الفصل الثاني

قصص ولقطات

إنْ لم تَخني الذاكرة قضى باول في المدينة بعد عودته من جنازة ألماير أربعة أو خمسة أسابيع، ثم أُصيب في الحادث، وهي فترة بَدت لي لاحقًا أقصر بكثير، وكأنها مُجرَّد استهلال لشهور نقاهته التي أتخيل أنني قضيتها مع هيلينا، رغم أنني في الحقيقة لم أقابلها إلا مرات معدودة لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة إلا قليلًا. غير أنني أتصور أني حللت محله في قلبها عندما راح الأطباء يرقعون جسده ويعلمونه ببطء المشي والكلام مرة أخرى. بإمكاني طبعًا أن أنظر في التقويم، لكن ذلك ليس مهمًّا، المهم أنني لم أستطع تصديق أن الحادثة وقعت يوم كسوف الشمس تحديدًا، وليس هذا فحسب، بل أيضًا في منطقة لا بُدَّ أنها مثالية لمشاهَدة الكسوف، في مكان ما في أعماق النمسا. حَكت لي فيما بعدُ في إحدى محاولاتها المتكررة لشرح ما حدث أنه غَفا لثوانٍ على الطريق السريع، ثم أصبحت حياته، على حد قولها، مُعَلَّقَة في خيط واهٍ. أما هو فكان تهكمه خالصًا عندما تحدث ضاحكًا عن رحلته الأولى في ربوع يوغوسلافيا. قال ذلك بعد خروجه من المستشفى قبل عيد الميلاد بقليل، وبوضوح كان باستطاعة المرء أن يرى أنه لم يَعُد الشخص الذي كانه، لا يحسن النطق، غير واثق الخطوة، وكأنه طفل يتخبط في العتمة؛ رأيت على وجهه آثار لطمات القدر واضحة، ولم يكن يملُّ من تكرار أن عليها أن تفرح لأنها لم تكن معه في السيارة.

ورغم أنه انقطع عن المجيء إلى المقهى في أوتنسن، فقد كنتُ أرى باول بين الحين والآخر في أسابيع الصيف تلك، قبل أن يقع له الحادث، لكن ذاكرتي لم تحتفظ بأي صور لهيلينا إلا نادرًا. الشيء الوحيد الذي ما زلتُ أتذكره بكل وضوح أنه ألحَّ عليَّ ذات يوم أن نذهب معًا للسباحة في إحدى بحيرات شمال المدينة، وأنها كانت معنا، وأنني بذلت جهدًا فائقًا حتى أُخفي انبهاري بها عندما سَبحتْ مسافة طويلة، ثم خرجَتْ من الماء والقطرات تتساقط منها، ورشته ضاحكة ضحكة مجلجلة كادَت تؤلمني، ولأن الشمس كانت في عيني لم أرَ إلا حدود جسدها ورأسها. لم أسألها أبدًا عن ذلك اليوم فيما بعد، وبالطبع لم أسأله هو، ولكن ليس من المعقول ألَّا تكون قد لاحظت أن هدوئي الظاهري كان محض تمثيل، وربما يعود السبب إلى أنني كنتُ أنتظر أن يستأنف باول الحديث عمَّا دار بيننا على رصيف المحطة، وأن يسألني أمامها، فأجد نفسي في موقف حساب وتبرير، وأقول أي هراء، وتَتعثَّر الكلمات على شفتي، أو لا أستطيع النطق بكلمة على الإطلاق.

غير أنني لاحظتُ سريعًا أن الأمر لم يشغله في الحقيقة أبدًا؛ إذ إنه لم يقابل أثناء الجنازة زوجته فحسب، بل أيضًا صديقة ألماير السابقة التي كان يعرفها منذ سنين ولَّت؛ كاتبة نشرت كتابًا ونصف كتاب، ثم انتهى بها المطاف لتعمل سكرتيرة في اتحادٍ للكُتاب في فيينا، وهناك كانت تعيث فسادًا. ولأن أصلها من إقليم جنوب التيرول، لم تكن تملُّ تكرار أنها، باعتبارها ألمانية اللغة في إيطاليا، لها كل الحق في أن تشعر بأنها جزء من أقلية. ورغم أنه لم يذكرها قبل ذلك أبدًا، فإنه بعد العودة لم يتحدث إلا عنها. الطريقة التي ينطق بها اسمها كانت وحدها تكفي لتشي بكل شيء، ثم صوته الرنان عندما يذكر اسمها: لِيلي Lilly؛ أما التُّهمة التي وجَّهها لها فلم تكن هَيِّنة، إنها في رأيه صَنعَت من مناسَبة محزنة أليمة حدثًا لافتًا للأنظار، واتخذته ذريعة كي تُرضي زهوها وغرورها، وتضع نفسها بكل ضمير مستريح في مركز الاهتمام.

لم أختبر أبدًا صحة أقواله، ولكن إذا صدق ولو جزء مما رواه، فقد كان سلوكها مقززًا إلى أقصى حد. حسبما قال فقد أزاحت أرملةَ ألماير من أمام القبر المفتوح لتحل محلها، راسمةً على وجهها — وكما يليق بامرأة مجرِّبة لَفَّت العالم — ملامح الوقار والهيبة، ومخبئةً عينيها خلف نظارة شمس سوداء، ثم تلقت العزاء منتحبةً باكيةً، وكأن عشر سنين طوال لم تمر على افتراقها عن المرحوم.

«بَلغَتْ من الوقاحة درجة أن أحدًا لم يعارضها.» قال لي. «على الأقل لم يجرؤ أحد على تجاوز قواعد الإتيكيت ومحاسبتها على ما تفعله.»

كنا نجلس على الرصيف أمام مقهى في إبندورف. هبط المساء سدوله، وسقطت آخر أشعة الشمس على الموائد المشغولة. عندما شرع يحكي كيف تعرَّف إليهما، لِيلي وألماير، بدا فجأة وكأنه تخلص من انفعاله، ثم وقع صريع النوستالجيا، وإن ظهر في الوقت ذاته أنه غير مستريح تمامًا؛ لأنه يروي ذلك، فراح يتأكد من موقفي قائلًا: «ستسخر مني.»

كانت مسابقة أدبية فاز فيها الثلاثة ببضعة آلاف من الشلنات، مسابقة مشئومة على حد قوله، أما أنا فأتصوَّرها واحدة من تلك المسابقات التي لا تضر وإن لم تنفع أيضًا، إلا أنه تحدث عنها وكأن عليه أن يخجل من اشتراكه فيها.

«آنذاك كنتُ ساذجًا غِرًّا. عندما رأيت في اليوم التالي صورة لنا في الصحيفة، اعتقدت أن الأمر أكثر من مجرد تشجيع بسيط»، قال ضاحكا ثم احتضرت ضحكته على الفور. «لا أعرف إذا كنت ما أزال أحتفظ بالصورة، ولكن على ما أتذكر كانت لِيلي تقف في المنتصف حاملةً في يدها باقة زهور بشعة في ألوانها كادت تحجب وجهها.»

مسرح الأحداث كان مدينة إنسبروك. كان حذرًا فلم ينزلق إلى الوشاية، بل كان ساخرًا في لطف عندما أكمل قائلًا: إن حياته البوهيمية الخالية من الهموم، والقصيرة جدًّا، بدأت في ذلك اليوم، وأثناء تلك الفترة حاول للمرة الأولى في حياته أن يكتب رواية، ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أنها فشلت بالطبع. بدا شارد الذهن وهو يرسم صورة لتلك الفترة من دون أن يلجأ إلى التهكم كعادته، ومن الواضح أنه بذل جهدًا ليأخذ ذلك الشخص الحالم — هكذا صوَّر نفسه — مأخذ الجد. وكأنه تعجب هو نفسه من الحنو الذي تحدث به عن ذاته، لذا كان يتوقف بين الحين والآخر عن الكلام وكأنه يصغي إلى الصوت الصادر منه كما يصغي الإنسان إلى شخص غريب. استمر الوضع هكذا، وفي النهاية لم يعد يتحدث إلا همسًا. قال إن مسكنه لم يكن يبعد كثيرًا عن مسكن لِيلي وألماير الذي كان يقع على حافة الغابة في هوتينج ويشرف على المدينة. كان يذهب إليهما بعد العمل، وأحيانًا كل مساء.

«كانت أجمل فترة في حياتي.» لم أعرف إلى أين أنظر عندما نطق بهذه الجملة متطلعًا إلي. «كانت الثقة تجاه كل شيء تملؤني، حتى أنني أتساءل الآن كثيرًا: ماذا حدث منذ تلك الفترة؟»

لم أرد عليه بالطبع. وما قاله بعد ذلك كان مفعمًا بالحنين. وصف لي كيف تعوَّد أن يقف أمام شرفتهما بالخارج لحظات عندما يُقْبِلُ الظلام، ويتفرج عليهما عبْر النافذة وهما يستعدان لمجيئه: الكأس في اليد أمام الموقد، والسير جيئة وذهابًا بين المطبخ وغرفة المعيشة أثناء فرش المائدة. أثار ما سمعته استغرابي، وتولَّد لديَّ الإحساس أنه كان يكفيه في بعض الأحيان لو ظلَّ أمام الشرفة يتفرج عليهما، ويلاحظ كيف يتعامل الواحد مع الآخر، وكأن قدره حرمه من كل ذلك. كان في كلامه أيضًا بعض الدلال وهو يلخص دوره آنذاك، فهو يدَّعي أنه بمجرد دخوله الشقة كان يشعر وكأنه يأتي من البرد، وكان عليه أن يتدفأ أولًا، وأن ينعم بالنظر في عيونهما وما تشعه من رفق وطيبة، ثم يشرب شيئًا قبل أن يقدر على تبادل الحديث معهما، بعد قضائه اليوم أمام آلته الكاتبة. كانت أضواء المدينة تتلألأ من بين الأشجار، هكذا وصف لي، وعندما يفرغون من الطعام، كانوا ينتقلون للجلوس في الهواء الطلق، واستدعيت في خيالي ثلاثة أطياف تجلس متلاصقة في العتمة، وعندما سألته عن فحوى أحاديثهم، انتابتني الدهشة لأن كل ما بدر منه لم يزد عن هزة كتفين، ثم تذرع في النهاية بأن أي إجابة ستكون ثرثرة عاجزة عن التعبير عن البهاء الذي كان يتوج حتى أكثر الأشياء عادية.

أضحت حماسته فجأة متطفلة ومزعجة رغم كل الضبابية في كلامه، عندئذٍ ساءلت نفسي عمَّا يريد الوصول إليه، إلا أنه قاطع نفسه قائلًا إنني أود بالتأكيد سماع شيء آخر عن ألماير، لكنه في الوقت ذاته أعرب عن شكوكه حول استطاعته ذلك.

«لم يكن هناك شيء يستطيع الإنسان أن يستشف منه سلوكه فيما بعد»، قال مؤكِّدًا. «وهو ما يسهل بالطبع إلصاق الحكايات والخرافات به.»

ثم قال لي: «يمكنك أن تختار ما يحلو لك، ويمكنك أن تتشبث بما شئت من تفاصيل، مثلًا أنه كان يمتلك درَّاجة نارية، ماكينة ثقيلة، وأنه كان أحيانًا يقودها عبْر تعاريج الطريق السريع القديم لمجرد أن يشرب فنجان قهوة في مكان ما، يمكنني أن أركز انتباهي على نقطة أنه كان في قراءاته يختار أصعب الأشياء ثم ينهمك في دراستها، وكأن أي شيء آخر من دون مستواه، كان يختار أصعب الموضوعات وأكثرها تعقيدًا، «جماليات المقاومة»١ مثلًا؛ كما يمكننا تضخيم ما رُوي عن عشق البنات له، وأنهن كن يركضن خلفه بالعشرات؛ لكن كل ذلك لن يأتي بشيء ذي بال، ولن يكون سوى تجميع لنوادر صغيرة لطيفة.»

«سيان ما يكتبه المرء عنه، لأنه — ببساطة — لن يتناسب مع مقتله اللاحق بالرصاص في كوسوفو.»

في البداية ظننت أنها محض كلمات يطلقها على عواهنها. رحت أنظر إليه في جلسته وهو يهز رأسه مغلق العينين. ارتدى الجاكتة، وبدا فجأة في عيوني أكثر هُزالًا مما هو في الحقيقة. أخرج نظارته الشمسية من الحقيبة التي يحملها على كتفه، ثم وضعها، لينزعها في اللحظة التالية. لزم الصمت تمامًا وكأنني غير موجود، مسدِّدًا أثناء ذلك نظرة تائهة إلى المارة الذين كانوا يعبرون أمام مائدتنا مباشرة. وأخيرًا قال:

«ما لا أستطيع فهمه هو الخواء والعبث. أحيانًا أشعر وكأن الحياة لا تكتسب معناها الذي يفرقها عن حيوات أخرى إلا بالموت.»

وبهذه الجملة عاد مرة أخرى إلى ألماير الذي شيعوا جثمانه قبلها بأيام إلى مثواه الأخير. ثم خَلَت نبرات صوته من أي دفء عندما قال: إن ما حدث لا يعدو في الحقيقة ما كان يخشاه؛ لأن لِيلي كانت قد أثبتت لدى وفاة زميلة كاتبة بأنها معزية متعبة. ورغم أنها لم تستطع أن تستخرج من تلك الزميلة شيئًا، فإنها لم تفارق فراش المريضة لحظة واحدة، ثم تَصاعدَت حدة نبرته عندما قال: تَعلَّقت بالمريضة بطريقة تنم عن وقاحة ما بعدها وقاحة، وكأنها كانت دومًا أقرب الناس إلى قلبها، بينما هي في الحقيقة كانت تنتظر بفارغ صبر أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. بل الأكثر بشاعة هو أن المُحتضرَة رفضت أي زيارة منها رفضًا قاطعًا، لكنها في أيامها الأخيرة لم تستطع أن تفعل شيئًا لتمنعها أو تمنع تلك الكائنات البائسة التي توافدت في أعقابها من فيينا إلى مستشفى بونتسن، الواحدة إثر الأخرى، نساء بلا ذرَّة حياء، حسب وصفه لهن، وكأنهن ندابات، ثم رحن يتشدقن بأربعة أبيات مشينة عن وفاة الصديقة الحميمة التي اكتشفنها فجأة، الصديقة التي كن أثناء حياتها لا يتوقفن عن الإساءة إليها والتشنيع عليها.

كان يتحدث بامتعاض شديد، كل كلمة تخرج من فمه كالبصقة، وعندما رأيتُ نَظْرته أدركتُ أن إيقافه عن الاسترسال لم يعد ممكنًا. ولم يلبث أن أضاف قائلًا: «حتى إن كانت عاجزة عن إنجاز أي شيء آخر، فهي قادرة على كتابة تأبين ينوء بالعبارات المزخرفة الفارغة، وقادرة كذلك على تسليط الأضواء على حزنها المزعوم. ولا يضايقها إطلاقًا أن تسير أثناء ذلك على جثث الآخرين، بالمعنى الحرفي للكلمة.»

ثم استطرد بصوت خافِت لم أعد أسمعه إلا بصعوبة وقال: إن الوضع لم يختلف هذه المرة أيضًا. وحتى إذا لم يتضح لي تمامًا سبب هجومه عليها، فإنني أتذكر تعبيرًا كرره مرات عدة، وما زلت أسمع صوته يقول إنها لم تدع مناسبة لم تؤكد فيها على أصلها الإيطالي على عكس المعهود منها. ورغم أنني لم أسأله أبدًا عن معنى ذلك، فإنني أحدس ما قصده عندما أفكر في وصفه لها في الكنيسة قبل أن تلقي خطبة التأبين، إنها كانت تطوح رأسها إلى الوراء فيطير شعرها للحظات، وقبل أن تنطق بكلمة كان واضحًا للجميع أنها من المدينة المتحضرة، ولا يربطها بالحاضرين أوهي رابطة، وأنها تعطَّفت وتنازلت وأتت إلى هذا المكان فقط من أجل حفل التأبين. لا أستطيع الحكم على صدق كلامه، إلا أنه أكد لي أن سلوكها كان يجسد شخصية أدبية استهلكها الأدب؛ أي البطلة التي تهجر القرية التي ولدت بها، ثم تختار العودة منتصرةً أو نادمةً، هكذا تصرفت كأنها إحدى شخوص رواية بائسة حافلة بكل ما يمكن تخيله من صور نمطية وأحكام ساذجة متطرفة، وبكل ما يلزم من توابل وتلفيقات تبعث على الضحك السطحي الذي يغطي على أي ألم.

تناسب ذلك تمامًا مع ما نطقَتْ به، وإذا صح زعمه فقد تحدَّثَت أمام المشاركين في حفل التأبين عن نفسها أكثر مما تَكلَّمتْ عن ألماير.

«تَحدَّثتْ معظم الوقت عن أنه كان يحثها دومًا على الكتابة، وكأن هذا هو أهم ما يُقال عند توديعه.» قال متهكمًا. «مع أن الحقيقة كانت شيئًا مختلفًا تمامًا، فقد كانت هي التي تقف عقبة أمام طموحاته الأدبية.»

لم يكن من السهل تصديق ما يقول، لكنه أكد أن هذا ما حَكَتْه أمام قبره، وسواء كان الأمر مبالَغًا أم لا، فإن هذا يجسد حضورها وسلوكها على نحو أكثر بشاعة.

«أستطيع أن أتَخيَّل ما تقصده»، قلت له. «ولن يدهشني إذا كانت قدِ اختلقَت أشياء عن حادث مصرعه.»

لكنه تجاهَل ما قلته وكأنني سمحتُ لنفسي بشيء لا يحق لي. ثم شرع يتحدث عن أرملة ألماير، التي تركت الاحتفال كله يسير وهي جامدة هامدة. جرى المشهد أمام عيني، وتَصوَّرتُه وهو يسمع منها جملة واحدة لا تتغير كانت ترددها عندما يقترب منها أحد: «ليس في يدنا شيء نفعله.» ولم يكن باول بحاجة إلى أن يؤكد أن الانطباع الذي ظهر على وجهها كان يَنمُّ عن المفاجأة أكثر من أي شيء آخر، وكأنها لا تصدق ما حدث، وتأمل أن يعارضها أحد أخيرًا. شعرَ أنها تحت تأثير المهدئات، قال مستكملًا: ورأيتُها أمام عيني امرأة شابة، شاحبة حتى الشفافية، نحيفة حدَّ الهزال، وطويلة جدًّا، رأيت قامتها المستقيمة، استثناء بين الكائنات التي أحنى الحزن ظهورها والتي ظهرت أكثر رقة وحزنًا في أفضل ثيابها، كائنات بدت فجأة مُفعَمة بالخرافات، مثل أسلافها؛ لأنها تقف عاجزة أمام القدَر الأسود نفسه. على الأقل هذا ما مرَّ برأسي، بينما كان هو لا يزال يَتحدَّث عنها، وجمح به غضبه فأطلق عليها بكل جدية مخلوقًا من كوكب آخر، ثم فجأة غيَّرَ الموضوع، وأسهب في الحديث — كما هو الحال في الجنازات — عن الطقس، وهل كان جيدًا أم سيئًا. بدا لي كل ما يقوله عبثيًّا حتى إنني كنتُ أود أن أنهض وأتركه بمفرده.

في لقاءاتنا اللاحقة كنتُ أقاطعه بمجرَّد أن يشرع في ذكر لِيلي، ومع ذلك لم يكن هناك مناص من سماع شذرات من الحكاية مرة أخرى. اقترحتُ عليه أن نجلس معًا في أي مكان على نهر الإلبة آملًا أن يشتت ذلك انتباهه، وألَّا يعود يتحدث طيلة الوقت عنها. لهذا انطلقتُ بالسيارة وخَرجْتُ من المدينة، ثم انحرَفتُ متجهًا إلى النهر، وسِرْتُ بموازاة ضفته من دون أن أخمن جمال الجنة التي وصلنا إليها. كان الاختلاف جديرًا بالملاحظة: بين كلامه المستفيض عنها الذي لم يمل تكراره، والعرايا الذين كانوا يطلعون من وراء الشجيرات، ثم يرمشون بأعينهم للحظات عندما تنفذ أشعة شمس الأصيل إليهم، وكأنهم أخطَئوا في التوقيت، ثم يختفون مرة أخرى أو يسيرون متهادين بموازاة مياه النهر وكأنهم حيوانات لم تعرف أبدًا الحياة البرية.

في ذلك اليوم استفاض أيضًا، وللمرة الأولى، في الحديث عن زوجته. ومع أن حديثه لم يكن لحسن الحظ شكوى وبكاء، فلم يفتني أن ألاحظ كيف أَربكه لقاؤه بها إرباكًا شديدًا. لما كنت أسأله عنها في السابق كان يجاوبني بالصمت، أمَّا الآن فقد انطلق يحكي بلا كابح. عندما لمحها لم يشعر بالأسى وحده، وإنما أيضًا بدهشة لا تنقضي، وتعجَّب أن المكان بجانبها ليس شاغرًا، وأن أحدًا آخَر يشغله، وكأن وجوده في الحياة سيتلاشى إن لم يجلس جوارها. في هذه النقطة أيضًا كنتُ قد سمعتُ أمثلة لا حصر لها، إلا أنه بدا لي أقل حيلة من سواه وأكثر عجزًا، وكل ما رواه عنها كان يُؤكِّد في الوقت نفسه الانطباع بأنه لا يمكن أن يكون قد عاش تلك الحياة معها التي يحكيها الآن. أبسط العبارات كانت توضح لي مدى تمزقه الداخلي؛ يكفي أن يقول إنهما كانَا يملكان كلبًا، أو أي شيء آخر تافه، ثم يحدق أمامه صامتًا، أو أن يتساءل بعد برهة إذا كنت أستطيع تخيل ذلك، من دون أن يأمل في إجابة على سؤاله. قلت لنفسي: سيظل يَجُرُّ هذا الحِمْلَ وراءه طيلة حياته، هذا الارتباك، حتى لو عادت المياه بينهما إلى مجاريها فلن يكون هذا ما يريده أو ما كان يعيشه، بل سيكون برهانًا آخر على أن حكايتهما قد انتهَت نهائيًّا.

لم يتوقع أن تأتي إلى جنازة ألماير، وعندما رآها هناك فوجئ بتعاملها غير المتكلف معه، حتى وإن لم يستطع أن يطرد من رأسه فكرة أن حالها بدونه أفضل. حتى قبل أن يراها، شعر بنظراتها مُسدَّدة عليه، ثم اكتشف عينيها، بريقها، لم يجد كلمة أخرى، وما لبثت أن أقبلت عليه، خطواتها كعَهده بها، واسعة بعض الشيء، مستقيمة، كما بدت له، ومع ذلك متهادية. كان عليه طبعًا أن يَحتضنها عندما وقفت أمامه، لكنه لم يحرك ساكنًا، وتصرَّف على النحو الخاطئ الذي طالما لامته عليه، غرق في حيرته التي تملَّكته فجأة، ولم يفعل شيئًا سوى الحملقة الدائمة فيها.

أَتْخَمَني بحديثه عن ذلك، وكأنه يتحدث عن شخص آخر لا أعرفه، ولاحظتُ أنه يرسل بصره عَبْر المياه، إلى الأمواج التي كانت الرياح القوية الآتية من الاتجاه المعاكس للتيار تدفع بها إلى الضفة.

«وقفَت هناك وهي تهز رأسها رافضة»، استطرد من دون أن يرفع بصره إلي. «مرَّت بُرهة إلى أن لاحظَت أنها لا تنظر إلي، بل في اتجاه المُتوفَّى، وأنها تَهز رأسها حسرةً على نهايته الحزينة.»

حسب روايته لم يكن بين الحاضرين كثيرون سواها يَعرفون ألماير معرفة شخصية، وبينما راحت تهمس باسم ألماير الأول، تَذْكُر أنها كانت أحيانًا تنجح فيما مضى، عندما تود أن تُظهر تَهذُّبها وإصغائها، في إدخال اسمه كل جملتين أو ثلاثة. ثم أضاف بصوت كالفحيح: «عندئذٍ كانت تقول: كريستيان.» ثم أضاف: «في كثير من الأحيان لم أكن أطيق سماعها تلفظ اسمه. ربما لهذا انتابتني قشعريرة عندما سمعْتُها تفعل ذلك عند القبر.»

وحكى لي أنه انتقل معها إلى جراتس قبل شهور قلائل من سقوط أول القتلى في كرواتيا،٢ حيث كان معروضًا عليها وظيفة أستاذ مُساعد في علم الأرصاد الجوية بالجامعة. لم يكن قد مَرَّ وقت طويل على تَعرُّفه إليها وزواجه منها، وكان مندهشًا غاية الدهشة أن بالدنيا — على حد تعبيره — أشخاصًا مثلها؛ ذهب معها ببساطة، وكان سعيدًا لأنها انتشلته من شقته في هوتينج التي تتكون من غرفة ومطبخ، وأنها حملت عنه عبء اتخاذ قرار التخلي نهائيًّا عن كتابة الرواية بعد محاولة ثانية وثالثة، وكأنها أصدرت حكمًا ببراءته، وهو ما كررته طوال السنوات اللاحقة أيضًا كلما ركب العند رأسه. حتى وإن بدت كلماته مُرة، فقد كان مهتمًّا بأن يرسم على الأقل ابتسامة زائفة على شفتيه عندما قال: إنها كانت تظهر دائمًا في اللحظات الحاسمة لتقنعه بكلمات قليلة أن يترك كل شيء ويعود إلى البيت، كانت تفعل ذلك عندما يختبئ مرة أخرى لعدة أسابيع في إحدى تلك الغرف التي كان يؤجرها كي يتفرغ للكتابة، في مدينة من المدن التي أمست في النهاية كلها متشابهة أمام عينيه، والتي تناثرت عبْر نصف القارة الأوربية، وإذا سمعنا أسماءها متراصة فسنعتقد أننا نستمع إلى إعلان لأحد العطور الفخمة، ولكنها في حقيقة الأمر لم تكن سوى محطات جديدة في طريق فشله.

في تلك الفترة لم تكن جراتس أفضل أو أسوأ من غيرها. سكنًا في المنزل الواقع في إيجنبرج بحديقته الكبيرة المهمَلة التي يمر الترام بقربها في طريقه إلى مركز المدينة. غير أنه لم يستطع أن يترك الفرصة تمر من دون أن يسخر من ذاته، وذلك عندما سمح لنفسه بأن يغمغم كلمات شبه غامضة قائلًا: إن الموضوع انتهى، وإذ به يجد نفسه فجأة يعيش بمفرده مع كلب وقد تَخطَّى سن الشباب. كان قد هيأ نفسه على قضاء ما تَبقَّى من أيامه في هدوء مستسلم، بعد أن غزا الشيب شعره ببطء، إلى أن وقف ألماير يومًا ما على بابه. ثم استطرد قائلًا: كان ذلك بالتأكيد في بداية المواجهات في سلوفينيا. جاء من شبيلفلد حيث أغارت الطائرات في اليوم نفسه على رتل من الشاحنات المنتظرة.

لم يكن ذلك بالطبع في النمسا، بل على الجانب الآخَر من الحدود، في شنتيلي، كما يسمون المكان هناك، على بعد أقل من خمسين كيلومترًا؛ لذا شعر بدافع لا يُقهر إلى زيارتهما. لم تستغرق زيارته إلا ساعة؛ إذ إنه حاول أن يواصل السفر إلى ليوبليانا حيث أُقيمت الحواجز والتحصينات على كل مداخل المدينة لإعاقة تقدُّم الدبابات المنتظرة، إلا أن تلك الزيارة كانت فاتحة لزيارات أخرى عديدة. كان يظهر دائمًا عندما لا يتوقع المرء ظهوره، في طريقه إلى كرواتيا، أو إذا قطع رحلته عائدًا إلى فيينا حيث كان يعيش آنذاك. كان يرن الجرس، ثم يقف أمام سياج الحديقة، وقد أوقف سيارته على الرصيف — سيارة يابانية نالتْ نصيبها من الصدمات والخبطات؛ لذا كانت تُوحي بالمغامرة، كما كان ينقصها الغطاء المعدني للإطارات — تاركًا المحرك دائرًا، وواضعًا ذراعًا على باب السيارة المفتوح وكأنه يخشى في كل مرة أن يفزعه ظهور أحد. شعره كان أطول من المعتاد، وفي فمه وضع سيجارة على نحو يَنمُّ عن التحدي، لَوَّحَتْهُ الشمس؛ لأنه كان يقضي وقتًا طويلًا في الهواء الطلق، ربما لذلك كان في المعتاد حسن المزاج، أو على الأقل كان يترك انطباعًا بذلك، حتى فيما بعد عندما كان يظهر أحيانًا من الفراغ، بالمعنى الحرفي للكلمة، بعد أن يكون — بالفعل — رأى الأهوال التي تقشعر لها الأبدان.

أدهشني أن باول لم يذكر ذلك إلا الآن. وعندما استفسرتُ منه، قال: إنه في الغالب لم يكن يتذكر كل شيء، إلا أن زوجته أنعشت ذاكرته.

لم تتحدث بعد الجنازة عن شيء آخر. إنها مهووسة باستدعاء أقصى ما يمكن استدعاؤه إلى الذاكرة عن كل زيارة له.

يبدو أنه ذهب معها من المدافن إلى أحد المطاعم، ولكن كل ما حَكَتْهُ عن الزمن الماضي بدا له دقيقًا أشدَّ الدقة، وهو ما دفع به إلى الشك في كل شيء.

إذا لم تكن أضافت معلومات مما قرأتها فيما بعد، فلا بُدَّ أننا كنا نحيا في عالَمَين مختلفين.

لم أكن بحاجة إلى موهبة كبيرة في دقة الملاحظة كي ألمح تَغيُّر نظرات عينيه وهو يقول ذلك، راحت قدماه تنبش بعناد في الرمل، إلى أن نهض وسار فوق الآثار وكأنه يريد محوها. ثم جلس ثانية ووضع لبرهة ذراعًا فوق كتفي، وكأنني أنا الذي بُحْتُ له بسر، وليس هو.

وواصل حديثه قائلًا: «لفترة طويلة جدًّا لم أدرك أن الحرب بدأت فعلًا. ولأن كل شيء كان قريبًا مني، بدا لي أن نشوب الحرب أمر غير وارد، جملة وتفصيلًا.»

لم أستطع أن أكتم ضحكتي: «ما أسهل قول ذلك.»

«أعرف»، أجابني. «قد يبدو كلامي ساذجًا، ولكنني اعتقدت في البداية أن كلمة واحدة من شخص ما — أيًّا كان هذا الشخص — ستكفي، وعلى الفور سيختفي شبح الحرب.»

على نهر الإلبة ظهرت الآن سفينة شحن عليها حاويات، وتجاهها ثبَّت بصره، عندها خطر على بالي ما حكاه ذات مَرَّة أنه كان يتذرع بالميناء والنهر إذا سأله أحد عن سبب اختياره هامبورج على وجه الخصوص. ثم حاول مرة أخرى توضيح شعوره بانتفاء احتمال وقوع الحرب، وأتى من جديد على ذِكر ألماير:

«بالتأكيد كان له علاقة بذلك. فُكلَّما حدثني عن الحرب، بدَا لي كل شيء غريبًا وغير واقعي، وكأنني أقرؤه في الجريدة.»

عندما جاء بعد عدة أسابيع من زيارته الأولى في جراتس، لم يعد يتحدث حول الحواجز والتحصينات ونقاط الحراسة المسلحة في القرى. كانت أحياء سكنية قد احْترَقت عن آخرها في كرايينا وفي سلوفينيا، ولم يكن يمر يوم من دون مواجهات دموية. قراءة تقاريره كانت تشبه أن يخوض الإنسان ببطء في مستنقع، وأن يغرق في نهر عميق بلا ضفاف. إذا جمع المرء التقارير التي كتبها في الشهور التالية فَستُكَوِّن بالتأكيد مجلدًا كبيرًا، به معلومات وافية عن التفاوض للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ثم اختراقه بعد سويعات، أين وأي جسر من جسور نهر السافه تم تفجيره، أو أي ثكنة عسكرية حوصرت وقُطِعَ عنها الماء والكهرباء، أو الطرق السريعة، حتى متى كانت صالحة للسفر وإلى أي مسافة، الموانئ على طول الشاطئ، وكم يومًا استمر الحصار … إلخ، كل هذه معلومات مفيدة للإحصائيين فحسب، لولا وجود القتلى الذين كتب عنهم. كان كل طرف يضيف ويجمع بدقة تامة أرقام قتلاه، ثم تتم المقارنة بين الأرقام التي تحيا فيما بعد حياتها الشبحية المستقلة.

«سمعتُ أنهم أكثر من مرة أضافوا ببساطة قتلى الحرب العالمية، وكأن خمسين عامًا لم تمر على ذلك.»

تَذكَّر باول ذلك بدقة، ولو أنه عقَّب على الفور قائلًا: إن زوجته هي التي تَهتم في العادة بالتفاصيل، وأضاف ضاحكًا: لا سيما فيما يتعلق بالأمور العسكرية. على الفور أكد كلامه بمثال سمعته زوجته من ألماير عن رتلين من الدبابات انطلَقَا من مكان ما في بلغراد في غسق الفجر مع سيارات أخرى، وقطعت المركبات معًا عدة كيلومترات.

«في الحقيقة لا يتناسب ذلك مع شخصيتها إطلاقًا»، قال من دون أن يُخفي حيرته. «ليست هي الشخص الذي يهتم بمثل هذه الأشياء.»

من خلال الطريقة التي كانت تتحدث بها، كان بإمكانه أن يسمع قعقعة جنازير الدبابات على الأسفلت، وصيحات التهليل التي تطلقها حشود الناس على حافة الطريق، وأن يشم رائحة الأيام الأخيرة من الصيف، والذُّرَة في الحقول التي امتلأت بآلاف من الطيور الهاربة من منطقة القتال. بكلامها كانت البلد تستعيد ألوانها، لم تعد تكتسي درجات اللون الرمادي أو البني السائدة في التقارير المعهودة للحروب، لا، كان هناك دومًا توقيت معين، كان يرى الضوء، ويرى الظلام، وسواء كان هذا رأيها أم لا، فقد بدَا له كل شيء أكثر عبثية: الرحابة والاتساع حتى الأفق، السماء، حركات وأفعال الكائنات التي تعيش في تلك الطبيعة. لم يكن السبب يرجع إلى ما تحكيه، إنه يعود بالتأكيد إلى صوتها، إلى النبرة الداكنة الواثقة التي كانت تولد لديه أشواقًا مبهمة ينقبض لها صدره بمجرد أن يضبط نفسه متلبسًا بالتفكير فيما تحكيه، ويشعر أنها تحكي عن رحلة، وإنْ كانت غريبة الطقوس، لا داعي للخوف، فهي تمسك بكل الخيوط في يدها، وسوف تتدخل لمنع وقوع أي كارثة.

ومع ذلك لم يعجبه أن يراها تُصغي إلى ألماير بكل حواسها عندما كان يأتي لزيارتهما، وأن تبقى حتى منتصف الليل مستيقظة رغم أنها كانت تذهب إلى العمل في الصباح التالي. كانت تمطره بالأسئلة، تريد أن تعرف إذا كان ما قرأَتْه في الجريدة صحيحًا أم لا، وكان عليه أن يجيب بنعم، كانت هناك جثث مُشوَّهة، نعم، لقد رأي ذلك بنفسه، ولكنه يود لو يستطيع أن يصمت وألَّا يتحدث عن ذلك؛ ولكن، نعم، كانت الجثث في حالة مفزعة، فقَئُوا الأعين ومزقوا الصدر، حتى فَقدَت الجثث — إذا كانت تريد أن تعرف كل شيء على وجه الدقة — أي تشابه مع بني البشر.

انفعال باول كان يتزايد، والآن بدا أنه يخشى أن أكون صورة خاطئة عن زوجته.

– ليس معنى كلامي أنها تريد جنازة لتشبع فيها لطمًا.

كان متحفزًا للدفاع عنها.

«هي لم تطلب منه أن يُحصي أبشع الفظائع، واحدة بعد الأخرى.» واصل كلامه ثم انتظر وكأنه يريد مَنْحِي وقتًا لأعارضه. ثم قال: «الأرجح أنها كانت تعتقد أن هذه هي الطريقة الصحيحة للاهتمام به لدى عودته منهكًا وخائر القوى.»

أما ألماير فقد أثار في منزلهما الانطباع بأنه لا يريد أن يَتحدَّث عن هذا كله؛ لأنه هرب ليوم واحد، وكان يَتمنَّى — على الأقل بعيدًا عن ساحة الحرب — أن يدعه الناس في حاله. وكأنه كان مُكرَهًا في كثير من الأحيان على إدارة دفة الحديث فجأة ناحية الأشياء اليومية، ثم يستعلم — بالتفصيل — عن أي تفاهات، ويمتدح الطعام أو النبيذ، وكأنه لن يتناول بالشهية نفسها أي شيء آخر يقدمه المرء إليه. أحيانًا كان ينهض؛ لأنه لا يريد سوى النوم، بعد أن يكون قضى نحو الساعة معهم، يستلقي وينام؛ ذات مرة فعلها في الحديقة بعد أن تغطَّى، ومرة ثانية — عندما اصطحب معه فتاة أطلق عليها طوال الأمسية «مترجمتي»، رغم أنها كانت بالكاد تفهم كلمة ألمانية أو كلمتين — لم يظهر من غرفته إلا قرب الظهيرة، بقميص نصف مُزَرَّر وشعْر لا يزال مبللًا، وكالأبله انطلق بسيارته التي فرغ من إطارها الهواء تقريبًا.

بلا شك كانت تلك الحكايات التي رواها لي باول تُعبِّر عن إعجاب خفي بألماير؛ لذا لم أندهش من سؤاله التالي: هل قلتُ لك إنه كان يحب الكلب بشدة؟

كان واضحًا لي أنه يعني شيئًا آخر تمامًا، فهو لم يستطع أن يخفي تأثره في فترة الصمت بين الجمل التي كان يستمتع بها استمتاعًا عظيمًا، ثم استطرد قائلًا: لا أعرف أحدًا كان يعامله هكذا. كان يستطيع بكلمات قليلة أن يُثير انفعالاته الجامحة، ثم يستطيع في لمح البصر أن يعيده إلى الهدوء بتغيير ضئيل في نغمة الصوت.

كنت أنتظر سماع نادرة من النوادر، لكنه ظَلَّ لبرهة يرقب السفينة التي كانت قد وصلت أمامنا الآن، والتي بدت كأنها تسير مع الرياح من دون أدنى ضجيج، ومع تيار الإلبة، متجهة صوب البحر وصوب الليل. لبرهة ثبَّت بصره على الأمواج التي انسابت في اتجاهنا لتترنح بهدوء على الرمال. عندما رأيته شعرت بالبرودة تسري في أوصالي. كان قد أشعل لتوه سيجارة، وبدلًا من أن يدعها جانبًا ويتركها تحترق كما يفعل في المقهى، احتفظ بها بين شفتيه، وسَحَبَ منها أنفاسًا هوجاء كان ينفخها بسرعة. ولم أفهمه إلا بصعوبة عندما سألني في النهاية عمَّا إذا كنت أعرف مدينة زغرب.

«كنت مرة هناك، يومًا واحدًا فقط»، قلت له مندهشًا من السؤال. «لا بُدَّ أن ذلك كان في بداية الثمانينيات، إذا لم أخطئ.»

كان هذا كل شيء، إلا أنه لم يُصْغِ إليَّ.

– هل أعجبتك؟

أومأت بالإيجاب. ثم أضفت: لكنها بدت لي كئيبة بعض الشيء. لم أشعر أنني في مكان آخر، بل في زمن آخر.

لم يبد أي اهتمام بما أقول، وهكذا شرع يحكي بدون مقدمات أن ألماير كان لديه غرفة قريبة تمامًا من محطة السكك الحديدية في أولى سنوات الحرب. ثم قال: يبدو أنه قضى هناك عدة أسابيع قبل أن يسافر عائدًا إلى وطنه للمرة الأولى. لا بُدَّ أنه قضى هناك وقتًا أكثر مما يتطلبه عمله.

استأجر غرفة لدى أرملة حتى يَتجنَّب رؤية زملائه الصحفيين في الفنادق؛ تلك المجموعات التي تتغير دومًا، الذين يتجمعون في البارات، أولئك الذين عادوا لِتَوِّهِم من مناطق القتال، أو الذين كانوا في طريقهم إليها. ورغم أنه كان في بعض الأحيان يرى أن كل الصحفيين متشابهون، فإنه كان يَتجنَّب على وجه الخصوص لقاء أولئك المستظرفين الذين لا يتوقفون عن الكلام أثناء تناولهم جرعة الويسكي الإجبارية، ويتحدثون عن «القصص» — بالرغم من فجاجة الكلمة في الموقف الحالي — وعن «اللقطات» التي كانت تغيظهم بدلًا من أن تسعدهم، عندما يصلون إلى مكان ما ثم يجدون كل شيء هادئًا، ثم يتناقشون لساعات طويلة، هل ينشرون أقذر الفظائع الوحشية التي التقطوها أم لا، وفي النهاية يصلون دومًا إلى النتيجة نفسها، ليس أمامهم خيار آخر، وأن هذا واجبهم. لم يكن يحب سلوكهم الشبيه بسلوك مُحرِّرِي القسم الرياضي، طريقتهم وهم يساومون على عدد السطور والدقائق، وهم يَتبادَلون الأفكار حول جوانب الحرب التي لم تُستهلَك بَعد، لقد تناولوا كافَّة صورها وأشكالها، ولم يَعُد شيء يثير شهيتهم للكتابة، حتى وإنْ رأوا مرة أخرى دجاجة تنقر جمجمة مفتوحة، على حد تعبيرهم، بل لقد ذهبوا بعيدًا بتفكيرهم وقدَّمُوا برنامجًا نقيضًا سلطوا فيه الأضواء على جمال الطبيعة في المناطق المحيطة، حتى وإن لم يثمر ذلك إلا العَتَه الفلكلوري المُعتاد. كل ذلك كان مدعاة لسخرية أكبر عندما علم كيف حصلوا على بعض الصور المُصْدِمَة التي نشروها، فَهُم لم يكونوا يَتورَّعون إذا لزم الأمر عن أن يُكلِّفوا البعض بعمل كومة جميلة من الجثث، إذا كان الواقع في أعينهم ليس مفزعًا بما فيه الكفاية، أو أن يسلموا كاميراتهم ببساطة إلى الأشخاص المطيعين من سكان المنطقة ويرسلوهم إلى أخطر مناطق الاشتباكات لقاء بضعة ماركات كي يلتقطوا لهم بعض الصور التي يمكن استخدامها. لم يكن يستطيع أن يصغي إليهم وهم — بالرغم من كل ذلك — لا يَتوقَّفُون عن التفاخر بأفعالهم البطولية، إذ لم يكن بينهم — حسب روايتهم — مَن لم ينج بجلده في اللحظة الأخيرة، أو تعرَّض لإطلاق النار، أو اعتُقل عدة ساعات. وسواء كانوا يَرْوُون الحقيقة أم يكذبون، فقد باتت كل حكاية تتمحور حول شخص الصحفي مملة، مملة وداعرة، إلا إذا كان الراوي، حقًّا، رأى الموت بعينيه.

كلما أفاض باول في الحديث عن ذلك، اتضح لي أكثر أنه كان يشارك ألماير نفوره ذلك، لكنني دُهشت من إصراره على إقناعي أنا برأيه، وهو ما دفعه إلى محاولة أخرى للشرح والتفسير.

«هناك صورة لمراسل تلفزيوني تُجَسِّدُ الموضوع بكل تناقضاته»، قال بنبرة صوت مزعجة تشي بالانتصار. «يقف أمام منزل مُدَمَّر، حاملًا الميكروفون في يده، وهو — كما يبدو — على وشك أن يبدأ تقريره.»

كنتُ أودُّ أن أسأله عمَّا يجده غير مألوف في تلك الصورة، إلا أنه رفع يده، فابتلعتُ سؤالي. وواصل قائلًا: «وتقول الأسطورة إنه كان يرتدي سترة واقية من الشظايا، علَّق عليها لافتة بفصيلة دمه لحالات الطوارئ. ليس في كل هذا ما يعيب، لو لم يَرَ المرء في الأمام ظَهر المصوِّر الذي لم يكن يلبس سوى تي شيرت أبيض.»

لم أَفهم سبب انفعاله. إنه يعلم بالتأكيد أنهم يُرتِّبون مثل هذه المَناظر، وإذا كان يريد الإشارة إلى ذلك فإنه لا يثير إلا استهزائي. رحتُ أنظر إليه مانعًا نفسي من أن أقول إنه لا يبرهن بذلك على أي شيء، سوى على لاعقلانيته.

«أنت بالتأكيد لا تعتقد أن ألماير كان مختلفًا؟»

كان سؤالًا يَنمُّ عن قلة حيلة، صدر مني بدافع الارتباك وليس لأنني كنتُ أنتظر إجابة. غير أنه أخذ السؤال على محمل الجَد، وأجاب أنه لا يدَّعِي ذلك، بل وقدَّم شرحًا لإجابته.

– إنني أعتقد بالأحرى أنه كان يبتعد عن زملائه حتى لا يرى على الدوام صورةَ ذاته.

ومن أجل هذا السبب تحديدًا اختار المرأة التي استأجر لديها غرفة، امرأة في السبعين، ما زالت تتحدث الألمانية التي تَعلَّمتْها في بيت والديها، آخِر من تبقى من تلك العائلات التي كان يكرهها في فيينا، على الأقل بسبب أسمائها النمساوية القديمة، ولكن في زغرب — أراد أم لم يَرِدْ — كان يشعر، من أجل السبب ذاته، أن الحفاظ على مثل هذه العائلات شيء واجب. وأضاف قائلًا: هناك أشياء لم يكن سيعرفها بدونها على الإطلاق، فهو في نهاية الأمر لم يكن يتكلم كلمة كرواتية واحدة، وكان في معظم الأحيان يهيم على وجهه في المنطقة أخرس وأصم.

ثمَّة مُؤشِّرات واضحة قاطعة ما كان يمكن أن تفوته، بدْءًا من الرايات في كل مكان، ومرورًا بتلك الصور المُؤطَّرة في نوافذ عرض المحلات، وعليها الصورة القديمة نفسها، صورة الجنرال السابق لمجموعات الفدائيين، الآن في وَضْع الديكتاتور الذي لم يناسبه، فبدا مثل خالٍ طيب لا يستطيع أن يؤذي نملة، ووصولًا إلى الجنود بالزِّي الرسمي في الشوارع. رغم ذلك كله، كانت المرأة هي التي لفَتَت نظره إلى أشياء عديدة وأفهمَتْه إياها، عندما كانت تعود من المقهى وتحكي له ما سَمعَته من الناس، وأي الأهوال يرتكبها المُتوحِّشون، والبيزنطيون، والهمج. بالطبع لم يكن بحاجة إلى شرحها حتى يفهم أن ذلك الذي ظهر فجأة مرتديًا قميصًا أسود هو بَعْثٌ لشخص من عصر مظلِم، ولكن لو لم يستمع لحكاياتها التي كانت لا تدع مجالًا للشك في جدية الموقف كله، فربما بدَا له ما يراه مُجرَّد شخصيات هزلية من إحدى المسرحيات الغنائية. كانت الحكايات التي روتها له عديدة، مثلًا حكاية إحدى صديقاتها التي بصقوا على وجهها في إحدى المكتبات الاستعارية؛ لأنها تناولت الكتاب الخطأ (أطلس مكتوب بالخط الكيرلسي)، أو حكاية ابنة صديقة أخرى أرادَت أن تهرب مع زوجها الصربي إلى حماتها وحميها في بلغراد، إلا أنهم ابتعدوا عنها، وشَتمُوها وسط عائلتها قائلين: إنها عاهرة تشتنكية. بدون مساعدتها كان عليه أن يرهق نفسه في البحث عن أمثلة حتى لا تكون تقاريره تقريبية عن الأجواء في المدينة التي كانت خليطًا من الفرحة العدوانية والانكسار الذليل. خدماتها في الترجمة وحدها كانت لا تُقَدَّر بمال، لو لم تلفت هي نظره ما كان سيفهم يومًا زعيق السكارى في المساء ومدى تعطشهم للدماء. لمدة طويلة كان يشعر بالحرج عندما يعترف أنه نفسه ظَلَّ بشرود يُصَفِّرُ نغمة سمعها من الراديو إلى أن سألته يومًا عمَّا إذا كان يعرف عنوان الأغنية، ثم قالت له على الفور، ودون أن تنتظر إجابته، «كرواتية هي التي أنجبتك»، ثم لم تستطع أن تتوقف عن الضحك على فزعه وارتياعه.

لم تكن نبرات صوتها تُوَلِّدُ الثقة لدى من يسمعها، عندما كانت تحكي له بهدوء ممل واسترخاء مثير للدهشة أنه لا يزعجها أن السادة الجدد يُغيِّرون أسماء الشوارع، فهكذا — ببساطة — يكون الوضع بين حين وآخر. كانت تقول له: إن الإنسان — إذا طالت حياته — يرى كل شيء يعود إلى ما كان عليه. لقد تقبلت المرأة من دون أدنى مقاومة أن تتذكر بين وقت وآخر أسوأ الزبانية من زمن الحرب القديم. ورغم كل ذلك صعد معها يومًا ما إلى التل المقابل للكاتدرائية ليتفرج على الكتابات النمساوية الباقية على بعض البنايات، اللافتات المرسومة على الطلاء الذي بدأ يتقشر، ما زال باستطاعة المرء أن يقرأ ما تبقى منها، مثل «حارة السادة» Herrengasse، «حارة الراهبات» Nonnengasse، و«حارة دار البلدية» .Rathausgasse كان شيئًا مؤثرًا، عاطفيًّا للغاية، أن تبحث — تحديدًا في مدينة مُهدَّدة تهديدًا ماثلًا للأعين — عن مهرب في الماضي. لا بُدَّ أنه كان أعمى عندما وقف إلى جوارها وتتطلع إلى الأسقف القرميدية الحمراء؛ لأن التعرف الظاهري على الأشياء — ما بدا أنه تذكرٌ للأوهام الكاذبة المنبعثة من تلك الفترة التي تُجَمِّلُهَا النوستالجيا، حقبة الملكية القيصرية النمساوية — لم يُعِدُه إلى أرض الواقع. لامبالاتها كانت مريحة، قدريتها وإيمانها بأنهم كلهم، منذ الأزل، لم يجلبوا للبلد سوى البؤس والخراب، سواء كانوا غرباء أو من أهل البلد؛ وسواء حدث ذلك بإرادته أو رغمًا عنه، لقد حاولتْ أن تجعل منه شريكًا في آرائها، وراحتْ تُكرِّر أن أحدًا لن يستطيع التأثير عليها بالكلام، لقد رأت قبل نصف قرن الألمان مع عبيدهم من أهل البلد، لقد أحدثوا الضجة نفسها وهم يدخلون المدينة، ثم ما لبثوا أن انسحبوا وهم يَجُرُّونَ أذيال الخزي والعار، تمامًا كالفدائيين فيما بعد، كيف دخلوا فاتحين محررين، ثم كيف خرجوا بعد أن عاثوا في الأرض فسادًا؛ الشيء الوحيد الذي ينبغي ملاحظته في كل ذلك هو أن الجثث كانت في كل مرة تغطي الطريق، بالمعنى الحرفي للكلمة.

أتذكر تمامًا أن باول أمسك عن الكلام في هذا الموضع، ليُعبِّر مرة أخرى عن دهشته؛ لأن زوجته كانت ذاكرتها تحتفظ — بعد مرور سنوات عديدة — بكل هذه التفاصيل عن ألماير.

«لا بُدَّ أن اهتمامها به يفوق القدْر الذي أريد أن أعترف به»، قال وهو يجاهد على ما يبدو حتى لا تشي نبرات صوته بمرارة فاضحة. «أو أنها قابلته فيما بعد، ولذلك تعرف كل هذه المعلومات.»

ثم قال لي: إنها حَكَت له أنه استيقظ يومًا ما ثم اكتشف جملة كُتبت على جدار المنزل المقابل الذي كان حتى الأمس عاريًا، جملة مكتوبة بخط سميك، وعندما ترجمت الأرملة معناها، لم يستطع أن ينساها رغم عاديتها.

ارجع يا حبيبي، أنا في انتظارك.

تَوقَّف عدة لحظات عن الحديث، وكأنه يريد أن يدع الكلمات تفعل مفعولها، ثم فجأة اتخذ صوته نبرات مُؤثِّرة: «يُقال إنه قرأ ذلك هناك»، قال من دون أن يهتم بما يتركه كلامه من تأثير رخيص مبتذل. «حسبما يزعم، كان هناك توقيع بالأحرف الأولى، ولم يتوقف فيما بعد دائمًا عن محاولة العثور على أسماء مناسبة لتلك الأحرف.»

طوال أسابيع وأيام وهم ينقلون الجنود إلى المدينة، الباصات والشاحنات استولوا عليها وخصصوها للأنشطة الحربية، وكانت تقف هناك على أهبة الاستعداد للانطلاق في أي لحظة، مكدسةً بالرجال الذين ارتسمت على شفاههم ابتسامة ذاهلة، كانت هذه الصورة بالتأكيد مألوفة لديه؛ حدث ذلك قبل أن تظهر أكياس الرمل في المدينة، والدبابات التي أغلقت أهم التقاطعات، وقبل أن يُحصنوا النوافذ بالخشب والمسامير، أو يلصقوا الورق عليها. قالوا إنهم زرعوا الألغام على الجسور فوق نهر السافه؛ مَن يستطيع، كان يرسل عائلته إلى فيينا أو إلى سواحل الريفيرا الإيطالية، الباقون يقفون طوابير أمام المحلات ليخزنوا المواد الغذائية. كان الوضع كما قرأ عن الحروب السابقة، كم كرر ذلك لنفسه، لكن ما يراه أمر مختلف، هذه زغرب، على مرمى حجر من الحدود النمساوية، إلا أن ذلك لم يُجدِ شيئًا، كانت الأشياء تتعاقب وكأن هناك برنامجًا صارمًا تتبعه، وبالتأكيد لم يكن الأمر مُصادَفة أن تلفت نظره فجأة النساء الحوامل الكثيرات وسط موجات اللاجئين الذين توافدوا من كل أرجاء البلاد، النساء اللاتي يدفعن عربات الأطفال وكأنهن من المظاهر الاعتيادية المصاحبة لكارثة تلوح بوادرها في الأفق؛ أو أنه فجأة لم يعد يجد أغرب الروائح شيئًا خارجًا عن المألوف، المخاوف التي كان يُعبِّر عنها بخوف، أو برعب مستسلم مريح، أن هناك «طابورًا خامسًا» في المدينة، قناصة في الشقق التي هجرها أقارب العسكريين، مجموعات من المدافع الرشاشة على الأسطح في مركز المدينة. وبعد أن كان في البداية يضحك على الدوريات التي كانت تجوب أقاصي المدينة عَبْر الليل، تلك المجموعات المنظَّمة تنظيمًا سيئًا، الذين يُقال عنهم إنهم زُوِّدُوا بأسلحة من «متحف الثورة»، أو كانوا يحملون بنادق صدئت من تخزينها نحو خمسين عامًا في القبو أو السقيفة، بدأ عندئذٍ يدرك ويعي تدريجيًّا كم هي مقلقة تلك البوادر التي تتراءى للوهلة الأولى بريئة لا ضرر منها.

كان رَدُّ فِعْل الأرملة على كل شيء مثيرًا للدهشة في هدوئه، يقول باول، وكأنها في عمرها المُتقدِّم لم تَعُد تخشى شيئًا.

«كانت تؤكد دائمًا أنها عايشت أمورًا أخرى تمامًا، وأن حفنة من المراهقين سَيِّئِي التربية لن يُدخلوا الخوف إلى قلبها لمُجرَّد أنهم يريدون أن يلعبوا لعبة الحرب.» ثم أضاف: «وعندما اعترَفَت أخيرًا أن الموقف متوتر بعض الشيء، كان ذلك يعني الكثير.»

وضحك هو نفسه على هذا التعبير «متوتر بعض الشيء»، الذي نطقه بلكنة خاصة وكأنه يقلد الأرملة، ثم أكمل قائلًا: إن ألماير تَبنَّى تعبيرها، وموقفها أيضًا.

– لقد كانت تمنعه بالتأكيد من استخدام أي ألفاظ عنيفة تصور الموقف بخطورته.

وراح يجدف بيديه في الهواء وكأن ما يقوله وحده لا يكفي لشرح فكرته، ثم أخذ بيأس يراجع كلامه باحثًا عن شيء يستند إليه

– بالنسبة لها كانت المسألة مسألة أسلوب.

ولهذا جلبت صفارات الإنذار قبل الغارة الأولى شعورًا بالارتياح؛ إذ حدث أخيرًا ما كان المرء يتوقعه منذ مدة طويلة. ويُقال إن شيئًا لم يبدر عنه سوى هزة رأس عندما راحت تحدثه بتعاطف عن المجانين المساكين المُضَللين المسئولين عن هذه الأفعال، وأن على المرء أن يستقبلهم كأصدقاء إذا رآهم، بالزهور والقبلات. فشل بكل الوسائل في إقناعها بالذهاب إلى المخبأ، هذا ذُعر ليس إلا، كانت تقول، مستحيل أن تُهاجم المدينة، سيان لديها ما يحدث في بقية أنحاء البلاد، صفارات الإنذار وكل هذا الفيلم ليس إلا مُحاوَلة لإدخال الخوف والرعب في قلوب الناس حتى يُساقوا بعد ذلك في قطيع، الشيء نفسه ينطبق على إجراءات التعتيم؛ إذ إن ساحة السوق تظل مضاءة، كما أكدت له أكثر من مرة. كانت تسخر من خوفه، وعندما اتصلت به صديقة تليفونيًّا من بيهاتش أو بانيالوكا وحذرته من أن فرقة كاملة قد انطلقت لِتَوِّها من المطار العسكري هناك، ظلت الأرملة تعتبره جبانًا، مع أن الشبابيك كانت تئز عندما أنهت صديقتها المحادثة، وكان الدوي المتزايد يغزو الشقة. ليس معنى هذا أنها أقنعته بموقفها، ولكن من تلك اللحظة كان يصر في المعتاد على البقاء بجانبها حتى لا تكون بمفردها، حتى وإن كان الجار يرتاب في أمره عندما يتجاهل صفارة الإنذار. كان يتقوقع معها في أحد الأركان، إلى أن يفوق الضجيج الاحتمال، ثم يبدو للحظة وكأنه يضعف، لكنه ينتهي بانفجار عندما تمر القاذفات على ارتفاع منخفض فوق الأسطح كالرعد، وكأنها تخترق حاجز الصوت فوق رأسيهما تمامًا.

بعد انتهاء الغارة اعتادت الأرملة أن تصب لنفسها كأسًا من الليكور، أمَّا هو فكان يسير إلى النافذة ناظرًا إلى الخارج، إلى عالَم بدا له بِكرًا كما لم يبد له من قبل، فوق الأسطح وميض، هكذا أتخيل، في الأفق، بالكاد أكبر من سِرْبِ بعوض، عدة نقاط تبتعد سريعًا، ثم يسود الصمت، السماء الضخمة، وعلى مرمى البصر لا أثر لإنسان، إلى أن يعود الوعي للمدينة فيما يشبه المعجزة، ثم تظهر — على سبيل التجربة كما يبدو — السيارات الأولى.

ولكن زغرب لم تُقصف قط. قلت هذا من دون تفكير، ولاحظت على الفور أن باول — وفي يده سيجارة أخرى لم يشعلها بعد — يرمقني برأس منحرف.

– أعتقد أنني أتذكر مرة على الأقل.

لا يمكن أن يكون رده أكثر جفافًا من ذلك.

– وعلى حد علمي كان ذلك بالصواريخ.

رحتُ أنتظر، ثم أكمل كلامه وكأنه يتحدث أمام جمهور غفير، وكأن مسئولية عدم نسيان شيء تقع على عاتقه الآن.

«ويبدو أن الطائرات أغارت قبل ذلك بوقت طويل على القصر الرئاسي، ولكن في ذلك اليوم تحديدًا لم يكن ألماير في المدينة.» ثم أضاف: «ربما لهذا كانت مقالاته مكتوبة بلا مشاركة مباشرة في الأحداث.»

كانت الريح تهب الآن عنيفة، وعندما كان يشيح بوجهه عني أثناء الحديث لم أكن أفهمه إلا بصعوبة، لذا كان علي أن أسأله إذا فاتني شيء.

«كانت إحدى الغارات التي ادَّعَوا بعدها بقليل أن أهالي المدينة قاموا بهذه التمثيلية كي ينالوا مزيدًا من الاهتمام»، هكذا واصل كلامه. «بالطبع هذه دعاية مغرضة، لا يمكن تصديقها في هذه الحالة بالذات؛ لأن الجيش وحده هو الذي كان يملك طائرات في تلك الفترة.»

ولفت انتباهي مرة أخرى مدى الجهد الذي يبذله حتى لا يستخدم الكلمات التي يستخدمها الجميع، وحتى يتجنب بقدر الإمكان الحديث عن الصرب أو عن الكروات، وإذا لم يجد مناصًا فإنه لم يكن يدع مجالًا لأدنى شك في أنه يفهم هذه المصطلحات على أنها مجرد مصطلحات جغرافية. غير مرة انفعل أمامي مهاجِمًا الصحف، عندنا أيضًا، التي تبنَّت هذا التقسيم كأنه بديهي، رغم أنه يقسم جبهة القتال لغويًّا، فعلت الصحف هذا من دون أن تقدم الأسباب التي تستند عليها. وبسبب التعبيرات التي يستخدمها كان كلامه ملتويًا، إلا أنه تقبَّل ذلك حتى يتجنب المصطلحات الشائعة، وأتذكر كيف كان يبالغ في التدقيق عندما يسأل ماذا يعني المرء بهذه الكلمة أو تلك، وفي بعض الأحيان كان يبدو كتلميذ مثالي تعلَّم أن يتساءل أولا عن معنى الكلمات المستخدَمة، حتى وإن كان ذلك لا يؤدي إلى شيء على الإطلاق، أو على الأقل لا يؤدي إلى شيء مهم.

لذلك بدا لي الموقف مألوفًا عندما بدأ يطلق تأملاته فجأة حول الخوف في زمن الحرب، محاولًا على الفور أن يعارض كل ما سمعه يومًا عن هذا الموضوع.

«يقولون دائمًا إن الهدوء قبل الهجوم وبعده هو أسوأ شيء. ولكن هذا الوصف أكثر شاعرية من الحقيقة.» ثم أضاف: «إن هذا التعبير لا يمكن أن يخطر إلا على بال الذين لم يسمعوا بآذانهم أبدًا دوي المعارك وضجيجها.»

ربما يبدو كلامه منطقيًّا، لكنه غير صحيح.

– على العكس تمامًا.

كنت متأكدًا.

«ربما العكس هو الصحيح»، قلت مُكَرِّرًا. «إن مَنْ يتحدث عن ذلك في المعتاد هم عتاة المحاربين القدماء.»

وضع السيجارة بين شفتيه، ثم سحبها وكأنه يريد معارضتي، ثم أومأ برأسه فقط محاولًا للحظة أن يشعلها من دون جدوى، حكَّ عود ثقاب بعد الآخر، وفي النهاية قرَّبَ بكلتا يديه عودًا مشتعلًا إلى فمه ونجح أخيرًا في إشعال السيجارة. راح لوهلة ينفخ الدخان تائهًا في أفكاره كما بدا لي.

«يُقال إن الناس في التلال المحيطة بسراييفو كانوا يسمعون في أيام معينة انفجار قنابل متفرقة»، بهذه الجملة أنهى صمته. «أما الأصوات الناجمة عن ذلك فلم تكن تؤذي سمع أحد.»

لم يقصد بكلامه الصفير الذي يظهر — بأوصاف مختلفة — في التقارير عن الجبهات، بل ما يسبق ذلك.

«فقط «بوم» لا تكاد تُسمع، هكذا يقولون.»

ورأيته يضغط بلسانه على باطن خده ثم يسحبه بسرعة، ولكن لم يصدر عن فمه سوى طقطقة بائسة.

«على الأقل هذا ما قرأت عنه»، أكمل كلامه. «الأمر يدعو للضحك، إلا أنني منذ ذلك أتخيل صوتًا شبيهًا بالفرقعة الناتجة عن زجاجة تُنزع سدادتها في الغرفة المجاورة.»

بعد ذلك ظل يدخن برهة، ساحبًا الدخان بعمق على عكس عادته، ثم نافخًا إياه بصوت عالٍ. سَحَبَ النفس الأخير، وقبل أن يرمي عُقْبَ السيجارة راح يتمعن فيه وكأنه لا يعرف كيف وصل إلى ما بين أصبعيه. ثم عاد ثانية إلى الموضوع قائلًا: يقولون: إن صوتًا مثل رفرفة طائر مفزوع يُسمع أحيانًا قبل الانفجار مباشرة. ولكنني أسأل نفسي: في مثل هذا الموقف، مَن سينتبه إلى هذه الرفرفة؟

لم أُجبه، ونَظرْتُ إليه وأنا أتذكر أن ألماير كتب ذات مرة أنه ما زال لا يستطيع بعد كل سنوات الحرب التي عاشها أن يُفَرِّق بين طلقات المدافع المختلفة؛ كل ما يعرفه، كأي مبتدئ — متى تكون الطلقة «صادرة» ومتى تكون «واردة». كان قد رجع إلى الوراء مستندًا بمرفقيه على مسند الكرسي، ولم يتطلع إلي، بل إلى المياه التي كانت الرياح تتلاعب بأمواجها. كادت الأمواج تصل إلى سطح الصندلين المحملين حتى آخرهما واللذين كانا في تلك اللحظة يمران أمامنا؛ ووراءهما، عكس التيار، وصلت سفينة إلى الميناء ووقفت هناك كجدار، وخلفها — وكأن هناك خطأ ما في المنظور — وقفت سفينة أخرى أكبر، وكأن الحركة أضحت تشمل الضفة كلها طوال إصغائي له، ولم أعد أستطيع أن أحدد أين تبدأ الشجيرات وأين تنتهي. كان الغيم الكثيف، الذي غطَّى الشمس منذ فترة طويلة، يسير في اتجاهنا، وإما أنه لم ير ذلك، أو أنه كان يستمتع به كلعبة. لفتُّ انتباهه إلى أن وقتًا طويلًا قد فات ولم يمر بنا عرايا بمشيتهم الوئيدة وكأنهم أشكال في النشرة الجوية تعلن حالة الطقس، فإذا كانت جيدة ظهروا، وإذا كانت سيئة اختفوا. كانت السماء الآن قرمزية، واقشعر بدني عندما رأيت المنارات بين هامبورج ومصب الإلبة وهي ترسل أضواءها المتقطِّعة، ثم تفجر الرعد في اللحظة التي قلت له فيها إنهم ربما يرفعون الرايات التي تعلن هبوب عاصفة.

عندما عُدْنا إلى السيارة أدَرتُ الراديو وكنتُ سعيدًا لأنه لاذ بالصمت. غطَّى بخارُ الماء لوحَ الزجاج الأمامي، وتَطلَّعتُ إليه وهو يمسحه بكمه، ثم نزلَتْ بضعة قطرات كتحذير قبل السيل، وبينما كان يتكئ إلى الوراء، كان صوت انهمار المطر على سقف السيارة قد ابتلع الموسيقى. ورغم أن الضجيج علا وغطَّى على كل شيء آخر، فقد ظننتُ أنني أسمع شهيقه وزفيره. كانت الموسيقى تُدوِّي من مُكبِّرات الصوت، وكادت المساحات تغطي مجال الرؤية، فلم أرَ إلا المياه المؤدية إلى البحر المفتوح.

لم أَعُد أتذكَّر عن أي شيء تَحدَّثْنا في رحلة العودة، ولكنني أتذكر — لا بُدَّ أننا كنا على الطريق الموازي لنهر الإلبة، أو في حي ألتونا عندما تَوقَّف المرور تمامًا — أنه حكى أن ألماير لم يسافر إلى فوكوفار طيلة الشهور التي قضاها في زغرب إلا مرة أو مرتين.

– كان ذلك قبل الحصار.

وقال إنه حتى بعد الحصار كان بإمكان المرء أن يدخل المدينة، ولكن الأخطار كانت جسيمة. ثم أدهشني بما أعلنه: «رغم ذلك، ربما أجعله في روايتي يتغلغل خلال الأسابيع الأخيرة في المدينة قبل سقوطها. لقد تعرَّف إلى أشخاص عديدين يثيرون الريبة، عرضوا عليه أن يقودوه إلى المدينة.»

لم أكن بحاجة إلى الرد، فقد كان بالتأكيد يعرف رأيي في هذا الموضوع بعد كل أحاديثنا.

«حتى لو كانت الحقيقة مختلفة، فالأمر وارد»، قال محاولًا أن يبرر موقفه. «الظاهر أنه حتى سقوط المدينة كان هناك طريق يؤدي إلى هناك عبْر المواقع الأمامية الكرواتية.»

ربما يصح ذلك كله، إلا أنني لم أرَ أي معنى لأن يركز الضوء على الجبهة التي كُتِبَت عنها معظم التقارير في أعوام الحرب الأولى. لم أستطع التخيل أنه سيكتب شيئًا مغايرًا لما ورد في التقارير التي سادت الأخبار طيلة أسابيع، شيئًا مختلفًا عن تلك المقالات المكرَّرَة عن قصف المدينة من الأرض والجو والبحر، حسبما زعموا، عن الاعتداءات الوحشية التي قام بها رجال العصابات الذين دخلوا المدينة بعد الاستسلام، وتلك الأشكال البائسة المُترَنِّحة التي خرجت لأول مرة إلى ضوء النهار بعد أسابيع من الحياة تحت الأرض، والذين كانوا يُطَارَدون الآن عَبْر الأطلال المحترقة. قلت لنفسي إن من الرُّعونة والطيش أن يضع ألماير ببساطة وسط هذا كله، وكأن تلك الأحداث خلفية مناسبة يستطيع أن يُحرِّكها كما يحلو له. حاولتُ أن أُوضِّح له رأيي، ثم فوجئتُ باستجابته السريعة لما أقول، بل لقد وافقني على وجهة نظري.

– ربما تكون على حق، وربما يكون من الأفضل أن أجعله يصل إلى المدينة مع الصرب عندما يكون كل شيء قد انتهى.

بعد ثلاثة أيام بالضبط من الاستيلاء على المدينة كان الجيش قد نظَّم على ما يبدو رحلة بالباص للصحفيين من بلغراد إلى هناك، ورغم أن ألماير — كما يبدو — لم يكن ضِمْنَهم، إلا أنه ظَلَّ شهورًا يسمع زملاءه يَتحدَّثون عن تلك الرحلة الفظيعة.

كان باول يعرف ذلك بالطبع عَبْر زوجته. كنتُ في البداية أدهش لمعرفته الدقيقة بتلك الأمور، لكنني أصبحتُ مع الوقت أعتبرُ ذلك أمرًا بديهيًّا. قال: لا بُدَّ أنها أصابته بالجنون بأسئلتها: هل صحيح أن الجُثث ما زالت ملقاة في الشوارع؟ وهل صحيح أن رائحة كريهة تميل إلى الحلاوة قد انتشرت في كل أرجاء المنطقة؟ حاول أن يمدها بوصفٍ لسرب من الغربان المُحَلِّقة بعناد حول نقطة، كما حدَّثها عن السكون الذي ساد في تلك اللحظة حتى إن المرء سَمِعَ فجأة خرير مياه نهر الدانوب المنسابة في خمول.

لم أَعُد ألاحق باول بالأسئلة والاستفسارات الكثيرة حول ما يقوله، وربما يرجع ذلك إلى طريقته في تسجيل الأمور بجفاف، حتى أكثر الحقائق لامعقولية. ولكن كلما تَذكَّرتُ كيفية حديثه عن تلك الرحلة، لم أعرف على وجه التحديد كيف أتخيلها: حفنة من صحفيين يسيطر عليهم الارتياع، يقودهم ضباط وكأنهم داخل متحف في الهواء الطَّلق، ضباط يَتأرجَحون بين الهول الذي يشعرون به لما ارتكبته فِرقُهم العسكرية غير الرسمية، وبين المزاح الذي أدمنوه. وأَتذكَّر كيف قال إن واحدًا منهم كان يسير كالمرشد السياحي، مؤرجحًا بندقيته فوق رأسه كأنها شمسية، ويصيح: هنا حُفر صَنعَتْها القنابل، وهناك مَدنيون ذُبحوا. لم أستطع تَخيُّل ذلك في صور؛ إنها كلمات فحسب، ولا شيء غير الكلمات في ذلك الفناء الخلفي حيث يُقال إنهم كانوا يرقدون — عشرون، ثلاثون، خمسون، مُتجاورين، لا يحميهم شيء من تَقلُّبات الطقس. لم يكن بحاجة إلى لَفْت انتباهي لذلك، كان واضحًا أنهم سيسمعون التوجيه المعتاد الذي يحيلهم إلى هذه الجبهة، لا إلى تلك. الحرب تعيش على ذلك: هل الآخَر منا، كما يُقال، أم علينا؟ حاولتُ مرارًا، ولكن من دون جدوى، أن أستحضر نظرات الصحفيين على الأجساد المُستباحة الملقاة هناك، كنت أتمنى لو كانوا على الأقل ألقوا نظرة إلى الوراء حتى يروا الزُّوار القادمين من أوروبا البعيدة جدًّا، الذين كانوا يتجنبونهم بلا وعي، ويفتشون عن مناديل في جيوبهم بسبب الرائحة النتنة، أو يرفعون ياقات قمصانهم أمام أنوفهم.

حسب علمي قدَّموا لهم بعد ذلك حساء فاصوليا على الطريقة الصربية، وكأسًا من السليبوفيتس، ثم — وكأنهم يسخرون من مهنتهم — أهدوهم كتذكار عند الوداع أقلامًا عليها الحروف الثلاثة JNA التي ترمز إلى الجيش الموجود في كل مكان.

– هل تستطيع تَخيُّل ذلك؟

عقب ذلك كان يريد بالتأكيد أن يتمتم ببضع كلمات تنم عن الاحتقار، لكن باول لهث فحسب محملقًا إلى المصابيح الخلفية للسيارة الواقفة أمامنا التي انعكس ضوؤها على الزجاج الأمامي لسيارتنا بقعًا حمراء. واصل كلامه قائلًا: من غير الممكن ألا يكونوا قد عرفوا مع مَن يتعاملون. كان عليهم أن يُفكِّروا بدلًا من المرة ألفًا حتى لا يصبحوا لعبة في أيديهم.

ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن الأمر لم يكن بمثل هذه السهولة.

– ألم يرتكب الآخرون أيضًا أفعالهم الحقيرة؟

لا بُدَّ أن السؤال بدا ساذجًا، لذا أضفتُ على الفور: على الإنسان أن يُحدِّد موقفه من ناحية المبدأ. إذا أخذنا الأمور بجدية فإن على المرء ألا يعقد تحالفًا مع أي شخص كان.

انتظرتُ مُعارَضة أقوى، إلا أنه تعلق بالكلمة، ثم نطقها كأنها شيء هش، رافضًا قبول رأيي.

«طبعًا من المُمكِن أن نرى الأمور هكذا»، قال بعدئذٍ من دون أن يختفي اللين من نبراته. «ولكن إذا كان الكل مذنبًا، فلا أحد مُذْنِب في النهاية، وهكذا نعود إلى نقطة البداية.»

فجأة شعرتُ أن ما يُقلقني ليست طريقته التي تدَّعي المعرفة الأفضل، بل إنه راح يتحدث عن روايته مرة أخرى، وأنه كان يريد أن يعرف رأيي حول ما يكتبه عن مجموعة من الجنود الذين استجمعوا شجاعتهم ليهربوا في آخِر يوم من أيام حصار المدينة، وبعد ثلاثة أيام من التيه الفظيع يصلون إلى منطقتهم. لم أَعُد أستطيع أن أَسمعه وهو يرسم لي بكل استمتاع صورة لِمَا تَغلَّبوا عليه من صِعاب: التسلل في الظلام، التجنب الحَذِر لمواقع الأعداء، والحرص على ألَّا يصدر عنهم صوت، أو كيف ينتظرون أثناء النهار مختبئين بين الشجيرات حتى غروب الشمس؛ تراءى لي أنه يستمتع بذلك استمتاعًا كبيرًا، وكأنه يتحدث عن لعبة لا ضرر منها، لعبة يستطيع الموتى فيها أن يتوقفوا في أي وقت عن أداء أدوارهم، ثم يعربون عن رغبتهم في التخلي عن مواقعهم لآخرين. كدتُ أشعر أنه يفكر بمنطق الصور التلفزيونية، وكأنه يرى لقطات مكبرة أمام عينيه عندما يحكي أن القافلة وصلتَ في غبش الفجر — تحت تصفيق الحراس هناك — إلى مكان مقفر بائس، كان أفرادها ذاهلين عن الوجود، غارقين في عَرَقِهم، لا يكادون يستطيعون الوقوف على أقدامهم، كانوا أكثر من مئة متماثلين في العمر، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى عشرين أو ثلاثين، رحلوا للحرب قبل عدة شهور مع الحراس الواقفين هناك، كل الجنود كانوا يبكون من دون أن يفكروا مجرد تفكير في إخفاء وجوههم التي بدت كأنها أقنعة من الفلين علاها السناج، ومع ذلك كانت تثير شعورًا بشحوب الموتى.

كان واضحًا أن كلامه يبغي أن يولِّد تأثيرًا معينًا، فسألته متهكمًا، طالما أنه متحمس إلى هذا الحد، ألا يخشى أن يجد نفسه مجبرًا على أن يعيد كتابة روايته الريفية هذه ليقدم رؤية يرضى عنها التربويون. سيان لديَّ ما إذا كان يريد الاستماع إلى رأيي أم لا، ولكن الجنود الجدد الباكين لم يكونوا إلا نُسخًا طِبق الأصل تقريبًا لكل أولئك الرِّفاق الحديديين الذين عاشوا في فترة قريبة ما زالتْ ماثلة في الأذهان؛ رفاق كانوا يبتلعون خوفهم ورعبهم وشعورهم بالوحدة إلى حد التَّقيُّؤ. إنه في النهاية يريد تصوير أبطال فحسب، قلتُ لنفسي، هذا كل ما يعنيه، ولأن نواحي القوة لدى الرفاق القدامى قد علاها الغبار، فإنه يستسهل الأمر ويُضفي ببساطة ملامح إيجابية عليهم، ثم يظهر بكل فخر مدى ضعفهم البشري.

لم يكن يُجْدِي كثيرًا أن يُؤكِّد أنه لم يخترع كل تلك الأحداث، لقد حَدثتْ بالفعل، وأن ألماير ذَكرَها في أحد أفضل ريبورتاجاته مثالًا مفزعًا على بشاعة الحرب.

اعتقدتُ أنني لم أسمعه جيدًا عندما قال ذلك، إلى هذه الدرجة كان كلامه نمطيًّا مستهلَكًا؛ وعندما واصل قائلًا: إنني لن أفهم ما أعنيه؛ وافقتُه على رأيه.

«لا تعجبني الطريقة التي نتحدث بها عن ذلك»، حاولت أن أشرح له تحفظاتي. «وكأننا ضِباع تهجم على جيفة.»

أشار على الفور بيديه نافيًا، لكنني لم أتوقف.

– وفي رأيك، أي دور تلعبه الحقيقة هنا؟

ومع أن الإجابة كانت واضحة وضوح الشمس، فقد أجبت قائلًا: إنها الجيفة بالطبع.

آنذاك كان الشعور الذي أود التعبير عنه هو مُجرَّد استغراب لم أُحدِّد كنهه، شعور بعدم الارتياح لم يخامرني بمثل هذا الوضوح إلا عندما رأيتُ الصور التي الْتُقِطَت في فوكوفار بعد تدميرها، لعله نوع من الدفاع حتى لا أرى شيئًا بدأ يَضمحِل، أو قد تلاشى بالفعل، أو من الأفضل أن يكون قد اختفى من الوجود تمامًا. وكأن النعي هو الإمكانية الوحيدة المتبقية للوصول إلى المُتلقِّي، هكذا تراءى لي، ولهذا السبب وحده تَحوَّلت المدينة — بمجرد أن حازت الاهتمام— إلى أطلال وأنقاض، إلا أنني لا أدري ما إذا كان السبب يرجع إلى معرفتي بمصيرها اللاحق، أم أنني كنتُ سأفكر هكذا حتى لو لم أكن أعرف؟ هذه المقاطع الثلاثة لاسم المدينة، فوكوفار، يمكن للمرء أن يظل يُردِّدها حتى يشعر بالدوار، هذه المقاطع الثلاثة يمكن أيضًا أن تمثل اللحن الختامي لكِلَا الحربين العالميتين، لساحة قتال في منطقة فلاندر أو لحصار في الشتاء الروسي. لم تكن فوكوفار في الحقيقة سوى بقعة ريفية مجهولة لم يكن لينتبه إليها أحد، بعيدة عن الطُّرق السياحية، في قلب أكثر السهول بعثًا على المَلل، لا تصلح حتى أن تكون ما يُطلق عليه «نصيحة سِرِّية» يتداولها السُّيَّاح الباحثون عن أماكن جميلة غير مطروقة، قرية نائمة، شوارعها المؤدية للقرى المحيطة غير مُعَبَّدة، تمتلئ بالحُفر الوحلية عند المطر، وتحفل بالخنازير التي يقولون إن المنطقة تشتهر بها، الخنازير ذات الشعر الأسود الخشن التي ترعى فيها منذ مئات السنين، ولا أستطيع سوى أن أَهز رأسي تعجبًا من رياء الناس ونفاقهم عندما أسمعهم يكتشفون فجأة جَمال تلك البقعة، لا لشيء إلا لأنها اختفت من على الخريطة، وكأنهم يتحدثون عن جوهرة باروكية فخمة تنهض أمام بنايات من عهد عائلة هابسبورغ، وتبدو من بعيد على الضفاف المائلة البيضاء لنهر الدانوب وكأنها تَتجلَّى خلف بحر من حقول الذُّرَة. بالطبع لا يستطيع المرء أن يتحدث عن مثل هذا الهراء، إلا إذا كان مُرهَف الحس إلى حد يتيح له أن يغلق عينيه أمام الواقع.

ظللت لفترة أصغي فحسب إلى هطول المطر الذي كان ينقر على سطح السيارة بقوة لم يصبها الوهن بعد، وفوجئت عندما قال باول بدون مقدمات: إن ألماير وصل بغتة إلى جراتس بعد يوم أو يومين من المُقابلة التي أجراها مع المحاربين الكروات. لم يكد يرفع نبرة صوته، ومع ذلك لم يفتني أن أُلاحِظ أن كلامه كان يخلو من التعاطف الذي كان يبديه عادة تجاهه، ويخلو من الحذر اللائق عندما يقوم بتشريح حياة ألماير ثم يُعيد تجميع أشلائها من جديد، وكأنها عندئذٍ تغدو أكثر صدقًا وتكتسب مَعنًى أعظم، أو مَعنًى آخر، غير كونها قد مَرَّت وانتهت. من كلامه رَشَحَ شيء تَهكُّمي عندما حكى أن زوجته تَذكَّرت الزيارة بكل تفاصيلها، وأنه بِمجرَّد ظهوره تَوَلَّدَ لديها الشعور بأن شيئًا ما قد حدث.

«لا أستطيع للأسف أن أُبدِي رأيًا في هذا الخصوص»، قال وكأنه أراد أن يعتذر بالفعل. «كنت قد تَلقَّيتُ أول تكليف من صحيفة بكتابة ريبورتاج، لذلك لم أكن في البيت.»

الاختلاف اللافت بالنسبة للمرات السابقة يكمن في أن شخصًا آخر كان بصحبة ألماير، صحفيًّا من شتوتغارت، ثم تَبيَّن أنه — بسببه — قد اختار مدينة فينكوفيتشي على الجبهة ليذهب إليها ويكتب عنها، ولم يختر مدينة سواها، مدينة أقرب مثلًا، وأسهل في الوصول إليها، سيساك، على سبيل المثال، الواقعة على نهر السافا، أو كارلوفاتس. على ما يظهر كان يريد أن يسافر معه، لكنه — إذ خاب أمله من تردده المفاجئ — انطلق وحده، ولم يصطحب معه إلا مترجمًا، ولم يقابله إلا في رحلة العودة إلى زغرب، ومن هناك — من دون أسئلة مرهقة — اصطحبه إلى جراتس. ما أثارَ اهتمام ألماير هو موطنه الأصلي، صحيح أن والديه ألمانيان، إلا أنهما يتحدران من يوغوسلافيا ما قبل الحرب، تلك الدولة الملكية التي كانت قائمة قبل الحرب العالمية الثانية، والرحلة إلى سلوفينيا كان مقدرًا لها أن تكون أكثر من مجرد رحلة إلى جبهة الحرب الحالية، إنها أيضًا رحلة عودة إلى الأهوال التي وقعت قبل خمسين عامًا.

على الأقل كان هذا تعبير باول، ثم ضحك عندما استطرد قائلًا: إن زوجته ما زالت تتذكر بعد مرور كل هذا الوقت أن هذا السيد — حسب كلامها رجل قصير لا يكاد يصل إلى أكتافها — كان ذا شارب ضخم مهيب ونظرات حادة ثاقبة، وكان اسمه — بكل جد — شرايفوجل.٣ ثم أسرع بالقول: ولا تَقُل لي مرة أخرى إنني أخترع ذلك من أجل روايتي. كان هذا اسمه بالفعل.

وقبل أن يواصل كلامه نطق الاسم مرة أخرى، وكأنه لا يستطيع أن يتخيل أحدًا بهذا الاسم، ثم صاح قائلًا: إضافة إلى ذلك كانت هناك حكاية أهله الذين شُردوا وهُجروا والتي كان يحكيها دائمًا، بمناسبة ومن غير مناسبة، كي يشير إلى الظلم الذي وقع على والديه.

حسب الرواية التي وصلتني كانت المعلومات المجردة كالتالي: الأب وُلِدَ في فينكوفتشي، والأم في مكان ما على الضفة الأخرى لنهر الدانوب يُدْعَى باتشكا، ولكن الاثنين تُوفِّيَا في ألمانيا. المحطات بين الولادة والموت كان من السهل تعدادها: هجوم الطائرات النازية على بلغراد في ٦ أبريل ١٩٤١م، ومعه بدأت الحرب بالنسبة لهما أيضًا رغم أنهما كانَا في مرحلة الطفولة، مصيرهما اللاحق تَرتَّب على ذلك، وقوعه أسيرًا في عدد من معسكرات الفدائيين حتى هروبه، ثم ترحيلها إلى روسيا على يد الجيش الأحمر الذي لم يفرج عنها في منطقة الاحتلال الروسي في ألمانيا إلا أواخر الأربعينيات. تَمَّ التعارف بينهما خلال حفل من تلك الحفلات التي يُطلق عليه خطأ «حفلات العائدين إلى الوطن»؛ كان ذلك في أوائل فترة المُعجزة الاقتصادية، هو: كائن محروم من النوم، لديه خوف مرعب من حلول الظلام، وهي: جِلْد على عظم، نحفت حتى وصل وزنها ٣٨ كيلو، نَجَت بأعجوبة من المجاعة والتيفوس، مُجرَّد خيال لِما كانَتْه؛ ومن العسير فَهْم كيف استطاعَا أن يتفقا في مثل هذه الظروف على أن يحاولا العيش معًا.

كانت هذه هي الخلفية، قال باول، ومنها انطلق شرايفوغل ليثأر لعائلته ويدافع عنها بعد كل هذه السنوات، وبعد ذلك يصب جام غضبه على الأحقاد والضغائن التي كانت التربة الخصبة لما حدث. ورغم أنه لم يره شخصيًّا على الإطلاق، فقد انطلق يَتحدَّث عن حضوره غير المريح مُتَّهمًا إياه بالتَّصرُّف وكأن لديه الحق في تفسير التاريخ وفق احتياجاته في تلك اللحظة. في أغلب الحالات كان يلعنه لأنه حسبما يُقال قدَّم فروض الولاء والطاعة للسادة الجُدد في زغرب طمعًا في أن يَسترِد عن طريقهم ممتلكات عائلته بِمجرَّد انتهاء الحرب، قطعة أرض صغيرة ربما تكون قد اختفت بعد كل هذه العقود، لا تزيد مساحتها عن أربعة أو خمسة هكتارات من الطين والوحل في منطقة على الحدود مُتنازَع عليها، ومن أجلها كتب مقالات تحريضية هوجاء مُعادِية للصرب في منشورات كاثوليكية مجهولة، مرةً باسم مستعار، ومرات باسمه الحقيقي. ثم قال باول: بالنسبة له كان مصير أبيه وأمه هو بداية التاريخ. ما حدث قبل ذلك لم يكن يَعنيه على ما يبدو.

بدَا كلامه كحقيقة راسخة، لذلك لم أستطع أن أرد عليه، إلى أن خطر على بالي أن أسأله على الأقل عن أجداده.

– هل تعرف شيئًا عنهم؟

هز رأسه نافيًا.

– هذا فصل من الفصول المُظلِمة في تاريخ العائلة.

بدا لي وكأنه يصغي هو نفسه إلى وقع هذه الجملة الضبابية على الأُذن.

«بالتأكيد لن نظلمهم إذا افترضنا أنهم كانوا موالين للرايخ»، أضاف بعد برهة. «أي شيء آخر سيكون كالمعجزة إذا أخذنا خلفيتهم في الاعتبار.»

لم أواصل الأسئلة لأنني شعرت فجأة بالضيق لأنني أجلس جانبه ولا أستطيع أن أتركه، ببساطة، وأنصرف. لم تزل السيارات واقفة في مكانها، بينما راحت سيارة مطافئ بضوئها الأزرق تسير بلا صوت، وكأنها شبح، في الاتجاه المعاكس الخالي، مارةً بطابور السيارات المنتظرة. لم أستطع أن أتخلص من الشعور الذي سيطر علي، ربما تحدَّث هكذا لأنه يخشى التَّطرُّق إلى موضوعات لا يأمن كيف يخرج منها. ربما كان لديه حق في رأيه، ولكن، هكذا بلا سند أو دليل، بدا لي وكأنه كان يرد لمجرد الرد، إلا أنني كنتُ متعبًا جدًّا ولم أرد الدخول معه في مُناقَشة حول الفروق الدقيقة بين الأشياء، ورحت، من دون أن ألقي إليه بالًا، أتطلع إلى ورق الشجر الذي كَوَّن سقفًا فوق الشارع، ومنه لم تتوقف قطرات المطر عن الهطول، رغم أن المطر خفَّ بشكل واضح.

وجوده في حد ذاته هو ما أزعجني، وعندما أراد أن يشعل سيجارة أخرى، رجوته ألَّا يفعل. شعرت ببلاهتي، بينما راح هو يتحدث هو مرة أخرى عن الأمسية التي قضتها زوجته مع ألماير وذلك المعتوه، وراح يتنحنح طيلة الوقت، إلى هذه الدرجة كان صوته متقطعًا.

«لا بُدَّ أن الأمر كان فظيعًا بالنسبة لها»، عاد مرة أخرى للحديث. «فيما بعد كانت تتكلم عن هذا الموضوع باشمئزاز لم تكن تداريه تقريبًا.»

لم يكن أمامي اختيار، كنت أشعر أن تصويره لهذه الشخصية نمطي بعض الشيء: «الطائر الصيَّاح» ظَلَّ يصرخ حتى ساعة متأخرة من الليل، ولم يدع ألماير يتفوه بكلمة، وظل دائمًا يؤرجح كأسه الفارغ يمينًا ويسارًا إلى أن تقف الزوجة وتنزل إلى القبو لتُحضر زجاجة نبيذ أخرى.

«ليس في صاحبنا شيء لا تجده مُنَفِّرًا»، قلت له. «إذا جعلته يظهر في روايتك، فعليك ربما أن تضيف إليه بعض الصفات الطيبة حتى يكون مدعاة للتصديق.»

لم يرد علي، فنصحته أن يزوده بعيوب بسيطة، ضحكة لطيفة أو أي سمة أخرى، إذا لم يخطر على باله شيء أفضل، لكنه صم آذانه ولم يسمع الجملة التالية التي أضفتها:

– على الأقل تحوله بذلك إلى إنسان.

حملق فيَّ وكأنه لم يفهم حرفًا مما قلت.

«في الحقيقة أنا لا أحتاجه على الإطلاق»، رَدَّ علي بعد برهة. «في الغد، في الصباح الباكر كان قد غادر البيت، من دون أن يترك رسالة، ولهذا أستطيع الاستغناء عنه بكل سهولة.»

كانت سيارة المطافئ قد واصلت سيرها إلى الأمام حتى اختفت عن ناظري، للحظات كان المرء لا يزال يرى ضوءها الأزرق. رفعتُ درجة صوت الراديو عندما سمعت أن الريح قد اقتلعت شجرة في مكان ما، فسقطت بعرض الشارع. توقف المطر الآن تمامًا، ومن السيارة أمامنا هبط رجل وامرأة، وسارا عدة خطوات، ثم عادَا على الفور وجلسا ثانية، ورأيتهما يجلسان هناك وأبواب سيارتهما مفتوحة، وينتظران. كنت قد أنزلت زجاج الشباك معتقدًا أنني سأسمع من الميناء ضجيج عمليات الشحن والتفريغ، ولكنني أخطأت، كان الهدوء يسود المكان، لم أسمع إلا طقطقة في الخارج، وكأن البلل يجف، ومن بعيد تناهى إلى سمعي صفير إنذار من سيارة الطوارئ، لكنه انقطع فجأة بعد صدوره بِثوانٍ.

وكأن باول كان ينتظر هذا الصوت تحديدًا ليقول لي إن زوجته قدَّمت إجازة مَرَضية حتى تؤنس ألماير وتخفف من وحدته، ورغم أن نبرات صوته لم تشِ بأدنى اضطراب، فإنني لم أجرؤ على النظر إليه عندما قال إن الاثنين سافرَا في عصر اليوم نفسه إلى شلادمينج للتزحلق على الجليد.

«في الواقع، لا أريد التحدث عن ذلك»، واصل حديثه بعد أن صمت برهة. «لأن الكلام عن هذا الموضوع كلام سيعرضني للخطر.»

أخذت أعبث بالراديو من دون أن أعرف، هل أرفع الصوت أم أُخفضه، إلى أن أزاح يدي وأغلق الجهاز.

«تخيل، إنه يعود من الجبهة، وهي لا يخطر على بالها شيء غير أن تسافر معه للتزحلق على الجليد.»

لا بُدَّ أن وَقْعَ كلامه كان في يوم ما مريرًا، إلا أنه بدا لي الآن ساخرًا، وكنتُ سعيدًا أنه ضحك ضحكة بَدت مُغتصَبة، وأنه استطاع بعد فترة أن يهدئ من نفسه.

«فيما بعد سألتها: لماذا فعلت ذلك؟ إلا أنها لم تجب سوى بأنه مَرَّ بالتأكيد بأشياء مرعبة.» قال من دون اقتناع كبير. «قد يبدو كلامي ساذجًا، ولكنني أخشى أنَّ دافعها كان بالفعل هو إخراجه من كآبته.»

لم أنظر إليه حتى عندما حكى أنه وجد لدى عودته في اليوم التالي ورقة على مائدة المطبخ مكتوبًا عليها أين هما: اسم المكان، واسم الفندق، ورقم تليفون، وجملة تُطلب منه أن يلحقهما إذا كانت لديه رغبة. كان عسيرًا علي أن أضع نفسي مكانه، كانت هذه على كل حال زوجته، وألماير كان في منزلة صديق، ولكن لحسن الحظ لم ينتظر مني أن أعلق على ما قال. كان على ما يبدو قد استعاد هذه الحادثة وفكر فيها كثيرًا، وعندما قال إنه لم يجد خيارًا آخر، إنهم دفعوه للقيام بدور ما، وإن عليه — إذا أراد الحفاظ على ماء الوجه — أن يلعب دور الطيب حسن النية، لم يفاجئني رد فعله، ولا اندهاشه، وكأنه لا يزال لا يعرف كيف يتصرف على وجه التحديد: هل يأخذ كل شيء على محمل بريء؟ أم أن المكر يكمن تحديدًا في تلك البراءة المزعومة؟

على كل حال، لقد انطلق بمجرد وقوع عينيه على الورقة. ولم يخطر على بالي في تلك اللحظة أن أسأله عن شيء سوى عمَّا إذا كانت السماء آنذاك تُثْلِجُ.

«أخشى أن أُخَيِّبَ أملك»، رد متحصنًا على الفور مرة أخرى خلف ابتسامة. «لم يكن الموقف دراماتيكيًّا كما تتخيل.»

وبدون مقدمات لزم الصمت، وشعرت بالضيق لأنني طلبت منه ألَّا يدخن. لربما كان تدخينه أنقذني على الأقل من تلك النظرة التي أخذ يحملق بها فجأة في كفه المفتوحة. وفكرت أنه سيتجاوز الصمت بمزحة، لكنه ظَلَّ يتلفت حواليه باحثًا حتى وجد نقطة ثبَّت بصره عليها.

– تسألني: هل أَثلجَت السماء؟

ولاحظتُ عندئذٍ أنني استدعيتُ بكلامي موقفًا عاطفيًّا للغاية، ورحتُ أفكر كيف أجعله يفكر في شيء آخر، إلا أنه واصل قائلًا: «لا أعرف إذا كانت السماء قد أَثْلجَت». وقعَت كل كلمة على الأذن واضحة جدًّا. «على كل حال لا بُدَّ أن ذلك كان قبل عيد الميلاد.»

ثم لاذ بالصمت مرة أخرى، وكما خشيت. وشعرتُ بالسعادة عندما لاحظتُ أن طابور السيارات قد بدأ أخيرًا يتحرك في الأمام. في تلك اللحظة شغَّلتُ مُحرِّك السيارة أيضًا، وعندما زِدتُ السرعة على الفارغ، وضَع كَفَّه على ساعدي وكأنه أراد تهدئتي. انتظرتُ حتى سَحَبَها، ثم أوقفتُ المحرك بغتة. لم ألتفَتُّ ناحيته إلا عندئذٍ، لكنه راح ينظر إلى النفق الذي تكوَّن تحت أوراق الشجر، ومنه تساقط الماء وتصاعد البخار وتغلغل الضوء الذي شرع يصفو تدريجيًّا بعد المطر، وشممت في الجو رائحة ذكَّرتني بصيفيات الطفولة على بحر الشمال عندما تمطر ويغطي اللون الرمادي على السماء والماء معًا، وكنت أتخيل بكل جدية أن الرائحة المنتشرة هي رائحة اللون، ولا شيء غيره.

على الطريق المعاكس ظهرت أولى السيارات التي راحت تقترب منا ببطء. كنت قد بدأت السير لِتَوِّي عندما قال باول إنه كان آنذاك عائدًا من تريستا، وكأن ذلك يمنحه حصانة ضد كل شيء. هكذا أيضًا تحدث عن فكرته — التي لم تكن بالطبع جديدة — أن يكتب ريبورتاجات تُعَرِّفُ بمدن وسط أوروبا، لم يزل يريد أن يكتب عن بودابست وبراغ، وبينما كان يروى لي ذلك، رحت أتطلع إليه بنظراتي الجانبية، ثم أنظر تجاه الشارع قبل أن أعود لأتطلع إليه. لاحظت كيف كان يغالب نفسه مغالبة قوية حتى لا يشتكي، ومع ذلك كان رثاؤه لذاته واضحًا عندما حكى تحديدًا عن الشمبانيا والألعاب النارية التي عادت بها زوجته إلى المنزل بعد أن وَصلَتْه مُوافَقة الجريدة على اقتراحه، لم أتحمل هذه الشفقة نحو الذات التي كانت تنضح من كلامه، وفي النهاية تحوَّل إلى التهكم الخالص عندما قال: «بالطبع لم يجعلني هذا مراسلًا حربيًّا»، لم يكن من الممكن أن ينطق الكلمة بطريقة أكثر احتقارًا مما فعل. «من الواضح أن كافة المؤهلات اللازمة لذلك كانت تنقصني».

كنتُ أود لو رددت عليه قائلًا إنه ليس بحاجة إلى تحقير ذاته، إلا أنه لحسن الحظ سرعان ما أشاح بيده، ولم يكن من البلاهة بحيث يصرخ وكأنه ممثل في فيلم أمريكي ويقول إن زوجته ما زالت تحبه.

«عندما أتذكر أنني سافرت معها عدة كيلومترات بعد فترة قصيرة من تَبادُل إطلاق النيران في سلوفينيا، وأننا عَبرْنا الحدود لنرى ما إذا كان قد بقي شيء نتفرج عليه، أشعر أنني أثير بذلك سخرية الآخَرِين»، هكذا بدأ من جديد، ولم يكن من الممكن إخفاء الاستسلام الذي شف صوته عنه. «ظللنا نروح ونجيء على المعبر الصغير، من دون أن نفكر حتى بالسفر إلى ليوبليانا، ثم مررنا في رحلة العودة على شبيلفلد، ولكن الرحلة كلها كانت فكرة صبيانية».

حسبما يزعم فإنه لا يكاد يتذكر شيئًا من ذلك اليوم، غير الاستحمام في مياه نهر الدراو الباردة برودة ثلجية، وأنهما لم يكتشفا شيئًا جديرًا بالاهتمام إلا في رحلة العودة على الجانب النمساوي، عندما صادفَا دبابة واقفة بين الشجيرات في مكان ما، وحفنة من جنود متناثرين كانوا يقفون مشمري الأكمام على حافة الشارع وكأن قنبلة فرَّقتهم.

لن ألومه على تهكمه، ولكن مع ذلك تحتم عليه أن يقول إنهم تركوا لديه انطباعًا بأنهم لا يثقون في قدرة أي أحد على الدفاع عن الحدود في حالة الخطر، لا يثقون حتى في أنفسهم، ولا حتى يومًا واحدًا. كانوا كلهم يدخنون، على الأقل احتفظ بصورتهم هكذا في ذاكرته، كانوا يضحكون، ويلوحون، وفي النهاية قاموا بإيماءات خليعة عندما انتبهوا لوجود زوجته. ومن الطريقة التي تحدث بها عنهم استنتجت أنه يصورهم على هذا النحو الساذج؛ لأنه كان قد كوَّن هذه الفكرة مسبقًا عنهم، وأراد أن يؤكدها. ما زلنا نتقدم بسرعة السلحفاة، وكنت سعيدًا أن خطر سقوطه في شِبَاك الصمت مجددًا لم يكن ماثلًا على الأقل في هذه اللحظة. لم أكن بحاجة إلى أن أتكلم كثيرًا؛ إذ إنه أسهب فجأة في الحديث، وحتى عندما ظهرت الأشجار المُقتلعة على حافة الطريق، واستند على الشبَّاك ليرى على نحو أفضل كيف كان رجلان من رجال المطافئ ينشران الفروع الكبيرة، فإنه لم يتوقف عن الكلام. وسواء كان ذلك مقصودًا أم لا، فقد جاء كلامه عفويًّا عندما شرع فجأة يتحدث عن المرات القليلة التي أغارت فيها الطائرات على مناطق القتال، وتغلغلت في المجال الجوي النمساوي، بل وصلت — على الأقل مرة واحدة — إلى جراتس حيث طارت فوق أسطح المنازل. كان منفعلًا عندما قرأ في صحف اليوم التالي عن الأمل المرعب الذي انتزع المرء من سباته.

كان كلامه بالنسبة لي واضحًا وضوح الشمس حتى إنني لم أستطع منع نفسي من سؤاله إذا كان يتمنى أن يحدث شيء مماثل عندنا نحن أيضًا، إلا أن ردة فعله بينت أنه بُوغِت.

– أعوذ بالله!

نبرات صوته كانت عالية، ثم انفجر قائلًا: أنت لا تريد سوى استفزازي. لا أستطيع التخيل أنك جادٌّ فيما تقول.

ودون أن ينتظر ردًّا، حكى لي أنه آنذاك لم يفعل شيئًا طيلة أسابيع سوى الخروج للتمشية مع الكلب، من المنزل في إيجنبرج إلى القصر الكائن هناك، ثم العودة، ولكن كلما استفاض في الحديث، ازدادت حيرتي بشأن ما يرمي إليه بالضبط. منذ اندلاع الحرب لم يكتب سطرًا، وعندما يصر الآن على أن تَوَقُّفه عن الكتابة لم يكن ضررًا، فإنني لا أعرف ما ينتظره مني — هل ينتظر اعتراضًا؟ لم أصغ إليه إصغاءً حقيقيًّا إلا عندما قال إنه بالرغم من القلق الذي كان يشعر به، فإن تلك الفترة لم تعد تلعب أي دور الآن؛ قال ذلك وكأن الظروف وَحدَها عُذر كافٍ لفشله. استسلم للعاطفية المؤثرة عندما راح يبرر موقفه، ومع ذلك تَركتُه يَتحدَّث، رغم أن انطباعًا لم يفارقني بأنه يحاول أن ينزع نفسه فحسب من دوامة الأحداث التي تورط فيها بغباء.

ومع أنني كنت قد مللت حديثه، اقترحت عليه أن نشرب كأسًا من البيرة في حي سان باولي، وفي الطريق المحفوف بالنخيل شرع من غير مقدمات يتحدث مرة أخرى عن غرابة الرحلة التي قامت بها زوجته مع ألماير. كان يتطلع ناحية السماء التي بدت فجأة مشقَّقَة، تجميعًا لرُقَعٍ من الغيم الضئيل فوق الأسطح، وكأنهم أَطلقوا لتَوِّهم صواريخ نارية ضخمة. وشعرتُ بتفاهة ما يقوله عن الاثنين، ربما بِسبب نظرته الحانية العطوف. وعندما راح يحكي عن استقبالها له استقبالًا قلبيًّا حارًّا بمجرَّد وصوله إلى شلادمينج، بدا أنه يحبس أنفاسه قبل أن يزفر زفرة عميقة، وكأنه كان يريد أن تُعامله معاملة الغريب، ولم أعرف إذا كان جادًّا فيما يقول، أم إنه كان يسخر من ذاته. إذا كان وصفه صحيحًا، فإني لا أفهم كيف لم ينفعل أدنى انفعال عندما رآهما معًا، كان حزينًا فحسب، ولم يفكر إلا في تصرفاتهما التي تبدو ساذجة ومبالغًا فيها، وأن العلاقة بين الرجل والمرأة تبدو عمومًا بلهاء وسخيفة بمجرد أن يتأملها المرء من الخارج.

وقع كلامه على أذني وكأنه سلسلة من الادعاءات التي تبني سورًا للدفاع عن الذات. وشعرت بالارتياح عندما قال إن ألماير لم يسأله في ذلك الموقف بالطبع عن المكان الذي أتي منه لِتوِّه.

«لم أتكلم معه كلمة واحدة عن فينكوفيتشي أو عن المقابلة الصحفية التي أجراها هناك»، استطرد وكأن ما يعنيه ليس واضحًا. «لا بُدَّ أن زوجتي حكَتْ لي ذلك كله بعد مرور فترة طويلة.»

لم يَتحدَّثا كثيرًا، نصف ساعة في أحد المقاهي، أشياء تافهة، إلى أن جاء اليوم الذي لم يعد فيه أحد يتحدث عن «البقاء ليوم آخر»، وهكذا انطلقوا عائدين، في المقدمة هو وزوجته، وخلفهما ألماير بسيارته التي تركت الأيام عليها آثارًا واضحة. كانت الخبطات تغطي سطحها كلها تقريبًا، وبدلًا من الشبَّاكين الجانبيين الخلفيين ثُبِّتَت قطعتان من الكارتون، قُصَّتَا بغير إتقان، وعُلِّقتا بشريط لاصق عريض على الصاج. ربما أكون مخطئًا، ولكن طريقة باول في الوصف حملتني مرة أخرى على الاعتقاد بأن نبرات صوته تشي بإعجاب كامن، وخاصة لأنه كان يحاول أن يترك انطباعًا باللامبالاة التامة.

«طبعًا تصرفت وكأنني لا ألاحظ شيئًا»، قال محاولًا من جديد أن يسخر من ذاته. «مع أنني أدركت من بعيد أنها عبارة عن كومة من الخردة تسير على أربع.»

لم يزل الموقف يبهجه، وأتذكر كيف ضحك وكأنه يرى في المرآة الأمامية ذلك السائق الذي يقود سيارته الغريبة وراءه بالضبط، والذي كان يرشق طوال الرحلة سيجارة مشتعلة بين شفتيه، ومن حين لآخر يحاول تخطيه، وفي كل مرة يقود سيارته مسافةً قصيرة جانبه، ثم يُلوِّح ويعود إلى الخلف مرة أخرى. وقال: كان يعتقد على ما يبدو أن عليه أن يمثل دور المُهرِّج، وإلا فكيف نفسر سلوكه الأهوج؟

استمر الوضع هكذا إلى أن فرَّقت بينهما الطرق، وانحرف هو في اتجاه فيينا. واصل باول وزوجته السفر في الليل الشتوي، وظل ينصت إلى صوت الإطارات فوق الأسفلت، وإلى الهدوء الذي كان يعم الطريق شبه الخالي. لم يوجه إليها أسئلة، سيطر عليه خوف غير عقلاني، الخوف من أن يستثير شيئًا سيظل كامنًا طالما بقي على صمته، لم يحاول أن يلمسها أو أن يمد يده إلى راحتها، أو أن يلف ذراعه حول كتفيها كما اعتاد أن يفعل، كان يشعر بالفرحة لمجرد وجودها، الفرحة لأنه يستطيع — هذه المرة — أن يرافقها حتى البيت. كأن بقعة ضوئية ابتلعت دربًا لم يبق منه شيء، هكذا شعر في غمار الظلمة التي كانت تتراجع على كلا الجانبين، وعندما وقف الكلب في الجزء الخلفي من السيارة، وظل واقفًا مدة ناظرًا إليهما، لم ينهره أحد بأن عليه أن يرقد مرة أخرى، لا هو ولا هي، فسار الكلب إلى الأمام ولمسهما بخطمه وكأنه يريد التأكد أنهما ما زالا على قيد الحياة.

ها هي قد عادت، تلك النبرة العاطفية المؤثرة، إذ راح باول يُوَلْوِل فجأة قائلًا: إن تلك كانت — بدون أن يعرف — اللحظات الأخيرة من التفاهم الكامل معها، ومنذئذٍ بدأتْ هُوَّة الخلاف تتسع بينهما إلى أن انفصلا.

«كنت أُفَضِّلُ ألا أصل على الإطلاق»، ولم يتضح لي أن كلامه لا يحمل معنًى صوفيًّا إلا عندما واصل حديثه: «أخذتُ أبطئ من سرعة السيارة لكسب أطول وقت ممكن.» ثم أتبعَ ذلك بعبارة من عباراته التي كانت تكتسب أهمية زائفة من فترات الصمت التي يختارها بين الكلمات.

– رغم كل شيء، ربما لم أنتبه بما فيه الكفاية.

كان الرد على لساني، ولكنني لاحظت أنه يسدد نظراته من جديد إلى كفيه، وهي عادة تناسب بالأحرى رجلًا طاعنًا في السن لا رجلًا في عمره. وعندما راح بأصابع منفرجة يمر في شَعْرِهِ، ثم دَعَكَ عينيه، اعتقدت في البداية أنه يمثل تمثيلية أمامي، ولكن كان يكفي أن أنصت إلى صوته الجاف المتقطع لأعرف أنه لم يتعمَّد شيئًا على الإطلاق. بدا عليه التعب، وبدَا أنه فقد ذلك الزخم الفوَّار الذي لم يكن يستطيع كَبْته، والذي كان يدفعه إلى أن يحكي لي كل تلك الأشياء عن حبه الكبير، وكما فعل عندما تَحدَّث عن هيلينا من قبل، على العكس، بدَا الآن مستغرِقًا في التفكير في زوجته، مستسلمًا تمامًا لعبثية ما حدث وعدم جدواه، رغم أنه راح في تلك اللحظة أيضًا يتشبث بتفاصيل ظهرت لي قليلة الأهمية.

«ما زلت أتذكر تمامًا أنها كانت تضع على رأسها قُبَّعة سوداء تصل حتى الأذنين وبدون حافة»، قال وكأن هذا كافٍ لتفسير كل شيء. «وبسبب القُبَّعة بدَا وجهها شاحبًا في العتمة، ومن بين كل صورها في ذاكرتي تبدو لي هذه الصورة تحديدًا هي الوحيدة التي لم يُصبها خدش أو سوء.»

ضياع شظايا من ذكريات متفرقة هو الذي جعل الرابط بينها معدومًا، البقية ألم شبحي يبدو أنه هو نفسه لم يكن يتبين كنهه، ولكن قبل أن يغرق في ألمه أكثر فأكثر، سألتُه عمَّا إذا كان ألماير زارهما فيما بعد.

– ربما مرتين، أو ثلاث مرات.

كان تَردُّده واضحًا. ثم أضاف: بالتأكيد ليس أكثر من ذلك. آخِر مرة كانت حتمًا قبل بداية حصار سراييفو.

اعتقدتُ أنه سيستفيض في الحديث، لكنه لم يقل أكثر من أن ذلك كان في مطلع أبريل، وبعدها لم يَتبقَّ له سوى نحو ثلاثة أشهر في جراتس إلى أن انتقل في نهاية الفصل الدراسي إلى زيورخ؛ لأن زوجته قَبِلَت العرض الذي قدَّمَته لها الجامعة هناك.

«كان مشروعًا بحثيًّا يستغرق عدة سنوات، محوره التحركات الجليدية في جبال الألب»، قال وكأنه لا يستطيع تصديق أثر ذلك على حياته الشخصية. «وبذلك فَقدْنا تلقائيًّا الاتصال به.»

بالإضافة إلى ذلك لم يَعُد يقرأ الصحيفة التي كان ألماير يكتب لها ريبورتاجاته، ولكن عمومًا كانت الأخبار التي تصله عن طريق أصحاب مُشترَكين من أيام إنسبروك قد ندُرت، ثم انقطعَتْ في السنوات التالية تمامًا عندما انتقل إلى هامبورج حيث كان يريد الالتحاق بمعهد الصحافة هناك بأي وسيلة، ثم تزوج، وبالطبع تَغيَّرت الأماكن التي كان يكتب عنها تقاريره، دائمًا يسافر إلى أماكن جديدة، مناطق موت جديدة، ثم انتقل إلى البوسنة حيث كتب سلسلة من المقالات تبدو بلا نهاية، وصلت ذروتها الختامية بالحادث الذي تَعرَّض له في كوسوفو.

الأسماء المتعاقِبة التي تلاها باول في سلاسة، والتي لم تعنِ في الواقع شيئًا، كانت لبلاد متناثرة حول نصف الكرة الأرضية، وكأن سائحًا يهوى المغامرات والكوارث يمتدح لشخص آخر بين رحلتين جويتين أفضلَ الأماكن التي زارها، ثم ازداد تَعجُّبي عندما سمعته في اللحظة التالية يقول إنه لم يتحدث بعد ذلك مع زوجته عن ألماير إلا نادرًا.

«المرة الأولى التي تَحدَّثْنا عنه مرة أخرى، كانت في جنازته. وربما في ذلك اليوم أخذنا نحوم بالكلام حوله، ونلف وندور.»

لم يكن هناك ثمة ابتذال في القول أكثر مما قاله بعد ذلك، ولم أعرف إذا كنتُ في سِرِّي قد توقعتُ أن أسمع منه تحديدًا هذه الجملة التي لخص بها الموضوع قائلًا: سألتُها إذا كانت نامت معه.

فعلَ ذلك في المقهى الذي ذهبَا إليه بعد الجنازة، وهو في الحقيقة بار صغير ليس فيه ما يلفت النظر، توافد عليه أثناء وجودهما بقية المُعَزِّين حتى اكتظ بالزبائن، وأتخيل ردة فعلها، وكيف استاءت استياءً يجمع بين الغضب التلقائي والمُصطَنع، بلغ ذروته في صرخة مكتومة.

– غير معقول!

حسب روايته، راحَت تكرر هذه العبارة، وكل مرة يَخفت صوتها عن المرة السابقة، ولم يستطع باول أن يؤكد إذا كان رأى فجأة دموعًا في عينيها، ولكنه يتذكر تمامًا ميلها إلى الكلام العاطفي المبهرج:

– «المسكين يرقد منذ أقل من ساعة تحت الأرض، وأنت لا تجد ما تفعله سوى مواجهتي بتلك السخافات»، هكذا انفجرت في وجهه حسبما روى لي. «هل هذا هو كل ما جادَت به قريحتك؟ يا لسقامة ذوقك!»

نبرات صوتها كانت قد ارتفعَت قليلًا حتى إن كل الجالسين حولهما انتبهوا، ولم يَعُد يعرف في أي اتجاه ينظر، فحاول أن يأخذ يدها حتى يهدئ من روعها، لكنها صدَّته.

«أخذَتْ تقذف رأسي بحمم من هذا الكلام»، قال لي، وكانت آثار المفاجأة لا تزال واضحة على وجهه. «لم تمنحني فرصة لأرد، وهكذا تركتُها تتكلم.»

ثم عقَّبَ متهكمًا أنه ابتداء من نقطةٍ ما راح يعد المرات التي قالت فيها: «كريستيان»، وفي كل مرة — عندما تنطق الاسم — كان يتحكم في مشاعره حتى لا يقهقه، ثم سألني عدة مرات متتالية إذا كنتُ أَتخيَّل أنها لم تترك مناسَبة من دون أن تلفظ اسمه. مرة ثانية شعرتُ أنه يناور ويراوغ حتى لا يعترف بمدى تأثُّره بكلماتها، إلا أنني لم أتجاوب معه، وتَصرَّفتُ وكأنني لا ألحظ نظراته إليَّ وتطلعه إلى ردٍّ مني. شيءٌ ما في إلحاحه جعلني أشعر أنه ينتظر غفرانًا، من دون أن أعرف، غفرانًا لأي شيء؟ وكأنه ينتظر حكمًا بالبراءة يُؤكِّد له أن كل ما فعله كان صحيحًا. لم يكن في مقدوري إصدار مثل هذا الحكم؛ لذا ازداد شعوري بالضيق عندما تملَّكَهُ الانفعال، إلى أن قال في النهاية إنها راحت تُكرِّر كلامها كالأسطوانة المشروخة. قال ذلك من دون أن يحاول على الأقل أن يقلل بعض الشيء من لهجته المنبرية.

في تلك الأثناء كنت قطعت شارع ريبربان، وانحرفت إلى شارع دافيد، وبعد عدة محاولات ودورات وجدتُ مكانًا للسيارة أمام معهد أبحاث المناطق الحارَّة، وهناك أسرع بالقول: إن زوجته بدَت أكبر سنًّا مما تصورها، وعلى النقيض، هكذا بدا لي، من كل ما قاله عنها فيما قبل.

أعقب ذلك فترة الصمت الإجبارية، ثم، بلا تمهيد، جاءت الجملة الختامية التي جعلتني أحبس أنفاسي.

«ربما يَتوجَّب عليَّ أن أفرح لأنها جعلتني أسافر»، قال وكأنه يكلم نفسه. «لم أكن لأتحمل رؤيتها تحتضر.»

لم يزل الوقت باكرًا حتى يقف المرء في ساحة شبيلبودن ليتفرج على الشمس الغاربة، ولكن، ولأنني أُخِذتُ على حين غِرَّة، بُحتُ له بأنني أعشق الوقوف هناك عندما يتلاشى الضوء شيئًا فشيئًا. ربما كانت الرائحة المتصاعدة من مصنع البيرة القريب هي السبب الذي جعلني أودُّ لو أمسكته من يده، وأواصل السير قليلًا، وأنتظر أمام المسرح إلى أن يومض النور في النوافذ، بينما يغطِّي السماءَ ناحية الغرب اللونُ الأزرق الحليبي الذي يبدو لا أرضيًّا، غير أنني بدلًا من أن أفعل ذلك لم أتوقَّف عن الكلام، وكأنني لا أريد أن أعطيه فرصة ليمسك خيط الحديث مرة أخرى. وسواء لديَّ إن اعتبرني مخبولًا عاطفيًّا أم لا، لقد حكيتُ له عن الشوق الذي يستولي عليَّ في تلك اللحظات قبل أن يرخي الظلام سدوله، عندما تشع حتى أكثر الشوارع قبحًا وداعةً موجعة، وعندما توحي الأبنية الواطئة فجأة بأنها مُجرَّد شيء عابر مُؤقَّت، تمامًا مثل الواجهات العالية التي بُنيت على عجل في مدينة أمريكية متداعية، بل حتى أكثر الحانات الداعرة بؤسًا تُعَدَّ لِشَيء، وتُمْسِي مُنطَلقًا لشيء آخر.

لا أعرف المدة التي بقيناها في السيارة، وما إذا كان أنصتَ إليَّ على الإطلاق، إلا أنني نجحتُ في أن أجعله يلزم الصمت. وعندما اقترحتُ عليه أن نذهب إلى مقهًى في شارع الميناء، أجابني بإيماءة رأس، وما زلتُ أتذكَّر أنه كان يسير خلفي بنصف خطوة، وأنه جلس جواري إلى مائدة من الموائد على الرصيف أمام المقهى، وأننا أخذنا نلقي النظر إلى أسفل على أحواض السفن وفوضى رافعات الشحن الكبيرة وأذرعها التي بدت ممدودة تجاه السماء الآخذة في التلاشي. لم يكن هناك زبائن غيرنا، وكانت الخادمة قد شرعت تمسح الكراسي التي ما زالت مُبلَّلة بماء المطر، ثم أحضرَت لنا أغطية نتقي بها البرد. أعتقد أنني نفذتُ إلى ما يقصده عندما طلب — من دون أن يسألني — زجاجة نبيذ أبيض بكاملها خلافًا لعادته. كان ما يهمه هو الوعاء الذي طلبه مع الزجاجة، وقعقعة مكعبات الثلج داخله، أشياء تُكَمِّلُ له صورة معينة، إلا أنه لم يكن حتى متأكدًا: هل سيتمنى عندئذٍ أن تكون تلك الصورة حقيقية؟ وفجأة قال: «ربما أجعل أحد المشاهد في الرواية يدور هنا.» نطق بالجملة بسرعة. «سيكون ذلك بلا شك مشهدًا نمطيًّا بعض الشيء، إلا أن خيالي كفيل بمعالجة الأمر.»

كنت أعرف أنه لا يستطيع إلا أن يتصرف على هذا النحو، ومع ذلك كرهت أن أسمعه يتحدث هكذا، وخاصة لأنني كنت أدرك ما سيئُول إليه كلامه.

– مشهد روائي؟

ودُهشت أنا نفسي للغضب الذي شفَّ عنه صوتي.

– أنت تجلس معي وتُفكِّر فيما إذا كان هذا المكان يصلح لمشهد روائي؟ هل يمكنك أن تتخيل أن هذه الفكرة لا تجعلني أطير من الفرح؟

لم يُجِبْ إلا بإشارة لاإرادية من يده، وكأن هذه الشكوك لا تزيده إلا سأمًا، ثم قال متهكمًا، لا ينقص كثير وأَتحدَّث مثل زوجته.

«كانت تقول دائمًا إنني لا أقدِر على استقبال أي شيء بحواسي طالما لا أراه مكتوبا أمامي»، قال هازئًا بها. «وربما يصح ذلك أيضًا، لكني لا أعرف لماذا تريدان أن ترفعَا في وجهي عريضة اتهام من أَجْل ذلك؟»

ثم أشاح وجهه بِحدَّة عني، وانطلق يتلو قصائد لا تنتهي عن جمال الدنيا، وكأنه يريد أن يبرهن لنفسه أنه يستطيع ذلك وقتما يريد، ولم يكن ينتهي من قصيدة إلا ليُشَنِّف آذاني بأخرى، ثم أخذ نفَسًا عميقًا من دون أن يَتفَوَّه بكلمة، وفي النهاية سدَّد تجاهي نظرة شعرت بها قلقلة مرتبكة. لم يكن الطقس باردًا، لكنه الْتَحَف بالغطاء، ثم قرَّب كرسيًّا ووضع فوقه قدميه، وبدَا في جلسته مثل مريض في إحدى المصحات المُقامة على سفوح الجبال، الفارق الوحيد أن نظرته لم تكن مُرْسَلة إلى قمم الجبال. لم يَفُتني أنه يُنصِت إلى كل صوت يتغلغل إلينا من ناحية الميناء ويغطي للحظات على ضجيج المرور الآتي من الشارع الذي لم يكن يُرى من مجلسنا والذي كان يسير بحذاء النهر. بدَا مرهقًا من هيجان العواطف التي تتصارع في صدره، تكوَّر على نفسه، وعندما أحضَرَت الخادمة النبيذ، ونزعَت السِّدَادة بحركة مسرحية، ثم لفَّت منديلًا ورقيًّا حول عنق الزجاجة قبل أن تسكب قليلًا في كأسه ليتذوق الرشفة الأولى، فإنه راح يراقبها بمشاعر جامدة، ولم يخطر على باله أن يقرع كأسه بكأسي، بل أفرغ الكأس الأول في جوفه بجرعة واحدة.

للأسف تحدثتُ معه مرة أخرى عن لِيلي. لم أخطط للأمر على الإطلاق، ولا أعرف لماذا فعلتُ ذلك؛ إذ إنني قبلها كنتُ شعرتُ بالراحة لأنه توقَّف أخيرًا عن نَخزها بالكلام الحاد، ورغم أنني سألتُه، لا أستطيع أن أدَّعي أنه كان يهمني أن أعرف ما إذا كان ألماير قد ظَلَّ على علاقته بها في الفترة التي قضاها في جراتس أو بعد ذلك، لكنه استجاب بالطبع لسؤالي وراح يفيض علي بمعلوماته.

– لا أستطيع أن أُحدِّد ما إذا كانَا تقابَلا كثيرًا. مرة واحدة فقط ذكر أمامي الرسائل التي كانت تبعثها له.

لم يكن في كلامه ما يلفتُ الانتباه، ولم أَلحَظ أنه يريد أن يشن هجومًا جديدًا عليها إلا عندما واصل حديثه.

– من الواضح أن الرسائل لم تكن موجَّهة إليه.

بدَا أنه يستمتع بملاحظة ذلك.

«إذا صح ما أسر به إليَّ، كانت تلك بالأحرى رسائل إلى العالَم بعد وفاتها»، هكذا جاء تفسيره التهكمي. «قال لي: إن شعورًا لم يفارقه عند قراءتها أنها كانت تفكر أثناء الكتابة في إصدار طبعة صغيرة أنيقة.»

حسبما تراءى لي، لم يكن باستطاعته أن يتحدث عنها بطريقة مغايرة، ونَدمتُ لأنني ذكَّرته بها؛ إذ إنه بدأ يتحدث ثانية عن أن همومها كانت في بعض الأحيان تُشعِر ألماير بالضيق عند رجوعه من كرواتيا ليجد في صندوق بريده مظروفًا من مظاريفها، وعليه الختم الرسمي لنادي الأدباء الذي تنتمي إليه، وداخل المظروف لم يكن يجد شيئًا سوى تلك الشكوك التي كان يحفظها عن ظهر قلب.

كل تلك المَخاوف لم يكن لها أدنى علاقة به، بحالته الشخصية، بظروف حياته وكيف يتعامل معها، بتعرضه للخطر، وكيف كان يتعايش مع مصرع الناس يوميًّا، أناس بالقرب منه، من دون أن يستطيع أن يفعل شيئًا. لم تكن تَرُدُّ على محاولاته الهادفة إلى أن يعرف شيئًا عن العالم العادي، حسب تعبيره، ماذا كانت تقرأ في تلك الأيام، أو هل تَفرَّجَت مؤخرًا على مسرحية. لكنها كانت دومًا تسعى إلى الكلام الفارغ عن القضايا الكلية، وتُثرثِر بكل سهولة حول ذلك. يجب إيقاف عمليات القتل والإبادة، هكذا كانت تَكتُب للمرة الألف من دون أن يكون لكلامها بالطبع أي عواقب، كان يحق له أن يصاب باليأس، ولم يَعُد يعلم إلى أي بقعة من العالم ينتمي. عندما أدرك موقفه إدراكًا واضحًا، كان الشوق يغلبه ويدفعه إلى إطلاق العنان لسيارته، ثم العودة حتى لو كان طريقه يمر بالجحيم. لم يشعر أنه كان بعيدًا عن بيته ووطنه كما شعر في تلك اللحظات، لم يشعر أبدًا بالخوف من أنه تجاوز كل الحدود حتى إن العودة باتت مستحيلة، مثلما شعر عندما قرأ احتجاجاتها المُستهلَكة ونصائحها الفاترة، كان يكفيه أن يتصور ما سيحدث إذا ذهب لمخيمات الأطفال اللاجئين ليقول لهم إنه يأمل أن يحل السلام قريبًا، ولا شيء غير السلام، أن يلوك الأكليشيهات المعتادة أمام الرجال والنساء الذين وقفوا عند بيوتهم المحترقة، وأن يلقي المواعظ هناك عن عدم استخدام العنف، أو أن ينصحهم من بعيد ألَّا ييأسوا أبدًا. عندما يتخيل هذا يود لو استطاع أن يسد فمها، إلى هذه الدرجة شعر أن كل كلمة تقولها عبثية وفارغة وكاذبة. ورغم شعوره بالعجز الصارخ عندما رأي ذات مرة طفلة، ربما في الرابعة أو الخامسة من عمرها، بلا ساقين راقدة في بِركة من دمائها، لم يَتَمَنَّ خلال كل الاشتباكات التي عايشها أن يحمل سلاحًا، لم يخطر على باله أن عمله لا جدوى منه، وأن عليه أن يستبدل البندقية بآلته الكاتبة، على العكس، كان يعتقد دومًا أن حروف الأبجدية هي كل ما يملكه، إلى أن أشعرَته بالخجل من نفسه، كم كانت مُتهوِّرة في ردود أفعالها، وكم كانت مختالة بنفسها، وعندما كان يتخيلها تجلس في مكتبها بالحي الثالث في فيينا، تنظم دواوين شعرية جديدة، لم يعد يعرف ما الصواب وما الخطأ.

الانفعال المتزايد كان منهجًا لدى باول، لذا تَوَجَّبَ عليَّ الانتظار حتى يهدأ، ثم سألتُه عمَّا إذا كان يبالغ قليلًا: هذا الكلام من اختراعك طبعًا؟

مَثَّل دَوْر الغاضب، ناظرًا إليَّ وكأنني أتهمه بأبشع الاتهامات.

– اختراعي؟

لم يكن من الممكن أن ينطق الكلمة بطريقة أكثر رفضًا مما فعل.

«لستُ بحاجة إلى اختراع شيء»، قال وكأن الاختلاق ليس أحب الأشياء إلى قلبه. «إن القصة تتحدَّث عن نفسها بلسان طَلْق، وأي إضافة ستنتقص منها!»

ثم حكى أن ألماير قال له غير مرة إنه كان يستيقظ بالقرب من الجبهة وهو يشعر — منذ أن عايش معركة للمرة الأولى، في منطقة ما على ضفاف نهر السافه — أنه باتَ أقرب إلى أكثر زعماء المحاربين توحشًا، منه إلى أفضل أصدقائه في الوطن، وأنه كان يفزع عندما يكتشف أن تعاملاته أَمسَت مقصورة على أولئك المُقاتلين ذوي الكروش ونظَّارات الشمس، الذين يظهرون من اللاشيء بسيارتهم الجيب، ويستطيعون أن يتحكموا في حياتك أو موتك، بينما ضَعفَت علاقته بمعارفه السابقين الذين يعيشون في عالَم آخَر بدَا له بعيدًا لا يمكن الوصول إليه.

لا أعرف ما إذا كانت نبرات صوته وَشَت بأنه يوافقني بالفعل على رأيي، وبعد كل ما قاله من قبل، لم يكُنْ ذلك ليفاجئني.

ومما أكد ظني أنه استشهد بجملة قالها ألماير عندما تَحدَّثَا ذات يوم عن الكتب الصادرة حديثًا؛ إذ إنه ظل يحاول متابعتها حتى في معمعة الحرب: إذا وقع المرء يومًا وسط اشتباك ناري وعايشه عن كثب، فإن ثلثي الأعمال الأدبية تفقد معناها على الفور.

كان هذا قولًا صبيانًا ومفعمًا بالأحقاد والضغائن، وخاصةً عندما لاحظتُ فجأة كيف يثير إعجابه البالغ. إنه يشي بموقف بغيض يرى أن مَن لم يكن على الجبهة لا يحق له أن يتحدث على الإطلاق. وعندما حاولتُ أن أشرح له وجهة نظري، أشاح بيده وقال إنه لا فائدة من الحديث معي، طالما أنني لا أريد من البداية إلا إساءة فَهْم كلامه. كان واضحًا أنه لا يريد أن يقول أكثر من ذلك، وإما أنني أغضبته بالفعل، أو أن هناك سببًا آخر حمله على الصمت، فراح يَتلفتُ حوله وكأن كل لحظة أخرى يقضيها معي هي فوق ما يحتمل.

وأتَذكَّر أنني سألتُه متى كان فراقهما، لِيلي وألماير؟ لكنه لم يُجِب بأكثر من: لا أعرف، ثم سكب قطرات النبيذ الأخيرة من كأسه على الأرض، وفجأة أراد أن يدفع الحساب بسرعة، ثم نفح الخادمة بقشيشًا ضخمًا وكأنه يتباهى بثرائه، ونهض بلا مقدمات. ثم جاء هذا التَّعلُّق الصامت، لا أعرف كيف أصفه بكلمات أخرى، هذا التعقب للطريق من خلفي، وهو ما كان مألوفًا لي، مثل إيماءاته عندما يَتحدَّث معي ونحن نجلس على مستوى واحد، وعندما عرضتُ عليه أن أوصله بسيارتي إلى أي مكان، رفض قائلًا إنه سيتصرف، عندئذٍ لفتَ انتباهي لأول مرة أنني لا أعرف على الإطلاق أين يسكن. سار معي قليلًا تجاه موقف السيارات، وظل واقفًا عند التفريعة الموصلة إلى جسور المعديات، ثم ودَّعني وسألني عمَّا إذا كان عليه أن يرسل تحياتي إلى هيلينا عندما يزورها لاحقًا، ووضع على وجهه ابتسامة لم تفارق ذاكرتي حتى الآن، هي خليط من التهكم والرضى.

كنتُ قد تَعمَّدتُ ألَّا أسأله عنها، فأومأتُ برأسي، وكوَّر هو قبضته وكأنه يريد أن يلكزني في ساعدي الأعلى، لكنه كبح اندفاع قبضته قبل ذراعي بقليل، وكمَن قُبض عليه متلبسًا سحب يده، وانتظر لحظات عِدة، وفي النهاية نقَر بإبهامه عليَّ برفق متناهٍ. ثم حرَّك شفتيه من غير أن ينبس بحرف، وقلتُ لنفسي: الآن ستأتي خطبة طويلة، لكن ما قاله لم يخرج عن المألوف.

«إلى لقاء قريب.»

لم أكن قد أجبتُ بعد، عندما كرَّر ما قال، ولم ينقص إلا أن يرفع إبهامه في وجهي.

«عليَّ أن أمشي الآن»، قال معاودًا النظر إلى ساعته، ومع ذلك لم يَتحرَّك. «أنا آسف، ولكن لا يمكن أن أبقى أطول من ذلك.»

في تلك الأثناء كانت الغيوم قد غطَّت السماء مرة أخرى، لون أصفر كالسم؛ لذا بدت الأضواء الأولى للمدينة كأنها مخدوشة، واستمتعتُ وأنا أراه يراجع بينه وبين نفسه ما قاله، وكنتُ أود أن أمسك به عندما تَحرَّك في النهاية. لقد بات هذا طقسًا حقيقيًّا من طقوس الوداع، هذه الطريقة في الانصراف، ونسيتُ للحظات أنه لا يقف بثبات على الأرض، رأيتُ تراخي خطواته، والتفاته مرات عدة إليَّ مُطوِّحًا يده في الهواء وكأنه يريد إفزاعي. ثم اكتشفتُ لأول مرة على مُؤخَّر رأسه منطقة فاتحة شفيفة، ورغم أنني شعرتُ بأن ما أفعله به شيء من التلصص وانتهاك الحرمة، فقد ظللتُ أحملق في تلك البقعة الصغيرة التي اعتقدتُ أنني ما زلت أراها حتى عندما ابتعد مسافة كبيرة.

بعد ذلك قابلتُ باول عدة مرات قبل سفرته المشئومة في اتجاه الجنوب، لكن أحاديثنا لم تكن أبدًا مثلما كانت في ذلك اليوم، ولم أتحدَّث معه أبدًا مدة طويلة هكذا عن ألماير. إذا اعتمدنا هذا المقياس فقد كانت لقاءاتنا عديمة الجدوى، ولكنني لا أستطيع القول إنني شعرت بالتعاسة لأنني تَخلَّصتُ من هذا الموضوع، وإنني كنتُ أتحدث معه عن أشياء تافهة ليست بذات بالٍ على الإطلاق، أو أن أصغي إليه وهو يرسم أحيانًا صورة مفصلة للأسابيع المقبلة، وكأنه سائح مثل غيره من السياح. مع كل الخطط التي كان ينسجها، بدَا أنه لم يَعُد يفكر ليلًا ونهارًا في روايته، ما أثَّر عليه تأثيرًا إيجابيًّا؛ رغم أنه كان يبعثر جهوده بين اهتمامات عديدة، ويتحدث عن هذا المكان وذاك عندما يفرد خريطة يوغوسلافيا في مكان ما، وأتذكر أنني في كثير من الأحيان كنت أوقفه عند حَدِّه عندما تأخذُه الحماسة وتسيطر عليه، وبملاحظة صغيرة أُذكِّره بالحرب. كان قد فكَّر في أكثر من طريق يسلكه للذهاب إلى هناك، وكما يتضح من ورقة احتفظتُ بها، وما زلتُ أتذكَّر أنه كان يغير قراره حتى اللحظة الأخيرة من السفر حتى يزيد من بهجته المسبقة بالرحلة، ولم يكن يمل السؤال: هل عليه أن ينطلق من زغرب إلى دالماتيا، أم يسير على الطريق الموازي للبحر؟ أم أن الأفضل ربما أن يركب العبَّارة في رييكا، أو أن يأخذ مركبًا إلى جزيرة كريس، ثم يُكْمِلُ السفر من مالي لوشيني إلى زدار؟

١  رواية ضخمة (نحو ١٠٠٠ صفحة) من ثلاثة أجزاء، للكاتب الألماني بيتر فايس (١٩١٦–١٩٨٢م). (المترجم)
٢  إحدى مدن النمسا الكبيرة. (م)
٣  أي «الطائر الصيَّاح». (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤