الفصل الرابع

حَدائِقُ الْجِنِّيِّ

(١) الْجِدارُ الْعالِي

واسْتَأْنَفَ «يُوسُفُ» سَيْرَهُ، وَقَدْ رَأَى الْحَظَّ يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيُواتِيهِ، والسَّعادَةَ تَقْتَرِبُ مِنْهُ وَتُوافِيهِ. وَلا عَجَبَ فِي ذلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يَمْشِيها سَتُقَرِّبُهُ مِنَ الجَبَلِ وَتُدْنِيهِ.

وَفِي مَدَى ثَلاثِ ساعاتٍ كانَ قَدِ اجْتازَ ثُلُثَيِ الطَّرِيقِ؛ وَلكِنَّه وَجَدَ أَمامَهُ جِدارًا عالِيًا عَظِيمَ الارْتِفاعِ. وَعَجِبَ كَيْفَ ظَهَرَ أَمامَهُ ذلِكَ الْجِدارُ فَجْأَةً، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رَآهُ مِنْ قَبْلُ.

وَمَشَى فِي امْتِدادِ الْجِدارِ لِيَبْلُغَ نِهايَتَه؛ وَلكِنَّهُ فَزِعَ حِينَ رَأَى أَنَّهُ — بَعْدَ أَنْ سارَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ — انْتَهَى إِلَى دَرَجاتِ سُلَّمٍ تُحِيطُ بِالْجَبَلِ خَلْفَ هذا الْجِدارِ الْعالِي، دُونَ أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى بابٍ يَدْخُلُ مِنْه، أَوْ ثُغْرَةٍ يَنْفُذُ مِنْها إِلَى السُّلَّمِ.

فَجَلَسَ «يُوسُفُ» عَلَى الأَرْضِ، وَظَلَّ يُسائِلُ نَفْسَهُ مُتَحَيِّرًا، وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فِي التَّفْكِيرِ.

«تُرَى ماذا أَصْنَعُ؟»

ثُمَّ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى الانْتِظارِ. فَمَكَثَ — عَلَى هذِهِ الحالِ — خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا.

(٢) حارِسُ الْجِدارِ

وَكانَ هذا الانْتِظارُ كَفِيلًا بِأَنْ يُدْخِلَ الْيَأْسَ إِلَى قَلْبِ أَشَدِّ النَّاسِ ثَباتًا وَأَقْواهُمْ عَزِيمَةً.

وَلكِنَّ «يُوسُفَ» كانَ لا يُبالِي الْعَقَباتِ وَلا يَجِدُ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِهِ الكَبِيرِ مَنْفَذًا.

فَقالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِي ثَباتٍ وَإصْرارٍ: «كَلَّا. لَنْ أَرْضَى بِالْهَزِيمَةِ، وَلَنْ أَعُودَ خائِبًا. كَلَّا، وَلَنْ أَتَحَرَّكَ مِنْ هُنا، وَلَنْ أَتْرُكَ هذا الْمَكانَ، وَلَوْ بَقِيتُ فِيهِ مِائَةَ عامٍ.»

•••

وَما نَطَقَ بِهذِهِ الكَلِماتِ حَتَّى سَقَطَ جانِبٌ مِنَ الجِدارِ، وَظَهَرَتْ ثُغْرَةٌ مُرَبَّعَةٌ.

فَدَهِشَ «يُوسُفُ» مِنْ هذِهِ المُفاجَأَةِ.

figure

ثُمَّ زادَتْ دَهْشَتُهُ حِينَ رَأَى جِنِّيًّا يَقْتَرِب مِنْهُ خارِجًا مِنْ تِلْكَ الثُّغْرَةِ؛ وَفِي يَدِهِ عَصًا غَلِيظَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: «كَيْفَ جِئْتَ إِلَى هنا، يا وَلَدِي! وَلِماذَا قَدِمْتَ؟ وَما بالُكَ لا تَعُودُ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ؟ أَجِبْنِي أَيُّها الرَّائِدُ الْجَرِيءُ. كَيْفَ جَرُؤْتَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْ حائِطِي؟ وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْحَثُ؟»

فَقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «عَنْ نَباتِ الْحَياةِ — أَيُّها الْجِنِّيُّ — أَبْحَثُ. فَهَلْ أَطْمَعُ فِي مَعُونَتِكَ، أَيُّها السَّيِّدُ الْكَرِيمُ؟»

فَقالَ الجِنِّيُّ: «هذا مَطْلَبٌ عَسِيرٌ، بَلْ مُسْتَحِيلٌ؛ فماذا دَعاكَ إِلَى المُخاطَرَةِ بِنَفْسِكَ فِي هذِهِ المُهْلِكاتِ؟»

فَقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «إِنَّ أُمِّي مَرِيضَةٌ، يا سَيِّدِي. وَقَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ، وَلا شافِيَ لَها إلَّا نَباتُ الْحَياةِ، وَقدْ تَرَكْتُها وَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى المَوْتِ، وَلَنْ أَدَّخِرَ وُسْعًا فِي سَبِيلِ الحُصُولِ عَلَى هذا الدَّواءِ، كَلَّفَنِي ذلِكَ ما كَلَّفَنِي. فَإِذا يَسَّرْتَ لِي أَنْ أَنْفُذَ مِنْ هذا الْجِدارِ، فَإِنِّي رَهْنُ إشارَتِكَ وَطَوْعُ أَمْرِكَ، وَلَنْ أَتَأَخَّرَ فِي إنْجازِ كُلِّ ما تَعْهَدُ بِهِ إِلَيَّ مِنْ عَمَلٍ.»

(٣) شَرابُ الْعِنَبِ

فَقالَ الْجِنِّيُّ: «أَحَقًّا ما تَقُولُ؟! لَقَدْ أَعْجَبَنِي ما يَبْدُو عَلَى مَظْهَرِكَ مِنْ وَداعَةٍ وَعَزْمٍ وَثَباتٍ. وَلَعَلَّكَ لا تَعْرِفُ مَنْ أَنا؟ فاعْلَمُ — إِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ — أَنَّنِي حارِسُ الْجِدارِ، وَأَمِيرُ سُكَّانِ هذِهِ المِنْطَقَةِ بِكُلِّ مَنْ تَحْوِيهِ مِنْ ساداتِ الْجِنِّ. عَلَى أَنَّنِي لَنْ أُسَهِّلَ لَكَ اجْتِيازَ الْجِدارِ. وَلَن أُمَكِّنَكَ مِن تَخَطِّي الْحائِطِ، إِلَّا إِذا مَلأْتَ كُهُوفِي كُلَّها بِشَرابِ الْعِنَبِ. وَها هِيَ ذِي كُرُومِي أَمامَكَ. فاقْطِفْ ما تَحْوِيهِ مِن عِنَبٍ، واصْنَعْ لِي مِنْهُ شَرَابًا لَذِيذًا، ثُمَّ ضَعِ الشَّرابَ فِي هذِهِ الْبَرامِيلِ. وَمَتَى أَنْجَزتَ هذا الْمُهِمَّ، فَلا أَجِدْكَ مُقَصِّرًا أَوْ مُتَوانِيًا فِي نَقْلِ الْبَرامِيلِ — بَعْدَ ذلِكَ — إِلَى كُهُوفِي الْأَرْضِيَّةِ، بِرْمِيلًا إِلَى جانِبِ بِرْمِيلٍ، فِي صُفُوفٍ مُتَوازِيَةٍ. وَسَتَجِدُ عَلَى مَسافَةِ مِائَةِ خُطْوَةٍ — مِن هذا الْجِدارِ العالِي — كُلَّ ما تَحْتاجُ إِلَيْهِ مِنَ المُعِدَّاتِ. فَإِذا حَقَّقْتَ لِي هذا الْمَطْلَبَ نادَيْتَنِي؛ فَإِنِّي مِنْكَ قَرِيبٌ، وَلِرَجائِكَ مُجِيبٌ.»

وَلَمْ يُتِمَّ الْجِنِّيُّ قَوْلَتَهُ حَتَّى اسْتَخْفَى فِي الْحالِ، وَسُدَّتِ الثُّغْرَةُ خَلْفَهُ، وَعادَ الْجدارُ كَما كان!

(٤) كَرْمَةُ الْجِنِّيِّ

وَنَظَرَ «يُوسُفُ» حَوْلَهُ، فَرَأَى كَرْمَةَ الْجِنِّيِّ الْفَسِيحَةَ؛ وَهِيَ حَدائِقُ واسِعَةٌ، يَقْصُرُ عَنْ بُلوغِ نِهايَتِها النَّظَرُ؛ فَقالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «لَقَدْ جَمَعْتُ الْقَمْحَ مِنْ حُقُولِ الشَّيْخِ الْقَزَمِ، وَيَسَّرَ اللهُ لِي ذلِكَ عَلَى صُعُوبَتِهِ. وَلَنْ يُعْجِزَنِي — إِنْ شاءَ اللهُ — أَنْ أَقْطِفَ كُرُومَ هذِهِ الْحَدَائِقِ، وَأُنْجِزَ ما طَلَبَهُ الْجِنِّيُّ. وَأَغْلَبُ ظَنِّي أَنَّ هذا المُهِمَّ لَنْ يَسْتَغْرِقَ زَمَنًا طَوِيلًا، وَلَنْ يُحْوِجَنِي إِلَى بَذْلِ جُهْدٍ أَكْبَرَ مِمَّا بَذَلَتُ. وَلَنْ أَلْقَى مِنَ التَّعَبِ فِي عَصْرِ الْعِنَبِ أَكْثَرَ مِمَّا لَقِيتُ فِي جَمْعِ الْقَمْحِ، وَتَذْرِيَتِهِ وَطَحْنِهِ وَخَبْزِهِ.»

(٥) عَزِيمَةُ الأَبْطالِ

ثُمَّ خَفَّفَ «يُوسُفُ» مِنْ ثِيابِهِ، وَأَمْسَكَ بِمِنْجَلٍ صَغِيرٍ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي نَشاطٍ واجْتِهادٍ، دُونَ أَنْ يُضِيعَ مِنْ وَقْتِهِ شَيْئًا. وَأَسْرَعَ إِلَى كُرُومِ الْعِنَبِ، يَقْطَعُ العَناقِيدَ مِنْ غُصُونِهَا، ثُمَّ يَضَعُها فِي طُشُوتٍ كَبِيرَةٍ.

وَظَلَّ دائِبًا عَلَى ذلِكَ، مُسْتَهِينًا بِكُلِّ ما يَلْقاهُ مِنْ عَناءٍ وَجَهْدٍ، ثَلاثيِنَ يَوْمًا كامِلَةً. وَلَمَّا انْتَهَى مِنْ ذلِكَ، راحَ يَعْصِرُ الْعِنَبَ، ثُمَّ يُغْلِي عَصِيرَهُ، وَيَضَعُهُ فِي الْبَرامِيلِ، بَعْدَ أَنْ يُصْبِحَ شَرابًا سائِغًا لَذَّةً لِلشَّارِبِينَ، ثُمَّ يَنْقُلُ البَرامِيلَ إِلَى كُهُوفِ الْجِنِّيِّ الْواسِعَةِ.

وَقدِ اسْتَغْرَقَ مِنْهُ ذلِكَ تِسْعِينَ يَوْمًا كامِلَةً.

(٦) زَهْرَةُ الشَّوْكِ

وَلَمَّا أَتَمَّ واجِبَهُ نادَى الْجِنِّيَّ، فَظَهَرَ أَمامَهُ فِي الحالِ.

ثُمَّ راحَ الْجِنِّيُّ يَتَفَحَّصُ الْبَرامِيلَ، وَيَتَذَوَّقُ ما فِيها مِنْ شَرابِ الْعنَبِ — بِرْمِيلًا بَعْدَ بِرْمِيلٍ — حَتَّى اطْمَأَنَّ إِلَى نَجاحِ «يُوسُفَ».

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْجِنِّيُّ، مُهَنِّئًا إِيَّاهُ بِما وُفِّقَ إِلَيْهِ مِنْ فَوْزٍ باهِرٍ وَنَجاحٍ نادِرٍ.

ثُمَّ قالَ: «يا لَكَ مِنْ مُثابِرٍ صابِرٍ، أَيُّها الرَّجُلُ الصَّغِيرُ الشَّهْمُ. أَلَا لا بُدَّ مِنْ مُكافَأتِكَ عَلَى ما بَذَلْتَ مِنْ جَهْدٍ، لِتُؤْمِنَ أَنَّ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبًا. فَما أَرْضَى لِنَفْسِي أَنْ يُقالَ عَنِّي: إِنَّ أَحَدًا — كائِنًا مَنْ كانَ — بَذَلَ فِي سَبِيلي جُهْدًا — قَلَّ أَوْ عَظُمَ — دُونَ أَنْ أَجْزِيَهُ عَلَيْهِ أَجْرًا.»

ثُمَّ أَخْرَجَ الْجِنِّيُّ مِنْ جَيْبِهِ «زَهْرَةَ الشَّوكِ»، وَأَعْطاهُ إِيَّاها؛ مُكافَأَةً لَهُ عَلَى ما بَذَلَ فِي سَبِيلِهِ — مِنْ جُهْدٍ.

ثُمَّ قالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: «مَتَى رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِكَ واحْتَجْتَ إِلَى شَيْءٍ، فَنَمَّ هذِهِ الزَّهْرَةَ، وَتَمَنَّ ما شِئْتَ. فَإِنَّكَ واجِدٌ فِيهَا قَضاءَ حاجَتِكَ، وَبالِغٌ بِها كُلَّ أُمْنِيَّتِكَ.»

فَدَهِشَ «يُوسُفُ» حِينَ رَأَى حَقارَةَ الْهَدِيَّةِ!

وَلَكِنَّ أَدَبَهُ وَحَياءَهُ أَبَيا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِضَ، وَمَنَعاهُ أَنْ يُحَقِّرَ مِنْ شَأْنِ الْهَدِيَّةِ؛ فَلَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يَشْكُرَ لِلْجِنِّيِّ هَدِيَّتَهُ.

فابْتَسَمَ لَهُ الْجِنِّيُّ شاكِرًا لَهُ تَحِيَّتَهُ وَمَوَدَّتَهُ.

•••

وَلَمْ تَمْضِ عَلَى ذلِكَ لَحْظَةٌ واحِدَةٌ، حَتَّى صَفَّرَ الْجِنِّيُّ؛ فارْتَجَّ مِنْ صَفِيرِهِ الْجَبَلُ.

ثُمَّ اخْتَفَى الْجِنِّيُّ وَحائِطُهُ عَنْ ناظِرِهِ فِي الْحالِ.

وانْفَسَحَتِ الطَّرِيقُ أَمامَ «يُوسُفَ»، فَراحَ يُواصِلُ سَيْرَهُ؛ قاصِدًا غايَتَهُ، مُسْتَمِدًّا مِنَ اللهِ عَوْنَهُ وَرعايَتَهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤