الفصل السابع

«شَجَرَةُ الْحَياة»

(١) بابُ الْحَدِيقَةِ

وَما إِنْ غابَ الْقِطُّ عَنْ ناظِرِهِ، حَتَّى أَسْرَعَ «يُوسُفُ» إِلَى الْحَدِيقَةِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي نَبَتَتْ فِيها «شَجَرَةُ الْحَياةِ»، وَكانَتْ عَلَى مَسافَةِ خُطُواتٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْبابِ.

وَقَدْ خَشِيَ أَنْ يُفاجِئَهُ طارِئٌ مِمَّا أَلِفَهُ فِي رِحْلَتِهِ المَمْلُوءَةِ بِالأَعاجِيبِ والْمُفاجِئات.

فَدَعا اللهَ — سُبْحانَهُ — أَنْ يُبَلِّغَهُ مُرادَهَ، وَيُجَنِّبَهُ الْمَوانِعَ والْمُعَوِّقاتِ؛ حَتَّى يَصِلَ إِلَى غايَتِهِ، وَيَفُوزَ بِأُمْنِيَّتِهِ.

وَقَدِ اسْتَجابَ اللهُ دُعاءَهُ، وَحَقَّقَ لَهُ رَغْبَتَهُ وَرَجاءَهُ، فَلَمْ تُصادِفُهُ — فِي هذِهِ الْمَرَّةِ — عَقَبَةٌ واحِدَةٌ.

وَلَمَّا بَلَغَ سُورَ الْحَدِيقَةِ، لَمْ يَطُلْ بَحْثُهُ عَنِ الْبابِ، فَقَدِ اهْتَدَى إِلَيْهِ فِي الْحالِ.

(٢) حارِسُ النَّباتِ

لَمْ تَكُنِ الْحَدِيقَةُ كَبِيرَةً لِحُسْنِ حَظِّهِ، وَإِنْ كانَتْ عَلَى صِغَرِها تَحْوِي كَثِيرًا مِنْ أَنْواعِ النَّباتِ، مِمَّا لا عَهْدَ لَهُ بِمَعْرِفَتِهِ.

وَقَدْ اخْتَفَتْ «شَجَرَةُ الحَياةِ» بَيْنَ آلافِ الْأَشْجارِ الْأُخْرَى؛ فاسْتَحالَ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْها.

•••

عَلَى أَنَّ حَيْرَتَهُ لَمْ تَدُمْ طَوِيلًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذكَرَ وَصِيَّةَ الْجِنِّيَّةِ: «وِدادَ»، الَّتِي نَصَحَتْ لَهُ بِاسْتِدْعاءِ حارِسِ النَّباتِ.

فَناداهُ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ.١

وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ نِداءَهُ حَتَّى سَمِعَ وَقْعَ أَقْدامٍ تَقْتَرِبُ مِنْهُ.

ثُمَّ رَأَى فَتًى صَغِيرًا — فِي زِيِّ الأطِبَّاء — يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الأَشْجارِ، وَيَقْتَرِبُ مِنْهُ، وَقَدْ حَمَلَ تَحْتَ إِبْطِهِ كِتابًا، وَوَضَعَ عَلَى كَتِفِهِ مِعْطَفًا أَبْيَضَ فَضْفَاضًا،٢ طالَما رَأَى الأَطِبَّاءَ يَلْبَسُونَ مِثْلَهُ؛ وَرَأَى عَلَى أَنْفِهِ المُقَوَّسِ مِنْظارًا.

•••

وَلَمْ تَكَدْ تَلْتَقِي أَعْيُنُهُما حَتَّى ابْتَدَرَهُ٣ حارسُ النَّباتِ قائِلًا: «عَمَّ تَبْحَثُ، أَيُّها الصَّغِيرُ؟ وَكَيْفَ وَصَلْتَ إِلَى هذا الْمَكانِ؟»

فَقالَ لَهُ «يُوسُفُ»: «إِنِّي رَسُولُ الْجِنِّيَّةِ: «ودادَ» إِلَيكَ، يا سَيِّدِي الطَّبِيبَ. وَقَدْ جئتُ أَطْلُبُ شَيْئًا مِنْ نَباتِ الْحَياةِ، لِأشْفِيَ بِهِ أُمِّيَ المُشْرِفَةَ عَلَى الْمَوْتِ.»

فَقالَ لَهُ حارِسُ النَّباتِ مُبْتَسِمًا: «أَهْلًا بِكَ، وَبِكُلِّ مَنْ تُرْسِلُهُ الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ». هَلُمَّ أَيُّها الصَّغِيرُ، لأُحَقِّقَ لَكَ طَلَبَكَ وَأُبْلِغَكَ أُمْنِيَّتَكَ.»

•••

ثُمَّ سارَ حارِسُ النَّباتِ، وَمَشَى «يُوسُفُ» فِي أَثَرِهِ، وَظَلَّا يَتَنَقَّلانِ فِي حَدِيقَةِ الأَزْهارِ.

وَكانَ «يُوسُفُ» يَتْبَعُ الْحارِسَ فِي مَشَقَّةٍ وَعَناءٍ، لأَنَّ الْغُصُونَ المُشْتَبِكَةَ كَثِيرًا ما أَخْفَتْهُ عَنْهُ.

ثُمَّ انْتَهَيَا إِلَى «شَجَرَةِ الْحَياة».

(٣) «نَباتُ الْحَياةِ»

فأَخْرَجَ الْحارِسُ الْقَزَمُ مِنْجَلًا صَغِيرًا مِنْ جَيْبِهِ، واقتَطَعَ مِنَ الشَّجَرَةِ ساقًا صَغِيرَةً، ثُمَّ أَعْطاها «يُوسُفُ» قائِلًا: «هذا هُوَ النَّباتُ الَّذِي حَدَّثَتْكَ بِهِ الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ». وَقَدْ وَصَفَتْ لَكَ الْجِنِّيَّةُ كَيْفَ تَسْتَخْدِمُهُ لِشِفاءِ أُمِّكَ؛ فَلا حاجَةَ بِي إِلَى تَكْرارِ ما قالَتْهُ لَكَ. عَلَى أَنَّنِي أُوصِيكَ أَنْ تَحْرِصَ عَلَى هذا النَّباتِ النَّفِيسِ النَّادِرِ. وَحَذارِ٤ أَنْ يُفْلِتَ مِنْكَ بَعْدَ أَنْ ظَفِرْتَ بِهِ، فَما أَيْسَرَ ما يَسْتَخْفِي هذا النَّباتُ، إِذا تَهاوَنَ صاحِبُهُ فِي الاحْتِفاظِ بِهِ. مَتَى اسْتَخَفَى، فَهَيْهاتَ أَنْ تَعْثُرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذلِكَ، وَهَيْهاتَ أَنْ تَراهُ.»

وَأَرادَ «يُوسُفُ» أَن يَشْكُرَ لِحارِسِ النَّباتِ، وَلَكِنْ سُرْعانَ ما غابَ بَيْنَ الأَشْجارِ.

وَرَأَى «يُوسُفُ» نَفْسَهُ مُنْفَرِدًا، بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ غايَتَهُ؛ فَلَمْ يَبْقَ أَمامَهُ إِلَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى دارِهِ، لِيُقَدِّمَ لأُمِّهِ النَّباتَ الشَّافِيَ.

وَهُنا وَقَفَ يُسائِلُ نَفْسَهُ مُفَكِّرًا، وَهُوَ يَخْشَى أَنْ يَلْقَى فِي عَوْدَتِهِ مِثْلَ ما لَقِيَهُ فِي رِحْلَتِهِ مِنَ الْعَوائِقِ والْمَتاعِبِ، فَلا يَسْتَطِيعَ الاحْتِفاظَ بِهذا النَّباتِ الثَّمِينِ الَّذِي يَرُدُّ الْحَياةَ إِلَى أُمِّهِ الْعَزِيزَةِ، وَيَشْفِيها مِنْ الْآلامِ.

(٤) عَصا «أُوَيْسٍ»

وَإِنَّهُ لَغارِقٌ فِي تَأَمُّلِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِتَفْكِيرِهِ، إِذْ وَقَعَتْ مِنْ يَدِهِ الْعَصا الَّتِي أَهْداها إِلَيْهِ الذِّئْبُ.

فَتَذَكَّرَ فِي الْحالِ ما حَدَّثَهُ بِهِ الذِّئْبُ «أُوَيْسٌ»، وَلاحَتْ لَهُ بارقَةُ أَمَلٍ فِي النَّجاحِ، فَقالَ لِنَفْسِهِ: «ماذا عَلَيَّ إِذا جَرَّبْتُ هذِهِ الْعَصا؛ فَلَعَلَّها تُبَلِّغُنِي بَيْتِيَ — فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ — إِذا رَكِبْتُها، فَيَتَحَقَّقَ لِي بِذلِكَ ما حَدَّثَنِي بهِ «أُوَيْسٌ» مُنْذُ قَرِيبٍ.»

•••

وَما إِنْ رَكِبَ الْعَصا حَتَّى رَأَى نَفْسَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْها، كَما يَسْتَقِرُّ الْفارِسُ عَلَى فَرَسِهِ!

فَطَلَبَ مِنْها أَنْ تَعُودَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ … وَما أَتمَّ قَوْلَتَهُ، حَتَّى شَعَرَ أَنَّهُ ارْتَفَعَ فِي الْهَواءِ.

(٥) شِفاءُ الْمَرِيضَةِ

وَظَلَّ يَطِيرُ فِي الْفَضاءِ بِمِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ الْخاطِفِ؛ فَلَمْ تَنْقَضِ لَحَظَةٌ قَصِيرَةٌ، حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ فِي دارِهِ؛ جالِسًا عِنْدَ سَرِيرِ أُمِّهِ الَّتِي أَشْرَفَتْ عَلَى المَوْتِ.

فَأَسْرَعَ إِلَيْها، وَقَبَّلَها فِي حَنانٍ وَشَوْقٍ.

وَلكِنَّها لَمْ تَشْعُرْ بِقدُومِهِ، وَلَمْ تَفْطُنْ إِلَى تَحِيَّتِهِ.

فَلَمْ يُضِعْ «يُوسُفُ» وَقْتَهُ بِلا فائِدَةٍ، بَلْ عَصَرَ «نَباتَ الْحَياةِ» عَلَى شَفَتَيْ أُمِّهِ.

•••

وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ حَتَّى فَتَحَتْ عَيْنَيْها، وَطَوَّقتْ «يُوسُفَ» بِذِراعَيْها، وَصاحَتْ تَقُولُ: «وا فَرْحَتاهُ بِكَ! أَيْنَ أَنا، وَأَيْنَ أَنْتَ؟ أَيْنَ كُنْتُ أَنا — يا وَلَدِي — وَأَيْنَ كُنْتَ أَنْتَ؟ لَقدْ فارَقَنِيَ المَرَضُ، وَزايَلَنِيَ الوَجَعُ والأَلمُ. وَهأَنَذِي أُحِسُّ الآنَ دَبِيبَ الشِّفاءِ فِي جِسْمِي. فَشُكْرًا للهِ عَلَى نَعْمائِهِ.»

•••

ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى «يُوسُفَ» مَدْهُوشَةً وَهِي تَقُولُ: «ماذا جَرَى؟ وَكَيْفَ كَبِرْتَ هكَذا — يا وَلَدِيَّ الْعَزِيزَ — بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟»

•••

وَكانَ «يُوسُفُ» — فِي الْحَقِيقَةِ — قَدْ كَبِرَ؛ فَقَدْ تَرَكَ أُمَّهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةِ أَيَّامٍ.

وَكانَ عُمْرُهُ — قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ هذه الرِّحْلَةَ الطَّوِيلَةَ الشَّاقَّةَ — عَشْرَ سَنَواتٍ.

(٦) عَوْدَةُ «وِدادَ»

وَقَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ «يُوسُفُ» بِكلِمَةٍ واحِدَةٍ فُتِحَتِ النَّافِذَةُ، وَظَهَرَتِ الْجِنِّيَّةُ «وِدادُ».

فَقَبَّلَتْ «يُوسُفَ»، وَهَنَّأَتْهُ بِما تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ، وَما تَحَلَّى بِهِ مِنْ ثَبات، وَما ظَفِرَ بِهِ مِنْ نَجاحٍ وَتَوْفِيقٍ.

ثُمَّ اقْتَرَبَتْ «وِدادُ» مِنْ سَرِيرِ أُمِّهِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْها تُحَدِّثُها بكُلِّ ما تَحَمَّلَهُ وَلَدُها الشُّجاعُ فِي سَبِيلِ شِفائِها، وتَصِفُ لَها ما تَعَرَّضَ لَهُ واسْتَهْدَفَ مِنْ الْمَتاعِبِ، والْأَخْطارِ، وَكَيْفَ خاضَ الأَهْوالَ بِما هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْ جُرْأَةٍ وصَبْرٍ وَكَرَمِ نَفْسٍ.

•••

فاحْمَرَّ وَجْهُ «يُوسُفَ» خَجَلًا مِنْ ثناءِ الْجِنِّيَّةِ عَلَيْهِ، وامْتِداحِها إِيَّاهُ.

وَلَمْ يَكُنْ يَرَى فِيما صَنَعَ شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، لِأَنَّهُ — فِيما يَعْتَقِدُ — لَمْ يُؤَدِّ غَيْرَ ما يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسانٍ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لأُمِّهِ.

•••

وَأَدْرَكَتْ أُمُّهُ ما تَحَمَّلَهُ فِي سَبِيلِ إِنقاذِها، فَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرها حانِيَةً، وَظَلَّتْ تُقَبِّلُهُ شاكِرَةً راضِيَةً.

(٧) عُلْبَةَ السَّعُوطِ

والْتَفَتَتِ الجِنِّيَّةُ «وِدادُ» إِلَى «يُوسُفَ» قائِلَةً: «لا تَنسَ — يا عَزِيزِي «يُوسُفَ» — ما ظَفِرْتَ بِهِ مِنَ النَّفائِسِ الَّتِي أَهْداها إِلَيْكَ الشَّيْخُ القَزَمُ؛ فَإِنَّها كَفِيلَةٌ بِتَحْقِيقِ ما تُريدُ.»

فَأخْرَجَ «يُوسُفُ» عُلْبَةَ السَّعُوطِ، وَفَتَحَها.

فَخَرَجَ مِنْها — فِي الْحالِ — طائِفَةٌ مِنَ الْعُمَّالِ الصِّغارِ، لا يَزِيدُ طُولُ الْواحِدِ مِنْهُمْ عَلَى حَجْمِ النَّمْلَةِ، أَوْ حَجْمِ الأُنْمُلَةِ.٥

فامْتَلأَتْ بِهِمْ حُجُراتُ الْبَيْتِ وَفِناؤهُ.

وَظَلُّوا يُواصِلُونَ عَمَلَهُمْ فِي سُرْعَةٍ وَمَهارَةٍ وَإِتْقانٍ.

وَلَم تَمْضِ رُبْعُ ساعَةٍ، حَتَّى شَيَّدُوا لَهُ قَصْرًا عالِيًا بَديعًا؛ تُحِيطُ بِهِ حَدِيقَةٌ غَنَّاءُ، وأَثَّثُوهُ بِأَفْخَرِ الأَثاثِ.

ثُمَّ غَرَسُوا إِلَى جانِبِهِ غابَةً كَبيرَةً، وَمَرْعًى فَسِيحًا؛ رائِعَ الْخُضْرَةِ بَدِيعَ التَّنْسِيقِ.

(٨) زَهْرَةُ الشَّوْكِ

ثُمَّ قالَتِ الْجنِّيَّةُ «وِدادُ»: «هذا بَعْضُ ما تَسْتَحِقُّ، أَيُّها الشُّجاعُ المِقدامُ. وَلا تَنْسَ «زَهْرَةَ الشَّوْكِ» الَّتِي أَهْداها الْجِنِّيُّ إِلَيْكَ. فَإِنَّها مِنَ الْكُنُوزِ النَّادِرَة الَّتي تُسْعِدُ مَنْ يُوقِعُها الْحَظُّ السَّعِيدُ فِي يَدَيْهِ.

•••

وَحَسْبُكَ أَنْ تَذْكُرَ — حِينَ تَشُمُّها — أَيَّ شَيْءٍ تَتَمَنَّاهُ، فَإِنَّكَ لا تَلْبَثُ أَنْ تَراهُ.

(٩) عَصا «أُوَيْس»

وَسَتَكُونُ لَكَ عَصا «أُوَيْسٍ» — كَما رَأَيْتَ — حِصانًا تَرْكَبُهُ، فَيَذْهَبُ بِكَ إِلَى حَيْثُ تَشاءُ فِي مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ الْخاطِفِ.

(١٠) مِخْلَبُ الْقِطِّ

وَسَيَكْفُلُ مِخْلَبُ الْقِطِّ لَكَ وَلِوالِدَتِكَ صِحَّةً مَوْفُورَةً، وَشَبابًا مُتَجَدِّدًا.

فالْآنَ أُوَدِّعُكَ بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ اللهُ عَلَيْكَ نِعْمَتَهُ وَأَسْبَغَ عَلَيْكَ فَضْلَهُ وَرعايَتُهُ.

وَقَدْ أَصْبَحْتُ آمِنَةً عَلَيْكَ، فَلْيُمَتِّعْكَ اللهُ بِأُمِّكِ الْحَنُونِ فِي سَعادَةٍ، وَرَغادَةِ عَيْشٍ، وَراحَةِ بالٍ.

وَلَنْ تَعْدَمَ الفَضِيلَةُ نَصِيرًا، وَلَنْ يُضِيعَ اللهُ أَجْرُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

وَقَدْ جَزاكَ اللهُ عَلَى حُبِّكَ الْبَنَويِّ — كما رَأَيْتَ — أَحْسَنَ الْجَزاءِ.»

•••

فَأَقْبَلَ «يُوسُفُ» عَلَى الْجِنِّيَّةِ «وِدادَ» شاكِرًا مَسْرُورًا، وانْهالَ عَلَى يَدِها لَثمًا وَتَقْبِيلًا، فَشَيَّعَتْهُ بابْتِسامَةٍ راضِيَةٍ، مَشْفُوعَةٍ بِتَحِيَّةٍ طَيِّبَةٍ عَطِرَةٍ.

ثُمَّ تَوارَتْ عَنْ ناظِرِهِ، وَلَمْ تَغِبْ عَنْ خاطِرِهِ.

(١١) تَحْقِيقُ الْأَمانِيِّ

وَأَرادَتْ أُمُّ «يُوسُفَ» أَنْ تَذْهَبَ إِلَى قَصْرِها الْجَدِيدِ لِتَتَمَتَّعَ بِهِ، وَتَنْعَمَ بِما حَوْلَهُ مِنْ حَدِيقَةٍ وَغابَةٍ وَمَرْعًى؛ وَلكِنَّها لَمْ تَجِدْ ثَوْبًا تَلْبَسُهُ؛ فَقَدْ باعَتْ — فِي أَثْناءِ مَرَضِها — كُلَّ ما تَمْلِكُهُ مِنْ أثاثٍ وَثِيابٍ، فِي سَبِيلِ الحُصُولِ عَلَى الْخُبْزِ: الْخُبْزِ — وَحْدَهُ — بِلا طَعامٍ، كَما حَدَّثْتُكَ فِي أَوَّلِ هذِهِ الْقِصَّةِ الشَّائِقَةِ الْعَجِيبَةِ.

وَلَمْ يَكَدْ «يُوسُفُ» يَرَى حَيْرَتَها، حَتَّى أَدْرَكَ ما يَدُورُ بِخاطِرِها، فَقالَ لَها مُبْتَسِمًا: «لبَّيْكِ، لَبَّيْكِ، يا أُمَّاهُ؛ فَإِنِّي جالِبٌ لَكِ كُلَّ ما تَشْتَهِينَ.»

ثُمَّ أَخْرَجَ مِن جَيْبِهِ زَهْرَةَ الشَّوْكِ، وَقَرَّبَها مِنْ أَنْفِهِ.

وَلَمْ يكَدْ يَشُمُّها — وَهُوَ يُفَكِّرُ فِيما تَشْتَهِيهِ أُمُّهُ مِنْ ثِيابٍ غالِيَةٍ، وَأَحْذِيَةٍ فاخِرَةٍ — حَتَّى وَجَدَ كُلَّ ما دارَ بخاطِرِهِ مِنَ الأَمانيِّ حاضِرًا، بَلْ وَجَدَ أَكْثَرَ مِمَّا تَمَنَّاهُ وَتَخَيَّلَهُ.

فَرَأَى أَمامَه صِوانًا حافِلًا بِأَنْفسِ الْأَثْوابِ، وَرَأَى — إِلَى جانِبِهِ — صِوانًا حافِلًا بِأَغْلَى الْأَحْذِيَةِ، وَثالِثًا، وَرابِعًا، وَهكذا.

وَقَدْ حَوَتْ هذِهِ الْأَصْوِنَةُ أَجْمَلَ ما يَتَمَثَّلُهُ «يُوسُفُ» وَأُمُّهُ مِنْ نَفِيسِ الثِّيابِ، وَبَدِيعِ الأَكْسِيَةِ.

فَصاحَ «يُوسُفُ» وَأُمُّهُ مَدْهُوشِينَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

وَتَخيَّرَ «يُوسُفُ» ثَوْبًا مِنَ الْجُوخِ الْأَزْرَقِ النَّفِيسِ، وَحِذاءً لامِعًا، وَتَخَيَّرَتْ أُمُّهُ ثَوْبًا مُطَرَّزًا بِالذَّهَبِ، مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ.

ثُمَّ أَسْرَعَتْ بِالذَّهابِ — مَعَ ابْنِها — إِلَى القَصْرِ الجَدِيدِ. وَطافا بِحُجُراتِهِ الْفَسِيحَةِ، وَشَهِدا أَثاثَهُ الْفاخِر، وَسَجاجِيدَهُ الْنَّفِيسَةَ، الَّتِي لا يُوجَدُ مِثْلُها فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ.

وَطافا بِالْمَطْبَخِ. وَحُجْرةِ الطعامِ، فوجدا كُلَّ الْمُعدَّاتِ كامِلَةً، وَرَأَيا الْأَوانِيَ والْأَطْباقَ كَثِيرَةً مَوْفُورَةً.

•••

وَأَحَسَّ كِلاهُما بِالجُوعِ، وَلكِنَّهُما لَمْ يَجِدا فِي القَصْرِ شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ.

فَأَمْسَكَ «يُوسُفُ» بِزَهْرَةِ الشَّوْكِ وَقَرَّبَها مِن أَنْفِهِ.

•••

وَما إِنْ شَمَّها — وَهُوَ يَتَمَنَّى طَعامًا فاخِرًا — حَتَّى وَجَدَ عَلَى المائِدَةِ كُلَّ ما تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ: مِنْ حَساءٍ ساخِنٍ، وَفَخِذِ خَرُوفٍ مَقْلِيَّةٍ، وَدَجاجٍ مَشْوِيٍّ، وَكَثِيرٍ مِنَ التَّوابِلِ؛ فَجَلَسَ مَعَ أُمِّهِ عَلَى المائِدَةِ؛ وَراحا يَأْكُلانِ هَنِيئًا مَرِيئًا حَتَّى شَبِعا.

•••

ثُمَّ رَفَعا ما فَوْقَ المائِدَةِ مِنَ صِحافٍ وَأَطْباقٍ وَغَسَلاها، وَرَتَّباها، بَعْدَ أَنْ وَضَعاها فِي أَماكِنِها مِنَ الْمَطْبَخِ.

•••

ثُمَّ أَعَدَّا سَرِيرَيِ النَّوْمِ، وَأَخْرَجا مِنَ الْأَصْوِنَةِ أَفْخَرَ الفُرُشِ، فَوَضَعاها عَلَى السَّرِيرَيْنِ، ثُمَّ ناما عَلَيْهِما نَوْمًا هادِئًا، بَعْدَ أَنْ حَمِدا اللهَ وَشَكَرا لِلْجِنِّيَّةِ: «وِدادَ»، ما هَيَّأَتْهُ لَهُما مِنْ أَسْبابِ الْهَناءِ والرَّخاءِ، وَما يَسَّرَتْهُ لَهُما مِنْ وَسائِلِ البَهْجَةِ والسَّعادَةِ، كَما شَكَرَتِ الأُمُّ لِوَلَدِها ما قامَ بِهِ — فِي سَبِيلِها — منْ جَلائِلِ الْأَعْمالِ.

١  الجهوري: المرتفع.
٢  فضفاضًا: واسعًا.
٣  ابتدره: بدأه.
٤  حذار: احذر.
٥  الأنملة: رأس الإصبع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤