الفصل الثاني

الحمض النووي

بعد اكتشاف بنية الحمض النووي (الحمض النووي)، كانت نقطة التحول الأخرى المهمة في علم الأحياء الجزيئي هي نشر التسلسل الكامل للجينوم البشري في عام ٢٠٠٣. والجينوم هو الحمض النووي الكامل الذي تَحويه الكروموسومات الستة والأربعين الموجودة في نواة كل خليةٍ جسدية من خلايا الجسم البشري. كان مشروع الجينوم البشري، الذي أُطْلِقَ في عام ١٩٩٠، بمثابة مشروع تعاونٍ دولي شمل عشرين دولة، وقد يُصنَّف واحدًا من أكبر التجارب البيولوجية التي أُجرِيَت. كان الهدف من المشروع هو تحديد الترتيب الدقيق لقواعد الأدينين، والثايمين، والجوانين والسيتوسين (A وT وG وC) المُكَوِّنَة للجينوم الكامل عن طريق التسلسُل. وقد تولى المركز الوطني لأبحاث الجينوم البشري في الولايات المتحدة تنسيق المشروع، وترأَّسه جيمس واطسون، الذي شارك في اكتشاف بِنية الحمض النووي. قبل انطلاق المشروع، كان المتاح هو خريطة مُنخفضة الدقة للكروموسومات البشرية تُحدد مَوضع جيناتٍ مُعيَّنة على هذه الكروموسومات. غير أن هذه المعلومات كانت منقوصة وغير دقيقة تمامًا. وكانت عملية التسلسل بأكملها تستغرق وقتًا طويلًا ومُكلفة للغاية، ولكنها مكَّنت العلماء من وضع خريطةٍ مُفصَّلة ودقيقة لموقع الجينات على الكروموسومات البشرية. فقد حدَّدت العديد من الجينات التي لم تخضع للدراسة من قبل، وقدَّمَت مصدرًا أساسيًّا لإجراء المزيد من الأبحاث. تزامن نشر التسلسل الكامل مع الذكرى الخمسين لاكتشاف واطسون وكريك البنية اللولبية للحمض النووي وسط احتفاءٍ كبير. وبعد فترةٍ وجيزة، أُطْلِقَ المزيد من المشروعات البحثية في جميع أنحاء العالم لتحديد الوظائف الفعلية لهذه الجينات ولمناطق أُخرى من الجينوم.

مُكونات الجينوم البشري

يتكون الجينوم البشري الكامل من أكثر من ثلاثة مليارات قاعدة ويحتوي على ما يقرب من ٢٠ ألف جين مسئول عن تشفير البروتينات. هذا أقلُّ بكثير من التقديرات السابقة التي تراوحت بين ٨٠ و١٤٠ ألف جين، وهو ما أذهل المجتمع العلمي عندما اكْتُشِفَ من خلال تسلسل الجينوم البشري. ومن المُثير للدهشة أيضًا اكتشاف أن جينومات كائنات أبسطَ بكثيرٍ جرى الحصول على تسلسلها في نفس الوقت، تحتوي على عددٍ أكبر من جينات تشفير البروتين مقارنة بالبشر. على سبيل المثال، يحتوي نبات الخردل (تحديدًا نبات رشاد أُذن الفأر)، الذي استُخدِم نموذجًا لدراسة علم الوراثة النباتية، على جينوم يبلُغ حجمه ١٢٥ مليون قاعدة، ولكنه يحتوي على عدد جينات تشفير البروتين نفسه التي يحتوي عليها جينوم الإنسان. وقد بات واضحًا الآن أن حجم الجينوم لا يتوافق مع عدد جينات تشفير البروتين، وأن هذه الجينات لا تُحدِّد مدى تعقيد الكائن الحي.

يمكن اعتبار جينات تشفير البروتين «وحدات نسخ». تتكون هذه الجينات من تسلسُلات تُسمَّى الإكسونات — وهي المسئولة عن تشفير الأحماض الأمينية — يفصلها تسلسلات غير مُشفرة تُسمَّى الإنترونات. يرتبط بهذه التسلسُلات تسلسُلات أخرى إضافية تُسمَّى المحفِّزات والمعزِّزات، تتحكَّم في التعبير عن هذا الجين. يمكن أن يكون تشفير الجينات لبروتينات مُعيَّنة عبارة عن نسخةٍ واحدة، بحيث لا تظهر سوى مرة واحدة فقط في الجينوم، أو يمكن تمثيلها عدة مرات (جينات ذات نُسَخ متعددة). ثمة تعقيد إضافي يتمثل في أن الجينات يمكن أن تُوجَد كعائلات، بحيث يكون كل جين في العائلة مسئولًا عن تشفير بروتينات متشابهة ولكن غير متطابقة. يمكن أن تختلف العائلات الجينية في الحجم؛ إذ تتراوح بين مائتين وعدة مئات، ويمكن أن تكون محصورةً في كروموسومٍ واحد، أو موزعة على عدد من الكروموسومات المختلفة. ونظرًا لوجود نُسختَين من كل كروموسوم في نواة كل خلية، مجموعة (٢٣ جينًا) مأخوذة من الأم وأخرى (٢٣ جينًا) مأخوذة من الأب، فإن هناك نُسختَين أو أليلَين من كل جين. يُستثنى من ذلك زوج الكروموسوم XY في الذكور. فنظرًا لأن الرجال لديهم كروموسوم X واحد فقط، فهذا يعني أن لديهم نُسخة واحدة فقط من الجينات الموجودة على الكروموسوم X.

بعض مناطق الجينوم البشري مسئولة عن تشفير جزيئات الحمض النووي الريبي العاجزة عن إنتاج البروتينات. ويُشارك عدد من جزيئات الحمض النووي الريبي هذه في آلية تخليق البروتين، ولكن بات واضحًا الآن أن العديد منها يلعب دورًا في التحكم في التعبير الجيني. وعلى الرغم من أهمية البروتينات، فإن أقل من ١٫٥ في المائة من الجينوم يتكون من تسلسُلات الإكسون. وتُشير تقديرات حديثة إلى أن حوالي ٨٠ في المائة من الجينوم يُنسَخ أو يدخل في وظائف تنظيمية، بينما يتكون الجزء الباقي في الأساس من تسلسُلات متكررة.

أحد أشكال الحمض النووي المتكرر، الحمض النووي التابع، وهو عبارة عن تسلسُل قصير يتكرر عدة آلاف من المرات بالترادف، وعادة ما يتركز في المنطقة الوسطى من الكروموسومات (السنتروميرات). لم تُكتشَف وظيفة هذه التسلسلات بعد، ولكن قد يكون أحد الأدوار التي تَلعبها إتاحةَ الفصل الصحيح للكروموسومات أثناء عملية انقسام الخلية. النوع الثاني من الحمض النووي المتكرر هو تسلسُل التيلومير. وهي عبارة عن تكرارات ترادُفية لتسلسلٍ سُداسي النوكليوتيد TTAGGG الموجود في نهايات الكروموسومات الخطية. ويتمثل دورها في منع تقصير الكروموسومات أثناء تكرار الحمض النووي، ويرتبِط فقدان التيلومير بالشيخوخة ومرض السرطان.
يمكن أيضًا العثور على التسلسلات المتكررة موزعةً أو منتشرة عبر جميع أنحاء الجينوم. فهذه التكرارات تمتلك القدرة على التحرك عبر الجينوم ويُشار إليها بالحمض النووي القافز أو القابل للنقل. أما التسلسُلات الأكثر وفرة، فهي العناصر النووية الطويلة المنتشرة (LINEs)، والعناصر النووية القصيرة المنتشرة (SINEs). يمكن للعناصر القافزة القفز من موقعٍ إلى آخر، أو يُمكنها صنع نسخةٍ تنتقل إلى موقع جديد، تاركةً الأصل وراءها. كما أنها قادرة على الانتقال إلى مواقع مختلفة من خلال الاندماج مع تكرارات التسلسل نفسه في موقع آخر في الجينوم، مصطحبة معها التسلسلات المتداخلة. يمكن أن تكون هذه الحركات ضارةً في بعض الأحيان؛ إذ يمكن أن تتعطل التسلسلات الجينية مُسبِّبةً الإصابة بالأمراض. على سبيل المثال، من أسباب مرض الحثل العضلي الدوشيني ولوج العنصر النووي الطويل ١ (LINE 1) داخل جين الديستروفين. فهذا بدَوره يؤدي إلى فقدان بروتين الديستروفين العضلي الذي يؤدي وظائفه كاملة، ويؤدي إلى ضعف العضلات المتقدِّم الذي لُوحِظ في هؤلاء المرضى. والغالبية العظمى من التسلسُلات القابلة للنقل لم تعُد قادرة على التنقُّل وتُعتبَر «صامتة». غير أن هذه الحركات ساهمت، على مدار الزمن التطوري، في تنظيم الجينوم وتطوره، من خلال خلق جيناتٍ جديدة أو معدَّلة تؤدي إلى إنتاج بروتينات ذات وظائف جديدة. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تكوين العائلات الجينية.

تنظيم الجينوم البشري

يختلف الطول الإجمالي للحمض النووي في كل خلية حسب نوع الكائن الحي، ولكن يمكن أن يصل طوله إلى عدة أمتار. على سبيل المثال، يبلغ طول جزيء الحمض النووي في كل خليةٍ بشرية نحو مترَين. لا بد من تغليف هذا الجزيء الخطي بحيث يمكن أن يتناسب مع حجم نواة الخلية التي يقلُّ قُطرها بنحو مليون مرة (٦ ميكرون). ولتحقيق ذلك، يُغَلَّف الحمض النووي على عدة مستويات. في المستوى الأول، يرتبط الحمض النووي الخطي ببروتينات تُسمَّى الهيستونات لتكوين بُنًى تُسمَّى النيوكليوسومات (الجسيمات النووية). يتكوَّن كل نيوكليوسوم من ١٤٦ زوجًا من قواعد الحمض النووي ملفوفة حول ثمانية جزيئات من بروتين الهيستون، ويفصل بين كل نيوكليوسوم والآخر رابط حمض نووي قصير. تظهر هذه النيوكليوسومات على هيئة بنيةٍ تُشبه «حبَّات خرز على خيط». تُطوى هذه السلسلة من النيوكليوسومات لتُنتِج نوعًا من الألياف، ينضغِط بعد ذلك مُتحولًا إلى مجموعةٍ من الحلقات الكبيرة. ثم تلتفُّ هذه الحلقات لتُنتِج الكروموسوم. ويُطلَق على هذه البنية البالغة التنظيم المؤلَّفة من الحمض النووي والبروتين، التي تُشكِّل الكروموسومات حقيقية النواة، الكروماتين (انظر شكل ٢-١).
fig5
شكل ٢-١: يُغَلَّف الحمض النووي مع بروتينات الهيستون لتشكيل البنية المضغوطة للكروماتين.

وتغليف الكروماتين ليس مُوحَّدًا عبر الكروموسومات. فبعض المناطق تكون أقل انضغاطًا من غيرها. يرتبط الكروماتين السائب، الذي يُطلَق عليه الكروماتين الحقيقي، بمناطق الحمض النووي التي تتضاعف، أو بالجينات التي تُنْسَخ. بينما تسمح البنية الأكثر انفتاحًا للإنزيمات المشاركة في هذه العمليات بالوصول إلى مناطق الكروموسومات. على العكس من ذلك، يرتبط الكروماتين المضغوط، الذي يُسمَّى الكروماتين المغاير، بمناطق الحمض النووي التي لا تتضاعف أو غير النشطة النسخ.

لا يُغَلَّف كل الحمض النووي داخل النواة. ففي البشر، تُوجَد كمية صغيرة منه أيضًا في الميتوكوندريا، وتعرف باسم الحمض النووي للميتوكوندريا. والميتوكوندريا هي عبارة عن بُنًى داخل الخلايا تُحوِّل الطاقة المختزنة في الطعام إلى شكلٍ يمكن للخلايا استخدامه كطاقةٍ لتنفيذ عملياتها. يتكوَّن الحمض النووي للميتوكوندريا من نحو ١٦٥٠٠ زوج قاعدي، وهو مسئول عن تشفير ٣٧ جينًا تدخل نواتجها البروتينية في إنتاج الطاقة. يُستخدَم الحمض النووي للميتوكوندريا في تتبُّع النَّسَب؛ نظرًا لأنه ينتقل من الأم إلى الأبناء؛ إذ يتشارك الأقارب من نفس سلالة الأم الحمض النووي للميتوكوندريا نفسه. كذلك يُستخدَم الحمض النووي للميتوكوندريا كأداةٍ لتحديد البصمة الوراثية في علم الطب الشرعي.

تناسُخ الحمض النووي

من أهم خواص الحمض النووي قُدرته على صنع نسخةٍ دقيقة من نفسه. وهذا أمر ضروري؛ لأن الخلايا تموت أثناء عملية التآكُل الطبيعي للأنسجة من كثرة الاستخدام؛ ومن ثم تحتاج إلى تجديد. تتجدَّد الخلايا من خلال دورة الانقسام الخلوي، التي تقوم خلالها الخلية بنسخ حمضها النووي لتُنتج نسختَين متطابقتَين تنفصلان بعد ذلك إلى خليتَين بنويَّتَين.

أثناء عملية التناسُخ أو التضاعف، يتحلَّل أولًا اللولب المزدوج للحمض النووي من النيوكليوسومات، وينفصل الشريطان فتنكشِف القواعد غير المتزاوجة. تجري عملية الحل هذه بواسطة بروتين يُسمَّى الهيليكاز وتحدُث في مواقع تُسمَّى منشأ التناسُخ. بعد ذلك، يعمل كل شريطٍ مكشوف كقالبٍ لتخليق الحمض النووي الجديد. يُنفَّذ هذا التفاعُل بواسطة مجموعةٍ من الإنزيمات تُسمَّى بإنزيمات بلمرة الحمض النووي (البوليمراز). لبدء عملية التخليق، يتطلَّب بوليمراز الحمض النووي بادئة قصيرة من الحمض النووي الريبي تتكوَّن من نحو عشرة نوكليوتيدات. تُضاف النوكليوتيدات الحرة إلى نهاية هذه البادئة المناظِرة للشريط المكشوف، الذي يعمل كقالب، عن طريق التزاوُج القاعدي التكميلي. يمكن لبوليمراز الحمض النووي أن يمدَّ سلسلة النوكليوتيد في اتجاهٍ واحد فقط، من البادئة ٥ إلى ٣، وهكذا يُصنَّع شريطا الحمض النووي المُتضادَّا التوازي على نحوٍ مختلف قليلًا. يُخَلَّق الشريط الأول، وهو الشريط المتقدِّم، على هيئة قطعةٍ متصلة من الحمض النووي باستخدام بادئة واحدة من الحمض النووي الريبي. بينما يَستخدِم الشريط الثاني، وهو الشريط المتأخر، عدةَ بادئاتٍ من الحمض النووي الريبي ويُخَلَّق على هيئة قِطَع قصيرة تُسمَّى بقطع أوكازاكي نِسبةً إلى مُكتشِفها، العالم الياباني ريجي أوكازاكي (انظر شكل ٢-٢). بمجرد اكتمال التناسُخ، تُزال بادئات الحمض النووي الريبي، وتمتلئ الفجوات ببوليمراز الحمض النووي، وتلتحِم أي قطع صغيرة معًا بواسطة إنزيم ليجاز الحمض النووي (إنزيم ربط الحمض النووي). بعد ذلك، يُضْغَط الحمض النووي ويلتفُّ مرة أخرى مُشكِّلًا البنيةَ اللولبية المزدوجة للحمض النووي.

في نهاية عملية التناسُخ، يحتوي كل جزيءٍ من الحمض النووي على شريطٍ واحد من الحمض النووي يعمل كقالبٍ وآخر حديث التخليق. وتعرف هذه العملية بالتناسُخ شبه المحافظ؛ إذ يُحْفَظ نصف جزيء الحمض النووي الأصلي المزدوج الشريط في كل جزيءٍ من الجزيئين البنويين. وفي نهاية العملية عند انقسام الخلايا إلى خلِيَّتَين، تحصل كل خليةٍ جديدة على نسخةٍ طبق الأصل من الحمض النووي الموجود في الخلية الأصلية.

fig6
شكل ٢-٢: يُخَلَّق الحمض النووي بواسطة إنزيم البوليمراز، بحيث يكون الشريط الأول هو الشريط المتقدم (متصلًا)، والثاني هو المتأخِّر (غير متصل).

الطفرات وآليات التصحيح

يُعَدُّ تناسخ الحمض النووي عملية دقيقة للغاية بهامش خطأ يحدث كل ١٠ آلاف إلى مليون قاعدة في الحمض النووي البشري. ويرجع هذا الهامش المنخفض إلى قيام إنزيمات بلمرة الحمض النووي بوظيفة التصحيح. فإذا أدخل نوكليوتيد غير صحيح أثناء عملية تخليق الحمض النووي، يكتشف البوليمراز الخطأ ويزيل القاعدة غير الصحيحة. بعد الإزالة، يعيد البوليمراز إدخال القاعدة الصحيحة وتستمر عملية التناسُخ. ويتم إصلاح أي أخطاءٍ لم تُصحَّح أثناء عملية التصحيح بواسطة آلية بديلة تُصْلِح عدم التطابق.

في بعض الحالات، تفشل آليات التصحيح والإصلاح في تصحيح الأخطاء. فتُصبح هذه الطفرات دائمةً بعد دورة الانقسام الخلوي التالية؛ إذ لا تعود يُتعرَّف عليها على أنها أخطاء؛ ومن ثم تُنشَر في كل مرةٍ يُنْسَخ فيها الحمض النووي. للطفرات أنواع عديدة، منها الطفرات النقطية، والتي يُستبدَل فيها نوكليوتيد واحد بآخر، وطفرات الإدراج أو الحذف، وفيها يُضاف أو يحذف نوكليوتيد واحد أو أكثر. وفي بعض الأحيان، تكون الطفرات صامتة؛ حيث لا يحدُث تغيير في النمط الظاهري. غير أن الطفرات يمكن أن تكون مُسبِّبةً للمرض، إذا ما فَقَدَ البروتين وظيفته الطبيعية، أو اكتسب وظائف جديدةً ولكنها مُسببة للأمراض (أي وظائف ضارة). وفي كلتا الحالتَين، تتعطَّل العمليات الخلوية التي يقوم فيها البروتين بوظائفه.

ينجم مرض فَقْر الدم المِنجَلي عن طفرةٍ نقطيةٍ تحدث في التشفير الجيني لبروتين بيتا جلوبين المُكوِّن للهيموجلوبين، وهو الجزيء الحامل للأكسجين الموجود في خلايا الدم الحمراء. تؤدي الطفرة إلى استبدال حمض الفالين الأميني الكاره للماء، بحمض الجلوتاميك، وهو من الأحماض الأمينية المحبة للماء، في الموضع السادس من البيتا جلوبين. وينتُج عن ذلك بروتين ذو تركيب مُغاير يؤدي إلى تجمُّع الهيموجلوبين، مما يؤدي إلى تشويه خليةِ الدم الحمراء مُتَّخِذةً شكل مِنْجَل. لا تتدفَّق خلايا الدم الحمراء المِنْجَلية الشكل بسهولةٍ عبر مجرى الدم، ويمكن أن تسدَّ الأوعية الدموية، وهو ما يؤدي إلى تلَف الأنسجة أو الأعضاء.

يمكن أن تمنَح بعض الطفرات الكائنَ الحي ميزةً، كما لُوحِظ في مثال فقر الدم المِنجَلي. فالأفراد الذين لديهم أليل خلية مِنجلية مُتحولة واحدة بدلًا من أليلَين مُتحوِّرَين يكونون حامِلين للمرض دون أن تظهر عليهم أعراض المرض بالحدة نفسها. ويكون هؤلاء الأفراد الحاملون للمرض مُقاوِمين لتأثيرات الملاريا؛ ومن ثم فإن أليلات الخلايا المنجلية تكون أكثر شيوعًا لدى الأفراد الذين يعيشون في المناطق التي يرتفع فيها مُعدَّل الإصابة بالملاريا من العالم.

تعدُّد الأشكال

يتطابق تسلسُل الحمض النووي بين البشر بنسبة ٩٩٫٥ في المائة، أما النسبة المتبقية البالغة ٠٫٥ في المائة فهي التي تُوفر التنوُّع الذي نراه بين الأفراد. والطفرات هي إحدى الطرق التي ينشأ بها هذا التبايُن الجيني، مما يخلق أشكالًا بديلة من الحمض النووي تُسمى تعدُّد الأشكال. وأكثر أنواع هذا التعدُّد شيوعًا «تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة». في مثل هذه المواقع، تختلف جينومات الأفراد بنوكليوتيد واحد. ولكي يُصنَّف التبايُن على أنه تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة، لا بد أن يحدُث في أكثر من واحدٍ في المائة من السكَّان. وقد عُثِرَ على تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة لأول مرةٍ في عام ١٩٧٨ في مجموعة جينات البيتا جلوبين ومنذ ذلك الحين، تم تحديد ما يقرب من ١٠ ملايين أخرى. يمكن لأشكال النوكليوتيدات المفردة أن تنشأ في مناطق الحمض النووي المشفرة أو غير المشفرة، ومعظمها ليس له تأثير على الصحة أو النمو. غير أن تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة يمكن أن يرتبط باضطراباتٍ مُعينة، يمكن استخدامها كواسمات لتحديد مناطق الجينوم التي يُوجَد فيها الجين أو الجينات المسببة لمرضٍ ما. في دراسات الترابط على النطاق الجينومي، تُقَارَن التسلسلات الجينومية لمجموعة كبيرة من الأشخاص المصابين بمرضٍ ما مع مجموعة كبيرة ثانية غير مصابة بالمرض. إذا عُثِرَ على مجموعة بعينها من تعدد أشكال النوكليوتيدات المفردة تتكرَّر بوتيرةٍ أكبر لدى الأشخاص المصابين بالمرض، فيُقال إنها مُرتبطة بالمرض. ويمكن بعد ذلك إجراء المزيد من التحليل لتلك المنطقة بالذات لتحديد التغير الجيني المرتبط بظهور المرض بدقة. وقد نُشِرت إحدى النجاحات المبكرة لدراسات الترابط على النطاق الجينومي في عام ٢٠٠٥. حدَّد المؤلفون تَبايُنًا في جين عامل إتش المكمل، وهو ما يمثل عامل خطورة في الإصابة بمرض الضمور البُقَعي المرتبط بالتقدُّم في العمر، وهو مرض يؤدي إلى ضعف البصر والعمى لدى كبار السن. منذ ذلك الحين، استُخدِمَت دراسات الترابط على النطاق الجينومي لتحديد التبايُنات الجينية التي تُساهِم في العديد من الأمراض بما في ذلك السرطانات ومرض ألزهايمر والسُّكَّري وأمراض القلب. يحتفظ المعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري والمعهد الأوروبي للمعلوماتية الحيوية بقوائم بيانات دراسات الترابُط على النطاق الجينومي المنشورة والمتاحة مَجَّانًا والتي يمكن استخدامها للبحث عن تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة المرتبطة بالأمراض أو السِّمات الشائعة.

كيف ندرُس الحمض النووي؟

لم يكن التقدُّم في أبحاث الحمض النووي مُمكنًا إلا نتيجةً لتطور تقنيات الحمض النووي في الخمسين عامًا الماضية، بما في ذلك استنساخ الجينات، وتفاعُل البوليمراز المتسلسِل، وطُرُق التسلسُل.

استنساخ الجينات

يُشير استنساخ الجينات إلى مجموعةٍ من التقنيات تُمكِّننا من عمل نُسَخ متطابقة عديدة من مناطق من الحمض النووي. ولا ينبغي الخلط بين هذا وبين عملية استنساخ كائنٍ حيٍّ بالكامل، مثل استنساخ النعجة دوللي. ففي العملية الأخيرة، والمعروفة باسم الاستنساخ التناسُلي، تَنتُج نسخة طبق الأصل من كائنٍ حي كامل، له الحمض النووي نفسه الخاص بالحيوان الأصلي. أما في عملية استنساخ الجينات، فتُنْسَخ مناطق أصغر من الحمض النووي لتحليلها في المختبَر أو من أجل تطبيقاتٍ أخرى. تُتيح لنا هذه التقنيات عزل تسلسُلات الحمض النووي محل الاهتمام وإنتاجها بكمياتٍ كبيرة بحيث يمكن دراسة وظيفتها. كما أنها تُمكِّننا من معالجة التسلسُلات لإنتاج جزيئات ذات وظائف جديدة لاستخدامها في الطب والزراعة، وهو ما سنتناوله في الفصلَين السادس والتاسع.

الخطوة الأولى في تجارب استنساخ الجينات هي تخليق الحمض النووي المؤتلِف أو المُعاد التركيب. ويتضمَّن ذلك إدخال جزءٍ من الحمض النووي المعنِي في جزيءٍ ذاتي التناسُخ أو التضاعف يُسمَّى ناقلًا. ومن الجزيئات المستخدَمة على نطاقٍ واسع في هذا الإطار جزيء البلازميد البكتيري. هذا الجزيء عبارة عن جزيء حمضٍ نوويٍّ دائري مُزدوج الشريط، مُنفصِل ماديًّا عن الحمض النووي الصِّبغي. وهو قادرٌ على التكاثُر الذاتي لأنه يحمل منشأ تناسُخه.

لإدخال جزء الحمض النووي في الناقل، يُقْطَع كلاهما أولًا بواسطة إنزيماتٍ خاصة تُسمَّى إنزيمات القطع. تخلُق هذه الإنزيمات شقوقًا في تسلسلاتٍ بعينها في الحمض النووي بطريقةٍ تُمكِّن الجزيئات المقطوعة بالإنزيم نفسِه من الالتحام معًا باستخدام إنزيم ليجاز الحمض النووي (انظر شكل ٢-٣). لم يكن تكوين جزيئات الحمض النووي المُعاد التركيب مُتاحًا إلا بعد اكتشاف هذين الإنزيمين: ليجاز الحمض النووي، الذي اكتُشِف في عام ١٩٦٧؛ وإنزيمات القطع التي اكتُشِفت في عام ١٩٧٠. فقد تَمكَّن العلماء في تلك الفترة من قطع جزيئات الحمض النووي في مواضع مُحدَّدة وإعادة تجميع الأجزاء الناتجة في تركيباتٍ مختلفة. ولتسهيل تخليق الحمض النووي المعاد التركيب، تُصَمَّم النواقل بحيث تحمل موقع استنساخٍ مُتعدِّد. تحتوي هذه المنطقة على العديد من مواقع التعرُّف على إنزيمات القطع الموجودة على مقربةٍ شديدة بعضها من بعض. توفر مواقع الاستنساخ المتعدِّد المرونة في تجارب الاستنساخ من خلال توسيع نطاق اختيار إنزيمات القطع التي يمكن للباحثين استخدامها.
fig7
شكل ٢-٣: خطوات تجربة استنساخ الجينات. يرتبط الحمض النووي (الجزيء المُدخَل) بالناقل، ويتحوَّل إلى خليةٍ مضيفة ويُوضَع على مادة الأجار.

بمجرد تخليق الحمض النووي المعاد التركيب، يُنقَل إلى خليةٍ مضيفة حيث تتم عملية التناسُخ لصنع العديد من النُّسَخ المتطابقة أو المستنسَخات. وتُسمَّى الخلية التي تحمل الحمض النووي بالخلية المتحولة. يمكن أن تكون الخلايا المضيفة خلايا بكتيرية، أو خلايا خميرة، أو خلايا حيوانية أو نباتية. وبصورةٍ عامة، يُؤخَذ الحمض النووي المراد استنساخُه، والذي يُطلَق عليه الحمض النووي المستهدَف أو الحمض النووي المَصدَر، من نوعٍ مختلف عن نوع الكائن المضيف؛ ومن ثم يؤدي إدخال الحمض النووي المصدَر في الكائن المضيف إلى إنتاج كائنٍ حيٍّ مُعدَّلٍ وراثيًّا.

تُدخَل جزيئات الحمض النووي المعاد التركيب في الكائن المضيف عادةً عن طريق معالجة الخلايا بالمواد الكيميائية ثم تعريضها لصدمةٍ حراريةٍ قصيرةٍ أو تيارٍ كهربي. تجعل هذه العملية الخلايا مَساميةً وتُسهِّل امتصاص الحمض النووي المعاد التركيب. ولتحديد الخلايا التي تحوَّلت، لا بدَّ من وجود نظام انتقاء. ويتحقَّق ذلك من خلال تصميم نواقلَ لحمل الجينات الواسِمة، وعادةً ما يُوجَد جين مقاوم للمضادَّات الحيوية يكون الكائن المضيف حسَّاسًا تجاهه. عند وَضْع الخلايا على ألواح الأجار التي تحتوي على المضاد الحيوي، تنمو الخلايا التي امتصَّت الناقل، بينما تموت الخلايا التي لم تمتصَّه. ومع نمو الخلايا المتحوِّلة وانقسامها، تظهر مُستعمراتٌ من الخلايا المستنسَخة على هذه الألواح.

تتطلَّب تجارب الاستنساخ تخطيطًا دقيقًا كي تنجح. وأحد العوامل المهمَّة لتحقيق ذلك اختيار ناقلٍ مناسِب ثم مطابقته مع نظامٍ مُضيف كي يقوم بوظيفته فيه. يمكن شراء النواقِل تجاريًّا، ويتوفر عددٌ كبير منها مُشتَق من مصادر بكتيرية أو فيروسية أو من الخميرة. تُصمَّم جميع النواقل بحيث تحمل ثلاث سماتٍ أساسية: موقع استنساخ مُتعدِّد يمكن إدخال جزء الحمض النووي فيه؛ ومنشأ تناسُخٍ لإتمام عملية النسخ داخل الخلية المضيفة، وجينًا وَاسِمًا لاختيار مُستنسَخ من الحمض النووي المعاد التركيب. بالنسبة لتجارب تحديد تسلسُل الجينوم البشري بأكمله، تُستخدَم نواقل تُسمَّى «الكروموسومات الاصطناعية البكتيرية»؛ لأنها تسمح باستنساخ أجزاءٍ كبيرةٍ من الحمض النووي ويمكن نشرها في الخلايا البكتيرية المضيفة. وكثيرًا ما تُستخدَم النواقل الفيروسية إذا كانت الخلية المضيفة خليةً ثديية؛ إذ يمكن إدخالها بسهولةٍ أكبر في هذه الخلايا.

الفصل الكهربي

كثيرًا ما يَستلزِم الأمر في تجارب الحمض النووي تحديدَ أجزاءٍ مُعينةٍ من الحمض النووي من مزيجٍ من أجزاءٍ عديدة. على سبيل المثال، في العديد من تجارب الاستنساخ، عند قَطْع الحمض النووي باستخدام إنزيمات القطع، تنشأ سلسلةٌ من أجزاءٍ أصغر حجمًا. يمكن فصلُ هذه الأجزاء على أساس الحجم من خلال تقنية طُوِّرت في السبعينيات تُعرف باسم الفصل الكهربي للهلام. يُوضَع مزيج الحمض النووي على هلامٍ مصنوعٍ من الأجاروز أو البولي أكريلاميد. ونظرًا لأن المواد الهلامية تكون مَسامِية، فعند تعريضِها للتيار الكهربي، يتحرك الحمض النووي عبر الهلام، مع ملاحظة أن الجزيئات الأصغر تتحرك بسرعةٍ أكبر من الجزيئات الأكبر. بعد ذلك يُصبَغ الهلام بأصباغٍ خاصة لإظهار الحمض النووي. تظهر أجزاء الحمض النووي على هيئة حُزَم تكشف عن أماكن الأحجام المختلفة. في عام ١٩٧٥، أوضح إدوين ساذرن أنه من الممكن نَقْل، أو تلطيخ، أجزاء الحمض النووي من مادةٍ هلامية على غشاء. يمكن بعد ذلك تحديد مَوضع جزء مُعيَّن من الحمض النووي محل الدراسة عن طريق إضافة مِسبار إلى الغشاء. وهذه المسابير عبارة عن تسلسُلات قصيرة مُصمَّمة لتكون مكملةً لتسلسلات الحمض النووي قيد الدراسة، وعند وضعها على الغشاء، ترتبط بهدفها أو تُهَجِّنه. عندما يُرفَق وَسْم كيميائي أو مُشع أو فلوري بالمسبار، يُكتَشَف الهدف المهجن الذي يظهر على شكل حُزمةٍ حادةٍ عند تعرُّضه لظروفٍ معينة. أحدثت هذه التقنية التي أُطلِق عليها لطخة ساذرن، نسبةً إلى مخترعها إدوين ساذرن، ثورةً في كيفية دراسة الحمض النووي. فحتى ذلك الوقت، كان الحمض النووي الجينومي، الذي فكَّكَتْه إنزيمات القطع وفُصِل بواسطة الفصل الكهربي للهلام، يُنتِج لطخةً من الحُزَم. غالبًا ما كان يصعُب تمييز أجزاء مُعينة من هذه اللطخة. ولكن مع اكتشاف لطخة ساذرن، أصبح من الممكن تحديد جينٍ بعينِه داخل جينوم كامل، وهو ما سهَّل اكتشاف العيوب الجينية مثل مرض فقر الدم المِنجَلي. في الوقت الراهن، حلَّت تقنيات أكثر سرعةً وحساسية، مثل تفاعل البوليمراز المتسلسل وتحديد التسلسُل، محل تقنية لطخة ساذرن إلى حدٍّ كبير. غير أن تقنية الفصل الكهربي للهلام ما زالت تُستخدَم بانتظامٍ في مُختبَرَات علم الأحياء الجزيئي.

تفاعُل البوليمراز المتسلسل

تفاعل البوليمراز المتسلسل هو تقنية معملية قوية للغاية تَستخدِم العملية الطبيعية لتناسُخ الحمض النووي. تسمح هذه التقنية بتضخيم مناطق من الحمض النووي لإنتاج كمياتٍ كبيرة من كميات صغيرة فحسْب من الحمض النووي. طوَّر هذه الطريقة كاري موليس في ثمانينيات القرن العشرين، وحصل عنها على جائزة نوبل في عام ١٩٩٣. يُستخدَم تفاعل البوليمراز المتسلسل في العديد من مجالات العلوم، وفي تجارب استنساخ الحمض النووي، وإثبات الأبوَّة أو أي علاقات بيولوجية أخرى، وتشخيص الأمراض الوراثية والمُعدِية، وفي دراسات الطب الشرعي.

سَهُل الاستخدام الواسع لهذه التقنية من خلال اكتشاف إنزيم بوليمراز المستحرة المائية بوليمراز الثابت حراريًّا. عُزل بوليمراز الحمض النووي هذا في البداية من بكتيريا المستحرة المائية الموجودة في الينابيع الحرارية الأرضية الساخنة. فبإمكان هذه البكتيريا تحمُّل درجات الحرارة المرتفعة المطلوبة لفصل خيوط الحمض النووي في المختبر؛ ومن ثم استخدمها موليس في تفاعل البوليمراز المتسلسِل. وكان المُستخدَم قبل ذلك بوليمرازًا مُتغيرًا حراريًّا. ولكن نظرًا لأن تفاعل البوليمراز المتسلسل يتطلَّب دوراتٍ متكررة من التسخين والتبريد، تعطَّلَ نشاط هذا البوليمراز؛ ومن ثم صار لزامًا بعد كل خطوةِ تسخينٍ على حرارة مرتفعة، إيقافُ التفاعل لإضافة إنزيم جديد. أدى إدخال إنزيم بوليمراز المستحرة المائية إلى جعل عملية البوليمراز المتسلسِل عمليةً آلية تُستخدَم فيها آلات التدوير الحراري. يمكن في الوقت الحالي إتمام هذه العملية في غضون ساعاتٍ قليلةٍ مُقارنة بالتفاعُلات الشاقَّة والمتقطعة التي كانت تُجرى في الغلَّايات في البدايات.

لإجراء تفاعل البوليمراز المتسلسل، يُضاف الحمض النووي المراد تضخيمه (القالب) إلى أنبوب، بالإضافة إلى بوليمراز الحمض النووي، والنوكليوتيدات، والبادئات، والكواشف الكيميائية التي توفر الظروف المثلى لحدوث التفاعل. يمكن أن يكون القالب عبارةً عن حمضٍ نوويٍّ جينومي مُستخرَج من البشر أو الميكروبات أو النباتات. لتحديد المنطقة المراد تضخيمها، تُصمَّم البادئات بحيث تُطوِّق التسلسل المعنِي من كل الجوانب. تُنفَّذ عملية التضخيم من خلال جولاتٍ متتاليةٍ من التمسُّخ والالتحام والتمديد، علمًا بأن كل خطوةٍ تُنفَّذ عند درجة حرارةٍ مختلفةٍ (انظر شكل ٢-٤). أثناء التمسُّخ، ينفصل (ينحل) شريطا الحمض النووي المزدوجان عادةً عن طريق التسخين إلى درجة حرارة ٩٤ درجة مئوية. تُخفض درجة الحرارة بعد ذلك إلى حوالي ٥٥ درجة مئوية، وعندها تلتحم البادئات بمناطقها المكمِّلة على الشرائط المقابلة للحمض النووي الأحادي الشريط. في الخطوة الثالثة، ترفع درجة الحرارة عادة إلى ٧٢ درجة مئوية، وهو ما يُمكِّن بوليمراز الحمض النووي من تمديد أو إطالة البادئات عن طريق إضافة نوكليوتيدات مُكملة إلى القالب. في نهاية هذه الخطوات الثلاث، تُصْنَع نسخة طبق الأصل من الحمض النووي الأصلي. ثم تبدأ الدورة مرةً أخرى باستخدام كلٍّ من الحمض النووي الأصلي والحمض النووي المخلَّق حديثًا كقالب، وتتكرَّر هذه الدورة من ثلاثين إلى أربعين مرة. في نهاية كل دورة، يزداد عدد نُسَخ قالب الحمض النووي باطِّراد. فيُنتِج جزيء الحمض النووي نُسختَين، ثُم أربعًا، ثُم ثمانيًا، وهكذا بحيث تُصنَع مليارات النسخ من الحمض النووي الأصلي بعد ثلاثين أو أربعين دورة.
fig8
شكل ٢-٤: تفاعل البوليمراز المتسلسل. تتحقَّق عملية تضخيم التسلسُل المستهدَف من خلال دوراتٍ متتاليةٍ من التمسُّخ والالتحام والاستطالة.

طُوِّرَ في الوقت الراهن العديد من الأشكال المختلفة من تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسِل التقليدية. أحد هذه الأشكال تفاعل البوليمراز المتسلسل ذي النَّسْخ العكسي الذي يُستخدَم فيه الحمض النووي الريبي كمادةٍ بادئة. يُحَوَّل الحمض النووي الريبي أولًا إلى حمض نووي (سي دي إن إيه) باستخدام إنزيم يُسمى إنزيم النسخ العكسي. بعد ذلك، يُضخَّم جزيء الحمض النووي المكمل باستخدام دورات التمسخ والالتحام والتمديد، كما هو الحال في تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل التقليدية. يكون الحمض النووي المكمِّل مُطابقًا لتسلسل الحمض النووي الذي يصنع منه الحمض النووي الريبي، ولكنه لا يحتوي على إنترونات أو عناصر جينومية أخرى مثل مناطق المحفز. وكثيرًا ما يُستخدَم الحمض النووي المكمل في تجارب استنساخ الجينات التي تتطلَّب إنتاج البروتين في خليةٍ مُضيفة. ثمة شكل آخر وهو تفاعل البوليمراز المتسلسل الكمي اللحظي الذي يتمُّ فيه تضخيم الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي المستهدَف وقياس كميته في اللحظة نفسها. تُعتبَر هذه الطريقة مفيدةً على نحو خاص في الأبحاث، ولكنها تفيد أيضًا في تشخيص الأمراض الوراثية عن طريق تحديد تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة أو التغيُّرات الأخرى مثل التبايُنات في عدد نُسَخ الجينات.

تسلسل الحمض النووي

يُحدد تسلسُل الحمض النووي الترتيب الخطي الدقيق لقواعد النوكليوتيدات، الأدينين، والسيتوسين، والجوانين، والثايمين في جزءٍ من الحمض النووي. من الممكن تحديد تسلسل الجينات الفردية أو أجزاء من الجينوم أو الجينوم كاملًا. ويُعَد تحديد تسلسل المعلومات عنصرًا أساسيًّا في مساعدتنا على فَهْم بنية الجينوم الخاص بنا وكيفية عمله. وقد استُخدِم تسلسل الحمض النووي لوضع خرائط الجينوم لأشكال الحياة المختلفة، بما في ذلك البشر والحيوانات والميكروبات. ويمكن أن يُساعد أيضًا في تحديد الجينات المسئولة عن التسبُّب في أمراضٍ وراثية، مثل التليُّف الكيسي، وكذا الأمراض الأخرى التي يحدث فيها خللٌ وظيفيٌّ في الجينات مثل مرض السرطان والسُّكَّري. ومن خلال مقارنة جينومات الكائنات الحية المختلفة، يمكن أن يوفِّر التسلسُل أدلةً على الجينات المحفوظة بين الأنواع؛ ومن ثَم يُحتمَل أن تكون مهمةً وظيفيًّا. ويمكن أن يساعد أيضًا في فهرسة وتصنيف الأنواع المختلفة التي يمكن استخدامُها بعد ذلك، على سبيل المثال، لتحديد مُسبِّبات الأمراض أو تلوث الغذاء.

الطريقة الأولى المستخدَمة على نطاقٍ واسعٍ لتحديد تسلسُل الحمض النووي كانت طريقة «تسلسل سانجر» التي طوَّرها فريدريك سانجر في عام ١٩٧٧ وحصل عنها على جائزة نوبل في عام ١٩٨٠. في هذه الطريقة يُنسَخ الحمض النووي المراد تحديد تسلسله على نحوٍ متكرر بواسطة بوليمراز الحمض النووي عن طريق إدخال نوكليوتيدات مكملة في الشريط المنسوخ. غير أن النوكليوتيدات المضافة تُعدَّل كيميائيًّا بحيث تتوقف تفاعلات النَّسخ عند دمج النوكليوتيد المعدَّل في السلسلة المتنامِية. يحتوي هذا النوكليوتيد على واسِمةٍ فلورية مُلحَقة به؛ ولذا تُنتج العملية مجموعةً من القطع تختلف في الحجم بواسطة نوكليوتيد واحدٍ ينتهي بِواسِمةٍ فلورية. تُفصَل هذه القطع حسب الحجم عن طريق الفصل الكهربي ويُقرأ التسلسل عن طريق تحديد آخِر نوكليوتيد فلوري باستخدام آلةٍ للتسلسُل الآلي. ومن هذه العملية يمكن إعادة تخليق تسلسُل الحمض النووي الأصلي (انظر شكل ٢-٥).
fig9
شكل ٢-٥: طريقة تسلسل سانجر. تفصل القِطَع أثناء العملية حسب الحجم ويُقرأ التسلسل عن طريق تحديد آخر نوكليوتيد فلوري.

على الرغم من أن طريقة تسلسل سانجر ما زالت مُستخدَمة، فإن التقنيات الحديثة التي تتطور بوتيرةٍ مُذهلة تحل محلها الآن على نحوٍ متزايد. ويُشار إلى هذه التقنيات مُجتمعةً باسم نُظُم تسلسُل الجيل التالي أو نُظُم التسلسُل العالي الإنتاجية، كونها تسمح بتسلسُل الحمض النووي بسرعةٍ أكبر وتكلفةٍ أقل. فقد استغرق مشروع الجينوم البشري، الذي استخدم طريقة تسلسل سانجر، عشرَ سنوات في عملية تحديد التسلسُل وتكلَّفَ ثلاثة مليارات دولار أمريكي. أما الآن وباستخدام التسلسل العالي الإنتاجية، فيمكن إتمام عملية تحديد تسلسُل الجينوم البشري بأكمله في غضون أيامٍ قليلة بتكلفة ثلاثة آلاف دولار أمريكي. وهذه التكاليف مُستمرة في الانخفاض، مما يجعل عملية تسلسل الجينوم الكامل أكثر عمليةً وقابليةً للتنفيذ.

أُنشئ تسلسل الجينوم البشري الذي نُشر في عام ٢٠٠٣ من الحمض النووي المجمَّع من عددٍ من المتبرعين لصُنع «مرجع» أو جينوم مركب. غير أن جينوم كل فرد يُعتبر فريدًا من نوعه؛ ولذلك أُطْلِقَ «مشروع الجينوم البشري الشخصي» في الولايات المتحدة الأمريكية في عام ٢٠٠٥، بهدف تحديد تسلسل جينومات مائة ألف متطوع في جميع أنحاء العالم وتحليلها. وبعد فترة وجيزة، تبِعته مشروعات مُماثِلة في كندا وكوريا، وفي المملكة المتحدة في عام ٢٠١٣. وقد خضع عدد من المشاهير لعملية تحديد التسلسل الجينومي، من بينهم جيمس واطسون وستيف جوبز، المؤسِّس المشارك لشركة «أبل». كان كل المطلوب من المتطوِّعين هو عينة بيولوجية يمكن منها استخلاص الحمض النووي وتحديد تسلسُله. ونظرًا لأن الهدف من مشروع الجينوم البشري الشخصي هو مساعدة العلماء على معرفة المزيد عن كيفية تفاعل الجينات مع البيئة على النحو الذي يؤدي إلى الإصابة بالأمراض، وكذلك جمع تفاصيل حول النمط الظاهري للفرد وصحته ونمط حياته. يمكن استخدام علم الجينوم البشري الشخصي لتحديد المتغيرات الجينية التي قد تزيد من خطر إصابة الفرد بأمراضٍ مُعينة. وقد يسمح هذا للأطباء بالتدخُّل سواء بالأدوية أو بالإجراءات التي تحدُّ من مخاطر الإصابة أو بتحفيز الأفراد على إجراء تغييرات في نمَط حياتهم. كانت عائلة هيدلي من أوائل المرضى الذين خضعوا للتشخيص عبر مشروع الجينوم البشري الشخصي في المملكة المتحدة في عام ٢٠١٥. كان السيد هيدلي، البالِغ من العمر ٥٧ عامًا، له تاريخ عائلي طويل مع مرض ارتفاع ضغط الدم الذي يؤدي إلى الفشل الكلوي. وقد تُوفي شقيقه ووالده وعمُّه بسبب الفشَل الكلوي، كما ظهر على ابنته البالِغة من العمر ٣٤ عامًا علامات مُبكرة للفشل الكلوي. وكشف تسلسل الجينوم أن مرض الكُلى النادر هذا ناجم عن مُتغير جيني بعينِه يحمله كلٌّ من الأب والابنة، ولكن لا تحمله الحفيدة. ويعمل الأطباء الآن على علاج أفراد الأُسرة المصابين بالعقاقير المتاحة للسيطرة على المرض.

على الرغم من أن علم الجينوم البشري الشخصي يَعِدُ بتحسين صحة ورفاهية الأفراد، فهو يواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك عملية تخزين وتفسير الكميات الهائلة من البيانات التي تُنشأ. ولما كان أحد أهداف مشروع الجينوم البشري الشخصي هو إتاحة الوصول إلى بيانات التسلسل بشكل مفتوح من خلال قواعد البيانات، فهذا أيضًا يُثير مشكلات تتعلق بالخصوصية وكيفية استخدام الآخرين لهذه المعلومات.

المعلوماتية الحيوية

بالتوازي مع ذلك تطوَّرت أنظمة حاسوبية لتخزين وتحليل الكميات الهائلة من البيانات. وأصبح هذا الفرع من علم الأحياء، المعروف باسم المعلوماتية الحيوية، مجالَ بحثٍ تعاونيًّا مُهمًّا للغاية لاختصاصيِّي علم الأحياء الجزيئي يعتمد على خبرة علماء الكمبيوتر والرياضيات والإحصائيين. وتُودَع تسلسلات الحمض النووي باستمرار في قواعد بيانات متاحة مجانًا للجمهور. وأشهر قواعد بيانات تسلسل الحمض النووي هي «جينبانك» بالمركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، وقاعدة بيانات تسلسل النوكليوتيدات الخاصَّة بمُختبَر علم الأحياء الجزيئي الأوروبي، التي يتولَّى المعهد الأوروبي للمعلوماتية الحيوية صيانتها والحفاظ عليها. كان توفير بيانات التسلسل مجانًا هو أحد أهداف مشروع الجينوم البشري، واستمر منذ ذلك الحين في تسهيل البحوث من خلال مشاركة المعلومات. تُوجَد أيضًا قواعد بيانات بيولوجية أخرى تخزن فيها تسلسلات البروتين والبيانات المستقاة من الدراسات التي تتضمَّن الحمض النووي الريبي. من خلال اختيار برنامج كمبيوتر مناسِب، يُمكِّن العلماء من استخدام البيانات للبحث عن الجينات، وتحديد وظيفتها، واستخدام نماذج ثلاثية الأبعاد لبنية البروتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤