الفصل السادس

الْعَقَبَةُ الأَخِيرَةُ

(١) السُّورُ الْعالِي

وَظَلَّ «يُوسُفُ» سائِرًا، حَتَّى لاحَتْ لِعَيْنِهِ الحَدِيقَةُ الَّتِي وَصَفَتْها الْجِنِّيَّةُ «وِداد»، حَيْثُ تَنْبُتُ فِيها «شَجَرَةُ الْحَياةِ».

وَما رَأَى سُورَ الْحَدِيقَةِ حَتَّى امْتَلأَ قَلبُهُ سُرُورًا وَبَهْجَةً، وَأَحَسَّ أَنَّ قَلْبَهُ يَخْفُقُ مِنَ الْفَرَحِ بِبُلُوغِ الْغايَةِ البَعِيدَةِ الَّتِي سَعَى إِلَيْها.

(٢) عَلَى حافَةِ الْبِرْكَةِ

وَبَيْنا هُوَ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى سُورِها الْعالِي — وهُوَ جادٌّ فِي سَيْرِهِ — إِذا برجْلِهِ تَغُوصُ فِي أَرْضٍ لَيِّنَةٍ!

فَلا يَكادُ يَنْظَرُ إِلى مَوْطِئِ قَدَمِهِ، حَتَّى يَرَى أَمامَهُ بِرْكَةً مُسْتَطِيلَةً، عَظِيمَةَ الاتِّساعِ، بَعِيدَةَ العُمْقِ لا يُدْرِكُ الْبَصَرُ غايَتَها، وَلا يَبْلُغُ النَّظَرُ نِهايَتَها. وَكانَ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَسْقُطَ فِي الْبِرْكَةِ؛ لَوْلا أَنَّهُ قَفَزَ راجِعًا إِلَى الوَراءِ بِسُرْعَةٍ فائِقَةٍ.

•••

وَوَقَفَ «يُوسُفُ» مُفَكِّرًا، وَقالَ لِنَفسِهِ: «هذِهِ — بِلا شَكٍّ — هِيَ الْعَقَبَةُ الأَخِيرَةُ؛ الَّتِي حَدَّثَنِي عَنْها الْغُرابُ. وَما دُمْتُ قَدْ نَجَحْتُ فِي اجْتِيازِ كُلِّ ما صادَفَنِي فِي طَرِيقِي مِنْ عَقَباتٍ، بِفَضْلِ ما بَذَلَتْهُ لِيَ الْجِنِّيَّةُ الْكَرِيمَةُ: «وِدادُ» مِنْ مَعُونَةٍ صادِقَةٍ. فَما أَظُنُّ «وِدادَ» تَتَخَلَّى عَنِّي فِي هذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْأَخِيرَةِ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الدِّيكَ والْغُرابَ والْقَزَمَ والْجِنِّيَّ والذِّئْبَ. فَلْأَنْتَظِرْ مُساعَدَتَها إِيَّايَ لاجْتِيازِ آخِرِ الْعَقَباتِ.»

•••

وَمَشَى «يُوسُفُ» عَلَى حافَةِ الْبِرْكَةِ، لَعَلَّهُ يَصِلُ إِلَى نِهايَتِها. وَظَلَّ سائِرًا يَوْمَيْنِ، فَإِذا بِهِ يَجِدُ نَفْسَهُ آخِرَ الأَمْرِ — وَقَدِ انْتَهَى بِهِ الْمَسْعَى إِلَى مَكانِهِ الأَوَّلِ، الَّذِي بَدَأَ سَيْرَهُ مِنْهُ.

فَلَمْ يَيْئَسْ «يُوسُفُ»، وَلَمْ تَفْتُرْ عَزِيمَتُهُ.

وَجَلَسَ عَلَى حافَةِ الْبِرْكَةِ، يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِي ثَباتٍ وَإِصْرارٍ: «كَلَّا، لَنْ أَسْتَسْلِمَ لِلْيَأْسِ أَبَدًا. لا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ، فليْسَ أَنْفَعَ مِنَ الصَّبْرِ فِي مُواجَهَةِ الْخُطُوبِ والمِحَنِ. وَلَقَدْ طالَما سَمِعْتُ أَنَّهُ مِفْتاحُ الْفَرَجِ، وَلَنْ أَتَحَرَّكَ مِنْ مَكانِي هذا؛ حَتَّى يُهَيِّئَ اللهُ لِي مَنْ يُعِينَنِي عَلَى اجْتِيازِ هذِهِ البِرْكَةِ الْبَعِيدَةِ الْغَوْرِ.»

(٣) حَدِيثُ الْقِطِّ

وَما أَتَمَّ هذِهِ الْكَلِماتِ، حَتَّى لَقِيَ أَمامَهُ قِطًّا هائِلَ الْمَنْظَرِ.

وَقَدْ تَفَزَّعَ «يُوسُفُ» مِنْهُ حِينَ سَمِعَه يَمُوءُ بِصَوْتٍ مُخِيفٍ مَرْهُوبٍ … وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمْ يَدْرِ ماذا يَصْنَعُ.

فقالَ لَهُ القِطُّ: «كَيْفَ جَرُؤْتَ عَلَى بُلوغِ هذا المَكانِ! أَلَا تَعْرِفُ أَنَّنِي قادِرٌ عَلَى تَمْزِيقِ جِسْمِك إِرْبًا إِرْبًا، بِضَرْبَةِ مِخْلَبٍ واحِدَةٍ؟»

فَقالَ «يُوسُفُ»: «ما فِي ذلِكَ شَكٌّ، يا سَيِّدِي الْقِطَّ. وَإِنْ كُنْتُ لا أَظُنُّ أَنَّ كَرِيمًا مِثْلَكَ يَفْعَلُ ذلِكَ أَبَدًا، وَلا سِيَّما إِذا عَرَفْتَ أَنَّنِي لَمْ أُخاطِرْ بِنَفْسِي — لِبُلُوغِ هذا الْمَكانِ الْبَعِيدِ — إِلَّا رَغْبَةً فِي تَحْقِيقِ غايَةٍ مِنْ أَنْبَلِ الْغاياتِ. فَإِنَّ أُمِّي قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْت، وَدَواؤَها فِي هذِهِ الْحَدِيقَةِ. وَلا سَبِيلَ إِلَى شِفائِها، إِذا لمْ تَحْصُلْ عَلَى «نَباتِ الْحَياةِ». فَلْتَكُنْ عَوْنِي عَلَى تَحْقِيقِ غايَتِي النَّبِيلَةِ، وَإِنِّي مُحَقِّقٌ لكَ ما تَأْمُرُنِي بِهِ مَتَى وَعَدْتَنِي بِذلِكَ.»

(٤) أَدواتُ الصَّيْدِ

فَقالَ الْقِطُّ: «أَحَقًّا تَقُولُ؟ إِذَنْ فَأَصْغِ إِلَيَّ؛ فَإِنَّنِي مُعْجَبٌ بِما أَراهُ عَلَى مُحَيَّاكَ مِنَ الْوَداعَةِ واللُّطْفِ، وَصِدْقِ الْعَزِيمَةِ. فَإِذا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصِيدَ لِي كُلَّ ما فِي هذِهِ الْبِرْكَةِ مِنَ السَّمَكِ، ثُمَّ تَشْوِيَ نِصْفَهُ، وَتُقَدِّدَ النِّصْفَ الآخَرَ؛ فَإِنِّي ضَمِينٌ لَكَ أَنْ أُبَلِّغَكَ النَّاحِيَةَ الأُخْرَى لِهذِهِ الْبِرْكَةِ الْعَمِيقَةِ الْواسِعَةِ. وَسَتَرَى كُلَّ ما تَحْتاجُ إِليْهِ مِنْ أَدَواتٍ وَمُعِدَّاتٍ عَلَى مَسافَةِ خَمْسِمَائَةِ خُطْوَةٍ مِنْ هذا المَكانِ. وَلَيْسَ عَلَيْك — إذا أَنْجَزْتَ هذا المُهِمَّ — إِلَّا أَنْ تنادِيَنِي، فتَجدْنِي أَمامَكَ في الْحال.»

فَقالَ لهُ «يُوسُفُ»: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ لَكَ، يا مَوْلايَ.»

ثُمَّ حَيَّاهُ الْقِطُّ، وَغابَ عَنْ ناظِرِهِ فِي الحالِ.

•••

وَمَشَى «يُوسُفُ» حَتَّى بَلَغَ الْمَخْزَنَ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ الجِنِّيُّ؛ فَرَأَى كُلَّ ما يَحْتاجُ إِلَيْهِ مِنْ شُصُوصٍ وَشِباكٍ.

(٥) الشَّبَكَةُ والشِّصُّ

وَكانَ يَحْسَبُ الصَّيْدَ سَهْلًا، لا يُكَلِّفُهُ إِلَّا عَناءً قَلِيلًا، وَتَعَبًا يَسِيرًا، وَوَقْتًا قَصِيرًا.

وَرَأَى الشَّبَكَةَ أَيْسَرَ لِتَحْقِيق أَمَلِهِ، وَأَوْفَى بإِنجازِ عَمَلِهِ. وَحَسِبَ أَنَّهُ مَتَى أَلْقاها فِي الْبِرْكَةِ، امْتَلأَتْ سَمَكًا؛ فَهِيَ — بِلا شَكٍّ — أَنْفَعُ لِبُلُوغِ مَأْرَبِهِ وَأَسْرَعَ.

ثُمَّ رَمَى الشَّبَكَةَ، وَصَبَرَ عَلَيْها طَوِيلًا، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّها صادَتْ مِقْدارًا كَبِيرًا مِنَ السَّمَكِ. ثُمَّ جَذَبَها مُتَأَنِّيًا؛ وَلَكِنْ شَدَّ ما أَدْهَشَهُ أَنْ يَرَى الشَّبَكَةَ لَمْ تَصْطَدْ سَمَكَةً واحِدَةً!

ثُمَّ عادَ فَرَماها، وَجَذَبَها مَرَّةً ثانِيَةً فِي رَشاقةٍ وَخِفَّةٍ؛ فَلَمْ تُخْرِجِ الشَّبَكَةُ شَيْئًا. وَهكَذا بَقِيَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ يَرْمِي الشَّبَكَةَ — مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى — دُون أَنْ يَظْفَرَ بِشَيْءٍ.

فَتَرَكَ الشَّبَكَةَ، وَلَجَأَ إِلَى الشِّصِّ يَصْطادُ بِهِ السَّمَكَ … وَلَبِثَ ساعَةً، ثُمَّ ساعَتَيْنِ، فَلَمْ تَقْرُبْ مِنْهُ سَمَكَةٌ واحِدَةٌ.

فانْتَقَلَ إِلَى مَكانٍ ثانٍ وَثالِثٍ وَرَابِعٍ وَهكذَا، حَتَّى دارَ حَوْلَ البِرْكَةِ كُلِّها؛ فَلَمْ تَقَعْ سَمَكَةٌ واحِدَةٌ فِي الشَّبَكَةِ وَلا فِي الشِّصِّ.

وَدَأَبَ عَلَى ذلِك خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلَمْ يَكَنْ حَظُّهُ فِي مَكانٍ، خَيْرًا مِنْهُ فِي مَكانٍ آخَرَ.

(٦) فَضْلُ الضِّفْدِعِ

فَتَحَيَّرَ «يُوسُفُ»، وَلَمْ يَدْرِ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟!

وَلَمَّا ضاقَتْ بِهِ الْحِيلَةُ لَمْ يَجِدْ وَسِيلَةً لِلْخُرُوجِ مِنْ هذا الضِّيقِ، ما لَمْ تُعاوِنْهُ الْجِنِّيَّةُ: «وِدادُ».

وَقَدِ اشْتدَّتْ دَهْشَتُهُ، حِينَ ذَكَرَ أَنَّ «وِدادَ» لَمْ تَتَخَلَّ عَنْهُ قَطُّ؛ فَما بالُها نَسِيَتْهُ فِي هذِهِ الضَّائِقَةِ؟!

وَكَيْفَ تَخَلَّتْ عَنْهُ؛ وَتَرَكَتْهُ وَحِيدًا فِي آخِرِ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَراحِلِ النَّجاحِ؟!

•••

وَطالَ بِهِ الْجُلُوسُ وَهُوَ ناظرٌ إِلى البِرْكَةِ، مُسْتَغْرِقٌ فِي التَّفْكِيرِ … وَإِذا بِهِ يَرَى ماءَ الْبِركَةِ يَغْلِي، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهُ ضِفْدِعٌ، وَتُنادِيهِ قائِلَةً: «أَنا قُرَّةُ الْعَيْنِ. أَنْقَذْتَ حَياتِي، يا سَيِّدِي «يُوسُفُ». وَسَأَبْذُلُ لَكَ إِمْكانِي، لِأُنْقِذَ حَياتَكَ مِنَ التَّلَفِ؛ فَما جَزاءُ الإِحْسانِ إِلَّا الإِحْسانُ! واعْلَمْ أَنَّنِي مُدْرِكَةٌ ما أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ، وَلَسْتُ أَشَكُّ فِي أَنَّ قِطُّ الْجَبَلِ آكِلُكَ فِي فَطُورِهِ — لا مَحالَةَ — إِذا أَخْفَقْتَ فِي إِنْجازِ ما كَلَّفَكَ إِيَّاهُ. وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَن تَصْطادَ مِنْ هذِهِ الْبِرْكَةِ سَمَكَةً واحِدَةً؛ فَهِيَ شَدِيدَةُ الْعُمْقِ، بَعِيدَةُ الْغَوْرِ، وَمَتَى هَرَبَ السَّمَكُ إِلَى قاعِها السَّحِيقِ، لَمْ تُدْرِكْهُ الشِّباكُ، وَلَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الشُّصُوصُ. فَلْتُرِحْ بالَكَ مِنْ هذا التَّعَبِ، وَلْتُوقِدِ النَّارَ رَيْثَما أَصْطادُ كُلَّ ما تَحْوِيهِ الْبِرْكَةُ مِنْ سَمَكٍ.»

•••

وَلَمْ تَكَدِ الضِّفْدِعُ تُتِمُّ هذِهِ الْكَلِماتِ، حَتَّى غاصَتْ فِي الْماءِ غَوْصَةً واحِدَةً؛ فَإِذا بِالْماءِ ثائِرٌ مُضْطَرِبٌ، كَأَنَّما نَشِبَتْ فِيهِ مَعْرَكَةٌ هائِلَةٌ.

•••

ثُمَّ ظَهَرَتِ الضِّفْدِعُ بَعْدَ لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ، وَقَفَزَتْ عَلَى الشَّاطِئِ، وَوَضَعَتْ سَمَكَةً كَبِيرَةً صادَتْها بِمخَالِبِها.

وَلَمْ يَكَدْ «يُوسُفُ» يُمْسِكُ بِها، حَتَّى ظَهَرَتِ الضِّفْدِعُ وَقَدِ اصْطادَتْ حُوتًا كَبِيرًا.

وَظَلَّتْ تَصْطادُ مِنَ الْبِرْكَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَيُسْرِعُ صاحِبُنا إِلَى ما تَصْطادُهُ مِنْ سَمَكٍ كَبِيرٍ فَيَشْوِيهِ، ثُمَّ يُلْقِي بِما تَصْطادُهُ مِنْ صِغارِ السَّمَكِ فِي البَرامِيلِ المُعَدَّةِ لِذلِكَ وَيُقَدِّدُهُ.

وَلَمْ يَنْقَضِ عَلَيْهِما شَهْرانِ حَتَّى أَنْجَزا ما طَلَبَهُ الْقِطُّ.

(٧) وَداعُ الضِّفْدِع

وَهُناكَ قَفَزَتِ الضِّفْدِعُ عَلَى شاطِئِ الْبِرْكَةِ، قائِلَةً: «لَقَدْ أَنْجَزْتُ لَكَ ما طَلَبَهُ قِطُّ الْجَبَلِ مِنْكَ. وَفِي وُسْعِكَ الآنَ أَنْ تُنادِيَهُ.»

فَشَكَرَ «يُوسُفُ» لِلضِّفْدِعِ أَجْزَلَ الشُّكْرِ.

فَحَيَّتْهُ مُتَوَدِّدَةً، وَمَدَّتْ إِلَيْهِ يَدَها الْمُبَلَّلَةَ تُوَدِّعُهُ، مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ، مُتَحَبِّبَةً إِلَيْهِ.

فَصافحَها «يُوسُفُ» مُكَرِّرًا لَها ثَناءَهُ، وَشُكْرَهُ وَدعاءَهُ.

•••

وَلَمْ تَنْقَضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى أَتَمَّ «يُوسُفُ» تَرْتِيب ما شَواهُ مِنَ السَّمَكِ وَتَصْفِيفَه، كَما مَلأَ الْبَرامِيل بِالْمُقَدَّدِ مَنْهُ.

(٨) مِخْلَبُ الْقِطِّ

ثُمَّ نادَى القِطَّ … فجاءَ إِلَيْهِ فِي الْحالِ.

فَقالَ «يُوسُفُ»: «هاكَ — يا مَوْلايَ — كُلَّ ما تَحْوِيهِ البِرْكَةُ مِنَ السَّمَكِ مَشْوِيًّا وَقَدِيدًا.»

•••

فَلَمَّا رَأَى الْقِطُّ ذلِكَ، لحَسَ شَفَتَيْهِ مَبْتَسِمًا، ثُمَّ قالَ، والْفَرَحُ بادٍ عَلَى وَجْهِهِ: «يا لَكَ مِنْ بارِعٍ هُمامٍ! لَقَدْ أَنْجَزْتَ لِي ما طَلَبْتُهُ مِنْكَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ أَنْ أُكافِئَكَ عَلَى ما تَحَمَّلْتَ فِي سَبِيلِي مِنْ صَبْرٍ، وَما لَقِيتَ مِنْ تَعَبٍ وَجَهْدٍ؛ حَتَّى لا يُقالَ: إِنَّ قِطَّ الْجَبَلِ لَمْ يَجْزِ الْمُحْسِنَ عَلَى عَمَلِهِ.»

وَما إِنْ أَتَمَّ هذِهِ الْكَلِماتِ، حَتَّى انْتَزَعَ مِخْلَبًا مِنْ مَخالِبِهِ؛ ثُمَّ أَعْطاهُ «يُوسُفَ» هَدِيَّةً، وَهُوَ يَقُولُ: «إِذا حَلَّ بِكَ المَرَضُ، أَوِ انْتابَكَ الضَّعْفُ حِينَ تَكْبَرُ وَتَبْلُغُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ. فالْمُسْ جَبِينَك بِهذا الْمِخْلَبِ؛ فَإِنَّ الأَمْراضَ والآلامَ والشَّيْخُوخَةَ كُلَّها تَزُولُ فِي الحالِ. وَكذلِكَ يَكُونُ أَثَرُ المِخْلَبِ عِنْدَ كُلِّ مَن تُحِبُّ، وَكُلِّ مَنْ يُحِبُّونَكَ.»

figure

فَشَكَرَ «يُوسُفُ» لِلْقِطِّ أَجْزَلَ الشُّكْرِ، ثُمَّ أَخَذَ الْمِخْلَبَ الثَّمِينَ — وَكانَ الضَّعْفُ قَدْ بَلَغَ بِهِ كُلَّ مَبْلَغٍ — وَأرادَ أَنْ يُجَرِّبَهُ لِيَتَعَرَّفَ أَثَرَهُ فِي الْحالِ.

فَلَمْ يَكدِ المِخْلَبُ يَمَسُّ جَبِينَهُ حَتَّى شُفِيَ أَلَمُهُ، وانْقَلَبَ ضَعْفُهُ قُوَّةً، وَأَحَسَّ راحَةً خَيَّلَتْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ أَيَّ عَناءٍ، وَلَمْ يَبْذُلْ أَيَّ تَعَبٍ؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْهَرْ هذِهِ اللَّيالِيَ الطِّوالَ.

فَنَهَضَ فِي الْحالِ وَقدِ امْتَلأَتْ نَفْسُهُ سُرُورًا.

•••

فَلَمَّا رَآهُ الْقِطُّ عَلَى هذِهِ الحالِ، ابْتَسَمَ لَهُ، وَقالَ: «هَلُمَّ فاصْعَدْ عَلَى ذَيْلِي، لأُبَلِّغَكَ ما تَتَمَنَّاهُ.»

فَخَضَعَ «يُوسُفُ» لِلْأَمْرِ.

وَما اسْتَقَرَّ عَلَى ذَيْلِ الْقِطِّ، حَتَّى امْتَدَّ الذَّيْلُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ؛ فَكانَ لَهُ جِسْرًا عَبَرَ عَلَيْهِ، فَبَلَغَ الشَّاطِئَ سالِمًا آمِنًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤