الفصل الرابع والعشرون

دخول ولايات أميركا المتحدة في الحرب

في ٣١ يناير سنة ١٩١٧ أرسلتْ ألمانيا إلى جميع الدول المحايِدة مذكِّرة قالتْ فيها إنها من أول فبراير ستُطلِق لغوَّاصاتها العنان؛ لكي تُغرِق جميعَ البواخر بلا قيد ولا شرط، غير مراعيةٍ جنسيتها ولا محمولها، وأمهلتِ البواخر خمسة أيام لتعود فيها إلى المواني المحايِدة، فأحدثتْ هذه المذكِّرة في بلاد المحايِدين عمومًا، وولايات أميركا المتحدة خصوصًا، هياجًا واضطرابًا لا مزيدَ عليهما.

وفي ٣ فبراير قطعتِ الولايات المتحدة علاقاتها السياسية بألمانيا، وفي ٦ أبريل شهرتِ الحرب عليها، وأخذتْ تستعد لها استعدادًا أدهش العالَم قاطبةً، وعلى الفَوْر وقفتْ حكومتها على تجنيد عشرة ملايين رجل، واعتماد ألوف الملايين من الريالات لها وللحلفاء، ووقفتْ جميع المعامل في بلادها على بناء البواخر وصنع الأسلحة والذخائر، وإمداد الحلفاء بكلِّ ما يحتاجون إليه من مِيرةٍ وذخيرةٍ، وشرعتْ في إرسال جيوش إلى فرنسا.

وفي ٨ يونيو رستْ بوارجُها في المواني الفرنسوية، ووصل قائد جيوشها العام الجنرال برشنغ إلى إنكلترة، وفي ٢٨ منه وصلتْ طلائع جيوشها إلى فرنسا، ثمَّ أخذتِ البعثات تتلوا بعضُها بعضًا على رغم شدة مقاومة الغوَّاصات لها، وزاد متوسط عددها في كل من الأشهر الأخيرة على ٣٠٠ ألف، وبلغ مجموعها عند عقد الهدنة مليونين ونصف مليون.

حتى متى تَجِفُ القلوب وتخفقُ؟!
وإلامَ تضطرب النفوس وتقلق؟!
والخلق طرًّا في شقاءٍ شاملٍ
وبودهم لو أنهم لم يُخلَقوا
سئموا اقترانًا بالحياة أمضَّهم
ولو أنهم مُنِحوا الخيار لطَلَّقوا
طمعوا بأن يلقَوْا أقلَّ مسوِّغِ
في هذه الدنيا البقاءَ فما لقوا
والحرب فيها لا تني١ مشبوبةً
وسعيرها يشوي الأنام ويحرق
المالَ تُفني والرجالَ تبيدهم
ودِماءَهم هدرًا تثجُّ وتُهرِقُ
بقذائف البارودِ تنثر هامَهم
وجسومهم بظُبى الأسنَّة تعرق٢
قلب الحديد يذوب من أهوالها
ويشيب من رأس الوليد المفرقُ
عمَّتْ رزاياها البرايا كُلَّهم
كالسيل يجرف ما أصاب ويُغرِقُ
من قبلها شبَّتْ حروبٌ جَمَّة
والغرب ضجَّ لهولها والمشرقُ
لكنها في جنب هذي لم تكن
شيئًا به الذكرى تليقُ وتلبقُ
تلك الحروبُ على اشتداد سَمومها٣
كانتْ لدى هذي بَلِيلًا٤ تُنشَقُ
وسلاحها رمحٌ يُحدَّد نصلهُ
ومهنَّدٌ يُنضَى وسهم يُرشَقُ
ومع الرصاص البندقي استُنبطتْ
أُكَرُ الحديد من المدافع تُطلَقُ
هذي هي العُدَد التي كانتْ بها
من قبلُ ناصية المعارك تمشقُ
وزمانها إذ ذاك مثلُ مجالها
مهما يَطُلْ ويَسَعْ قصيرٌ ضيقُ
وعلى فداحة ما جنَتْ فخطوبها
سلعٌ بأسواقِ التحمُّل تُنفَقُ
لكنما هذي الكريهةُ شرُّها
سيلٌ على كلِّ الورى يتدفقُ
ومُثيرها غليوم لا يرثي لمَن
في غمرها غرقوا ولا يترفَّق
ورجاله كلٌّ يسير على هوى
مولاه شيطان الوَغى لا يُشفِقُ
أذكى شرارتَها وأمَّل أنهُ
فيها على الحلفاء نصرًا يُرزقُ
ومضى عليه ألف يومٍ وهْو من
دَمِ شعبه فيها يعبُّ ويُنفِق
ما زال يُحضئُها ويُضرمُ نارها
ويطيش من كرِّ الحبوط وينزق
ويواصل الحرب التي الحلفا سَعَوْا
في منعها قبلَ الشُّبوب فأخْفقوا
ويجدُّ في توسيع شُقَّتها ولا
ينفكُّ منها يحتويه مأزقُ
لم يرعَ فيها قطُّ حرمة شرعة
وعن المحارم لم يذُدهُ مَوْثِقُ
بل هبَّ ينتهك الشرائع كلها
ويحزُّ لبَّاتِ العهود ويخرقُ
فأباح تخريب الكنائس مُرسِلًا
في أنفس الآثارِ سهمًا يمرقُ
وأحلَّ قتْل الأبريا بقذائفٍ
سفن الهوا ترمي بها وتحلِّقُ
ولأنتِ يا لوفانُ أصدق شاهدٍ
بفظائع الألمان جهرًا ينطقُ
كم غارةٍ شنَّتْ على باريس! بل
كم مِن جراها أهل لندن أُقلِقوا!
بل كم قتيلًا فيهما وسواهما
قتلت وليس به غبارٌ يلصق
ذا بعض ما اجترحتْه طياراتهُ
وإلى بيانِ الكل لا أتطرَّق
لكنما حوَتِ الفظائع لم يزل
يشكو الصدى وفؤاده يتحرَّق
فرمى بغوَّاصاته حتى غدا
حلق المحيط بها يغص ويشرق
وتسابقَتْ تجري أوامر ربها
وتجِدُّ في تنفيذها وتُدقِّق
ولها بإغراق السفين وركبها
تفويضهُ مِن كل قَيْد مطلقُ٥
فأتتْ جرائم سجَّلتْ فيها على
ألمانيا عارًا به تتمنطقُ
وأقامتِ الدنيا عليها وهْي لا
تنفكُّ ركب المنشئات٦ تُغرِقُ
وحكومة الدكتور ولسن هالها
هذا البلاءُ المستطير الموبِق
وعلى التلافي حضَّتِ الألمان والـ
إنذار يُرعِد بالوعيد ويُبرِق
لكنهم لم يأبهوا لوعيدها
وعلى التمادي في جرائرهم بقوا
سخروا بصولتها وعدُّوا شهرها
للحرب هبهُ أذيع لا يتحقَّق
وغرامها بالسِّلْم يُوصَد دونها
باب الجنوح إلى الكفاح ويُغلَقُ
وإذا أرادتْ أن تمدَّ بجيشها الـ
ـحلفا الذين لها عَنوا وتملَّقوا
فجنودها في كل شهرٍ عدُّهم
مهما تزده ففرقة أو فيلقُ
ولهم بعرض البحر غواصاتهم
فتصدُّها عن قصدها وتُعوِّق

•••

هذي الأقاويل التي الألمان في
ما بينهم هذروا بها وتشدَّقوا
واستدرجوا حلفاءَهم فتسابقوا
وبهم على الفور اقتدوا وتخلَّقوا
وإلى اقتراف المنكرات جميعهم
خفُّوا وإتيان الكبائر نسَّقوا
نصبوا مشانق أبرياء وحقُّهم
أن يُوثَقوا هم كالجُناة ويُشنقوا
وتفننوا في الموبِقات فأطلقوا الـ
غازات تحرق والسوائل تخنق
واستخدموا للقتْلِ والتعذيب آ
لاتٍ بها أغراضهم تتحقَّق
أمَّا الأُلى لا يُورَدون بها الردى
فتسومهم ما لا يُطاق وترهق
ولهم بأصناف الرزايا تبتلي
وتجمُّ٧ كاساتِ العذاب وتُدْهِقُ
وتذيقهم ثُكْلًا وتيتيمًا وتر
ميلًا تُجاح به النفوس وتُزهَقُ

•••

بأميركا هزءوا وقوةَ جيشها
حقروا وشدةَ بأسها لم يتَّقوا
فتحفَّزتْ للحرب تُثبت أنها
بوعيدها صدقتْ وهم لم يصدُقوا
واستصرختْ أبناءها فتراكضوا
كلٌّ أخاه إلى التطوُّع يسبق
تسعون مليونًا بها برُّوا ولم
يكُ واحد منهم يعقُّ ويأبِق٨
صرخوا بصوتٍ واحدٍ لبَّيكِ يا
أمَّ الرجال وكالسحاب تبعَّقوا
وعلى مشيئتها ورهن رئيسها الد
كتور ولسن كلَّ شيءٍ علقوا
أموالهم وعقولهم ودماءهم
وقفوا على سعة ولم يتضيَّقوا
نهضوا للاستعداد نهضة أمة
جدَّتْ ففازتْ والأجدُّ الأسبقُ
في حالتَيْ سِلْم وحربٍ أدهشوا الد
نيا بما فيه سَمُوا وتفوَّقوا
في السِّلْم راعَوْا ما اقتضاه مقامهم
فجروا على سنن الحياد ودقَّقوا
وقفوا أمام بني الوغى ولوَ انهم
ظفروا بأسباب الوفاقِ لوَفَّقوا
وتجنَّبوهم لم يحابوا واحدًا
منهم وسوَّوْا بينهم لم يَفرِقوا
شملوا فريقيهم بإحساناتهم
كالغيث من كرمائهم تتدفَّق
وتعهدوا الجرحى بجمعياتهم
نسماتها في كلِّ صُقْعٍ تعبق
وعلى الأُلى نُكِبوا بهذي الحرب قد
بسطوا أكفَّ سخائهم وتصدَّقوا
سلْ عن مآثرها العظيمة شرقنا
ينطق ومنه بها أوروبا أنطقُ
فلها حديثٌ في فرنسا شائق
وصداه في البلجيك منه أشوق

•••

لزموا الحياد فزادهم ربحًا ومِن
جرَّائه لم يَبْقَ فيهم مُملِق٩
لكنهم لم يُرضهم أن يَنعَموا
والبؤس عمَّ على البرية يُطبق
وفظائع الألمان يسبق بعضها
بعضًا لها في كل يوم مُلحَق
ولذاك ما نبذوا الحياد وأنكروا
أرباحَه وعلى الكريهة أطبقوا
في السِّلْم لم يتمكَّنوا أن يحبسوا
شرًّا له الألمان عمدًا أطلقوا
فتذرَّعوا بالحرب يتَّخذونها
وَهَقًا١٠ يُغلُّ به العدو ويُوثَق
والحرب أكبر وازعٍ١١ للحرب إذْ
بسعيرها يُكوَى المُثير ويُحرَق
في السِّلم راعوا العالمين بما على الـ
ـعافين من بِدَر المعونة أغدقوا
والحرب فيها أدهشوا الدنيا بأن
نهضوا لها وتوَقَّلوا وتسلَّقوا
بعزيمةٍ تَفْري الحديد وهمَّةٍ
نفَّاذةٍ هام المصاعب تُفلِّق
لم ينصرمْ عامٌ على استعدادهم
إلَّا الخناقَ على الأعادي ضيَّقوا
وعليهمُ انقضَّتْ مئات ألوفهم
عبر المحيط كما الصواعق تصعق
لم يعبئوا بوعيد غوَّاصاتهم
بل جاوزوا أخطارَها وتدفقوا
عبروا الخِضمَّ كأنهم ساروا على
يَبَسٍ لهم عضدُ الأمان مطوِّقُ
فيه استقلُّوا الباخرات فأبحرت
والدارعات بها تحفُّ وتُحدِق
وكأنها جسرٍ كبير ممتطٍ
لليمِّ أو هو فوقه متعلِّقُ

•••

هذا هو الشعب الذي «البوش» ازدَرَوْا
وله على رغم التجلُّد أحنقوا
ولسوف يلقَوْن العقاب معجَّلًا
يهوي عليهم كالقضاءِ ويُطبِق
يهوي وعندئذٍ ألوفُ ألوفِهم
تهوي وشمل صفوفِهم يتمزَّقُ
ونفوسهم بلظى العذاب تذوب والـ
أسنانُ من حنق تصِرُّ وتحرقُ١٢
١  لا تزال.
٢  تأخذ ما عليها من اللحم.
٣  السَّموم: الريح الحارة.
٤  البليل: الريح الباردة.
٥  أغرقتِ الغوَّاصات ما حمولته ١٤ مليون طن.
٦  السفن.
٧  تملأُ ومثله تدهق.
٨  يعقُّ: يعصي، ويأبق: يتمرَّد.
٩  فقير.
١٠  الوهق: حبل يطرح في العنق للأخذ.
١١  مانع.
١٢  تصر: تصوت، وتحرق: تسحق حتى يُسمع له صريف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤