الفصل الثالث

شَيْخُ الْجَبَل

(١) الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ

وَسارَ «يُوسُفُ» زَمَنًا طَوِيلًا، فَقَطَعَ فِي سَيْرِهِ مَسافاتٍ طَوِيلَةً شَاسِعَةً.

وَلَكِنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ — بَعْدَ أَيَّامٍ — لا يَزالُ بَعِيدًا عَنْ بُلُوغِ مَأْرَبِهِ، وَلا تَزَالُ الْمَسافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبَلِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، بَلْ ظَلَّتْ كَما كانَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْبُرَ النَّهْرَ عَلَى ظَهْرِ الدِّيكِ!

وَلَوْ حَدَثَتْ هذِهِ المُفاجَأَةُ لِغَيْرِ هذا الطِّفْلِ الصَّابِرِ الشُّجاعِ، لارْتَبَكَ ارْتِباكًا شَدِيدًا، وَدبَّ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِهِ، فَعادَ مِنْ حَيْثُ أَتَى.

وَلكِنَّ «يُوسُفَ» — بَطَلَ هذِهِ الْقِصَّةِ — كانَ مِثالًا لِلْمُثابَرَةِ والْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي لا تَنْثَنِي عَنْ مَطْلَبِها النَّبِيلِ، وَلا تَتَرَدَّدُ وَلا تَضْعُفُ أَمام عَقَبَةٍ، وَلا تَرْجِعُ خائِبَةً، مَهْما تَلْقَ مِنْ مَتاعِبَ وَأَهْوالٍ.

(٢) الْيَوْمُ الْحادِي والْعِشْرُونَ

لَقَدْ مَشى واحدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا كامِلَةً، جادًّا في سَيْرِهِ …

ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَى الأَمامِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقْتَرِبْ مِنْ غايَتهِ خُطْوَةً واحِدَةً.

فَهَلْ وَجَدَ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِهِ سَبِيلًا؟

كَلَّا، بَلْ ظَلَّ كَما كانَ ثابِتًا لا يَتَزَعْزَعُ.

•••

لَقَدْ كانَ «يُوسُفُ» — فِي الْيَوْمِ الْحَادِي والْعِشْرِينَ — أَثْبَتَ عَزْمًا وَأَصْدَقَ رَجاءً مِمَّا كانَ فِي يَوْمِ سَفَرِهِ الأَوَّلِ، وَأَقْوَى عَلَى مُواجهَةِ الشَّدائِدِ وَمُغالَبَةِ الْحَوادِثِ.

فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «واللهِ لَوْ سِرْتُ مِائَةَ سَنَةٍ، دُون أَنْ أَبْلُغَ ما أُرِيدُ، لَن يَمْنَعَنِي ذَلِكَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى القِمَّةِ. وَلَنْ يَخْذُلَ اللهُ — سُبْحانَهُ — مَنْ صَمَّمَ عَلَى بُلُوغِ مَقْصِدٍ نَبِيلٍ.»

(٣) الشَّيْخُ الْقَزَمُ

وَما إِنْ أَتَمَّ «يُوسُفُ» هذِهِ الْجُمْلَةَ، حَتَّى ظَهَر أَمامَهُ أَحَدُ الأَقْزامِ.١

وَكانَ ذلِكَ القَزَمُ شَيْخًا كَبِيرًا طاعِنًا فِي السِّنِّ. وَما رَآهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فِي خُبْثٍ وَمَكْرٍ.

ثُمَّ قالَ: «أَراكَ لا تَزالُ تَطْمَعُ فِي الوُصُولِ إِلَى غايَتِكَ الْبَعِيدَةِ التَّحْقِيقِ، غَيْرَ يائِسٍ مِنَ الظَّفَرِ بِها، بَعْدَ أَنْ لَقِيتَ فِي سَبِيلها أكْبَرَ الْمَتاعِبِ، وَأَشَدَّ الْعَقَباتِ، وَإِلَّا فَما بالُكَ تَرْنُو بِبَصَرِكَ إِلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ؟»

فَقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «الآنَ عَرَفْتَ — يا سَيِّدِي الشَّيْخَ — حَقِيقَةَ ما أَسْعَى إِلَيْهِ.»

فَقالَ الشَّيْخُ الْقَزَمُ: «لا شَكَّ فِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْوُصُولَ إِلَى «شَجَرَةِ الْحَياةِ»، لِتَحْصُلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَباتِها الْعَجِيبِ.»

فقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «نَعَمْ. فَإِنَّ فِيهِ وَحْدَهُ شِفاءَ والِدَتِي الْمَرِيضَةِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ.»

(٤) مَطْلَبٌ عَسِيرٌ

فَهَزَّ الْقَزَمُ رَأْسَهُ، ثُمَّ وَضَعَ لِحْيَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى قَبْضَةِ عَصاهُ الذَّهَبِيَّةِ، وَأَطالَ تَأَمُّلَهُ فِي طِفلِنا الصَّغِيرِ «يُوسُفَ».

ثُمَّ قالَ: «شَدَّ ما تُعْجِبُنِي — يا وَلَدِي — وَداعَتُكَ الظَّاهِرَةُ عَلَى وَجْهِكَ، وَعَزِيمَتُكَ المُرْتَسِمَةُ عَلَى مُحَيَّاكَ. فاعْلَمْ أَنَّنِي جِنِّيُّ هذا الْجَبَلِ وَحارِسُهُ الأَمِينُ. وَقَدْ سَرَّنِي كَمالُ أَدَبِكَ وَصِدْقُ عَزِيمَتِكَ كَما أَعْجَبَنِي شَرِيفُ مَقْصِدِكَ، وَنُبْلُ غايَتِكَ. وَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي الذَّهابِ إِلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ وَلَنْ أَعْتَرِضَ سَبِيلَكَ، وَلَنْ أَقِفَ فِي طَرِيقِكَ مَتَى حَقَّقْتَ لِي شَيْئًا واحِدًا.»

فَقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «لَبَّيْكَ — يا سَيِّدِي الشَّيْخَ — فاطْلُبْ ما تَشاءُ، وَمُرْ بِما تُرِيدُ.»

figure

فَقالَ شَيْخُ الْجَبَلِ: «لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَحْصُدَ ما يَحْتَوِيهِ حَقْلِي هذا مِنْ قَمْحٍ. ثُمَّ تُغَرْبِلَهُ وَتَطْحَنَهُ، بَعْدَ أَنْ تَذْرُوَهُ، أَعْنِي بَعْدَ أَنْ تُنَقِّيَهُ فِي الرِّيحِ. وَمَتَى أَتْمَمْتَ ذلِكَ كُلَّهُ، فَلَنْ يَبْقَى عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَخْبِزَهُ. هذا هُوَ كُلُّ ما أُرِيدُ. فإِذا حَقَّقْتَهُ لِي، فَنادِنِي باسْمِي، أَحْضُرْ إِلَيْكَ فِي الْحالِ. وَسَتَرَى الْآنِيَةَ والْمُعِدَّاتِ كُلَّها إِلَى يَمِينِكَ فِي هذِهِ الْحُفْرَةِ الكَبِيرَةِ.»

•••

وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ حَدِيثَهُ حَتَّى غابَ عَنْ ناظِرَيْهِ.

(٥) تَهْيِئَةُ الْخُبْزِ

وَنَظَرَ «يُوسُفُ» إِلَى حُقُولِ الْقَمْحِ الْفَسِيحَةِ، فَرَآها تُغَطِّي سَفْحَ الْجَبَلِ كُلَّهُ.

وَكانَ فِي بَعْضِ هذا ما يُدْخِلُ الْيَأْسَ إِلَى قَلْبِ أَشَدِّ المُؤْمِنِينَ ثَباتًا، وَأَقْواهُمْ عَزِيمَةً.

وَلكِنْ سُرْعانَ ما تَغَلَّبَ «يُوسُفُ» الشُّجاعُ عَلَى اليَأْسِ؛ فَخَفَّفَ مِنْ ثِيابِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنَ الحُفْرَةِ مِنْجَلًا.

وَظَلَّ يَقْطَعُ سَنابِلَ الْقَمْحِ بِعَزِيمَةٍ ثابتَةٍ، وَيُواصِلُ عَمَلَهُ الْمُضْنِيَ — لَيْلَ نَهارٍ — مائَةً وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ يَوْمًا.

وَلَمَّا قَطَعَ سَنابِلَ الْقَمْحِ كُلَّها، بَذَلَ جُهْدَهُ فِي دَرْسِها وَتَذْرِيَتِها.

وَقَدِ اسْتَغْرَقَ مِنْهُ ذلِكَ سِتِّينَ يَوْمًا كامِلَةً.

وَلَمَّا انْتَهَى مِنْهُ، راحَ يَطْحَنُ الْقَمْحَ فِي طاحُونَةِ شَيْخِ الْجَبَلِ؛ وَهِيَ مُقامَةٌ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ حُقُولِ القَمْحِ. وَظَلَّ يَطحَنُ تِسْعِينَ يَوْمًا كامِلَةً!

ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى عَجْنِ الدَّقِيقِ وَخَبْزِهِ، فَقَضَى فِي هذا العَمَلِ مائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَيْضًا. وَلَمَّا نَضِجَ الخُبْزُ، وَضَعَهُ بِنِظامٍ عَلَى رُفُوفٍ أَشْبَهَ بِرُفُوفِ الكُتُبِ.

•••

وَلَمَّا أَتَمَّ ذلِكَ كُلَّهُ، شَعَرَ بِسُرُورٍ لا يَعْرِفُهُ إِلَّا كُلُّ مَنْ نَجَحَ فِي أَداءِ واجِبِهِ.

ثُمَّ نادَى جِنِّيَّ الْجَبَلِ. وَما أَتَمَّ نِداءَهُ، حَتَّى ظَهَرَ الْقَزَمُ أَمامَهُ.

وَأَقْبَلَ شَيْخُ الْجَبَلِ عَلَى الخُبْزِ يَعُدُّهُ، فَإِذا هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلاثُمائَةِ رَغِيفٍ، وَثَمانِيَةٌ وَسِتُّونَ أَلْفًا وَأَرْبَعُمائَةِ أَلْفِ رَغِيفٍ.

(٦) الْعُلْبَةُ الصَّغِيرَةُ

وَأَرادَ الشَّيْخُ أَنْ يَتَذَوَّقَ الْخُبْزَ، لِيَتَبَيَّنَ نَجاحَ «يُوسُفَ» فِيما عَهِدَ إِلَيهِ؛ فالْتَهَمَ الرَّغِيفَ الأَوَّلَ والرَّغِيفَ الْأَخِيرَ، فَوَجَدَهُما عَلَى ما يَشْتَهِي وَيُرِيدُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ مَرَّةً، ثُمَّ عَلَى ذَقْنِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ وَلَبِثَ وَقْتًا قَصِيرًا فِي تَفْكِيرٍ عَمِيق.

•••

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الطِّفْلِ، قائِلًا: «لا شَكَّ فِي أَنَّكَ وَلَدٌ كَرِيمُ النَّفْسِ، عَظِيمُ الْهِمَّةِ، ثابِتُ الْعَزِيمَةِ. وَإِنِّي مُكافِئُكَ — عَلَى جِدِّكَ — بِهذِهِ العُلْبَةِ الثَّمِينَةِ.»

•••

ثُمَّ أَخْرَجَ الْجِنِّيُّ مِن جَيْبِهِ عُلْبَةً صَغِيرَةً مَصْنُوعَةً مِنَ الخَشَبِ، هِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِعُلْبَةِ السَّعُوطِ٢ شَكْلًا وَحَجْمًا.

ثُمَّ أَعْطاهُ الْجِنِّيُّ تِلْكَ الْعُلْبَةَ، وَقالَ لَهُ مُبْتَسِمًا: «اِفْتَحْ هذِهِ العُلْبَةَ الصَّغِيرَةَ، مَتَى رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِكَ، فَإِنَّكَ واجِدٌ فِيها ما لَمْ تَرَهُ فِي حَياتِكَ.»

(٧) وَداعُ الشَّيْخِ

وَلَمْ يَشَأْ «يُوسُفُ» أَنْ يُظْهِرَ — لِشَيْخِ الْجَبَلِ — احْتِقارَهُ لِهَدِيَّتِهِ التَّفِهَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي كافَأَهُ بِها؛ لِأَنَّ «يُوسُفَ» كانَ مُؤَدَّبًا لَطِيفًا.

فَلا عَجَبَ إِذَا كَتَمَ سُخْطَهُ، وَكَظَمَ غَيْظَهُ وَأَخْفَى عَنْهُ أَلَمَهُ فِي نَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ ارْتِياحَهُ إِلَى هَدِيَّتِهِ، وأَعْلَنَ لَهُ شُكْرَهُ عَلَيْها.

فَحَيَّاهُ شَيْخُ الْجَبَلِ، ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَ أَنْ قَهْقَهَ ضاحِكًا، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الطِّفْلُ سَبَبًا لِهذِهِ الضَّحْكَةِ العالِيَةِ.

وَلَمْ تَنْقَضِ لَحْظَةٌ واحِدَةٌ حَتَّى غابَ عَنْ ناظِرَيْهِ.

١  القزم: القصير جدًّا.
٢  السعوط: التبغ المسحوق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤