الفصل الأول

المراحل الأولى

علم الأحياء الجزيئي أو البيولوجيا الجزيئية هو قصة جزيئات الحياة وعلاقاتها، وكيفية التحكم في هذه التفاعلات. ارتكز التاريخ المبكِّر لعلم الأحياء الجزيئي إلى حدٍّ كبير على البحث عن طبيعة الجزيئات التي تنظم الحياة، وقبل كل شيءٍ على هوية المادة الوراثية. وثمة فكرتان رئيستان على وجه الخصوص هما ما كانا بمثابة مصدر الإلهام لبداية رحلة البحث في الطبيعة الجزيئية للعوامل القابلة للانتقال وراثيًّا، التي تُوفر استمرارية الحياة.

في البداية، قدَّم كلٌّ من تشارلز داروين وألفريد راسل والاس في منتصف القرن التاسع عشر حُجَجهما الداعمة لنظرية التطوُّر عن طريق الانتقاء الطبيعي. وقدَّم داروين أمثلةً كثيرة استمدَّها من تجاربه التي أجراها وهو يُبحر حول العالم على متن السفينة «إتش إم إس بيجل». ولعلَّ أحد أبرز هذه الأمثلة الثلاثة عشر نوعٌ من العصافير التي اكتشفَها داروين، ولا تُوجَد إلا على جُزر جالاباجوس. بعد وصول نوعٍ واحد من العصافير إلى هذه الجزر المنعزلة قبل ما يقرب من مليونَين ونصف مليون عام، تطور هذا النوع إلى ثلاثة عشر نوعًا جديدًا عن طريق الانتقاء الطبيعي. فقد اختلفت مصادر الغذاء على كل جزيرةٍ وعدَّلت العصافير حجم مناقيرها وشكلها وفقًا لذلك، فصارت إما حادَّة ومُدببة لالتقاط الحشرات، وإما قصيرة وقوية لالتقاط البذور وثمار الجوز. وكانت الجزر بعيدةً بعضها عن بعض بما يكفي، ما حال دون حدوث تزاوُج بين الأنواع المختلفة؛ لذا، وبمرور الوقت، طوَّرت كل جزيرةٍ أنواعًا خاصة بها من العصافير. أدرك داروين أن توارُث الصفات المميزة كان ضروريًّا لإعمال الانتقاء الطبيعي، بحيث ينتُج عنه مثل هذه التكيُّفات. ولإحداث التشعُّب التطوُّري للعصافير، لا بد أن يكون الآباء قادِرِين على نقل سماتٍ وراثية مُستقرة إلى نسلِهم. وتعَدُّ القدرة على نقل السمات إلى الأجيال اللاحقة أحد أحجار الزاوية في علم الأحياء الجزيئي الحديث، ولكنها في ذلك الوقت كانت تتعارَض مع الأفكار المعاصِرة القائلة بأن النسل كان مَزيجًا من سمات الوالدَين فحسب، وأن الوراثة تنطوي على مزيجٍ من الصفات الوراثية. ولو كان هذا صحيحًا، لأُعيقت عملية التطوُّر، إن لم تستحِل تمامًا. فقد كان المزج حينها سيَعني أن السمات الأفضل أيًّا كانت، ستختفي عبر الأجيال اللاحِقة بفعل التخفيف.

قام الراهب والعالِم جريجور مندل، الذي أسفر عمله عن ظهور الفكرة الرئيسة الثانية التي أدَّت إلى ظهور علم الأحياء الجزيئي، بحلِّ لُغز آلية الوراثة الذي حيَّر داروين. فقد اكتشف مندل أثناء عمله في حديقته التجريبية في دير سانت توماس في برنو — الموجود في جمهورية التشيك حاليًّا — الانفصال بين السمات الوراثية التي أدَّت إلى ميلاد عِلم الوراثة. أراد مندل دراسة كيفية انتقال السمات الوراثية بين الأجيال، واختار العمل على نبات البازلاء نموذجًا لدراسته. فدرس انتقال العديد من الخصائص، بما في ذلك حجم النبات (من حيث القصر أو الطول) من خلال نقل حبوب اللقاح إما بشكلٍ طبيعي أو يدوي. فدائمًا ما كانت النباتات الطويلة التي زُرِعَت لعدة أجيال مُتتالية تُنتج نباتاتٍ طويلة أيضًا، وبالمثل كانت النباتات القصيرة سلالات نقية دائمًا. اكتشف مندل أن تهجين نبات طويل نقي السلالة مع آخر قصير نقي لم يُنتج مزيجًا من خصائصهما، بل كانت السلالة الناتجة كلها طويلة. ولذلك، فلا بد أن الطول صفة سائدة تغلِب على الصفة القصيرة المتنحِّية. غير أن تهجين هاتَين السلالتَين الجديدتَين من النباتات الطويلة معًا نتج عنه مزيجٌ من النباتات القصيرة والطويلة. لم تظهر صفة القِصَر إلا عندما اجتمع عاملان مُتنحِّيان في الفرد الواحد. وقد أوضح مندل ملاحظاته تلك من خلال افتراض العوامل المستقرة، إذ رمز للطول ﺑ T، وللقِصَر ﺑ t، حيث T هي الصفة السائدة على t في الشكل. وتُورَّث هذه العوامل وتنتقل عبر الأجيال (انظر شكل ١-١). لم يكن مندل يعرف أي شيء عن الحمض النووي، ولكنه استنتج من عمله وجود عاملٍ وراثي أسماه «عنصرًا»، وأن هذا العنصر حتمًا يلعب دورًا في الوراثة. وقد صاغ فيلهلم يوهانسن لأول مرة استخدام كلمة «جين» في عام ١٩٠٩ لوصف هذه الوحدات الوراثية. ومنذ ذلك الحين، تُعرَف العوامل الوراثية المسئولة عن صفةٍ بعينها بالنمط الجيني، بينما يعرف الشكل الخارجي للصفة بالنمط الظاهري.
fig1
شكل ١-١: نمط مندل للوراثة. أول تهجين لنبات البازلاء الطويلة (TT) مع نبات البازلاء القصيرة (tt) نتج عنه جيل ثانٍ من نباتات البازلاء كانت جميعها طويلة (Tt). بينما نتج عن التهجين الثاني باستخدام البازلاء (Tt) هذه، بازلاء طويلة (TT, Tt) وبازلاء قصيرة (tt).

توصل مندل إلى حل للمعضلة التي واجهت داروين بإثباته أن المادة الوراثية لا تمتزج عند انتقالها للأجيال اللاحِقة. وكان هذا الاكتشاف اكتشافًا ذا أهميةٍ عظيمة. فقد أكد هذا الاكتشاف أن المعلومات الخاصة بصفةٍ بعينها دائمًا ما تكون موجودة في الفرد حتى لو لم تظهر ماديًّا في جيلٍ بعينه. ولكن ماذا كانت طبيعة عوامل أو عناصر مندل؟ كان لا بدَّ من الانتظار حتى عام ١٩٠٢ للتوصُّل إلى إجابة لهذا السؤال، عندما أعاد كلٌّ من تيودور بوفيري ووالتر ساتون، كلٌّ على حِدة، اكتشاف عمل مندل. ففي أثناء عمله على دراسة تطور قنافذ البحر، عرَّف عالم الأحياء الألماني بوفيري الكروموسومات باعتبارها أدوات النقل الوراثية التي تُماثِل في سلوكها سلوك «عوامل» مندل. وعلى الرغم من أن أول من صاغ مصطلح «كروموسوم» لأول مرةٍ كان هاينريش فالداير في عام ١٨٨٨ — والذي اشتُقَّ من الكلمة اليونانية التي تعني «الجسم الملون»؛ نظرًا لأنه يمتص الصبغات بسهولةٍ ويتلطَّخ بشدة — فقد كان بوفيري أول من أدرك أهمية الكروموسومات. فقد اكتشف أن الخلايا الجسدية تحتوي على مجموعتَين من هذه الكروموسومات، بينما تحتوي الخلايا الجنسية على مجموعةٍ واحدة. احتوت نواة الحيوان المنوي الذَّكَري والبويضة الأنثوية على كمياتٍ متكافئة من المادة القابلة للانتقال وراثيًّا. وبما أن كلًّا منهما يحتوي على نصف عدد الكروموسومات الجسدية، فقد استنتج أن الكروموسومات هي التي تحتوي على هذه المادة الوراثية. وأشار إلى أن الكروموسومات لم تكن متشابهة؛ نظرًا لضرورة وجود مجموعة كاملة منها من أجل حدوث عملية التكاثر.

في غضون الوقت الذي اكتشف فيه بوفيري الكروموسومات تقريبًا، صار واضحًا أن قوانين مندل لا تنطبق فقط على البازلاء، بل على جميع الكائنات الحية، بما فيها البشر. وقدَّمَت أشجار نسب العائلات المصابة بأمراضٍ وراثية أول دليلٍ على الجينات البشرية. وتشمل الأمثلة أمراضًا مثل مرض هنتنجتون، والبَرَص (المهق)، والحثل العضلي الدوشيني، وعمى الألوان، والهيموفيليا، على سبيل المثال لا الحصر.

اكتشاف الحمض النووي

من اللافت للنظر أن كلًّا من داروين ومندل قد أدركا حتمية وجود مادةٍ وراثية تُعزز ملاحظاتهما، ولكنهما كانا يجهلان طبيعتها. ولكن بعد وقتٍ قصير، تحديدًا في عام ١٨٩٦، اكتشف يوهان فريدريش ميشر الحمض النووي (حمض الديوكسي ريبونيوكليك) بمحض الصدفة. كان ميشر مُهتمًّا بدراسة البروتينات؛ إذ بدا له أنها جزيئات الحياة الواضحة التي تقوم بوظائف الخلية. كان يفصل البروتينات من خلايا الدم البيضاء التي أُزيلت من الضمَّادات المشبَّعة بالصديد عندما وجد مادة، على عكس البروتين، تُقاوم الانفصال بواسطة الإنزيمات الهاضمة للبروتين — إنزيمات البروتياز — وكانت أيضًا تحتوي على نسبةٍ عالية جدًّا من عنصر الفوسفات. ولكن في الواقع، ظن ميشر أنه كان جُزَيء تخزين الفوسفات ولم يكن لدَيه أدنى فكرة عن أهميته. ونظرًا لأنه كان واضحًا أنه ليس بروتينًا، وعُثِر عليه في نواة الخلية، فقد أطلق عليه النيوكلين. في أوائل القرن العشرين، عُزِلَ نوعَان من «النيوكلين»، يُعرفان في الوقت الحاضر بالحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (ويعرف اختصارًا بالحمض النووي، أو DNA) والحمض النووي الريبي (ويعرف اختصارًا ﺑ RNA)، ولكن في البداية لم تكن الاختلافات بينهما واضحة. وقد سُمِّيا وفقًا لمصدرهما؛ إذ أُطلِق على الحمض النووي الريبي اسم «نيوكلين الخميرة»، وأُطلِق على الحمض النووي اسم «حمض البنكرياس النووي».

في ذلك الوقت، لم يكن النيوكلين يُعتبر مرشحًا مناسبًا كي يكون المادة الوراثية محلَّ البحث، وتم تجاهُله، إلى حدٍّ كبير، عدة عقود. ولكون البروتينات أكثر تعقيدًا، اعتُبِر أنها هي التي تحمل الشفرة الجينية. بعد مرور ما يقرب من تسعين عامًا على اكتشاف ميشر، نجح جيمس واطسون وفرانسيس كريك في عام ١٩٥٣ أخيرًا في حَسْم هوية المادة، وتوصَّلا إلى أنها الحمض النووي مع اكتشافهما لِبنيتِه اللولبية المزدوجة.

على الرغم من أن اكتشاف ميشر للحمض النووي كان الأساس لسلسلة الأدلة التي أدَّت إلى اكتشاف واطسون وكريك الخطير، وإدراك سيدني برينر لأهميته الجوهرية، فقد هُمِّشَ الحمض النووي إلى حدٍّ كبير لسنواتٍ عديدة. فلم يتمَّ تحليله للكشف عن مكوناته الكيميائية حتى عام ١٩١٩، ولا سيما على يد العالم فيبوس ليفين. اكتشف ليفين أن الحمض النووي يتكوَّن من وحدات تُسمى النوكليوتيدات، وأن كل نوكليوتيد يتكون من ثلاثة مكونات: مجموعة الفوسفات، وسكر ريبوز منقوص خماسي الكربون (ديوكسي ريبوز)، وقاعدة نيتروجين واحدة. تنقسِم قواعد النيتروجين هذه إلى نوعَين: البيورينات والبيريميدينات. البيورينات هي الأدينين (A) والجوانين (G)، أما البيريميدينات فهي السيتوسين (C) والثايمين (T). يرتبط كل نوكليوتيد بما يليه من خلال مجموعة فوسفات؛ ومن ثمَّ يتكون جُزَيء الحمض النووي من سلسلة من النوكليوتيدات يتكون عمودها الفقري من السكر والفوسفات. ويكون جزيءُ الحمض النووي ملفوفًا بإحكامٍ ومغلفًا داخل الكروموسومات. وتختلف الكروموسومات في الحجم من أكبر كروموسوم بشري، والمعروف باسم الكروموسوم ١ ذي الحمض النووي الذي يصل طوله إلى ٨٫٥ سنتيمترات إلى أصغر كروموسوم بشري، وهو كروموسوم ٢١ الذي يبلغ طول حمضه النووي نحو ١٫٥ سنتيمتر.

على الرغم من أن اكتشاف واطسون وكريك في عام ١٩٥٣ قد أشاد به البعض مثل برينر باعتباره البداية لعلم الأحياء الجزيئي، فإن البحث المنهجي عن الأساس الجزيئي للحياة قد بدأ جدِّيًّا في الثلاثينيات، مع ظهور تقنيات جديدة للتحليل والفصل. ويُنسَب أول استخدام لمصطلح «علم الأحياء الجزيئي» إلى وارن ويفر، الذي كان آنذاك مديرًا لقسم العلوم الطبيعية في مؤسسة روكفلر، والذي قدم المصطلح لأول مرة في عام ١٩٣٨. كان علماء الكيمياء الحيوية يسعون إلى فهم كيمياء الوظائف البيولوجية؛ لذا مهَّدوا الطريق لاكتشاف تقنيات الفصل لعزل الجزيئات المعنية. كذلك طُوِّرت طرق لإحداث اضطرابٍ خفيفٍ في الخلايا بغرَض تحرير العُضيات مثل النُّوِي والميتوكوندريا. وعلى أثر ذلك أمكن بعد ذلك فصل المكونات الجزيئية لهذه العضيات باستخدام تقنياتٍ تستفيد من الفروق في شحنة الجزيئات أو حجمها. عُزِلَت مُركبات جديدة وتم تحديد تركيبتها ووظيفتها. وجاء في مقدمة الجزيئات البيولوجية التي خضعت للدراسة، البوليمرات الثلاثة الرئيسة للحياة: الحمض النووي، والحمض النووي الريبي، والبروتين. ولكن كيف تنتقِل المعلومات الجينية فيما بينها؟ كان لا بد من انتظار الإجابة حتى ستينيات القرن الماضي.

جاءت الخطوة المهمة التالية نحو حلِّ اللُّغز في الأربعينيات من خلال العمل البحثي لكلٍّ من أوزوالد أفيري وكولين ماكليود وماكلين مكارثي بمعهد روكفلر بنيويورك. فقد بَيَّنوا أن الحمض النووي، وليس البروتين، هو الذي يمكن أن ينقل عوامل الضراوة في البكتيريا، وهذا ما دفعهم إلى اقتراح الحمض النووي باعتباره الجزيء القابل للانتقال وراثيًّا. غير أنه في ذلك الوقت كان المجتمع العلمي على وجه العموم لا يزال بحاجةٍ إلى الإقناع. فقد كان البعض مُترددًا في التخلي عن فكرة أن البروتينات فقط هي التي تمتاز بالتعقيد الكافي لحمل الشفرة الوراثية. في عام ١٩٥٢، أظهر ألفريد هيرشي ومارثا تشيس — اللذان كانا يعملان على دراسة الفيروسات التي تُعرَف باسم العاثيات، والتي تهاجم البكتيريا — أن الحمض النووي للفيروس هو الوحيد الذي يدخل إلى البكتيريا ويُشَفَّر للحصول على سلالة فيروسية جديدة. وخَلُصا إلى أن الشفرة الوراثية كانت في الحمض النووي وليس البروتين. وصار الميل لاعتبار الحمض النووي هو الجزيء الناقل للمعلومات الجينية في ازدياد. فالحمض النووي، في النهاية، يكمُن في نواة الخلية، والنواة هي وجه المساهمة الأساسي للحيوانات المنوية الذكرية في البويضة المخصَّبة.

ولكن ظلَّت هناك بعض الشكوك القوية حول قدرة الحمض النووي على حمل المعلومات الجينية. فلم يتسنَّ لأحدٍ أن يفهم كيف يمكن للحمض النووي أن يُوفر الوظائف اللازمة لدقَّة التكاثُر، والتعقيد الكافي لتشفير البروتينات. وفي عام ١٩٥٠، قدَّم إروين تشارجاف — عالم الكيمياء الحيوية النمساوي الذي انتقل إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٣٥ هربًا من السياسات النازية في ألمانيا — دليلًا من شأنه أن يكون حاسمًا. وجد تشارجاف أنه بغضِّ النظر عن المصدر، فإن جُزيء الحمض النووي يحتوي دائمًا على كميةٍ من الأدينين مساوية للثايمين، وأيضًا كمية من السيتوسين مساوية دائمًا للجوانين. تنص قاعدة تشارجاف على أن البيورينات (A+G) — وهي القواعد الأكبر للحمض النووي — تُوجَد بنسبة ١:١ مع القواعد الأصغر التي تُسمَّى البيريميدينات (C+T)، بغض النظر عن نوع الكائن الحي. غير أن الكميات النسبية من الأدينين والسيتوسين والجوانين والثايمين تتباين بين الأفراد وبين الأنواع المختلفة، وهو الأمر الذي سيكون بالضرورة السمةَ المميزة للمادة الجينية. وقد مثَّلت قواعد تشارجاف الأساس الذي بَنى عليه كلٌّ من واطسون وكريك نموذجهما للحمض النووي المزدوج القاعدة، بالرغم من أن تشارجاف نفسَه لم يكن يُدرك أهمية النتائج التي توصَّل إليها.

من الحمض النووي إلى المبدأ الأساسي لعلم الأحياء الجزيئي

أصبح المشهد مُهيَّأً في ذلك الوقت لكَشْف بنية الحمض النووي ولإظهارِ كيفية تأديته جميع الوظائف المتوقَّعة من المادة الجينية. في عام ١٩٥١، بدأ جيمس واطسون وفرانسيس كريك العمل على بنية الحمض النووي. بحلول هذا الوقت، كانت هناك أدلةٌ قوية على أن الحمض النووي هو المادة القابلة للانتقال وراثيًّا، ولكن بدون فَهْم بِنيته، لم يتمكن العلماء من التأكُّد مِن الكيفية التي يعمل بها فعليًّا. يجب أن يكون للمادة القابلة للوراثة عدة خصائص؛ أولها، التكرار الصحيح في الانقسام الخلوي؛ والقدرة على الاحتفاظ بشفرة صُنع البروتينات؛ والاستقرار، بحيث تنتقل الأوامر البيولوجية بدقَّة من جيلٍ إلى آخر. لذلك يجب أن تُوفِّر بنية الحمض النووي تفسيرًا لهذه الوظائف المعروفة، مع وضع جميع البيانات الكيميائية المعروفة في ذلك الوقت في الاعتبار. وقد أظهر التصوير بالأشعة السينية للصورة ٥١ الشهيرة لروزاليند فرانكلين نمطَ حيودٍ على شكل حرف X، مُتسقًا مع تركيبٍ حلزوني لجزيء الحمض النووي (انظر شكل ١-٢).
fig2
شكل ١-٢: الصورة ٥١ تظهر نمط حيود الأشعة السينية للحمض النووي المزدوج الشريط والذي يُشير إلى طبيعته اللولبية.
كان التساوي الدائم بين نِسَب الأدينين إلى الثايمين ونِسَب السيتوسين إلى الجوانين، التي وضعها تشارجاف، لُغزًا في البداية، ولكن استخدام هذه المعلومات في بناء نموذجهما مهَّد الطريق لتفسير واطسون وكريك لبنية الحمض النووي حيث يلتف شريطان بعضهما حول بعض لتكوين شكلٍ لولبي مُزدوج. وضع نموذج واطسون وكريك القواعد داخل اللولب المزدوج للحمض النووي، بينما وضع مجموعات السكر والفوسفات خارجه؛ ويتَّصِل شريطا الحمض النووي بروابط هيدروجينية ضعيفة بين القواعد التي تقترن في أزواجٍ وفقًا لقواعد تشارجاف. يُعَد شريطا جزيء الحمض النووي مُتكامِلَين في التسلسل؛ أي إن القاعدة A دائمًا ما تقترن بالقاعدة T، والقاعدة C تقترن بالقاعدة G. والشريطان في اللولب المزدوج للحمض النووي مُتضادَّا التوازي؛ أي يمتدَّان في اتجاهَين مُتعاكسَين. فيمتد أحد الشريطين في اتجاه البادئة ٥ إلى البادئة ٣ (تشير العلامة «» إلى مصطلح «البادئة»)، بينما يمتد الثاني في اتجاه البادئة ٣ إلى البادئة ٥. يشير مصطلح البادئة إلى ذرَّات الكربون في سكر البنتوز، والمُرقمة من واحد إلى خمسة. وقد نشر واطسون وكريك بنيتهما للحمض النووي في عام ١٩٥٣ (انظر شكل ١-٣).
fig3
شكل ١-٣: الشكل اللولبي المزدوَج للحمض النووي ذي الأساس من السكر والفوسفات المثبت في لولب مزدوج عن طريق اقتران القواعد. مبين في الشكل مواضع ذرات الكربون الخمس على أول جزيئين من سكر الديوكسي ريبوز.

بمجرد فَهم البنية اللولبية المزدوجة القواعد للحمض النووي، أصبح واضحًا أنه مصدر المادة الوراثية؛ وذلك من خلال حمله الشفرة الجينية وحفاظه عليها. يجب أن تكون المادة الوراثية أيضًا قادرةً على التكرار الصحيح في كل مرة تنقسِم فيها الخلية. وجزيء الحمض النووي مثالي لذلك. فهو ينسخ نفسه من خلال فصل شريطَيْه مَتبوعًا بنَسْخ كل منهما بالضبط عن طريق اقتران القواعد، لإنتاج جزيئَين متطابقَين من الحمض النووي.

تركزت الجهود بعد ذلك على الكيفية التي تُترجَم بها التعليمات التي يحملها الحمض النووي إلى مجموعة الأحماض الأمينية العشرين المختلفة التي تتكوَّن منها البروتينات. اقترح الفيزيائي الروسي المولِد جورج جاموف أن المعلومات التي تحملها القواعد الأربع للحمض النووي (A, T, C, G) يجب أن تُقرأ كمجموعةٍ ثلاثية من النوكليوتيدات تُسمَّى الكودونات. يتألف كل كودون من ثلاثة نوكليوتيدات، ويصنع شفرة حمض أميني واحد، أو يصنع إشارة «بدء» أو «توقُّف». تُعرَف هذه المعلومات التي تُحدد التركيب الكيميائي الحيوي للكائن الحي، ﺑ «الشفرة الجينية». ويعني التشفير القائم على ثلاثة نوكليوتيدات أن هناك ٦٤ مجموعة محتملة تتكوَّن كل واحدةٍ منها من ثلاثة أحرف. ولكن لا يُوجَد سوى عشرين حمضًا أمينيًّا مُتَّفقٍ عليهم عالميًّا. لذا تُوصَف الشفرة الجينية بأنها متكررة؛ إذ يمكن تشفير بعض الأحماض الأمينية بأكثر من كودون واحد.

في أوائل الستينيات حدَّد كلٌّ من سيدني برينر وفرانسوا جيكوب وماثيو ميسيلسون آلية التعبير الجيني التي يُحوِّل بموجبها الحمض النووي معلوماته إلى بروتينات. واقترحوا وجود رابط أو مرسال من الحمض النووي الريبي، بين الحمض النووي المنقوص الأكسجين للنواة وآلية تخليق البروتين في السيتوبلازم. وقد أثبتوا وجود الحمض النووي الريبي المرسال من خلال دراسة فيروس يصيب نوعًا من أنواع البكتيريا. يَصنع الفيروس حمضًا نوويًّا ريبيًّا من جينومه الذي يرتبط بمصانع تخليق البروتين لدى الكائن المضيف لإنتاج البروتين الفيروسي. يجب أن يكون الحمض النووي الريبي «الوسيط» هو الجزيء الذي يحمل الشفرة من الحمض النووي إلى موقع تخليق البروتين.

اقترح فرانسيس كريك في عام ١٩٥٨ أن المعلومات تتدفق في اتجاه واحد فقط: من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبي ثم إلى البروتين. وقد سُمي هذا «المبدأ الأساسي لعلم الأحياء الجزيئي» ويصف كيفية نسخ الحمض النووي إلى آر إن إيه، الذي يعمل بعد ذلك كرسولٍ يحمل المعلومات المراد ترجمَتُها إلى بروتينات. ومن ثم، يتحرك تدفق المعلومات من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبي ثم إلى البروتينات، ولا يمكن أبدًا أن تنتقل المعلومات مرةً أخرى من البروتين إلى الحمض النووي. يمكن نَسْخ الحمض النووي إلى المزيد من الحمض النووي (النَّسْخ المتماثل) أو إلى الحمض النووي الريبي (النسخ)، ولكن المعلومات الموجودة في الحمض النووي الريبي المرسال فقط هي ما يمكن ترجمتها إلى بروتين (انظر شكل ١-٤). عندما اكتشف سيدني برينر في عام ١٩٦١ الحمض النووي الريبي المرسال، صار «المبدأ الأساسي لعلم الأحياء الجزيئي» الذي وضعه كريك، الذي ينصُّ على انتقال المعلومات في اتجاهٍ واحد فقط من الحمض النووي إلى الآر إن إيه المرسال ثم إلى البروتين مبدأً قطعيًّا مُتفقًا عليه. غير أن كريك لم يستبعد تدفق المعلومات من الحمض النووي الريبي إلى الحمض النووي، ولكنه استبعد فقط تدفقها من البروتين إلى الحمض النووي.
fig4
شكل ١-٤: التعبير الجيني: يُنْسَخ الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبي أولًا. وبعد ذلك يترجم الحمض النووي الريبي إلى بروتين.

على الرغم من أن علم الأحياء الجزيئي لم يكن قد ظهر بعد في عام ١٩٥٣ مع اكتشاف واطسون وكريك لبنية الحمض النووي، فإن توضيح ماهيته زوَّد اختصاصيِّي علم الأحياء الجزيئي بالأدوات والتقنيات التي دفعت العلم إلى الأمام. فكل المعلومات المطلوبة لتكوين إنسانٍ موجودة في خلية واحدة. وتقوم الجزيئات المكونة لهذه البويضة المخصَّبة بتنظيم النمو، وتحافظ على الحياة، وتسمح بالتكاثر، وفي النهاية تُنفذ عملية فناء الفرد. علم الأحياء الجزيئي هو علم دراسة الطريقة التي تعمل بها الجزيئات لتنظيم الحياة. ومن اللافت للنظر أن الجزيئات والمبادئ نفسها تكمُن في لُب كلِّ علوم الحياة؛ وهذا لأنها تتحكم في الآلية الأساسية لعمل الخلايا. يُعنى مجال البيولوجيا الجزيئية بالجزيئات الكبيرة؛ مثل الأحماض النووية والبروتينات والكربوهيدرات والدهون وعلاقاتها المتداخِلة الضرورية للحياة نفسها. وقد أتمَمْنا في هذا الفصل الجزء الأول من رحلتنا في علم الأحياء الجزيئي، فتناولنا تطور الأفكار والتقنيات التي أدَّت إلى الاكتشاف المحوري لبنية الحمض النووي. مهَّد هذا الاكتشاف الرائد الطريق لنقلةٍ نوعية في مجال علم الأحياء الجزيئي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤