه الذكري. نفحة واحدة من روائح هذا الفحل تجعل الذكور الصغار يمضون إلى حال سبيلهم. وليس «تيا» طبعًا. تنظر تيا إلى الفيل الفحل، فترفع أُذُنَيها عاليًا في وضع شبقي. ثم تبدأ هي الأخرى في المُضيِّ بعيدًا. ولكن عكس ما تفعل مع معجبيها من الذكور الشباب، تبدأ تيا في النظر من فوق كتفَيها وهي تمضي بعيدًا، ترمق بين الحين والحين لترى إن كان فحلها الفيل يتبعها. وبالفعل يكون. وهكذا تبدأ المطاردة الشبقية.

الآن تبدأ رقصة الطبيعة الأبدية. حينما يُمسك الفيل الفحل بأنثاه تيا، ينبثق العضو الذكري ذو الأربع أقدام طولًا على نحو التقريب، من الغمد العميق الرمادي. ثم يضع رقبة خرطومه الطويل على ظهرها. تتوقف؛ تقف ساكنة، تعود للخلف نحوه لتشتبكَ به، دون حراك، وسيقانها منفرجة. يعتلي الذكر بحيوية، ثم يوجِّه عضلة قضيبه القوي بكل قواه، ليُغرقَه في فرجها. يقفان معًا لحوالي خمس وأربعين ثانية قبل أن يهبط الذكر. وينسحب. ويتدفق ما تبقى من السائل المنوي في التراب. تدور تيا لتقف جواره. وعلى نحو متكرر تطلق صوتها الخفيض نحوه، ثم تمسح رأسها في كتفه.

لا تنفصل تيا عن الذكر الفحل على مدى الأيام الثلاثة التالية، يربت كلاهما على الآخر ويتضاربان برفق على نحو ثابت في دورة الاقتران. ولكن حينما تتضاءل فورة الأنثى الشبقية، يهجرها الفحل بحثًا عن إناث أخريات متوهجات جنسيًّا. وكما كتبت «موس» في كتابها المدهش «ذاكرة الأفيال»: «شخصيًّا، لستُ أتخيل لماذا تريد تيا أن تقترن بهذا الفحل الذكر، ولكنني أعود فأقول ربما هي رأت فيه شيئًا لم أرَه أنا.»٣

هل يمكن أن يكون حبًّا؟ افتتانًا مؤقتًا؟ عاطفة قصيرة الأمد؟ تيا والفيل الفحل القبيح كلاهما ركَّز انتباهه بالكليَّة على الآخر. كلاهما أظهر طاقةً مفرطة. لا أحدَ منهما عاد يأكل أو ينام بانتظام كما تفعل الأفيال. وكلاهما يلمس و«يتكلم» في حوار بصوت «فِيَلي» خفيض وعذب وطويل. تيا كانت تبدو، وإن على نحو مؤقت عابر، مأخوذةً على نحو كامل ومنجذبة نحو ذلك الذَّكر الفحل القوي الفخور المختال المتين جسديًّا.

الحب بين القنادس يحيَا على نحو أقل إمكانية على الملاحظة. ولكن تلك الكائنات تُظهر أيضًا إشاراتٍ للانجذاب المفرط في أوقات المغازلة والتزاوج. خذ أسماك «سكيبر» مثلًا. سمكة «سكيبر» تنمو في بحيرة الزنابق في حديقة ولاية هاريمان، نيويورك، تحت رعاية أبيه، «المفتش العام»، وأمِّه «الزنبقة».

تعيش القنادسُ في مجموعات عائلية صغيرة. تعمل وتمرح في الليل. وتبقى الصغارُ مع أبوَيها لعامين تقريبًا قبل أن تبدأ في المشي بتعثُّر في إحدى الليالي الربيعية لتبحث عن وليف ثم بناء أسرة والاستقلال بمسكن منفرد. أسماك سكيبر تفعل الشيءَ ذاتَه؛ يرحل الذكر مع شقيقته، لوريل، في إحدى أمسيات أبريل المقمرة. الإخصاب مشترك بين القنادس، وفي ذلك المساء يتحرك الشقيقان إلى وادٍ قريبٍ ليُشيِّدا سدًّا وبحيرة. وسرعان ما ترتفع المياه. تبدأ الحشرات في الفقس مجتذبةً الضفادع، والطيور شمعية الأجنحة، وملك العصافير. وتبيضُ الأسماك، إيذانًا بدقِّ جرس الطعام للنباتات الأفريقية الجائعة. أشجار الصفصاف، شجر الحور، والسوسن الأصفر المنتشرة على طول الضفاف. يستقر داخلها سكيبر ولوريل. ولكن للأسف، في إحدى الليالي، تخفق لوريل في العودة من رحلة البحث عن طعامها بين أشجار القيقب، والبلوط، والصنوبر التي تكسو الوادي؛ فترقد ميتةً على الطريق المجاور.

في الأمسيات التالية يعود سكيبر إلى بحيرة الزنبق. وطوال الصيف يساعد سكيبر أبوَيه على تشييدِ السدِّ الخاص بهم، وتعميق القنوات وتنظيفها، وتجميع الزنابق، والمرح مع الصغار الجدد. الشجيرات العنبية والأعشاب التي تنمو في المناطق المعتدلة والباردة ذات الأزهار الصفراء والبيضاء. ولكن ما إن تتحول الأوراق إلى اللونَين الأحمر والذهبي، يرحل سكيبر مجددًا عائدًا إلى بحيرته المهجورة. وعلى نحوٍ حذرٍ يبدأ في إعادة بناء سدِّه المتهدم. وبحذر يبدأ في دفع الطمي نحو الشاطئ، ثم ينظمه على هيئة أهرامات، بعدها يبدأ في نثر تلك التلال بزيت عطري يُفرزه من غدَّتِه الشرجية وزيوت نباتية من فتحاته التناسلية. عبر تلك الإعلانات اللاذعة يأمل بطريقته القندسية أن يُغريَ «زوجته» ويجتذبَها.

الطبيعة تؤدي دورَها. بعد ليالٍ قليلة، شاهدَت عالمة التاريخ الطبيعي هوب رايدن سكيبر على ضوء القمر. ظهر فجأة من المياه الصاعدة متبوعًا بقندسة أنثى صغيرة بُنيَّة اللون. يتلامس الاثنان من أنفَيهما، ثم يسبحان معًا، يجمعان العصيَّ ليملآ سدَّ الأحجار. وكمعظم القنادس، يلتصق القندس بعروسه السمراء على نحوٍ مختلس في موات الليل، ثم يترافقان مدى العمر – أشهر طوال قبل أن تصلَ الأنثى لدورتها الشبقية الجديدة.

هل كانَا في «حالة حب»؟ في كتابها «بحيرة الزنبق»، كتبت رايدن: «تعتمد تزاوجية القنادس على الانجذاب الذي هو أسطوري بقدر ما هو إجباري، نوع غير مرتبط بأيِّ حثٍّ أو دافع فوري ذي صلة.»٤ ملاحظة رايدن مهمة: «بين القنادس، كانت مشاعر الجاذبية والترابط مختلفة عن مشاعر الجنس.»

فبإحدى أمسيات أبريل، يُكمِل زوجَا القندس زواجَهما. سكيبر وعروسه الصغيرة يطلعان من البحيرة المضاءة بنور القمر يحملان العصية ذاتها بين أسنانهما. يتشقلبان مرة ومرات فوق بعضهما في تلذُّذ بدَا لرايدن كأنما يلعبان. يغطسان ويُجدِّفان ويُثرثران معًا بأصوات عذبة تُشبه الصوتَ البشريَّ تقريبًا. كأنما لا يمكن فصلهما. لا بد أنهما تزاوجا تحت الماء؛ لأن عروس سكيبر الصغيرة، مع بدايات أغسطس، تَلِد صغيرَين سمينَين.

مثل الفيلة، تُنفق القنادس طاقةً هائلة في الغزل. مثل الأفيال، يركِّز القندس كلَّ اهتمامه على رفيق «خاص» بعينه. مثل الأفيال، تتلامس القنادس بأنوفها على نحوٍ عاطفي وتلعب وتتغازل في حنوٍّ، لدرجة أنني أجرؤ لأقول: «إنه الحب.»

(٢) الجنون والبهجة

ثمة العديدُ والعديد من أوصاف الجاذبية بين الحيوانات من المستحيل سردُها جميعها. قرأت عن حيوات العشق بين عدة مئات من فصائل الحيوان، وفي كل مجتمع حيواني، يُظهر الذكور والإناث خصالًا من الغزل تُعد مكونات مركزية من العشق الرومانسي بين البشر.

لأبدأ بأن الحيوانات تُظهر طاقةً وحشية. حيوان السِّنسار الأمريكي وأنثاه يطاردان بعضهما البعض على نحوٍ وحشيٍّ، يراوغان، يتقافزان، يعدوان، ويدوران في حركات التفافية فيما يُشبه المرح والحبور. يطارد ابنُ عرس شريكَه على نحوٍ شديد الحيوية لدرجة أن يُطلق علماء الحيوان على ذلك: «العراك اللعوب». يندفع الذَّكَر بقوة على طول الأرض «مُطلقًا نداءات منعَّمة مثيرة» بينما طريدته «تتقافز حوله بمرح».٥ في الواقع تظل الأنثى تتقافز لمدة طويلة بعدما يكونان قد أنهيَا طقسَ التزاوج ويكون الذكَر قد غَرِق في السُّبات والنوم. تزاوج قطط السنَّور يتم أيضًا بمطاردة عنيفة. الخفاش الأبيض يهزُّ جناحَيه الضخمَين بقوة أمام أنثاه قبل الاتصال الجنسي. حيوان الغرير في تزاوجه يحفر الأرض بينما يقفز وهو يُهمهم بصوتٍ عالٍ. وحينما تشمُّ أنثى الفأر في دورتها الشبقية رائحةَ ذكر يريد التزاوج تقفز وتعود للخلف وتقفز ثانيةً؛ وتلمس أُذُنَيها وتسترق النظر من فوق كتفها فيما يمكن فقط أن يُسمَّى إشارة: «تعالَ اقترب».
الحيوانات الضخمة كذلك تُفعم بالطاقة وقتَ التزاوج. حينما تَصِل أنثى التشيمبانزي لدورتها الشبقية، تبدأ الذكور في التزاحم حولها. يقدِّم الذكَر «عروضًا» حيوية، يقف على ساقَيه الخلفيَّتَين وعضوه منتصب، يتبختر أمامها على قدمين، يدقُّ الأرض بقوة، يقفز من جانب إلى آخر، يهزُّ الأغصان، ويشخص ببصره نحوها في تصميم. ذكر وأنثى الدب البُني الشمالي يخطوان للأمام وللخلف بمسافات محسوبة بدقة في تناغم متقن من كليهما، يؤرجحان جسدَيهما الهائلَين جيئةً ورواحًا. الضباع تدور حول بعضها وهي تُصدر طقطقةً صاخبة منغمة تُعرف ﺑ «الضحك». نوع من الحيتان يصعد من البحر وتُماوجُ زعانفها الصدرية أو أذيالها بسرعة فائقة حتى تبدوَ كأنما تتذبذب. الدلافين ذات الأنف المدبَّب تقفز خارجةً من الماء، ثم تغطس وتسبح على نحوٍ محموم في جميع الاتجاهات، غالبًا وهي تتشقلب للأعلى وللأسفل. ولكن تبقى الحكاية الأكثر سحرًا حول تلك الطاقة المفعمة بالحيوية، تلك جاءت من عالم الحيوان «مالكولم بيني» وهو يصفُ وحيدَ القرن الأسود. يُحيط وحيد القرن الأسود أنثاه في دائرة أثناء دورتها الشبقية، ثم يَثِب للأمام وللخلف على سيقانه الصلبة، وهو يُصدر صوتًا كالشخير، وينثر بوله، ويُدير ذيله، ممزقًا بقرنه الأغصان القريبة، قاذفًا بأوراق الشجر في الهواء، وأقدامه تخطو في مكانها، «وهو يبدو»، كما يقول بيني: «للعالم أجمع كأنما يرقص.»٦
«وحدها الجبال عاشَت بما يكفي لكي تُنصتَ بموضوعية إلى عويل الذئب.» هكذا قيل.٧ وثمة الكثير، على كلِّ حال، مما يمكن أن نقولَه بموضوعية عن الذئب. إحدى السمات الفائقة عن ذلك الكائن الباهر أنه، مثل الإنسان، الذكر والأنثى يشكِّلان معًا أسرة مترابطة ليُربِّيَا الصغار. غزلهما مفرط. كما وصف ذلك «جورج راب» قائلًا: «يبدأ الذكر في الرقص حول أنثاه، رافعًا ساقَيه الأماميَّتَين مثل كلب مرح، ويهزُّ ذيله.»٨
حتى الفقاريات البرمائية والأسماك ترقص بحيوية وهي تغازل. ذكور الضفادع البرية النهارية تؤدي رقصة «إصبع القدم»، تقفز للأعلى وللأسفل أمام الأنثى لتستعرض إمكاناتها. وكتَب داروين ليصفَ ذكَرَ سمكة أبو شوكة وقد شاهد أنثاه قائلًا: «يندفع كالسهم حولها في كل اتجاه … مجنونًا ومبتهجًا.»٩ الجنون والبهجة: هذا بالقطع حقيقي في حال الرجال والنساء حين يقعون في الحب.

(٣) الهياج العصبي

غزلُ الحيوانات أيضًا عصبيٌّ وقلقٌ. الأولاد المراهقون مزعجون فيما يخص المواعيد الغرامية، يشبهون قردة البابون الأفريقية في السافانا، كما أوضحت عالمة الحيوان التي تدرس الرتب الحيوانية من القرَدَة والإنسان، «بارب سماتس». لسنوات، تتبَّعت سماتس تلك الحيوانات خلال روتينها اليومي في أراضي كينيا العشبية وكتبت وصفًا مؤثرًا في الغزل بين تاليا وألكسندر.

بدأت الحكاية حينما وصلت تاليا، اليافعة، قمةَ دورتها الشبقية. لشهور ظلَّت تتجنَّب ألكسندر، مراهق آخر كان قد انضم لجماعة قردة بابون قبل شهور قليلة. ولكن مبكرًا في ذلك المساء، جلست تاليا وألكسندر يفصل بينهما متران عند حافة الجرف الصخري الشاهق حيث يتجمع أعضاء الجماعة للنوم. لاحظت سماتس:

كان ألكسندر يواجه الغرب، يتجه خَطمه صوب الشمس الغاربة، يراقب بقية الجماعة وهي في طريقها صعودًا لأعلى الجرف. وكانت تاليا تتزيَّن على نحوٍ روتيني، مركِّزة انتباهَها في مكان آخر. كل عدة ثوان تختلس النظر بركنِ عينِها وترمق ألكسندر دون أن تُديرَ رأسها. نظراتها الخاطفة أخذَت في الطول أكثر فأكثر وتزيُّنها زاد أكثر فأكثر على نحوٍ متقطع حتى أصبحت تشخص لدقائق طوال في بروفايل ألكسندر. عندئذٍ، وما إن أدار ألكسندر رأسه نحو تاليا، خفضت فجأة رأسها للأسفل وراحَت تنظر إلى قدمَيها. نظر إليها ألكسندر، ثم حوَّل بصره إلى جهة أخرى. استرقَت تاليا نظرةً أخرى في اتجاهه، ولكن حينما رمقها من جديد، استأنفَت نظرها لقدمَيها … وتستمر تلك اللعبة البصرية والتظاهر بالنظر للبعيد … ثم، ودون أن ينظر إليها، يبدأ ألكسندر ببطء في التحرُّك نحو تاليا … تتجمَّد تاليا، ثم لثوانٍ تنظر في عينَي ألكسندر. وهكذا، بينما يبدأ في الاقتراب منها، تقف تاليا، تُعطيه ظهرَها، وتنظر من فوق كتفها نحوه، موجهةً له نظراتٍ عصبيةً.١٠

وبقيت تاليا مع ألكسندر حتى الفجر ساكنين.

العديد من المغازلين في الطبيعة يُصبحون عصبيِّين.١١ في وصفِ زوجٍ من طيور السواحل البحرية، ذات السيقان الممشوقة والمناقير الطويلة المعقوفة، كتب «نيكو تنبيرجين»: «كلٌّ من الذكر والأنثى وقف يختال بريشه على نحوٍ انفعالي، يميل للعصبية.» الزرافات، من بين أكثر كائنات العالم رشاقةً، «تتحرك في كل مكان على نحو قلق» حينما تدخل حالة الغزل.١٢ كتب عالم الحيوان «جورج شالير»، واصفًا ملكةَ الغابة: «اللبوءة المشحونة بالحرارة تبدو قلقة، تغيِّر وضعَها كلَّ برهة، على نحوٍ رشيق لدن، تمسح جسدها في الذكَر.»١٣

(٤) فقدان الشهية

العديد من الحيوانات في حالات الغزل يفقد الشهية للطعام – تلك سمة أخرى من سمات الحب الرومانتيكي لدى الإنسان. حينما يجد ذكَرُ الفيل، المستعد جنسيًّا، أنثى في ذروتها الشبقية، على سبيل المثال، فإنه يمتنع نهائيًّا عن الطعام. إنه يركز على نحوٍ كليٍّ للتواصل مع وحراسة تلك «الجائزة» التي نالها دونًا عن الذكور الآخرين.١٤ في الحقيقة، ومع الوقت، يغدو ذكَرُ الفيل المتزوج نحيلًا للغاية ومجهدًا لدرجة أن يخرج من حالة «هياجه الجنسي». يجب عليه أن يعود للقطيع الأعزب حيث يتعافى، يأكل ويستريح لعدة أشهر.

ذكر الفيل الشمالي في حال الغزل، يفقد تقريبًا نصفَ وزنه. وبينما يقترب موسم التزاوج ذو الأشهر الثلاثة، تظهر الذكور على طول ساحل كاليفورنيا لتطالب بأنصبة من الشاطئ. تتعارك بشراسة لتؤمِّن أنصبتها؛ لدرجة أن أمواج حدود الشاطئ تتحول للون الأحمر بفعل الدماء المُراقة. لماذا كل هذا الهياج؟ لأن الإناث سرعان ما تَصِل لتحمل صغارها ثم تعود إلى دورتها الشبقية — سريعًا. الذكور الذين يحوزون أفضل القطع من الحيازة المكانية سوف يمارسون الجنس مع أضخم الحيوانات من الإناث. لذلك فالذكور لا تقبل مبارحة مقاطعاتها دون حماية ولو لساعة واحدة. حتى إن الطعام، النوم: تلك الأساسيات تفقد أهميتها، في تلك الأثناء.

القردة من فصيل إنسان الغاب أيضًا تفقد شهيتَها النهمة للطعام. تلك الحيوانات التي تُشبهنا تسكن الأعالي في أشجار أدغال بورنيو وسومطرة، نحو ستين قدمًا فوق سطح الأرض. حينما ينضج الذكَر يتغضَّن خدَّاه إعلانًا عن وصوله مرحلة البلوغ، فيبدأ في تعليم وحماية مقاطعة كبيرة مليئة بأشجار الثمار. إناث عديدة يشيِّدن مناطق صغيرة للسكن ضمن مساحة الأرض التي حازها. كل صباح يوقظ الذكَر المجاورة السكنية بخليط من الدمدمة متبوعةً بزئير كالخوار لكي يُعلنَ عن مكانه، وجاهزيته للجنس. وعندئذٍ، حينما تدخل إحدى الإناث في دورتها النزوية، يبدأ الذكَرُ في تتبُّعها بإصرار عبر متابعة آثارها على أوراق الشجر. تبقى الأنثى قابلة للإخصاب لحوالي خمسة أيام فقط. فإن حملت أثناء تلك النوبة الغزلية فلن تعاود الدخول في الدورة الشبقية لأكثر من سبع سنوات. لذلك على الذكَر أن يظلَّ جوارها باستمرار طوال فترة سخونتها، وفي الوقت نفسه يحارب المنافسين من الذكور. وما يجعل الأمور أسوأ، أن ذكَر إنسان الغاب يبلغ ضعف حجم الأنثى؛ لذلك يتحرك أبطأ كثيرًا منها ويأكل أكثر كثيرًا. ومن ثَم فعلى الذكَر أن يُفوِّت الوجبات لكي يسايرَ خفَّةَ حركةِ رفيقتِه الرشيقة.

متطلبات الغزل والتزاوج هذه لا تمثِّل مشكلة لدى ذي الحلق الجرابي، أحد فصائل القردة من إنسان الغاب البرية التي تعيش في إحدى مناطق بورينيو. جاء عالِمُ تراتب الحيوان «بروت جالديكاس» لدراسة هذا الوحش من القردة في السبعينيات من القرن الماضي. TP كما كان يسمِّيه، هو حيوان متبرِّم، غضوب، في منتصف العمر، وله عينان كالخرز، وضخم الجسم. كتب يقول: «حسب مواصفات القردة من إنسان الغاب، يعتبر TP بالتأكيد قردًا وسيمًا.» ومضى جالديكاس في التفسير: معبودة TP كانت بريسكيلا. حينما شاهدت بريسكيلا مع TP كانت تبدو أقلَّ أناقةً مما أتصور. تصورت أن TP قد اختار أنثى أكثرَ حُسنًا. ولكن من الطريقة التي طاردها بها TP، اكتشفَت أن بريسكيلا كان لديها ما تدخره من سحر. TP كان مأسورَ المشاعر نحوها. لم يكن يستطيع أن يرفع عينيه عنها. لم يكن حتى يعبأَ بأن يأكلَ. كان مفتونًا للغاية بسحرها الأصلع! حتى حينما وجد TP الوقت ليأكل، كان يتبع قاعدة الإتيكيت: «النساء أولًا.» Ladies First.١٥
ذكر الأسد في غزله يمنح القليل من الطعام الذي يحصل عليه إلى محبوبته. كتب جورج شالير وصفًا ساحرًا حول هذا: «لاحظ أحد ذكور الأسود، وهو في حال غزل، إحدى الغزالات بجوار بركة ماء قريبة، فقطع طقس الغزل لكي يُوقعَ تلك الجائزة، ثم حمل تلك الهدية الشهية إلى أنثاه وجلس على مقربة يرقبها وهي تأكلها عن آخرها.» «رمزٌ يمسُّ القلب ويضرب المشاعر مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقةً تقول إنه كان جائعًا.»١٦

أظن أن كيمياء المخ في حال الجاذبية العاطفية قد تغلَّبَت على احتياج هذا الذكَر للطعام.

(٥) المثابرة والإصرار

الحيوانات أيضًا متشبِّثة مثابرة؛ فمعظمها لديه فُرَص قليلة في الحياة للانتصار على غرمائهم المنافسين، والتزاوج بالشركاء المتاحين، والتناسل. لهذا يُثابرون.

ذكَرُ الزراف يتتبَّع إحدى الإناث لساعات إلى أن تخضعَ مستسلمةً لغزله. اللبوءة تزأرُ في وجه الأسد، تتدحرج على الأرض من أمامه رافضةً، تصفعه بتزمُّت، ترفض محاولاتِه بحياء وخفر، ثم تتعثَّر، رافضةً لمساتِه. وحدَهم المُغازلون الصبورون في النهاية يعتلون تلك الهرَّة الضخمة. ذكَرُ النمر أيضًا على نفس درجة المثابرة والإصرار. لا يرفع عينَيه مطلقًا عن رفيقته؛ «حتى أبسط حركة من ذيلها يلتقطها انتباهه.»١٧
ربما أكثر المغازلين طرافةً هو ذكر الزباب. يظل يُطارد أنثاه دون هوادة ولا توقُّف، يعدو وراءها وأنفُه الطويل ملاصقٌ لمؤخرتها.١٨
رصد داروين أيضًا هذا التصميم المركز بين الفراشات. «غزل الفراشات يبدو كأنه علاقة ممتدة.» كتَب يقول. «لأنني كثيرًا ما شاهدتُ ذكَرًا أو أكثر يدورون كراقصي الباليه حول أنثى حتى أصابني أنا التعب، دون أن أرى نهاية لذلك الغزل الذي لا يتوقف.»١٩

هذا الإصرار، الذي يمكن رصده في العديد من المخلوقات — من الفراشات إلى وحيد القرن — هو صكُّ دمغة في الحب الرومانتيكي لدى الإنسان.

(٦) العاطفة

معظم الحيوانات المُغازِلة تُظهر أيضًا علاماتِ الرقَّة والحنو، أكثر السمات سحرًا في الحب الرومانسي بين البشر.

كتبَت عالمة البيولوجي لارس ويلسن حول زوج من القنادس في حالة غزل تقول: «ينامان كلٌّ منهما ملتفٌّ حول الآخر طوال النهار وفي الليل يبحثان عن بعضهما البعض في أوقات منتظمة لكي يرعى كلٌّ منهما الآخر أو لينظفَ كلٌّ منهما جسدَ الآخر أو حتى ليجلسَا متجاورَين فقط «يتناجيان» لبرهة قصيرة عبرَ أصواتٍ تواصُليةٍ خاصة، النغمات أو الهمهمات الخفيضة تلك التي تبدو للإنسان تعبيرًا عن لا شيء إن هي إلا تعبيراتٌ عاطفية حميمة.»٢٠

ذكَرُ الدُّبِّ الرمادي المخطط يتقرَّب بأنفه من خصر أنثاه ويتنفَّس في أُذُنِها، وينشج بحنوٍّ لكي تقبِّلَه. ذكرُ الزراف يحكُّ رأسه في عنق أنثاه وجزعها. إناث النمور تقرص ذكورها، ويعضضْنَ برقَّة أعناقهم ووجوههم وهنَّ يمسحْنَ أجسادهن في أجسادهم. أزواج الخنازير البحرية تسبح معًا، أحيانًا فوق بعضها البعض، أو تحت بعضها البعض. ولكنهما دائمًا مترادفان، وهما يضربان الماء، ويتلامسان، ويتعانقان، و«يُقبِّلان» بعضهما البعض. التشيمبانزي يعانق، يُربِّت، ويُقبِّل أحدهما الآخر في الأفخاذ والبطون. إنها حتى تعرف كيف تُقبِّل «القُبلة الفرنسية» العميقة؛ حيث يُدخل أحدهما في فم الآخر لسانَه ذا الأهداب المخملية. حتى ذكور الصراصير تضرب إناثَها بقرون استشعارها.

(٧) حب الجراء الصغيرة

في كتابها الشهير: «الحياة السرية للكلاب»، أقرَّت إليزابيث مارشال توماس أن الكلاب تُبدي عواطفَ رومانتيكية عميقة نحو رفقائها. وصلَت إلى هذه الخلاصة بعد دقائق من تقديمها «ميشا»، كلب الهاسكي السيبيري الوسيم، إلى «ماريا» الكلبة الصغيرة الجميلة التي تخصُّ ابنتها. وكانت من الفصيلة نفسها. استقبلَت إليزابيث الكلب ميشا في بيتها حينما ذهب أصحابُه إلى رحلة طويلة في أوروبا.

يوم وصوله بيت آل توماس، حينما تركه أصحابُه قبل سفرهم، تبختر ميشا نحو غرفة المعيشة ليستكشفَ المكان، فوقع بصرُه وثبت فورًا على الفاتنة الساحرة ماريا. وفي لحظة وثب عند قدمَيها وانزلق ليتوقف. في الحال كتبَت توماس: «أن ماريا ثنَت مرفقَيها كدعوة للعب. «طاردني»، هكذا كان يقول لسانُ حال حركاتها. وهو ما فعله. بسرعة، وبخفَّة، راح هذان الكائنان المبتهجان يدوران حول الغرفة. ميشا وماريا كانَا مأخوذَين بعضهما ببعض ومفتونين لدرجة أنهما لم يعودَا يهتمان بشيء مما يجري حولهما. حتى إن ميشا لم يلحظ متى غادر أصحابه البيت.»٢١
هذان الكلبان السعيدان على الفور تلازمَا ولم يَعُد ممكنًا فصلهما. معًا كانَا يأكلان، وينامان، ويتجولان. ومعًا أنجبَا أربعةً من الجراء اللطيفة؛ ومعًا ربيَا صغارهما، حتى حلَّ يوم أسود حينما تخلَّى أصحابُ ميشا عنه لبعض الناس في الريف. على مدى أسابيع، ظلَّت ماريا تجلس على إطار الشرفة في بيت توماس من حيث شاهدَت حبيبها ميشا لآخر مرة وهو يُجبَر على دخول سيارة. هناك تسمَّرت في ذلك المكان. وأخيرًا ضربها اليأسُ وتوقَّفَت عن انتظار عودته. «ولكن ماريا أبدًا لم تُشفَ من فقدها»، كما كتبَت توماس. «فقدَت ماريا بريقها … ولم تُبدِ أيَّ رغبة في عمل علاقة دائمة مع ذكَرٍ آخر، رغم أنه، على مدى سنوات، توافد على بيتنا العديدُ من الذكور المحترمين المؤهلين للزواج.»٢٢

(٨) الحيوانات انتقائية

الطاقة المفرطة؛ التركيز الموجَّه لمُثير واحد بعينه من أجل مطاردة ومغازلة هذا الشريك «الخاص»؛ فقدان الشهية، المثابرة والإصرار، الضرب الحنون، التقبيل، اللعق، الاحتضان والتلامس، واللعب الإيروتيكي العابث: كلُّها سماتٌ لافتةٌ للنظر من سمات الحب الرومانسي بين بني البشر. سمِّها ما شئت، إلا أن العديد من الكائنات تقع في الجاذبية الغرامية.

على أن الحيوانات انتقائيةٌ، تُجيد الاختيار.

من بين كلِّ الخصائص التي تميِّز الحب البشري من تلك التي تُظهرها الكائنات الأخرى، ربما ليس أكثرَ جلاءً من تلك الاختيارية. ففي حين لا يمكنني أنا أو أنت أن نقفزَ في الفراش مع أيِّ شخص يحاول الإثارة، كذلك ليس من كائن فوق هذا الكوكب يقبلَ أن يُهدِر ثمين الوقت أو الطاقة في التزاوج من دون اختيار ورغبة حقَّة. فالحيواناتُ ترفض بعضَها في حين تقبل البعض الآخر.

تمامًا كما يحدث من أنثى الخفاش الأفريقي ذي الرأس المطرقة. في موسم الجفاف، تحتشد الذكور في lekking ground، منطقة التزاوج على طول أحراش ضفاف نهر ليفيندو في الجابون، بأفريقيا. تَصِل الذكور مع الغسق لتهبطَ وتستقرَّ في أوضاع مسائية مؤقتة. بمجرد استقرارها تبدأ في الغناء بصوتٍ رنَّانٍ حنجريٍّ حادٍّ وعالٍ وهي تقلِّب أجنحتها النصف مفرودة بإيقاعٍ ضِعف إيقاع غنائهم.
الهدف: جذب الانتباه إليها ولفت النظر. وسرعان ما تأتي الإناث وتتجول بين الذكور، خافقةً بأجنحتها لتتفحص بدقة أحدهم ثم الآخر. وفيما تفحص أنثى ما أحدَ الذكور يبدأ في تقوية جسده وتعزيز وقفته ويمضي في استعراض عروضه: خفق جناحَيه بقوة وهو يُعلي من طبقة صوته في مقطوعة الطنين. بين تلك الأصوات المتنافرة التي يُصدرها ذكورُ الخفافيش، تكون كلُّ أنثى قد وقع اختيارُها على ذكَرِها المختار، فتهبط جواره، ثم يتزاوجان.٢٣

من بين فصيل التشيمبانزي العادي الذي ظلَّت تدرسه عالمةُ الحيوان والتراتب التطوري بين القردة والإنسان، بروفيسور «جين جودال» على مدى أربعين عامًا في تنزانيا، كانت القردة «فلو» هي الأكثر شعبية. حينما دخلَت دورتها الشبقية عام ١٩٨٣م، كانت تُتبَع في أيِّ مكان تذهب إليه بقطيع من الذكور قوامه ١٤ قردًا يافعًا، كانوا راغبين أيضًا في الدخول مباشرة في خيمة جودال فقط لكي يكونوا على مقربة من تلك الأنثى المفضَّلة «فيفي»، ابنة «فلو»، كانت أيضًا مطاردةً من الذكور — أكثر كثيرًا من صديقتها، بوم. للتشيمبانزي تفضيلاته وانتقاءاته.

قد يعود المرء ليعتقد أن جاذبيةَ تلك الحيوانات تعود وحسب للدورة الهرمونية، تلك التي تجعل سيكولوجية الأنثى في دورتها جاذبةً للذكور لكي يختاروا أنثى ما دون غيرها. على أن جودال، العالمة المشهورة، لا توافق على هذا. كتبت أن «تفضيلات الشريك» غير معتمدة على التأثيرات الهرمونية، ومن الواضح أن لها تمايزات واضحة لدى التشيمبانزي.٢٤ في الحقيقة هي تؤمن أن الذكور من فصائل الحيوانات العليا «يظهرون تفضيلات لا شك فيها لدى إناث بعينها، مما يؤكد أن تفضيلاتهم مستقلة عن الدورة البيولوجية.»٢٥ أكد خبير سلوكيات الحيوان «فرانك بيتش» الملاحظةَ نفسها عام ١٩٧٦م، فكتب: «حدوث التزاوج أو عدم حدوثه يعتمد بشكل كبير على التآلف الفردي أو التنافر بالقدر بنفسه الذي يعتمد فيه على وجود الهرمونات الجنسية لدى الإناث أو غيابها.»٢٦
الذكر يفضِّل أنثى بعينها بصرف النظر عن ظرفَيهما الجنسي، والأناث تنجذب لذكور بعينها على الرغم من وضاعة رُتبتِهم وانخفاض حالتهم، كما لاحظ داروين قبل مائة عام. كتب في كتابه «أصل الإنسان» أنه حتى في الحيوانات الشديدة التوحش، الإناث لا ينجذبن بالضرورة للذكر الأقوى، أو الأجسر، أو حتى الأكثر فوزًا وانتصارًا بين الذكور في موسم التزاوج، «الأمر يبدو كأنما الأنثى فقط أُثيرَت، سواء قبل المعركة أو بعدها بذكَرٍ معين، ومن ثَم بدون وعي تنجذب إليه وتُفضِّله.»٢٧

الأسود، قردة البابون الأفريقية والآسيوية، الذئاب، الخفافيش، وربما حتى الفراشات، جميعها تميِّز بين المغازلين، فتصرُّ على تجنُّب مرافقة البعض، وتُثابر من أجل التركيز على التزاوج وتركيز طاقتها الرومانتيكية مع البعض الآخر.

الحيوانات من الفصائل المختلفة تنجذب لأنواع مختلفة من الشركاء، بطبيعة الحال. الإناث في فصائل عديدة (بمَن فيها النساء) عادةً ما ينجذبنَ للرجال من المرتبة العالية. بعضهن يفضلْنَ أولئك الذين يسكنون أفضل الأماكن.٢٨ بعضهن يفضلْنَ ذكورًا قادرين على الدفاع عنهن وحمايتهن أو ذكورًا يساعدونهن في تنشئة الصغار. بعض الإناث تفضِّل الذكور ذات الأذيال ذات الريش المنتظم الشكل أو ذات الوجوه الأكثر احمرارًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الذكور لديهم حساسية من أعمار الإناث، تمامًا مثل حالتهن الصحية، وحجمهن، وشكلهن. ولكن كما كتبَت جودال حول الحيوانات العليا: «الشخصية، أيضًا لها أهمية قصوى.»٢٩

«جميع» الحيوانات انتقائية. للحق، فإن تلك التفضيلية شائعةٌ جدًّا في الطبيعة حتى إن أدبيات الحيوان تستخدم مصطلحاتٍ عديدةً في وصفها، بما في ذلك: «تفضيلات التزاوج»، «انتقائية ما قبل الجنس»، «التفضيلية الفردية»، «الاختيار الجنسي»، و«اختيار الشريك».

انتقائيٌّ هو الحيوان، ذاك أن معظم الحيوانات تعبر بجلاء وبسرعة، عن تفضيلاتها.

(٩) الحب من النظرة الأولى

«منذ اللحظة التي وقعَت فيها عيناها عليه، أصبح معبودها. لا تريد سوى أن تكون إلى جواره، لتُغدقَ عليه مشاعرها. كانت تَتْبعه أينما ذهب. نغمة صوته كانت تجعلها تنبح.»٣٠ «فيوليت»، الكلبة البانكي الصغيرة التي تعيش مع إليزابيث مارشال توماس في كامبردج، ماشوسيتس، التي وقعَت في غرام «بينجو»، كلبهم الآخر.

أظهرَت فيوليت كلَّ عواطف الحب نحوه منذ اللحظة الأولى.

وسلوكُها شائع في الطبيعة، لسبب مهم: معظم إناث الكائنات الحية لديها موسمُ إخصاب أو دورة حيوية أخرى معينة تلك التي تنضج فيها سيكولوجيًّا. لديهن فقط دقائق قليلة، ساعات، أيام، أو أسابيع، للتزاوج والحمل، ثم ينشرْنَ فصيلهن وجيناتهن الوراثية. ليس بوسعهن أن يُهدرْنَ الأشهر في مراجعة السيرة الذاتية لكلِّ مغازل على حدة. ثم إن طقس الغزل قد يكون شديد الخطورة؛ فعملية الجماع تضع الحيوان في وضعِ تسويةِ نزاع دائمة، الحيوانات المفترسة والمتنافسة بوسعها أن تهاجم. على قدرٍ متساوٍ، يستهلك التزاوجُ وقتًا كبيرًا بقدر ما يستهلك الطاقة. لهذا فإن الانجذابَ الفوريَّ يُمكِّن الذكور والإناث في فصائل عدة من تركيز طاقة التزاوج الغالية على شريك مخصوص ليبدءوا من فورهم عمليات التزاوج والإخصاب على وجه السرعة.

ربما نحن البشر نمتلك تلك الظاهرة؛ لأن الحبَّ من أول نظرة شائعٌ بين الرجال والنساء. في استطلاعِ رأيٍ حديث بين مائة من الأزواج الأمريكان، ١١٪ من أولئك الرجال والنساء وقعوا في الحب من النظرة الأولى بمجرد أن وقعَت عيونُهم على شركائهم؛ وفي استطلاع بين ٦٧٩ من الرجال والنساء أُجريَ في الستينيات، وُجد أن نحو ٦٠٪ من المشاركين سجَّلوا أنهم وقعوا في الحب من اللمحة الخاطفة الأولى.٣١
هذا الانجذاب الفوري حدث كذلك للرئيس الأمريكي توماس جفرسون. كتبَت المؤرخة فاون برودي: «الذي أُخبر لجفرسون مسبقًا عن ماريا كوزواي كان ملتبسًا؛ لأنه لو كان ثمة رجل يقع في العشق في أمسية واحدة، فقد كان هو.»٣٢ التجربة ذاتها حدثَت لسيدة معاصرة تعيش في كارتورا، بلدة في الشمال الشرقي للبرازيل. اعترفَت لخبيرة أنثروبولوجي: «لم أكن أبدًا قد رأيت هذا الرجل. وحينما رأى كلٌّ منا الآخر، لم أعرف ما الذي حدث إن كان حبًّا من النظرة الأولى أم ماذا. بعد أسبوع هربت معه.»٣٣ امرأة من جزيرة بحار الجنوب في مانجايا عبَّرت عن المشاعر نفسها. «حينما شاهدت ذلك الرجل، تمنيت أن يكون زوجي، وكانت تلك المشاعر مفاجئة؛ لأنني لم أكن قد شاهدته من قبل.»٣٤ تزوجته. وبعد سنوات أشارَت إلى التجربة قائلة: «كان ذلك اللقاء من أعمال الطبيعة».

الحب من النظرة الأولى هو أحد أعمال الطبيعة.

(١٠) الحب من الرائحة الأولى

يسألني الناس إن كانت رائحةُ شخص ما دافعًا للجاذبية الفورية. مؤكدًا أن العديد من الحيوانات تنجذب فورًا لرائحة شركاء معينين للتزاوج. لكنني أشك في أن الحب من الرائحة الأولى يحدث بين البشر – لسبب بيولوجي.

أجدادنا من الحيوانات العليا منذ قديم الزمان عاشَت في أعالي الأشجار لمدة ٣٠ مليون عام على الأقل. لكي تتجنب السقوط على الأرض وكذا لكي تنتقيَ الثمار الناضجة، كانت تحتاج إلى نظرٍ حادٍّ، أكثر من احتياجها لحاسة شم قوية. وكنتيجة لذلك، كان للقردة ولإنسان الغاب حاسة شم منخفضة نسبيًّا. والمنطقة الأكبر من المخ كانت مخصصة لاستقبال المُحثَّات البصرية. نحن البشر نمتلك هذه المَلَكات. وتلك الشبكة البصرية متصلة على نحوٍ فائق الدقة مع بقية الحواس ومع شبكة مشاعرنا وأفكارنا. في الحقيقة، بوصفنا من فصيل الحيوانات العليا، فإننا نجمِّع ٨٠٪ من معارفنا عن العالم من حولنا عن طريق عيوننا. وهذا دون شكٍّ السببُ وراء أن العديد من علاقات الحب الرومانسي عبر الإنترنت تخفق حينما يلتقي الأحبة وجهًا لوجه. المحثَّات البصرية شديدة الأهمية للرومانسيات.

لهذا أشك في أن العديد من البشر يقعون في الهوى حين يلتقطون بأنوفهم عبيرَ مغازليهم في حفل ما. ولكنني أعتقد أنه بمجرد أن يصبح الرفيق حميمًا — وله مكانة عزيزة — تصبح رائحتُه، أو رائحتُها، مثيرةً للشهوة. أعرف نساء كثيرات يحببْنَ أن ينمْنَ وهنَّ يرتدينَ قمصان عشاقهن؛ لأنهن يحببْنَ البرفانَ المشعَّ منها، على سبيل المثال.

والأدب الغربي مليءٌ بشخوص ذكورية حثَّهم عبيرُ مناديل حبيباتهم أو قفَّازاتهن. وبصرف النظر عمَّن الذي يضغط زنادَ الجاذبية، فإن تلك المغناطيسية بوسعها أن تكون لحظية. حينما يكون الإنسان أو الكائن الحي جاهزًا نفسيًّا وجسديًّا ويظهر الشريك المناسب نسبيًّا أمامه، فإن أبسط المحثَّات قد تُشعل نار الانجذاب.

وهكذا تصبح معظم الحيوانات مستحقة على نحو هائل لجوائزها.

(١١) التملُّكية

«أنتِ نفسك — روحك — أستعطفُكِ أن تهبيها لي جميعها/لا تحرميني من ذرَّة واحدة منها، وإلا سوف أموت.» كان كيتس يريد أن يمتلكَ كلَّ ذرَّة من حبيبته. الكثير من المخلوقات تُشاركه النزعةَ ذاتَها. بعض الطيور والثدييات قد تقاتل حتى الموت كي تتملَّكَ حبيبَها على نحوٍ حصري.

أثناء موسم يونيو للتزاوج، على سبيل المثال، يظل ذكَرُ الدبِّ المخطَّط يهتمُّ بأنثاه لعدة أيام أو حتى أسابيع، رغم أنه سوف يرحل بعد برهة إذا ما وجد فرصةَ تزاوج أخرى. بملاحظة ذكَر الدب المتمرس في حديقة يلوستون الوطنية، كتبَ عالمُ الطبيعة توماس ماك نامي: «في عُش أوراق الشجر والأغصان التي كانت فراشهما النهاري، بوسعه أن يرقدَ وهو ينشب في كتفها مخلبًا امتلاكيًّا حاميًا. حينما يقترب ذكَرُ دبٍّ آخر … تكون زجرة غاضبة كفيلة بأن ترسل الزائر المنافس المحتمل بعيدًا.»٣٥
مثال غير سعيد عن نزعة التملكية تلك، لاحظه خبيرُ الحيوان ديفيد باراش، عند عصافير الجبال الزرقاء المغردة.٣٦ بدأ موسم التزاوج وكان ذكَرُ العصفور الأزرق وأنثاه قد بنيَا عشَّهما واستقرَّا داخله. بينما نفد العلف لدى الذكر فخرج ليأتيَ بغيره، وضع باراش دميةً على شكل ذكر عصفور أزرق جبلي على غصن الشجرة جوار العش. وحدث الصخب والعنف. حينما عاد «الزوج» وشاهد ذلك الدخيل المتطفل، بدأ في مهاجمة الدمية بكل عنف وقسوة. ثم تحوَّل لرفيقته وراح يُهاجمها بكل قسوة، نازعًا عنها ريشتَي الطيران. هربَت الأنثى. وسرعان ما ظهر الذكَرُ مع أنثى أخرى، أكمل معها طقسَ التزاوج والإنجاب.
تدفع الامتلاكية بعضَ الكائنات إلى العنف، إلا أن الغيرة تُوقع البعض الآخر في الاكتئاب والإحباط. تذكرون «فيوليت»، الكلبة الصينية الصغيرة التي كانت واقعةً في هوى «بينجو»، الكلب من الفصيلة نفسها. كانت فيوليت شغوفة ﺑ «زوجها». كانَا رفيقَين. «مثل زوجَين صغيرَين من البشر، كان لهما ترتيباتهما الخاصة.» هكذا كتبت إليزابيث مارشال توماس. «حتى الطريقة التي كانا يحبَّان أن يناما عليها.» بدأَت مشاكل فيوليت في الظهور في اليوم الذي دخلت فيه بيت مارشال الكلبة الصغيرة الجميلة ماريا، من نوع هاسكي. كتبت توماس عن غيرة فيوليت: «ما أزعج فيوليت أكثر من ماريا هو أن بينجو أُعجب بها كثيرًا. متجاهلًا فيوليت، كان بينجو يقضي أوقاتِ النهار في التودد لماريا، يتمشَّى أمامها للأمام وللخلف، أو جوارها، وكانت أُذُناه منكَّستَين لأسفل، تعبيراتُه رقيقة وذَيلُه يتأرجح على نحوٍ واهن. حاولَت فيوليت كثيرًا أن تُوقفَه. دون أن يحالفَها الحظ. وأخيرًا، انسحبَت فيوليت وانزوَت في ركن بعيد، عزباء وحيدة، مُحبطة.»٣٧

أقرباؤنا الأقرب لنا نحن البشر، التشيمبانزي، بوسعه أيضًا أن يكون تملُّكيًّا على نحو هائل، حتى وإن كان عديمَ التمييز في اختيار علاقاته الحميمة بحكم الطبيعة. في ذروتها الشبقية تزور الأنثى عادةً ذكرًا واحدًا، ثم واحدًا آخر، أحيانًا تتزاوج من عشرة ذكور في اليوم. بهدوء وبرود ينتظرون دورهم، إلا أن التشيمبانزي يكون تملكيًّا للغاية. بينما تنمو عواطفه، يحاول ترسيخ شراكة حصرية مع أنثى بعينها.

هكذا كان «ساتان»، التشيمبانزي الذي كان يعيش في محمية شلال جومبي، في تنزانيا. كتبَت جين جودال عن علاقة ساتان قصيرة الأمد مع «ميف». كانت ميف لتوِّها قد دخلت في ذروتها «الساخنة» وعرف كلُّ الذكور ذلك. بدأ النهارُ صاخبًا وهي تتنقل من ذكر إلى آخر بينما تستعرض ردفَيها وتتزاوج مع كلٍّ منهم. ولكن النهار انسحب، وواحد إثرَ واحد راح كلُّ ذكَرٍ يجرُّ قدمَيه نحو الشجيرات ليأكل أو ليستريح. انتظر ساتان حتى مضى آخرُ المعجبين. حينئذٍ، وبينما ميف تُوقظ نفسَها لكي تتبعَهم، وثب ساتان أمامها في طريق الغابة وراح يتمشَّى عفويًّا في الاتجاه الذي لم يسلكه الذكور الآخرون. ثم بدأ ينظر من فوق كتفه ليرى إن كانت تَتْبعه. وبالفعل كانت.

بعد نصف ساعة سمعَت ميف الذكورَ الآخرين ينادون عبر أوراق الشجر. لبرهة نظرَت صوب الأصوات، ثم مباشرة نحو ساتان الذي كان يهزُّ الأغصان بنفاد صبر لكي يُلهيَها. توقَّفَت، كأنما تقيس بدائلها. ثم تبعَت ساتان عبر سلسلة التلال إلى وادٍ قريب، بعيدًا عن بقية الذكور الآخرين.٣٨

عادة ما تمكث أنثى التشيمبانزي أثناء ذورتها الجنسية في التجمع لكي تتزاوجَ تقريبًا مع جميع الذكور. وإذا ما انجذبَت إلى معجب ما، فربما تُرافق هذا المعجب «الخاص» نحو المحيط الخارجي للمنطقة التي يقطنونها، لتبقى معه من ثلاثة أيام إلى حوالي ثلاثة أشهر. تُطلق جودال على هذا الترافق المؤقت مصطلح: «الخروج إلى رحلة السفاري».

(١٢) حراسةُ الرفيق

ولأن نزعة التملكية شائعة جدًّا في الطبيعة، أعطاها خبراءُ سلوكيات الحيوان اسمَ: «حراسة الرفيق».٣٩ اعتبروا تلك النزعة في الحصرية الجنسية سمةً أولية في التزاوج لدى العديد من الفصائل. وبوجهٍ عام، فإن الذكَر هو الذي يحمي الأنثى من المتطفلين ومن قصور الأنثى ذاتها لأسباب قوية خاصة بالنشوء والتطور. إذا كان بوسع الذكَر عزل الأنثى أثناء مرحلة التبويض، فإنها سوف تحمل ذريته وتنثر جيناته في الحياة للأبد.
الذكور من الفصائل التي تشكِّل علاقات تزاوجية لتنشئة الصغار لديهم حافزٌ داروينيٌّ ثانٍ للتملكية الجنسية. ليس ملائمًا للذكَر أن يهدرَ وقتَه الحيوي وطاقته في بناء السكن، وحماية الأنثى، ومحاربة الدخلاء، وحتى إطعام الصغار ما لم يكن أولئك الصغار يحملون الحامض النووي DNA الخاص به. إذا ما عبثَت أنثاه مع ذكَر آخر، يكون الذكَر حينئذٍ تحت مخاطرةِ أن يكون زوجًا لامرأة خائنة لعوب. لذلك في الفصائل الأحادية اجتماعيًّا، تكون الذكور شديدةَ الحساسية من الدخلاء في فترات المغازلة والتزاوج. بعضُ ذكور القردة يعضُّون أعناق الإناث إن تجولَت وحدها أو يسوقها بالتربيت أو بالدفع؛ بينما الذكور من الفصائل الأخرى تحمي بعنف المقاطعةَ التي يحدث فيها التزاوج.

الرجال والنساء الذين شاركوا في استطلاعي (الذي ناقشناه في الفصل الأول) أيضًا أظهروا ذلك الميلَ نحو حماية الرفيق، خصوصًا الرجال. الرجال أكثر كثيرًا من النساء أبدَوا رفضًا للعبارة: «من الجيد ألَّا أكونَ في تواصل مع … لعدة أيام حتى يتأجج الشوقُ من جديد. هذا لأن المرأة بوجهٍ عامٍّ يكون لديها أصدقاء أكثر، علاقات أكثر، وشائج أسرية أكثر، ومسئوليات أكثر خارج نطاق علاقة الحب. لكن الرجال أيضًا ربما يكونون منساقين في لا وعيهم نحو حراسة الوعاء الذي يحمل بذورهم.»

لديهم سببٌ جيد. في استطلاعِ رأيٍ حديث أُجريَ على رجال ونساء من الأمريكان، اعترف ٦٠٪ من الرجال و٥٣٪ من النساء ﺑ «انتهاك حرمة الرفيق»، كانوا قد حاولوا التودُّدَ إلى أشخاص آخرين ليُقيموا علاقاتٍ معهم.٤٠ في الحقيقة، أظهرت دراسة حول ٣٠ ثقافة كم هو شائع ذلك الانتهاك للرفيق حول العالم.٤١

تمامًا مثل طائر الجبال الأزرق، فإن البشر استحواذيون.

ميل الإنسان للمطاردة، أو حتى قتل عاشق شريد على الأغلب جاء من ذلك الميل لدى الحيوان لحراسة الرفيق.

(١٣) طلب الزواج الهجومي

كلُّ تلك المعلومات قادَتني للإيمان بأن الحيوانات، الصغيرة والكبيرة، لديها دافعٌ بيولوجي للتفضيل، ولامتلاك رفيق مخصوص للتزاوج، ثمة كيمياء للجاذبية الحيوانية. وتلك الكيمياء هي المادة البيولوجية الخام للحب البشري الرومانسي.

ولكن أي مواد المخ الكيميائية هي المسئولة عن ذلك؟

ثمة محفِّزان طبيعيان وثيقَا الصلة في مخ الكائنات الثديية يبدو أنهما يلعبان دورَي دوبامين ونوريبينفراين. كلُّ الطيور والثدييات لديها أشكال متشابهة من الدوبامين والنوريبينفراين، عطفًا على تراكيب متماثلة في المخ تنتج وتستجيب لهذه «الغريزة العلوية»، على الرغم من أن تراكيب تلك الأمخاخ ودوائرها الكهربية تختلف من فصيل إلى آخر.

الأكثر أهمية، هو أن الدوبامين والنوريبينفراين يلعبان دورًا شديد الأهمية في الإثارة الجنسية ويُعليان من المُحثَّات لدى الطيور والثدييات.٤٢ على سبيل المثال، إناث فئران المعامل تُعبر عن ميولها العشقية عن طريق القفز والاندفاع، تلك السلوكات متزامنة مع تزايد معدلات الدوبامين.٤٣ وعند فئران السهول العشبية الأمريكية، وهي كائنات ضئيلة تُشبه كثيرًا جرذان الحقول، نجد أن تزايد معدلات الدوبامين في المخ لديها، يتزامن مباشرة مع تفضيلية شريك بعينه للتزاوج.٤٤
من فضلك التقِ بفئران البراري. تلك المخلوقات الضئيلة التي تحيَا في متاهة الأنفاق وفي الجحور على الأراضي المعشوشبة في الغرب الأوسط الأمريكي. تُنشئ فئران البراري شراكة زوجية لتربية صغارها. يبرح الذكر البيت رأسًا بعد البلوغ ليبحث عن «شريكة حياته». وبمجرد أن يجدَ المرشَّحة المناسبة يبدأ فورًا في مغازلتها بتوق شديد. يتشمَّم، يلعق، يدسُّ أنفه، يعتلي: يتزاوج زوجَا فئران البراري أكثر من خمسين مرة في حوالي يومين. بعد سباق المارثون الجنسي هذا، يبدأ الذكَر في التصرف باعتباره زوجًا جديدًا، يبني بيتًا للصغار القادمين، يحرس أُنثاه بوحشية من الذكور المتطفلين، ويحمي محيطَ بيتهما المشترك. حوالي ٩٠ بالمائة من فئران البراري تقضي العمرَ كلَّه مع شريك واحد.٤٥
على أن فئران البراري انتقائية، كما أظهرت تلك الدراسة. يُزاوج العلماء الأنثى في دورتها الشبقية مع الذكَر. وفيما تتزاوج الأنثى مع هذا الذكر فإنها تشكِّل ولعًا تمييزيًّا له، باعتباره نوعًا من التفضيلية التي تتزامن مع تزايد نسبة الدوبامين بمعدل ٥٠٪ في الحامض النووي، جزء من المخ في الحيوانات الثديية، يتشابه مع التوق والإدمان لدى البشر.٤٦
على النحو نفسه، حينما حقن العلماء منطقةً معينة من مخ أنثى فئران البراري بمادة تُقلِّل منسوب الدوبامين، فإنها لا تعود تفضِّل هذا الشريك أكثر من الذكور الأخرى. وحينما حُقنت الأنثى بدلًا من ذلك بمادة تزيد من معدلات الدوبامين، بدأت في تفضيل هذا الذكَر الذي تصادف ووجد لحظة الحقن، حتى لو لم تكن قد تزاوجت من قبل مع هذا المخلوق.٤٧

يبدو أن مفتاح اللعبة فيما يخص الانجذاب الحيواني يكمن في الدوبامين.

ربما يساهم النوريبينفراين في تلك المغناطيسية. حينما وضع العلماء قطرةً من بول ذكر فأر البراري على الشفة العليا لأنثى فأر البراري، زادت نسبة النوريبينفراين في المخ. هذا يساهم في إطلاق هرمون أستروجين ويحثُّ السلوك التزاوجي.٤٨ هل «تنجذب» أنثى فأر البراري لتلك الرائحة؟
تتزايد معدلات النوريبينفراين (وكذلك الدوبامين) أيضًا لدى أنثى الخراف في دورتها الشبقية حينما تنظر إلى وجه الخروف الذكَر.٤٩ ربما تُفتَن تلك النعاج مؤقتًا بتلك الكباش.
النوريبينفراين مرتبط حتى بوضعية معينة للتزاوج في الثدييات، عادة الأنثى في الانحناء، تقويس ظهرها، ورفع ردفَيها للأعلى صوب ذكرِها المغازل، إعلانًا عن التهيؤ الجنسي.٥٠ النساء يفعلن هذا أيضًا. فالمرأة قد تنظر بحياء من فوق كتفها إلى رجل ما، وهي تُحني ظهرَها وتُوَلِّي ردفَيها في اتجاهه.

قادَتني تلك البيانات للشك في أن الدوبامين و/أو النوريبينفراين يلعب دورًا في الجاذبية الحيوانية.

دون شك ثمة مواد كيميائية أكثر متورطة في العملية؛ فبينما تبحث الأفيال، والثعالب، والسناجب، والعديد من الحيوانات الأخرى بدقة عن فُرَص تزاوجها، فإنها من الواجب أن تميِّز الألوان، الأشكال، الأحجام، وتُنصت للنغمات العذبة، وتتذكَّر نجاحات الماضي وكوارثه، وتستنشقُ، تتلمَّس، تتذوق، لكي تجمعَ معلوماتٍ حول الزوج المحتمل.

تتناغم العديدُ من الأنظمة الكيميائية دون شكٍّ في سلسلة من التفاعلات، لكي تُشعلَ المشاعر التي تُولد الجاذبية الحيوانية.

لكن الحيوانات تحبُّ. تيا، الثور الهائج، سكيبر، ميشا، ماريا، فيوليت، تاليا، ألكسندر، ميف، ساتان، وتقريبًا كلُّ الثدييات الأخرى والطيور على هذا الكوكب، شعروا بانجذاب لشركاء آخرين مخصوصين. حينما يُصيبهم الافتتان المؤقت، تستجيب تلك المخلوقات للنغمة الكونية، نعيق، نقيق، نُباح، رفرفة أجنحة، زقزقة، تبختر واختيال، تشمُّم، تربيت، مداعبة، اقتران — عشق — نحو ذاك الشريك المفضل.

حينما تتطور كيمياء المخ أول الأمر لدى الحيوانات في حال الانجذاب لا أحد يعرف. أظن أن الحيوانات الأولية حينما كانت تركض تحت أقدام الديناصورات، فإن تلك الثدييات البدائية المشابهة للبشر كانت تُطوِّر شبكة مخيَّة بسيطة لكي تدفعَها لأن تُميِّز بين المغازلين لتُفضِّل واحدًا دون الآخرين. بهذا التطور الحيوي، مضَوا قُدُمًا نحو التكاثر، ناشرين تلك الكيمياء في المخلوقات السابحة، الطائرة، الزاحفة، الواثبة، النطاطة، الراكضة، المتأرجحة، بما في ذلك الأسلاف من إنسان الغاب والبشر.

الرجال والنساء من الهند القديمة أسمَوا الحبَّ الرومانسي: «رقصة الكون الخالدة».٥١ كانوا على حقٍّ. لطالما شعر السنجاب الأمريكي، الحمار الوحشي، الحوت بالانجذاب لشريك بعينه فإنه يتغير بوضوح. البيئة المحيطة تتغير. الاحتياجات تتغير. المظهر الخارجي والكيمياء الداخلية تتغير. لدى الفئران ربما يدوم الانجذابُ لثوانٍ معدودة فقط. الأفيال يبدو أنها «تقع في الحب» لثلاثة أيام. الكلاب غالبًا تُظهر الانجذاب لأشهر والاقتران لسنوات عديدة. تساءل بعضُ العلماء حول مدى «وعي» تلك المخلوقات بمشاعرها وعواطفها.٥٢ لا أحدَ يعرف. على أن الحيوانات تعبِّر عن طاقة عالية، اهتمام مركز، شعور مفرط بالحيوية والبهجة، التوق، العناد، الامتلاكية، والعواطف: الجاذبية الحيوانية. وتقترح البيانات أن تلك الجاذبية تتزامن مع عنصرين من عناصر المخ الكيميائية – الدوبامين والنوريبينفراين.

هل يمكن أيضًا لهذين العنصرين أن يلعبَا دورًا في الحب البشري؟ لكي نفهمَ كيمياء تلك «الرقصة الخالدة»، قررتُ أن أنظر داخل المخ البشري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤