الفصل الأول

النَّباتُ الشَّافي

(١) «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ

عاشَتْ فِي قَدِيمِ الزَّمانِ سَيِّدَةٌ عَجُوزٌ، ماتَ زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ تَرَكَ لَها طِفْلًا صَغِيرًا، لا يَزيدُ عُمْرُهُ عَلَى سَبْعِ سَنَواتٍ.

وَكانَ اسْمُ ذلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ «يُوسُفَ».

وَكانَتْ هذِهِ الْعَجُوزُ تُحِبُّ وَلَدَها «يُوسُفَ» أَشَدَّ الحُبِّ. وَلَها الْحَقُّ فِي ذلِكَ؛ فَإِنَّ طِفْلَها كان مِثالًا لِلذَّكاءِ وَالْوَفاءِ، والإِخْلاصِ وَالإحْسانِ، كَما كانَ عَطُوفًا بارًّا بِكُلِّ مَنْ يَلْقاهُ مِنْ إنْسانٍ وَحَيَوانٍ.

(٢) الْأَرْمَلَةُ الْعَجُوزُ

وَلَمَّا كانَتْ هذِهِ السَّيِّدَةُ قَدْ ماتَ زَوْجُها وَتَرَكَها فَقِيرَةً — كَما قُلْنا — فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْها راوِي هذِهِ الْقِصَّةِ وَصْفَ الأَرْمَلَةِ.١

وَكانَ وَلَدُها «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ يُؤَدِّي أَعْمالَ الْبَيْتِ كُلَّها، لِيُهَيِّئَ الفُرْصَةَ لأُمِّهِ الأَرْمَلَةِ الْمِسْكِينَةِ لِتَغْزِلَ القُطْنَ وَالصُّوفَ فَتَجْعَلَهُ خُيُوطًا تَفْتِلُها؛ ثُمَّ تَنْسُجُ مِنْها أَثْوابًا، وَلا تَكادُ تَنْتَهِي مِنْ نَسْجِ هذِهِ الأَثْوابِ حَتَّى تَذْهَبَ بِها إِلَى السُّوقِ لِتَبِيعَها فِيها، وَتَقْتاتَ بِثَمَنِها هِيَ وَابْنُها «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ، الَّذِي كانَ يَعْمَلُ طُولَ يَوْمِهِ دائِبًا عَلَى كَنْسِ البَيْتِ، وَتَنْظِيفِ غُرَفِهِ، وَغَسْلِ أَرْضِهِ، وَطَبْخِ الطَّعامِ وَتَهْيئَتِهِ، وَتَعَهُّدِ الْحَدِيقَةِ.

فَإِذا انْتَهَى مِنْ أَداءِ هذا الْواجِبِ انْصَرَفَ إِلَى إِعْدادِ المائِدَةِ، وَإِلَى إِصْلاحِ ثِيابِهِ وَحِذائِهِ، وَثِيابِ أُمِّهِ وَحِذائِها، وَما إلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمالِ الْبَيْتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَشْغَلُ وَقْتَهُ كُلَّهُ.

(٣) فِي جِوارِ الْجَبَلِ

وَكانَتِ الدَّارُ — الَّتِي يَسْكُنانِهَا — مِلْكًا لَهُما؛ وَهِيَ دارٌ صَغِيرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ تُطِلُّ نَوافِذُها عَلَى جَبَلٍ عالٍ شَدِيدِ الارْتِفاعِ.

وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَسَلَّقَ هذا الْجَبَلَ وَيَصْعَدَ إِلَى قِمَّتِهِ، لارْتِفاعِهِ، وَالْتِواءِ الطُّرُقِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْأَسْوارِ المُرْتَفِعَةِ والمُنْحَدَراتِ العَمِيقَةِ الَّتِي تَحُولُ دُونَ الوُصُولِ إلَيْهِ.

(٤) مَرَضُ الْعَجُوزِ

وَكانَتِ الأَرْمَلَةُ وابْنُها «يُوسُفُ» يَقْضِيانِ — فِي هذا الْبَيْتِ الْمُنْفَرِدِ — حَياةً سَعِيدَةً.

وَقَدْ تَعَوَّدا هذِهِ الْمَعِيشَةَ وَارْتَضَياها واطْمَأَنَّا إِلَيْها، وَهَوَّنَ الصَّبْرُ عَلَيْهِما كُلَّ ما تَحَمَّلاهُ مِنْ مَتاعِبِهما، فَلَمْ يَعْرِفِ الحُزْنُ طَرِيقًا إِلَيْهِما.

وَفِي ذاتِ يَوْمٍ؛ مَرِضَتِ الْأَرْمَلَةُ الْعَجُوزُ، فَكانَ مَرَضُها سَبَبًا جَدِيدًا مِنْ أَسْبابِ التَّنْغِيصِ والكَدَرِ. وَلَمْ تَكُنِ الأُمُّ تَعْرِفُ طَبِيبًا.

وَلَوْ عَرَفَتِ الطَّبِيبَ لَما وَجَدَتْ فِي بَيْتِها شَيْئًا مِنَ الْمالِ، لِتَدْفَعَهُ أَجْرًا لَهُ عَلَى مُعالَجَتِها.

(٥) حَيْرَةُ الْفَقِيرِ

واشْتَدَّ الْحُزْنُ بِوَلَدِها «يُوسُفَ» الْمِسْكِينِ، وَعَجَزَ عَنْ الاهْتِداءِ إِلَى وَسِيلَةٍ يَتَوَسَّلُ بِها إِلَى شِفائِها؛ فَضاقَتْ بِهِ الدُّنْيا، وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، فَلمْ يَدْرِ ماذا يَصْنَعُ؟! وَلَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ — لِاُمِّهِ — غْيرَ الْعِنايَةِ بِأَمْرِها، والْقِيامِ عَلَى خِدْمَتها، والسَّهَرِ عَلَى راحَتِها، وَتَقْدِيمِ ما تَحْتاجُ إِلَيْهِ تِلْكَ المَرِيضَةُ مِنَ الْماءِ: الماءِ وَحْدَهُ؛ فَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ آخَرُ يُقَدِّمُهُ لَها.

أَمَّا هُوَ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَناوَلُ مِنَ الْغِذاءِ إِلَّا كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ اليابِسِ: الْخُبْزِ وَحْدَهُ بِغَيْرِ طَعامٍ.

وَقَدْ لازَمَ «يُوسُفُ» أُمَّهُ؛ فَلَمْ يُفارِقْها لَحْظَةً واحِدَةً.

وَكانَ — كَما حَدَّثْتُكَ — لا يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ مِن الْقُوتِ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْكِسْرَةِ مِنَ الْخُبْزِ الْحافِّ.

وَكانَ «يُوسُفُ» شَدِيدَ الْحُنُوِّ عَلَى أُمِّهِ. فَلَمَّا رَأَى ما حَلَّ بِها مِنَ الْآلامِ، حَزِنَ وَبَكَى، مُشْفِقًا عَلَيْها، مُتَوَجِّعًا لَها — وَلَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ وَسِيلَةً لِشِفائِها مِنَ الْآلامِ الَّتِي نَزَلَتْ بِها — غَيْرَ الْأَمَلِ والرَّجاءِ، وَصادِقِ الدُّعاءِ.

واشْتَدَّتِ الْعِلَّةُ بِالْأَرْمَلَةِ الْعَجُوزِ، وَزادَ عَلَيْها الْأَلَمُ — يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ — حَتَّى أَضْعَفَ قُواها الْمَرَضُ، وَنَهِكَ جِسْمَها الدَّاءُ، فَعَجَزَتْ عَنِ الكَلامِ، كَما عَجَزَتْ عَنْ تَناوُلِ الطَّعامِ. وَبَلَغَ بِها الضَّعْفُ أَنْ عَجَزَتْ عَنْ شُرْبِ الْماءِ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْها النِّسْيانُ، فَلَمْ تَعُدْ تَذْكُرُ شَيْئًا.

وَلَعَلَّكَ تَدْهَشُ إِذا قُلْتُ لَكَ إِنَّ النِّسْيانَ قَدْ بَلَغَ بِها حَدًّا جَعَلَها تَنْسَى وَلَدَها «يُوسُفَ» الصَّغِير الْحَبِيبَ إِلَى نَفْسِها؛ فَلا تَعْرِفُهُ إِذا رَأَتْهُ، وَلا تَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا إِذا حَدَّثَها، وَلا تَسْمَعُهُ إِذَا نَادَاهَا.

(٦) الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ»

فاشْتَدَّ الأَلَمُ بِوَلَدِها، ولازَمَ سَرِيرَها باكِيًا.

وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ ضِيقِهِ، فَهَتَفَ بِاسْمِ الْجِنِّيَّةِ الظَّرِيفَةِ «وِدادَ» — صارِخًا مُسْتَنْجِدًا بِها — لِتَكونَ لَهُ عَوْنًا فِي هذا الْمَأْزقِ الْحَرِجِ، وَتُيَسِّرَ لَهُ السَّبِيلَ لإِنْقاذِ أمِّهِ مِنْ تِلْكَ الْمَصائِبِ والْمِحَنِ الَّتِي أَلَمَّتْ بِها.

وَلَمْ يَكَد «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ يَنْطِقُ بِاسْمِ صاحِبَتِهِ، حَتَّى سَمِعَ صَوْتًا لَطِيفًا يَقُول لَهُ مُتَوَدِّدًا مُتَعَجِّبًا: «لَبَّيْكَ يا صَدِيقِيَ الصَّغِيرَ. لَقَدْ نادَيْتَنِي، وَهأَنَذي قَدِ اسْتَمَعْتُ إِلى نِدائِكَ، واسْتَجَبْتُ لَكَ، فَخَبِّرْنِي: ماذا تُرِيدُ؟»

فَصاحَ بِها «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ مُسْتَعْطِفًا مُتَوَسِّلًا: «لَقَدْ طالَما أَوْصاكِ بِي والِدِي خَيْرًا، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ. فَإِذا كُنْتِ أَنْتِ الْجِنِّيَّةَ «وِدادَ» الَّتِي طالَما حَدَّثَنِي عَنْها أَبِي، وَأَوْصانِي بِالِالْتِجاءِ إلَيْها؛ كُلَّما وَقَعْتُ فِي مَأْزقِ لا أَسْتَطِيعُ الْخَلاصَ مِنْهُ. فَأَسْرِعِي — مُتَفَضِّلَةً — بِإِنْقاذِ أُمِّي الْمُشْرِفَةِ عَلَى التَّلَفِ، فَإنَّها — إذا تَخَلَّيْتِ عَنْها — سَتَتْرُكُنِي وَحِيدًا فِي هذا الْعالَمِ.»

فنَظَرَتِ الْجِنِّيَّةُ — إِلَى «يُوسُفَ» الصَّغِيرِ — نَظْرَةَ إشْفاقٍ وَعَطْفٍ، ثُمَّ دَنَتْ مِنَ الأَرْمَلَةِ الْمِسْكِينَةِ — دُونَ أنْ تَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ واحدَةٍ — وانْحَنَتْ عَلَى الْعَجُوزِ تَفْحَصُ مَرَضَها فَحْصًا دَقِيقًا.

(٧) نَصِيحَةُ الْجِنِّيَّةِ

فَلَمَّا عَرَفَتْ حَقِيقَةَ أَمْرِها، أَعْلَنَتْ عَجْزَها عَنْ شِفائِها، قائِلَةً: «لَيْسَ فِي مَقْدُورِي — يا بُنَيَّ — أنْ أَشْفِيَ أُمَّكَ الْمِسْكِينَةَ، وَلَيْسَ في الدُّنْيَا كُلِّها أَحَدٌ غَيْرُكَ يَسْتَطِيعُ إِنْقاذَها. فَأَنْتَ — وَحْدَكَ — الْقادِرُ عَلَى شفائِها مِنْ ذلِكَ الْمَرَضِ الْخَطِيرِ، إِذا كُنْتَ لا تَزالُ — كَما أَعْرِفُهُ فِيكَ، وَكَما حَدَّثَتْنِي أَخَواتِي مِنَ الجِنِّيَّاتِ، وَبَناتُ عَمَّاتِي مِنَ الْعِفْرِيتاتِ — شُجاعًا مِقْدامًا، لا تَهابُ السَّفَرَ، وَلا تَخْشَى الْعَقَباتِ، وَلا يَعْرِفُ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِكَ سَبِيلًا.»

فقالَ «يُوسُفُ»: «سَتَرَيْنَ — أَيَّتُها الْمُحْسِنَةُ الْكَرِيمَةُ — أَنَّنِي لَنْ أَدَّخِرَ وُسْعًا فِي سَبِيلِ إِنْقاذِ أُمِّي مِنَ الدَّاءِ، وَشِفائِها مِنَ المَرَضِ.»

فقالَتْ لَهُ الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ»: «لا سَبِيلَ إِلَى شِفاءِ أُمِّكَ، إِلَّا إِذا أَحْضَرْتَ لَها شَيْئًا مِنْ نَباتِ الْحَياةِ.»

فَسَأَلَها «يُوسُفُ»: «وَأَيْنَ هذا النَّباتُ، يا سَيِّدَتِي؟»

فَقالَتْ: «إِنَّهُ يَنْبُتُ فِي أَعْلَى هذا الْجَبَلِ الَّذِي تُطِلُّ عَلَيْهِ — كُلَّ يَوْمٍ — مِنْ نافِذَةِ بَيْتِكَ وَمَتَى ظَفِرْتَ بِهذا النَّباتِ الشَّافِي، فَلَنْ يَبْقَى عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَعْصِرَهُ، ثُمَّ تَسْكُبَ عَصِيرَهُ فِي فَمِ أُمِّكَ، فَتَعُودَ إِلَيْها الْحَياةُ مِنْ جَدِيدٍ، وَتُشْفَى مِنْ مَرَضِها عاجِلًا إِنْ شاءَ اللهُ.»

فقالَ «يُوسُفُ»: «شُكْرًا لَكِ، أَيَّتُها الْجِنِّيَّةُ الْكَرِيمَةُ. وَلَنْ أَتَوانَى عَنِ الذَّهابِ إِلَى «شَجَرَةِ الْحَياةِ» لأَحْصُلَ عَلَى نَباتِها فِي الْحالِ. وَلكِنْ خَبِّرِيني، يا سَيِّدَتِي «وِدادُ»: مَنْ ذا الَّذِي يُعْنَى بِأُمِّي أَثْناءِ سَفَرِي؟»

(٨) «شَجَرَةُ الْحَياةِ»

وَما أَتَمَّ هذِهِ الْجُمْلَةَ حَتَّى دَمَعَتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ، وَجَعَل يَبْكِي، ثُمَّ قالَ: «إِنَّنِي أَخْشَى أَنْ تَمُوتَ أُمِّي وَتُفارِقَ الْحَياةَ قبْلَ أَنْ أَعُودَ إِليْها بِالدَّواءِ.»

فَقالَتْ لهُ الْجِنِّيَّةُ: «كُنْ مُطمَئِنًّا، أَيُّها الصَّغِيرُ الشَّفِيقُ. واعْلَمْ أَنَّكَ مَتَى ذَهَبْتَ إِلَى «شَجَرَةِ الْحَياةِ»؛ فَلَنْ تُصابَ أُمُّكَ بِسُوءٍ، وَلَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ في حاجَةٍ إِلَى شَيْءٍ، حَتَّى تَعُودَ إِلَيْها بِالدَّواءِ الشَّافِي. فاذْهَبْ مُطْمَئِنًّا إِلَى غايَتِكَ، وَسَتَبْقَى أُمُّكَ كَمَا هِيَ دُونَ أَنْ يُصِيبَها أَذًى حَتَّى تَعُودَ إلَيْها مِن رِحْلَتِكَ سالِمًا. أَمَّا أَنْتَ: فَإِنَّكَ سَتَلْقَى أَخْطارًا عَظِيمَةً، وَتَتَعَرَّضُ لِمَتاعِبَ جَمَّةٍ، قبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى «شَجَرَةِ الحَياةِ»، وَتَحْصُلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَباتِها العَجِيبِ. وَعَلَيْكَ — أَيُّها الشُّجاعُ الصَّغِيرُ — أَنْ تَعْتَصِمَ بِالصَّبْرِ والْعَزْمِ والثَّباتِ، حَتَّى تَظْفَرَ بِهذا النَّباتِ.»

(٩) حارِسُ النَّباتِ

فَقالَ لَها «يُوسُفُ»: «سَأكُونُ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّكِ بِي، فَلا تَخافِي عَلَيَّ شَيْئًا؛ فَإِنِّي شُجاعٌ، وَلَن يَنْقُصَنِيَ الْإِقْدامُ، إِنْ شاءَ اللهُ. وَلَسْتُ أَطْلُبُ مِنْكِ إلَّا شَيْئًا واحِدًا.»

فَقالَتِ الْجِنِّيَّةُ: «لَبَّيْكَ، أَيُّها الشُّجاعُ. لَكَ ما تُرِيدُ.»

فَقالَ: «خَبِّرِينِي: كَيْفَ أَعْرِفُ هذِهِ الشَّجَرَةَ؟ وَكَيْفَ أَمْضِي نَحْوَها؟ وَفِي أَيِّ مَكانٍ مِنَ الْجَبَلِ أَهْتَدِي إِلَيْها؟»

فَقالَتِ الْجِنِّيَّةُ: «مَتَى وَصَلْتَ إلَى أَعْلَى الْجَبَلِ وَبَلَغْتَ الْقِمَّةَ، فَلَنْ يَصْعُبَ عَلَيْكَ الاهْتِداءُ إِلَيْها. وَلَيْسَ عَلَيْكَ — حِينَئِذٍ — إِلا أَنْ تُنادِيَ حارِسَ النَّباتِ. فَإِنَّكَ مَتَى نادَيْتَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بِأَعْلَى صَوْتِكَ: «هَلُمَّ يا حارِسَ النَّباتِ»! فَلَنْ تُتِمَّ النِّداءَ حَتَّى يَظْهَرَ لَكَ فِي الْحالِ. فاطْلُبْ إِلَيْهِ — حِينَئِذٍ — شَيْئًا مِنْ نَباتِ الْحَياةِ.»

(١٠) وَداعُ الْجِنِّيَّةِ

فَشَكَرَ «يُوسُفُ» لِلْجِنِّيَّةِ «وِدادَ» نَصِيحَتَها وَإِرْشادَها.

ثُمَّ قَبَّلَ يَدَها، مُسْتَأْذِنًا فِي الرَّحِيلِ، بَعْدَ أَنْ قَبَّلَ يَدَ أُمِّهِ المَرِيضَةِ، وَتَرَكَهَا فِي جِوارِ الجِنِّيَّةِ الكَرِيمَةِ.

ثُمَّ وَضَعَ فِي جَيْبِهِ رَغِيفًا كامِلًا مِنَ الْخُبْزِ، لتكُونَ زادَهُ فِي رِحْلَتِهِ الْبَعِيدَةِ.

سارَ فِي طَرِيقِهِ، بَعْدَ أَن حَيَّا صاحِبَتَهُ «وِدادَ» — فِي احْتِرامٍ وَأَدَبٍ — تَحِيَّةَ الْوَداعِ.

فَشَيَّعَتْهُ الْجِنِّيَّةُ بابْتِسامَةِ إِعْجابٍ، وَقَدْ ظَهَرَ عَلَى مَلامِحِ وَجْهِها ما تُضْمِرُهُ مِنْ مَحَبَّةٍ، وَبَدا عَلَى أَسارِيرِها ما تُخْفِيهِ مِنْ وَفاءٍ وَعَطْفٍ لِذلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ الشُّجاعِ، الَّذِي يَسْتَهِينُ بِالْمَتاعِبِ، وَلا يُبالِي ما يَلْقاهُ مِنَ الْمَصاعِبِ، ماضِيًا فِي طَريقٍ طالَما أَهْلَكَتْ مَنْ مَشَى فِيها، وَلَمْ يَظْفَرْ بِالنَّجاةِ أَحَدٌ منْ سالِكيها!

وَسارَ «يُوسُفُ» الصَّغِيرُ فِي طَريقِهِ إِلى الْجَبَلِ، وقَلبُهُ مَمْلُوءٌ ثِقَةً — بِالفَوْزِ والنَّجاحِ — وَإِيمانًا وَثباتًا واطْمِئْنانًّا.

وكانَ يَحْسَبُ الْجَبَلَ — وَهُوَ يَراهُ مِنْ نافِذَةِ بَيْتِهِ — قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ دَهِشَ حِينَ رَآهُ أَبْعَدَ مِمَّا يَظُنُّ.

لَقَدْ كانَ يَحْسَبُ أَنَّهُ سَيَصِلُ إِلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ قَبْلَ نِصْفِ ساعَةٍ.

وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ سَهْلًا كَما تَخَيَّلَ؛ فَقَدْ مَشَى — طُولَ الْيَوْمِ — دُونَ أَنْ يَصِلَ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ.

١  الأرملة: المرأة التي مات زوجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤