الفصل الثامن

الطب الشرعي وعلم الأحياء الجزيئي

يتمثل التحدي الأساسي لعلم الأحياء الجزيئي في استخدام نتائج الأبحاث لتلبية متطلبات المجتمع الحديث. وللواسمات الجزيئية تأثير كبير، سواء على القاضي أو على المستشارين أو حتى على من في قاعة المحكمة. يلعب تحديد البصمة الوراثية دورًا في المساعدة على حل الجرائم، وفي حالات الإخفاق في تطبيق العدالة. وعلى الرغم من أن ٩٩٫٥ في المائة من تسلسل الحمض النووي البشري ثابت لدى جميع البشر، فهناك مناطق صغيرة من التبايُن خاصة بكل فرد وتمنح كل شخص بصمة وراثية فريدة. وتتزايد التطبيقات الخاصة بتحديد البصمة الوراثية وتُستخدَم الآن لتحديد الأغذية المغشوشة والملوثة.

تحديد البصمة الوراثية باستخدام التسلسُل الفريد الموجود في جينوماتنا

في عام ١٩٧٧، طبق أليك جيفريز — الذي يحمل الآن لقب السير أليك جيفريز الحاصل على زمالة الجمعية الملكية — تقنيات علم الأحياء الجزيئي لتحليل التبايُن الوراثي في الجينات البشرية. كانت طريقة الاختيار في ذلك الوقت هي تعدُّد أشكال طول جزء الحصر (RFLP). وتضمن ذلك استخدام إنزيمات القطع ذات التسلسُل الخاص لقطع الحمض النووي إلى أجزاء أقصر. بعد ذلك تُفصل قِطَع الحمض النووي حسب الحجم على مادة هلامية قبل نقلها إلى غشاء. بمجرد إرفاقها بالغشاء، أو بلطخة ساذرن، يُفحَص الحمض النووي بواسطة تسلسُلٍ موسومٍ من الجين المعني. تؤدي طفرة فردية أو اختلاف واحد في قاعدة الجين إما إلى خلق موقع قطع على الحمض النووي أو تدميره، مما ينتج عنه جزء ذو طول أقصر أو أطول على التوالي. تهاجر القطع على الهلام بسرعات مختلفة؛ ومن ثم تظهر على شكل حُزَم ذات أحجام مختلفة على لطخة ساذرن. غير أن جيفريز وجد أن الحمض النووي البشري داخل الجينات لم يظهر الكثير من التبايُن؛ لذا اتجه لاستخدام الحمض النووي من الجينات البينية. وقد أدى هذا العمل إلى تطوير تقنية البصمة الوراثية. في صباح أحد الأيام من عام ١٩٨٤، طور جيفريز لطخةً في غرفة مُظلمة في جامعة ليستر. كانت لطخة حمض نووي من مساعد أبحاثه وأفراد أسرته، وما رآه في كل عينةٍ من عينات الحمض النووي كان عبارة عن مصفوفة من الحزَم تُشبه إلى حدٍّ ما رمزًا شريطيًّا. اكتشف جيفريز أول مثال على «تابع صغير» بشري وأدرك على الفور أهمية اكتشافه. والتوابع الصغيرة هي تسلسُلات من الحمض النووي تتكوَّن من نحو ثلاثين زوجًا قاعديًّا تتكرر من عشرات إلى مئات المرات. وعدد هذه التكرارات المترادفة المتغيرة قابل للتوريث ومُتباين إلى حدٍّ استثنائي بين الأفراد. وهكذا توافر لدى جيفريز وفريقه في ذلك الوقت آلية لعرض أعدادٍ كبيرة من التوابع الصغيرة التي من شأنها أن توفر نمطًا فرديًّا للغاية أو بصمةً وراثية من الحمض النووي البشري. على سبيل المثال، تسمح بصمة الحمض النووي بإجراء مقارناتٍ سهلة بين الحمض النووي الموجود في مسرح الجريمة، والحمض النووي الخاص بالعديد من المشتبه بهم المحتمَلِين (انظر شكل ٨-١). ويمكن استخدام هذه البصمات الوراثية ليس فقط في الطب الشرعي، ولكن أيضًا في نزاعات الأبوة والهجرة، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

لفتت إمكانات هذه التكنولوجيا انتباه محامٍ كان يدافع عن صبيٍّ صغير في عام ١٩٨٥ معرض لخطر الترحيل؛ ومن ثم الانفصال عن عائلته المزعومة في بريطانيا. وكانت هذه فرصة لاستخدام تقنية البصمات الجزيئية بشكلٍ عملي. فقد أُخِذَت عينات من الحمض النووي من الصبي ووالدَيه وأفراد الأسرة الآخرين وحُلِّلَت. وأظهر نمط الحزم على الهلام أن الصبي هو الابن الحقيقي للوالدَين البريطانِيَّين؛ ومن ثم لم يتم ترحيله إلى أفريقيا. وبعد تلك الواقعة، أدَّت تقنية تحديد البصمة الوراثية إلى تغييرٍ في قوانين الهجرة.

fig23
شكل ٨-١: تستخدم تقنية فحص البصمات الوراثية في علم الطب الشرعي لتحديد التطابقات بين الحمض النووي المأخوذ من مسرح الجريمة مع ذلك الخاص بالمشتبه به.

يُوجَد نحو ١٠ ملايين موقع مختلف يمكن للناس أن يتباينوا فيه في تسلسل الحمض النووي الخاص بهم داخل القواعد الموجودة في حمضنا النووي المقدَّرة بثلاثة مليارات قاعدة. وقد عمل البروفيسور جيفريز وفريقه على تحسين تقنيتهم للاستفادة من عددٍ أكبر من هذه التباينات، مما يجعلها مناسبةً لقواعد البيانات. كان هذا يُطلَق عليه آنذاك «تقنية تحديد البصمة الوراثية» وكانت على وشك تغيير وجه علم الإجرام إلى الأبد. يُخْتار عدد قليل ولكن شديد التبايُن من التسلسلات أو التوابع الصغيرة لتحديد البصمة الوراثية. وينتج عن هذه التسلسلات إجراءٌ شديد الحساسية مناسِب للاستخدام مع كمياتٍ صغيرةٍ من سوائل الجسم، واختبر جيفريز ذلك في المختبر عن طريق وضع بُقَع من الدم على عدة أسطح، ثم استعادتها وتحليلها. كانت تقنية تحديد البصمة الوراثية على وشك أن تختبر في المحكمة. فقد تعرضت فتاتان للاغتصاب والقتل، واحدة في عام ١٩٨٣ والأخرى في عام ١٩٨٦. فهل كان هذا من فعل قاتل مُتسلسل، أم كانت الجريمتان غير مرتبطتَين؟ ألقت الشرطة القبض على رجلٍ وحصلت منه على اعتراف بارتكاب جريمة القتل الثانية. بدت القضيتان متشابهتَين لدرجة أن الشرطة اعتقدت أن المشتبه به ارتكب كلتا الجريمتَين حتمًا. قام جيفريز بتحليل عينات الطب الشرعي لتحديد البصمة الوراثية وأثبت أن نفس الرجل قد اغتصب الفتاتين. غير أن المشتبه به، الذي من الواضح أنه أدلى باعترافٍ كاذب، لم يكن هو القاتل. كان على الشرطة الآن العثور على رجلهم المنشود، وبعدما حصلوا على نتيجة فحص البصمة الوراثية للمجرِم، شرعوا في اختبار عينات دم أخذت من خمسة آلاف رجل في المنطقة. وبعدما عثروا على من طابقها، حكم على المشتبَه به بالسجن مدى الحياة.

من التوابع الصغيرة إلى قواعد بيانات التكرارات المترادفة القصيرة

أراد علماء الطب الشرعي في جميع أنحاء العالم إنشاء قواعد بياناتٍ للبصمات الوراثية للمساعَدة في التحقيقات. وكان هناك طلب على استخدام تقنية مبسطة وأكثر حساسية. وكان الجواب هو تضخيم المناطق المتغيرة باستخدام تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل. غير أن مسابير التوابع الصغيرة التي كانت مُستخدَمة حتى ذلك الوقت كانت طويلةً جدًّا بالنسبة إلى تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل؛ لذا استُخدِمت تسلسلات أقصر تعرف باسم التكرارات المترادفة القصيرة. كل وسم أو تابع صغير هو عبارة عن تكرار ترادُفي قصير (STR) يتكوَّن من زوجَين إلى خمسة أزواج قاعدية من تسلسل الحمض النووي. يمكن أن يشترك ما يصل إلى ٢٠ في المائة من السكان في تكرار ترادُفي قصير واحد، ولكن باستخدام دزينة أو نحو ذلك من الواسمات التعريفية في تحديد بصمةٍ وراثية، يكون هامش الخطأ ضئيلًا. تسجل البصمة الوراثية كأليلٍ واحد أو اثنين أو كاختلافات في كل خمسة عشر تكرارًا ترادُفيًّا قصيرًا على الأقل. ويُطلَق على قاعدة بيانات الحمض النووي في الولايات المتحدة اسم «كوديس» (CODIS/نظام فهرس الحمض النووي المدمج)، وتحتوي على أكثر من عشرة ملايين ونصف مليون عينة من البصمات الوراثية الجينومية لمجرمين معروفين مُدانين، ولأحماض نووية غير معروفة كانت موجودة في مسارح الجرائم المختلفة. يُبْحَث في قاعدة البيانات عن تطابق تامٍّ مع بصمة وراثية تُرِكت في مسرح إحدى الجرائم. وتشترط الولايات المتحدة ما لا يقل عن ثلاثة عشر تكرارًا ترادفيًّا قصيرًا مُتطابقة لتحديد هوية الجاني؛ لذا يُحلَّل ما لا يقل عن خمسة عشر تكرارًا ترادفيًّا قصيرًا للتأكد من أن ثلاثة عشر منها على الأقل ذات نفع. إذا اختلفت المادة الموجودة في مسرح الجريمة في أيٍّ من تلك الأماكن الثلاثة عشر، فلا يُعتبر التطابق كاملًا؛ ومن ثم لا يكون لدى الشرطة مُشتبه به. غير أن التطابقات شبه الوثيقة يمكن أن تُشير إلى الأقارب المقربين.

في منتصف الثمانينيات، اغتال قاتل متسلسل اسمه المستعار «جريم سليبر» (النائم القاتم) عشر نساء على الأقل في منطقة لوس أنجلوس. ونجح هذا القاتل في تفادي الاعتقال لما يقرُب من خمسة وعشرين عامًا، ولكنه قُبِضَ عليه أخيرًا نتيجة لوجود قاعدة بيانات للبصمات الوراثية. في البداية، لم يُعثَر على أي تطابُق في قاعدة بيانات كاليفورنيا، ولكن بعد ذلك بعامَين، جاءت عينة حمض نووي من السلاح الناري لأحد المجرمين مُتشابه تشابهًا ملحوظًا مع الحمض النووي الخاص بالنائم القاتم. كان التفسير الأرجح هو أنه يعود لأحد أفراد عائلة النائم القاتم. كان مُستخدم السلاح الناري أصغر من أن يكون قد ارتكب جريمة قتلٍ في الثمانينيات؛ لذا تركَّزت الشكوك على قريبٍ يكبره، ربما والده. أُخِذت عينة من الحمض النووي الخاص بالأب تطابقت مع الحمض النووي المأخوذ من أدلة مسرح الجريمة التي جُمِعَت منذ فترةٍ طويلة. وأخيرًا، تم القبض على النائم القاتم.

تُستخدَم بيانات البصمات الوراثية من أجل فوائد قانونية وطبية لا حصر لها. فهي تُستخدَم لمجابهة مجال الاتِّجار بالبشر الموجود على مستوًى دولي ضخم. يمكن اختبار البصمة الوراثية للأطفال المشتبه في تعرضهم للاتِّجار ولمِّ شملهم مع والديهم. على سبيل المثال، استخدمت منظمة تعرف باسم «دي إن إيه-بروكيدز» (DNA-PROKIDS) ومقرها في إسبانيا، تقنية تحديد البصمات الوراثية لتحديد أكثر من سبعمائة ضحية تعرضت للاتِّجار، مما منع المزيد من ممارسات العبودية والتبنِّي غير القانوني.

الحمض النووي القديم والتحليل الميتوكوندري

تُعَد التكرارات المترادفة القصيرة مفيدة للغاية في تحليل الحمض النووي الرديء الجودة أو المتدهور الموجود في مسرح أي جريمة؛ إذ عادة ما تكون تسلسلاته القصيرة محفوظة. غير أن الحمض النووي في العينات التي لم تُحفظ على النحو الأمثل لا يبقى منه سوى كمياتٍ صغيرة جدًّا ويكون مُفككًا للغاية. ومن المحتمَل أيضًا أن يكون مليئًا بالتلوُّث والتلَف الكيميائي. وهذه المصادر للحمض النووي تكون مُتدنية للغاية بحيث لا يمكن الحصول منها على سجل بصمةٍ وراثية باستخدام التكرارات الترادُفية الجينومية القصيرة، وفي هذه الحالات يكون الحمض النووي للميتوكوندريا، كونه أكثر وفرة، أفيدَ من الحمض النووي في تحديد البصمة الوراثية. يُعتقَد أن الميتوكوندريا، وهي مراكز توليد الطاقة في الخلية الفقارية، تنحدِر من بكتيريا انتقلت إلى الخلايا منذ ملياري سنة. يشفِّر الجينوم المتواضع المتبقي للميتوكوندريا سبعة وثلاثين جينًا، ولكن يُوجَد العديد من النُّسَخ لكل خليةٍ مقارنة بالحمض النووي. وبناءً عليه تُوجَد المئات من جينومات الميتوكوندريا مقابل جينوم نووي واحد. يُورَث الحمض النووي للميتوكوندريا من خلال النسل الأنثوي فقط، وقد أُرْجِع الحمض النووي للميتوكوندريا الموجود في البشرية جمعاء إلى سلَف أنثوي مُشترَك، يُطلَق عليها اسم «حواء الميتوكوندريا»، التي عاشت (من بين نساء أخريات) في أفريقيا منذ حوالي ١٧٠ ألف سنة. ويعتبر تحديد البصمة الوراثية الخاص بالحمض النووي للميتوكوندريا هو الطريقة المُثلى لتحديد هويات الأشخاص المفقودين أو مجهولي الهوية إذا كان العثور على قريبٍ من ناحية الأم ممكنًا.

يمكن لاختصاصيِّي علم الأحياء الجزيئي تضخيم المناطق الشديدة التغير من الحمض النووي للميتوكوندريا من خلال تفاعُل البوليمراز المتسلسل للحصول على مادة كافية للتحليل. تُحدَّد تسلسلات نواتج الحمض النووي ويُبْحَث عن اختلافات النوكليوتيدات المفردة عن طريق مقارنتها بالحمض النووي المرجعي لأحد أقرباء الأم. ويُعَد وجود تناقُض بين اثنين أو أكثر من النوكليوتيدات سببًا كافيًا لاستبعاد التطابق. وقد استُخْدِم اختبار الحمض النووي للميتوكوندريا لاستبعاد احتمالية أن تكون المحتالة آنا أندرسون هي الأميرة أناستازيا أميرة عائلة رومانوف.

فتحت قوة الجمع بين تضخيم تفاعل البوليمراز المتسلسل مع تحديد البصمة الوراثية إمكانية استخدام الحمض النووي من بقايا الهياكل العظمية، وفي عام ١٩٨٩ استُخدِمَت تقنية التكرارات المترادِفة القصيرة هذه للعثور على مكان الطبيب السيئ السُّمعة جوزيف مينجيل. لطالما تمَّ البحث عن طبيب معسكر الأوشفيتز النازي لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها. كانت هناك مشاهدات عديدة مزعومة له، ولكن أفادت تقارير أُخرى إلى أنه تُوفي في البرازيل. قورنت البصمات الوراثية من رفات مينجيل المزعومة في مقبرةٍ برازيلية، مع تلك الخاصة بأقاربه الذين على قيد الحياة، وتأكَّدت هوية الجثة بأنها لطبيب الأوشفيتز السيئ السمعة.

تصدَّرت هذه التكنولوجيا عناوين الصحف عندما طُبِّقَت في حل قضية قتلٍ عمرها ثمانون عامًا، حيث عُثر على الضحية، التي لم يتسنَّ التعرُّف عليها في ذلك الوقت، في سيارة مُحترقة. قتل القاتل ألفريد روس الذي كان مصابًا بالذهان رجلًا مجهول الهوية ثم وضع الجثة في سيارة ثم أضرم فيها النار. أراد أقارب رجل اختفى في ذلك الوقت معرفة ما إذا كانت الضحية المجهولة هي سلَفهم. كانت كمية صغيرة من الأنسجة التي تعود إلى الضحية متاحةً لمقارنة الحمض النووي للميتوكوندريا مع الحمض النووي للعائلة لمعرفة ما إذا كان هناك تطابق. استبعدت النتائج الرجل المختفي، ولا تزال هوية ضحية جريمة السيارة المشتعلة دون حل.

تقنيات الجيل التالي من تحديد تسلسُلات الحمض النووي: عندما لا يكون تطابق الحمض النووي كافيًا

بغض النظر عن مدى قوة تقنية تحديد البصمة الوراثية، فهي لا يمكنها تزويدنا إلا بهويةٍ مطابقة. وسيكون من المفيد للغاية أن يكشف الحمض النووي المأخوذ من مسرح الجريمة أيضًا شيئًا عن المظهر الجسدي للشخص صاحب العينة.

أصبح من الممكن الآن للحمض النووي المأخوذ من مسرح الجريمة أو الحمض النووي القديم أن يكشف ما هو أكثر بكثيرٍ من تطابق النمط الجينومي. فقد أتاح تحليل النمط الجينومي المستنِد إلى تقنية تحليل المصفوفات وتكنولوجيا دراسة الترابط الجينومي تحديد الواسِمات الجينية للسمات المعقدة، بما في ذلك شكل الشخص. وأدت التطورات الجديدة في علم الأحياء الجزيئي، مثل تحليل الإثراء الجينومي باستخدام التقاط الهجين وتقنيات الجيل التالي من تحديد تسلسُلات الحمض النووي، إلى تحسينٍ جذري في قُدرتنا على تحليل الحمض النووي القديم. يمكن الآن تحديد خصائص التصبُّغ من الحمض النووي القديم؛ إذ إن الجلد والشعر ولون العين من أسهل الخصائص التي يمكن التنبؤ بها. ويرجع هذا إلى العدد المحدود من الاختلافات الأساسية أو تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة المطلوبة لتفسير مُعظم التبايُن. حدد اختصاصيو علم الأحياء الجزيئي أيضًا الجينات والمسارات الجزيئية المرشَّحة التي تدعم هذه السمات. وقد تمَّ تحديد التسلسل الجيني الخاص بمستقبل الميلانوكورتين (MC1R) 1 ووُجِد أنه يحتوي على متغيرات نشاطٍ كاملة أو جزئية مرتبطة بالتصبُّغ الأغمق أو الأفتح لدى البشر على التوالي. ومن المثير للاهتمام أنه عُثِرَ على متغيرات MC1R كاملة وجزئية النشاط في الماموث البليستوسيني، وهو ما منحها لون شعر داكنًا وفاتحًا. وثبت أن بعض أفراد إنسان النياندرتال كان لديهم مُتغير غير نشِط إلى حدٍّ كبير من جين MC1R، وهو ما يؤدي إلى ظهور شعر أحمر وبشرة فاتحة كشكلٍ ممكن من أشكال التكيف مع الحياة في المناطق ذات الكثافات المنخفضة للأشعة فوق البنفسجية حيث تكون البشرة الفاتحة شرطًا ضروريًّا لتخليق فيتامين د. ولم يستنتج سوى القليل جدًّا، بخلاف التصبُّغ، عن مظهر شخصٍ ما من خلال تحديد تسلسُل جيناته.

الحمض النووي القديم والنياندرتال

اكتشفت بقايا إنسان النياندرتال في ألمانيا في القرن التاسع عشر، ولكنها كانت تُعتبر في ذلك الوقت ظاهرة تطورية غريبة لا علاقة لها بالإنسان العاقل (الهومو سابين). غير أن إنسان النياندرتال قد اختلط بالإنسان الحديث في أوروبا منذ ما يصل إلى ٣٠ ألف سنة، مما يجعل تزاوجهما احتمالًا مُثيرًا للاهتمام. جاءت المحاولات المبكرة لحل مسألة الحمض النووي لإنسان نياندرتال في الجينوم البشري بالسلب، ولكنها اقتصرت على استخدام الحمض النووي للميتوكوندريا بحجمه الجينومي المحدود. وكشف تسلسُل الحمض النووي الجينومي الحديث أن غير الأفارقة المعاصِرين ينحدِرون من أفرادٍ قدامى كانوا نتاجًا للتزاوج بين البشر وإنسان النياندرتال. تُظهِر مقارنة بين الحمض النووي الجينومي من مجموعات إنسان النياندرتال وأشباه البشر القُدامى (الهومينين) مع الإنسان الحديث غير الأفريقي أن ميراثنا الصغير من الحمض النووي الخاص بإنسان النياندرتال يرجع إلى التزاوُج المحدود و«الحديث» من منظورٍ جيولوجي. لذلك في أواخر عصر البليستوسين، يبدو أن مستوياتٍ منخفضةً من التزاوُج حدثت بالفعل بين إنسان النياندرتال ومجموعات أشباه البشر الأخرى، بمن في ذلك الإنسان العاقل. لقد ورث الإنسان الحديث بالذات المعلومات الوراثية لإنسان النياندرتال التي تؤثر على الكيراتين على وجه الخصوص، وهو البروتين البنيوي الليفي الموجود في الشعر والجلد الذي ربما ساعدَنا على التكيُّف مع المناخ غير الأفريقي. وتشير النتائج إلى أن جزءًا من السبب وراء وجود نسبة منخفضة للغاية (١٫٥ إلى ٢ في المائة فقط) من جينوم إنسان النياندرتال في الإنسان الحديث الآن هو أن أليلات النياندرتال، أو المتغيرات الجينية، تسببت في انخفاض الخصوبة عند الذكور عند انتقالها إلى السياق الوراثي البشري.

الحمض النووي للملك ريتشارد الثالث يُحدِّد رُفاته

في عام ٢٠١٢، عُثِرَ على بقايا هيكلٍ عظمي أسفل موقف للسيارات في ليسيسترشاير، بإنجلترا. ونتج عن تحليل الحمض النووي المقارن للميتوكوندريا المأخوذ من الهيكل العظمي والأقارب الأحياء للملك ريتشارد الثالث كما هو مُحدَّد في علم الأنساب تطابُقٌ تام. بالنسبة إلى الحمض النووي القديم المتدهور، قد يكون الحمض النووي للميتوكوندريا والجزء غير المعاد تركيبه من كروموسوم Y الغني بالتسلسلات المتكررة هما فقط المفيدَان. ونظرًا لأن هذه التسلسلات لا تخضع لإعادة التركيب، فهي تنتقِل بحذافيرها من الأب إلى الابن. بالنسبة إلى الهيكل العظمي الغامض، لم تتطابق تسلسلات الكروموسوم Y مع الأحفاد المعاصرين المفترَضين، مما يدل على وجود أبوَّةٍ زائفة حدثت في مكانٍ ما على طول النسل. غير أن الروابط الأمومية أكثر موثوقية لأسبابٍ واضحة، وفي هذا الصدد وُجِد تطابق جيد بين حفيدَين من أحفاد آن أوف يورك، أخت ريتشارد، والهيكل العظمي المجهول. بعد ذلك، كُتِبَ لون العين والشعر من الحمض النووي الجينومي لريتشارد باستخدام المسابير في فحص تعدُّد أشكال النوكليوتيدات المفردة ذات الصلة متبوعًا بفحص تفاعل البوليمراز المتسلسل المباشر وتحديد التسلسل للتحقُّق من صحة النتائج. وأظهر هذا الفحص أن ريتشارد كان على الأرجح أزرق العينَين وأشقر في صباه، على الرغم من أن لون شعره قد صار داكنًا على الأرجح ببلوغه سِن الرشد ليتطابق مع اللون الموجود في صورته المقوَّسة الشهيرة. تشكل هذه الأدلة الجينية، بالإضافة إلى السمات الجسدية للهيكل العظمي والتأريخ الكربوني، دليلًا دامغًا على أن الهيكل العظمي ١ الذي عُثِرَ عليه في موقف للسيارات فوق موقع مباني الرهبان الفرانسيسكان في ليستر يعود إلى ملك إنجلترا ريتشارد الثالث، آخر ملك من أسرة بلانتاجينت الملكية.

معالجة الأوبئة والجوائح

على مرِّ التاريخ، نزل بالعالم الذي نعرفه كوارث كالكوليرا وغيرها من الأمراض أو الأوبئة المتفشِّية. وتُساعدنا أدوات وتقنيات علم الأحياء الجزيئي الحديثة الآن في فَهْم كيفية تطوُّر مُسببات الأمراض، ومن أين تأتي الأوبئة، وإذا كان يمكن فعل أي شيءٍ لإيقافها. مع تطور الحشرات والكائنات المضيفة معًا، تظهر سلالات من مُسببات الأمراض تكون أكثر ملاءمة للمضيف ومن ثم تكون أقل فتكًا. ويكون لهذا عواقب بالنسبة إلى موجات تفشي الكوليرا.

تُنتَج الكوليرا عن عدة سلالاتٍ مختلفة من بكتيريا تُسمَّى ضمَّة الكوليرا (Vibrio cholera) ولا تزال تسبب ما يترواح بين ٥٨ ألفًا إلى ١٣٠ ألف حالة وفاة سنويًّا في جميع أنحاء العالم. أراد الدكتور هندريك بوينار، الذي يعمل في جامعة ماكماستر، دراسة تطوُّر سلالات الكوليرا. يقول هندريك: «أفضل طريقةٍ لفعل ذلك هو التركيز على الماضي وفك شفرة مُسببات المرض القديمة ومقارنتها بنظيراتها الحديثة لمعرفة كيف تغيَّرت بمرور الزمن.» في حوالي عام ١٨٥٠ في فيلادلفيا، تُوفي رجل بالكوليرا. لم يكن هذا مفاجئًا؛ لأن العالم في ذلك الوقت كان في براثن موجة التفشِّي الثاني والحاد لوباء الكوليرا، لكن ما كان غير عاديٍّ في ذلك الوقت هو أن قطعةً من أمعائه المصابة حُفِظَت في الكحول. وبعد مرور ١٦٥ عامًا، استُخلِص الحمض النووي من هذا النسيج القديم، ولكن لسوء الحظ كان الحمض النووي مُتحللًا بشدة، ويحتوي على قِطَع يبلغ متوسط طولها ٣٥ زوجًا قاعديًّا فقط. ولكن تم تحديد التسلسل الإجمالي للحمض النووي وأظهرت النتائج أن الحمض النووي لا يعود فقط إلى بكتيريا ضمَّة الكوليرا والتسلسلات الجينومية البشرية كما هو مُتوقَّع، بل يعود أيضًا لبعض أنسجة الأبقار من استخدامٍ سابق لوعاء التخليل.

يُلقي هذا الضوء على المشكلات التي تُواجه العمل على عينات الحمض النووي القديمة. باستخدام تحليل مصفوفات الحمض النووي الذي يحمل أليجنوكليوتيدات مُكملة لجينوم الكوليرا، وكذلك الحمض النووي للميتوكوندريا البشرية، تم بعد ذلك تنقية تسلسلات الحمض النووي لضمَّة الكوليرا وتحديدها وتجميع النتائج. قورنت هذه التسلسلات مع تلك الموجودة في جينومات الكوليرا المعروفة من موجتَي تَفَشٍّ حديثتَين وقعتا في أوائل ومنتصف القرن العشرين، والمعروفتَين باسم الجائحتين السادسة والسابعة على التوالي. كان الوباء الثاني الذي حدث في القرن التاسع عشر سببه سلالة الكوليرا الكلاسيكية التي نشرت الوباء في العالم حتى الجائحة السادسة (١٨٩٩-١٩٢٣). ولكن هذه الكوليرا الكلاسيكية اختفت الآن من الأرض، وحلَّت محلها سلالة كوليرا الطور في الوباء الأخير أو السابع. إذن فقد تسببت سلالة الكوليرا نفسها لأكثر من ١٥٠ عامًا في موجاتٍ مُتكررةٍ من العدوى، ولكن حلَّت محلها سلالةٌ أقل تدميرًا ولكنها لا تزال فتَّاكة.

أصبح علم الأحياء الجزيئي في الوقت الراهن في صميم مكافحة وباء حديث ولكنه وباء فيروسي هذه المرة، وهو مرض الإيبولا. اكْتُشِف فيروس الإيبولا في عام ١٩٧٦ وهو جزء من مجموعة حالات الحُمَّى النزفية الفيروسية. يتكوَّن جينوم الفيروس من شريطٍ واحدٍ من الحمض النووي الريبي طوله ١٩ كيلو قاعدة، وهو مُغطًّى بالبروتين والدهون التي تُشكِّل الفيريون أو الجسيم الفيروسي. أحد هذه البروتينات هو بوليمراز الحمض النووي الريبي المعتمِد على الحمض النووي الريبي الفيروسي والمطلوب لنسخ جيناته السبعة. تُعَد الخلايا البلعمية والوحيدات والخلايا التغصُّنية التي عادة ما تصدُّ أي دخيلٍ جديد في الجسم؛ هي نفسها المواقع المفضلة لتكاثر الفيروس. بعد ذلك تنقل هذه الخلايا المصابةُ الفيروسَ في جميع أنحاء الجسم. يُغير الفيروس جهاز المناعة عن طريق تحفيز التعبير عن الجزيئات الداعمة للالتهابات مثل الإنترفيرون والإنترلوكينات ذات التأثير الضار على المريض. تتسبَّب هذه البروتينات الصغيرة أو السيتوكينات في جَعْل الأوعية الدموية راشحةً وتحفز تخثر الدم. يستهلك هذا التخثر المنتشِر داخل الأوعية الدموية جميع عوامل التخثر في الجسم مما يؤدي إلى نزيفٍ داخلي وفشل الأعضاء الرئيسية والموت.

يُعتقَد بوجود مخزون للفيروس في القرود والخفافيش، مما يشكل خطرًا لحدوث مزيدٍ من موجات التفشِّي إما بسبب تناول الإنسان لها أو بسبب التلوُّث الناتج عن بُراز هذه الحيوانات فحسْب. ويُعَد الاكتشاف المبكر للحالات الجديدة أمرًا حيويًّا لمنع التطور السريع لمزيدٍ من الأوبئة مثل ذلك المتفشي في سيراليون. والاختبار التشخيصي الأساسي المعتمَد في الوقت الحاضر هو تفاعل البوليمراز المتسلسل للنسخ العكسي لجينوم الحمض النووي الريبي للفيروس، ولكن يتطلب هذا الفحص مستوًى عاليًا من احتياطات الأمن الحيوي التي عادة ما تكون متاحةً في المختبرات المتخصصة فقط. متاح أيضًا اختبار المقايسة الامتصاصية المناعية للإنزيم المرتبط أو الإلايزا (ELISA) — وهي طريقة اختبار تُستخدَم فيها الأجسام المضادة للكشف عن الغلاف البروتيني لفيروس الإيبولا — ولكن لن تكون نتيجة الاختبار إيجابيةً إلا إذا كان الحمل الفيروسي مُرتفعًا بما يكفي بحيث تظهر الأعراض على المريض.

رمز شريطي للأنواع

النوع هو مجموعة من الكائنات الحية قادرة على التزاوج وإنتاج ذُرية خصبة، ولكن في حالة عدم وجود تجربةٍ تكاثُرية، كيف يُمكِننا التأكد من تحديد النوع؟ توصل بول هيبرت، الذي يعمل في معهد التنوع البيولوجي في أونتاريو، إلى فكرة الترميز الشريطي (أو الباركود) للحمض النووي كوسيلةٍ للإجابة على هذا السؤال. يَستخدِم الترميز الشريطي للحمض النووي تسلسلًا للحمض النووي داخل منطقة جينٍ واحدة تُوجَد في مجموعة كبيرة من الكائنات الحية التي تُتيح المجال للتوحيد القياسي عبر الأنواع.

اكتشف اختصاصيُّو علم الأحياء الجزيئي أن جينوم الميتوكوندريا المكوَّن من ٣٧ جينًا يُوجَد فيه تسلسل ٦٤٨ نوكليوتيدًا وهو أداة قوية لتمييز الأنواع. يتبايَن هذا الرمز الشريطي للميتوكوندريا تبايُنًا محدودًا جدًّا داخل النوع الواحد ولكنه يتداخل قليلًا أو لا يتداخل على الإطلاق بين الأنواع. فهو لا يتباين في أكثر من موقعَين بين أي شخصَين من بني البشر، ولكنه ينطوي على تبايُن بيننا وبين الشمبانزي، أقرب أقربائنا، في ٦٠ موقعًا. يسمح لنا تسلسُل الرمز الشريطي بتحديد الأنواع غير المعروفة وتصنيف الأنواع الجديدة. على سبيل المثال، تمَّ الآن تحديد عشرة أنواع منفصلة من الفراش الأزرق من جنس إسترابتس؛ نظرًا لأن الرمز الشريطي يُتيح لنا التمييز بين الأنواع ذات الصلة الوثيقة. وقد أُنشِئت مكتبات يمكن استخدامها للمقارنة وإيجاد المراجع باستخدام قطعةٍ من الحمض النووي للميتوكوندريا من جين السيتوكروم أوكسيديز C. وقد اختِير هذا التسلسُل؛ لأنه يعمل بشكل أفضل من أي شيء آخر. فما سبب فاعليته؟ قد يرجع ذلك إلى أنه بعد انفصال نوعَين عن سلَفٍ مشترك، سرعان ما تتغير التسلسلات وتُصبح فريدةً من نوعها. وهذا أمر منطقي؛ لأن الحمض النووي للميتوكوندريا يتحوَّر أسرع بعشر إلى ثلاثين مرة من الحمض النووي، ولكنه لا يفسِّر حقًّا سبب اختلاف الرموز الشريطية للحمض النووي بصورةٍ ملحوظة داخل النوع الواحد. ثمة تفسير إضافي وهو أنه بدلًا من أن يكون تسلسل الميتوكوندريا غير فاعل، فقد يكون في الواقع مُحركًا قويًّا في عملية الانتواع (نشوء أنواع جديدة). فالميتوكوندريا هي مركز توليد الطاقة في الخلية، وتُطلِق الطاقة من خلال «حرق» الطعام من خلال التنفُّس. لا تُوجَد كل المعلومات الجينية اللازمة لتصنيع الميتوكوندريا داخل الحمض النووي للميتوكوندريا؛ إذ تُوجَد بعض الجينات أيضًا داخل الجينوم النووي. ويعد إنزيم السيتوكروم أوكسيديز C الذي يُشتقُّ منه «الرمز الشريطي» جزءًا مِن مركب يُحفِّز الخطوة الأخيرة في عملية تنفس الخلية. تقوم الجينات النووية بتشفير العديد من الوحدات الفرعية التي تُشكل هذا المركب الإنزيمي. لذلك لا بد أن يعمل الجينومان، جينوم الميتوكوندريا والجينوم النووي، في تناغُم كي تُمرِّر الوحدات الفرعية للسيتوكروم أوكسيديز الإلكترونات إلى الأكسجين من أجل إنجاح عملية التنفس. وعقوبة الفشل في ذلك هي الموت.

عندما تتغير الظروف البيئية ويتاح مصدر غذاء جديد، يجب أن تختار الكائنات الحية إنزيمات جديدة للاستفادة من هذا المصدر. تُولَد جينات الميتوكوندريا، عن طريق تحورها السريع، التباين اللازم لهذا الاختيار. ولكن لا بد من انتقاء التحورات في الجينوم النووي كي يظل متناغمًا وظيفيًّا مع الحمض النووي للميتوكوندريا، والكائنات الحية التي يمكنها ضمان عمل جينومات الميتوكوندريا والجينومات النووية معًا، هي فقط من يمكنها البقاء. تأتي جينات الميتوكوندريا من الأم فقط، ولكنها إذا لم تعمل في السياق النووي للنسل الجديد، فسيحدث انخفاض خطير في الكفاءة، يُشار إليه باسم الانهيار الهجيني. وهكذا فالتغييرات في جينوم الميتوكوندريا، للسماح باستخدام مصدر غذاء جديد لتوليد الطاقة على سبيل المثال، تتطلَّب انتقاء التغييرات المناسبة في الجينوم النووي للحفاظ على الأداء الوظيفي. عندما يتزاوج هذا الفرد المتكيِّف بعد ذلك مع فرد من المجموعة الأصلية، يمكن أن يؤدي اختلال التوازُن بين الجينومين إلى نسل غير قابل للاستمرار. ويُشير هذا الفشل في التزاوج بنجاح إلى أن الفردَين ينتمِيان إلى نوعَين منفصلَين. ومن ثم فقد ينجح الرمز الشريطي للحمض النووي في تتبُّع الأنواع؛ لأنه مُرتبط ارتباطًا وثيقًا بنشوئها من الأساس.

استخدام الحمض النووي للميتوكوندريا في الأمن الحيوي

يشمل الأمن الحيوي، من بين جوانب أخرى، حماية الحدود من غزو الآفات الضارة غير المرغوب فيها، وهو ما يتطلَّب تحديدًا دقيقًا وسريعًا للأنواع الغريبة والغامضة مورفولوجيًّا. ولهذا الأمر أهميةٌ خاصة في تحديد مراحل الحياة غير الناضجة للافقاريات التي يمكن أن يكون لها تأثيرات عميقة على النظم البيئية أو على اقتصاد بلد يعتمد بقوة على الزراعة. يمكن أن توفر الرموز الشريطية للحمض النووي أداة قيمة لتحديد الأنواع في سياق الأمن الحيوي. في عام ١٩٩٩، وصل وافد جديد مُدمِّر إلى نيوزيلندا، وهي عثات التفاح المطلية. وعلى الرغم من أنها تشكل مصدر إزعاج بسيطًا في موطنها الأصلي في أستراليا، فقد كان من المتوقَّع أن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجال زراعة الفاكهة في نيوزيلندا يصل إلى ٢٠٠ مليون دولار نيوزيلندي على مدار العشرين عامًا القادمة إذا لم يتم القضاء عليها. كان الترميز الشريطي للحمض النووي أداةً لا تُقدَّر بثمنٍ لتحديد الآفة وتَتبُّع مكانها أثناء تنفيذ برنامج إبادتها. كذلك تم التعرُّف على ذباب الفاكهة الذي تم اعتراضه على حدود نيوزيلندا باستخدام الترميز الشريطي للحمض النووي. اعتمدت الأساليب السابقة على الأنسجة الطازجة المناسبة للفحوصات المناعية أو القائمة على البروتين. وتتناسب الفحوصات القائمة على الحمض النووي، لا سيما عند الجمع بينه وبين تفاعُل البوليمراز المتسلسل لفحص الحساسية، أكثر مع قضايا الأمن الحيوي والسعي إلى الإبادة عند الضرورة.

كيف يُمكننا التعرُّف على الأطعمة المغشوشة؟

وصل عددٌ من الفضائح المتعلقة بغش الأنواع وبطاقات التسميات المضللة للمنتجات الغذائية إلى وسائل الإعلام. فقد أفادت دراسة أجرتها شركة «أوشيانا» في عام ٢٠١٢ بأن ثلث عينات المأكولات البحرية المأخوذة من ٦٧٣ موقعًا للبيع بالتجزئة عبر الولايات المتحدة الأمريكية كان من نوعٍ مختلف عن النوع المبيَّن للمستهلك. فبمجرد تقطيع السمكة يصعب تحديد نوعها. ومن ثم يمكن تمرير البدائل الرخيصة وبيعها باعتبارها من الأنواع الفاخرة أو الأنواع المهدَّدة بالانقراض بما يتجاوز الحصة المقررة. وسواء كانت بطاقات التسمية المضلِّلة مقصودة أو غير مقصودة، فقد تُشكل مخاطر صحية كبيرة على جمهور المستهلكين. في عام ٢٠٠٧، بِيعَ عدد من أسماك الينفوخيات السامَّة على أنها أسماك الراهب مما تسبَّب للمستهلكين في إعياءٍ شديد. كذلك سمكة الإسكولار، وهي سمكة زيتية، مُرِّرَت على أنها سمكة تونة بيضاء. وسمك الإسكولار ليس من أنواع التونة، ولكنه نوع من أسماك ثعبان الماكريل التي تحتوي على سُمٍّ طبيعي. يمكن أن يُعاني من يفرطون في تناول هذا النوع من الأسماك من مشاكل حادة في الجهاز الهضمي. في الآونة الأخيرة، فُرضت غرامة على شركة للمأكولات البحرية مقرُّها في فلوريدا لاتهامها باستيراد سمك السلمون المرقَّط التشيلي وبيعه ببطاقات مُضلِّلة على أنه سمك السلمون الأغلى ثمنًا. تم تحليل مُستخلَصات بروتين سابقة لتحديد أنواع المأكولات البحرية ولكن هذا لم يكن مُرضِيًا تمامًا. توفر الرموز الشريطية للحمض النووي الآن وسيلةً قوية للتحقيق في غش المأكولات البحرية. وتتضمن قاعدة بيانات الرمز الشريطي للحياة الكندية (BOLD) رموز حمض نووي شريطية لأكثر من ثمانية آلاف نوعٍ من الأسماك، ويمكن استخدامها لتحديد النوع بسرعة.

كذلك استُخدِم تحليل البصمة الوراثية للكشف عن وجود لحوم الخيل في منتجات لحوم البقر في الفضيحة التي بدأت في المملكة المتحدة وأيرلندا وتطوَّرَت حتى شملت عموم أوروبا. حدث ذلك عندما أجرت هيئة سلامة الأغذية في أيرلندا اختباراتٍ على المنتجات التي تحمل علامة «١٠٠٪ لحم بقري». فاكتشفوا وجود لحم الخيل في الهامبرجر الأرخص ثمنًا وفي بعض الوجبات الجاهزة المجمَّدة، بما في ذلك لازانيا اللحم البقري ومعكرونة البولونيز. واستُخدِمت طريقة فحص البصمة الوراثية المستندة إلى تفاعل البوليمراز المتسلسل للتمييز بين لحم الخيل ولحم البقر. وأدت النتائج إلى سحب الملايين من منتجات هامبرجر اللحم البقري والوجبات الجاهزة وعبوات اللحم المفروم من محلات السوبر ماركت والمطاعم. ومنذ ذلك الحين، يعمل تجار التجزئة بكدٍّ لاستعادة ثقة المستهلِكين بإعادة تقييم مصادرهم وزيادة اختبار المكوِّنات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤