الفصل الثاني

النَّهْرُ الْمَسْحُورُ

(١) الْغُرابُ والشَّبَكَةُ

وَلَمَّا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ، رَأَى غُرابًا وَقَعَ فِي حِبالَةٍ؛١ وَقَدْ نَصَبَ لَهُ تِلْكَ الْحِبالَةَ غُلامٌ شَرِسٌ مِنَ الأَشْرارِ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْغُرابُ أَنْ وَقَعَ فِيها أَسِيرًا.

وَظَلَّ الْغُرابُ يُحاوِلُ التَّخَلُّصَ مِنَ الشَّرَكِ؛ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الفَكاكِ مِنْهُ.

فَأَسْرَعَ «يُوسُفُ» إِلَى الْغُرابِ الْمِسْكِينِ، وَقَطَعَ الْخَيْطَ الَّذِي اشْتَبَكَتْ رِجْلُهُ فِيهِ؛ فَخَلَّصَهُ مِنْ إِسارِهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حُرِّيَّتَهُ.

فَطارَ الْغُرابُ بِسُرْعَةٍ؛ بَعْدَ أَنْ قالَ لِـ«يُوسُفَ»: «أَشْكُرُ لَكَ الشُّكْرَ الْجَزِيلَ، يا سَيِّدِي يُوسُفَ». وَسَأَجْزِيكَ عَلَى مَعْرُوفِكَ خَيْرًا، إِنْ شاءَ اللهُ.»

فَدَهِشَ «يُوسُفُ» حِينَ سَمِعَ غُرابًا يَتَكَلَّمُ.

(٢) الدِّيكُ والثَّعْلَبُ

وَلكِنَّهُ لَمْ يَكُفَّ عَن مُواصَلَةِ السَّيْر وَلَمْ يَتَوانَ عَنْ بُلُوغِ مَقْصِدِهِ.

وَبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، جَلَسَ يَسْتَرِيحُ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، وَكانَ الْجُوعُ قَدِ اشْتَدَّ بِهِ؛ فَراحَ يَأْكُلُ كِسْرَةً مِنَ الخُبْزِ الَّذِي أَحْضَرَهُ مَعَهُ.

فَرَأَى دِيكًا يَجْرِي وَثَعْلَبًا يَجْرِي خَلْفَهُ، وَيَتَتَبَّعُهُ.

وَقَدْ أَسْرَعَ الدِّيكُ — جُهْدَهُ — فِي الْفِرارِ، وَلكِنَّ الثَّعْلَبَ أَوْشَكَ أَنْ يُدْرِكَ الدِّيكَ وَيَفْتَرِسَهُ.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ الدِّيكُ مِنْ «يُوسُفَ» أَسْرَعَ إِلَيْهِ صاحِبُنا، فَأَمْسَكَ بِهِ مُتَلَطِّفًا، وَأَخْفَاهُ تَحْتَ ثَوْبِهِ دُونَ أَنْ يَراهُ الثَّعْلَبُ.

وَلَمْ يَنْتَبِهِ الثَّعْلَبُ إِلَى ما حَدَثَ؛ فَظَلَّ يَجْرِي، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الدِّيكَ لا يَزالُ يَجْرِي أَمامَهُ.

أمَّا «يُوسُفُ» الشُّجاعُ الْكَرِيمُ النَّفْسِ، فَقَدْ وَقَفَ ساكِنًا، دُونَ أَنْ تَبْدُرَ مِنْهُ حَرَكَةٌ؛ حَتَّى لا يَفْطُنَ الثَّعْلَبُ إِلَى ما فَعَلَ.

وَما زالَ الثَّعْلَبُ يَجْرِي بأَقْصَى سُرْعتِهِ حَتَّى غابَ عَنْ ناظِرِهِ.

فَلَمَّا اطْمَأَنَّ «يُوسُفُ» إِلَى نَجاةِ الدِّيكِ، أَطْلَقَ سَراحَهُ وَتَرَكَهُ يَذْهَبُ إِلَى حَيْثُ يَشاءُ.

فَقالَ لَهُ الدِّيكُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ: «لَكَ الشُّكْرُ كُلُّ الشُّكْرِ، يا سَيِّدِي «يُوسُفَ». وَسَأَجْزِيكَ قَرِيبًا عَلَى صَنِيعِكَ أَحْسَنَ الْجَزاءِ.»

(٣) الضِّفدِعُ والثُّعْبانُ

واسْتَراحَ «يُوسُفُ» شَيْئًا، ثُمَّ هَبَّ واقِفًا واسْتَأْنَفَ سَيْرَهُ قاصِدًا إلى الْجَبَلِ.

وَبَعْدَ مَسافَةٍ طَوِيلَةٍ رَأَى ضِفْدِعًا مِسْكِينَةً يَجْرِي خَلْفَها ثُعْبانٌ، وَهُوَ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَبْتَلِعَها.

وَرَأَى الضِّفْدِعَ خائِفَةً مُضْطَرِبَةً، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْها الفَزَعُ والْخَوْفُ، فَعَجَزَتْ عَنِ الحَرَكَةِ.

فَلَمَّا رَأَى الثُّعْبانَ يُسْرِعَ إِلَى الضِّفْدِعِ — وَقَدْ فَتَحَ فَمَهُ لابْتِلاعِها — أسْرَعَ إِلَى حَجَرٍ فَرَماهُ بِهِ، بَعْدَ أَنْ سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا مُحْكَمًا إِلَى فَمِ الثُّعْبانِ.

فَدَخَلَ الْحَجَرُ حَلْقَ الثُّعْبانِ وَخَنَقَهُ فِي الْحالِ، فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي كادَ يَلْتَهِمُ فِيها الضِّفْدِعَ.

وابْتَهَجَتِ الضِّفْدِعُ بِنجاتِها مِنَ الْهَلاكِ، فَراحَتْ تَقْفِزُ، وَهِيَ فَرْحانَةٌ بِخَلاصِها مِنَ الهَلاكِ.

ثُمَّ قالَتْ لَهُ: «أَشْكُرَ لَكَ الشُّكْرَ الْجَزِيلَ، يا سَيِّدِي «يُوسُفَ». وَسَأَجْزِيكَ عَلَى صَنِيعِكَ الجَمِيلِ فِي الْقَرِيبِ الْعاجِلِ، إِنْ شاءَ اللهُ.»

وَلَمْ يَدْهَشْ «يُوسُفُ» حِينَ سَمِعَ كَلامَ الضِّفْدِعِ، فَقَدْ أَلِفَ ذلِكَ وَتَعَوَّدَهُ فِي هذِهِ الرِّحْلَةِ الْعَجِيبَةِ، بَعْدَ أَنْ سَمِعَ حَدِيثَ الغُرابِ والدِّيكِ مِنْ قَبْلُ.

(٤) عَلَى شاطِئِ النَّهْرِ

ثُمَّ واصَلَ «يُوسُفُ» السَّيْرَ، فِي طَريقِهِ إِلَى غايَتِهِ الْعَظِيمَةِ … وَبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ وَصَلَ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ.

فَرَأَى نَهْرًا واسِعًا لا يَكادُ النَّظَرُ يَصِلُ إِلَى شاطِئِهِ الآخَرِ، وَهُوَ يَسِيلُ عِنْدَ سَفْحِ الْجَبَلِ.٢

فَوَقَفَ «يُوسُفُ» أَمامَ النَّهْرِ حائِرًا مُرْتَبِكًا، وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «لَعَلِّي أصادِفُ قَنْطَرَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ سَفِينَةً.»

ثُمَّ مَشَى عَلَى شاطِئِ النَّهْرِ، فَرَآهُ يُحِيطُ بِالْجَبَلِ كُلِّه، كَما يُحِيطُ الْخاتَمُ بِالإِصْبَع، أَوِ السِّوارُ بِالمِعْصَمِ، أَوِ الْعِقْدُ بِالرَّقَبَةِ، أَوِ الْخَلْخالُ بِالسَّاقِ.

وَأَطال تَأَمُّلَهُ فِي النَّهْرِ، فَرَآهُ — فِي كُلِّ مَكانٍ — شَدِيدَ الْعُمْقِ، عَظِيمَ الاتِّساعِ؛ وَلكِنَّهُ لَمْ يَرَ فِي أَيِّ ناحِيَةٍ مِنْ نَواحِيهِ جِسْرًا وَلا سَفِينَةً.

فَجَلَسَ «يُوسُفُ» الْمِسْكِينُ يَبْكِي عِنْدَ شاطِئِ النَّهْرِ، وَصاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «تَعَالَيْ إِلَيَّ، يا عَزِيزَتِي «وِدادُ». هَلُمِّي إِلَيَّ، أَيَّتُها الْجِنِّيَّةُ الْكَرِيمَةُ. أَقْبِلِي عَلَيَّ أَيَّتُها المُحْسِنَةُ الْمُتَفَضِّلَةُ، وَلا تَضَنِّي عَلَيَّ بِالْمَعُونَةِ. فَلَيْسَ يَنْفَعُنِي أَنْ تُخْبِرِينِي أَنَّ فِي قِمَّةِ الْجَبَلِ دَواءً شافِيًا يُنْقِذُ أُمِّيَ الْمِسْكِينَةَ، ما دُمْتُ لا أجدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا.»

(٥) عَلَى ظَهْرِ دِيكٍ

وَما إِنْ أَتَمَّ نِداءَهُ، حَتَّى ظَهَرَ أَمامَهُ — في هذِهِ اللَّحْظَةِ نَفْسِها، عَلَى شاطِئِ النَّهْرِ — الدِّيكُ الَّذِي أَنْقَذَهُ «يُوسُفُ» مِنَ الثَّعْلَبِ، وَقالَ لَهُ: «لَنْ تَسْتَطِيعَ صاحِبَتُكَ الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ» أَنْ تَصْنَعَ لَكَ شيْئًا فِي هذا الْمَكانِ؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ مَسْحُورٌ خارِجٌ عَنْ سُلْطانِها وَقُوَّتِها، بَعِيدٌ عَنْ نُفُوذِها وَقُدْرَتِها. وَلَقَدْ سَمِعْتُ اسْتِغاثَتَكَ فَأَسْرَعْتُ إِلَى نَجْدَتِكَ؛ لِأَنَّكَ أَنْقَذْتَ حَياتِي مِنَ التَّلَفِ؛ وَقَدْ جِئْتُ لأُثْبِتَ لَكَ اعْتِرافِي بِجَمِيلِكَ، وَشُكْرِي لِمَعْرُوفِكَ. فَهَلُمَّ فاصْعَدْ عَلَى ظَهْرِي. وَإِنِّي أُقْسِمُ لَكَ بِحَقِّ والِدَتِي الْعَزِيزَةِ، لأَبْلُغَنَّ بِكَ الشَّاطِئَ الآَخَرَ مِنَ النَّهْرِ سالِمًا.»

figure

فَشَكَرَ لَهُ «يُوسُفُ»، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الصُّعُودِ عَلَى ظَهْرِ الدِّيكِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَسْقُطُ فِي الْماءِ؛ وَلكِنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ آمِنًا مِنَ الْغَرَقِ، حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ الدِّيكِ.

وَعَرَفَ أَنَّ الدِّيكَ قَدْ أَحْكَمَ وَضْعَهُ بِمَهارَةٍ؛ حَتَّى أَصْبَحَ «يُوسُفُ» مُسْتَقِرًّا عَلَى ظَهْرِ الدِّيكِ، كَما يَسْتَقِرُّ الْفارِسُ عَلَى ظَهْرِ الْحِصانِ؛ بَلْ كانَ أَثْبَتَ مِنْهُ اسْتِقْرارًا، وَأَكْثَرَ مِنْهُ اطْمِئْنانًا.

وَقَدْ أَمْسَكَ «يُوسُفُ» بِعُرْفِ الدِّيكِ وَهُوَ يَعْبُرُ النَّهْرَ.

وَظَلَّ الدِّيكُ يَطيِرُ بِهِ، عائِمًا عَلَى سَطْحِ الْماءِ، عِشْرينَ يَوْمًا.

فَلَمَّا بَلَغَ الْيَوْمَ الْحادِي والْعِشْرِينَ، وَصَلَ إِلَى الشَّاطِئِ الْآخَرِ، دُونَ أَنْ يَبْتَلَّ ثَوْبُهُ بِقَطْرَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الْماءِ.

وَفِي خِلالِ هذِهِ الْأَيَّامِ، لَمْ يَشْعُرْ «يُوسُفُ» بِجُوعٍ وَلا ظَمَإٍ وَلا حاجَةٍ لِلرُّقادِ.

(٦) جَفافُ النَّهْرِ

وَقَدْ شَكَرَ «يُوسُفُ» الدِّيكَ، حِينَ بَلَغَ الشَّاطِئَ الآخَرَ سالِمًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ.

فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الدِّيكُ شَيْئًا، وَنَفَشَ رِيشَهُ مَسْرُورًا مُبْتَهِجًا بِما أَدَّاهُ لِهذا الْمُحْسِنِ الصَّغِيرِ مِنْ جَمِيلٍ، جَزاءً لَهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ السَّابِقِ، ثُمَّ حَيَّاهُ مُوَدِّعًا.

وَما زالَ الدِّيكُ يَمْشِي حَتَّى غابَ عَنْ ناظِرِهِ …

•••

وَتَلَفَّتَ «يُوسُفُ» حَوْلَهُ فَلَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّهْرِ، فَقَدْ جَفَّ ماؤهُ، واخْتَفَى أَثَرُهُ فِي الْحالِ.

فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ، قالَ: «لا رَيْبَ عِنْدِي فِي أَنَّ جِنِّيَّ الْجَبَلِ هُوَ الَّذِي أَجْرَى هذا النَّهْرَ الْعَظِيمَ، لِيَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَ غايَتِي. فَلَمَّا رَأَى نَجاحِي فِي اجْتِيازِهِ، جَفَّفَ ماءَ النَّهْرِ وَأَعادَ الأَرْضَ كَما كانَتْ. فالْحَمْدُ للهِ عَلى ما هَيَّأَ مِنْ مَعُونَةٍ، وَيَسَّرَ مِنْ تَوْفِيقٍ.»

١  الحبالة: المصيدة.
٢  سفح الجبل: أسفله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤