الفصل التاسع

التحدِّيات المستقبلية

يوفِّر لنا التقدُّم في علم الأحياء الجزيئي فُرَصًا لمعالجة القضايا العالمية المزمِنة. وهناك مجالان من مجالات علم الأحياء الجزيئي سيكون لهما تأثير كبير على المجتمع في السنوات القادمة، وهما الأمراض غير المعدِية وعلم الأحياء التخليقي.

يُطبَّق «علم الأحياء الجزيئي» على بعضٍ من أخطر التحديات التي تُواجه صحتنا المستقبلية وطول عمرنا. تتمثل هذه التحديات في وباء السمنة، والطب الشخصي، وتأثير الأمراض الوراثية. يلعب كلٌّ من النظام الغذائي ونمط الحياة دورًا في ثُلثي الأمراض المرتبطة بالتقدُّم في العمر مثل مرض السكري والسرطان واضطرابات القلب والأوعية الدموية. تُشكل معدلات حالات المرض والعواقب الاقتصادية الخاصة بوباء السمنة مصدرَ قلقٍ كبيرًا لدى كبار السن من السكان، وفي الوقت الحالي تُمثل تكلفة علاج مرض السكري من النوع الثاني المرتبط بالسمنة أكثر من ١ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم. ومن الأمور ذات الصِّلة أيضًا تأخُّر الإنجاب وزيادة التلقيح الصناعي، ومرة أخرى، تأتي «البيولوجيا الجزيئية» في طليعة التقنيات الجديدة في هذا المجال. كما رأينا سابقًا، السرطان ليس مرضًا واحدًا ولكن له مئات الأشكال المختلفة؛ إذ يعتمد على الموقع والخلية الأصلية التي ينشأ فيها، ولكن الأهم من ذلك أنه يعتمد على طيف التعديلات الجينومية التي تُعزِّز تكوينه. كل هذه العوامل تؤثر على الاستجابة العلاجية. لذا أصبح واضحًا بشكلٍ مُتزايد أن معظم السرطانات ستتطلب تشخيصًا على مستوًى جزيئي حتى يمكن تقديم خدمات الطب الشخصي. يُشير الطب الشخصي إلى تصميم العلاج الذي يُناسِب المريض، بناءً على التركيب الجزيئي الخاص لمرضه. وقد أحدثَت التقنيات الجينومية والبروتينية ثورةً في فَهْمنا لعمليات المرض، والآن نترجم هذه المعرفة إلى إطارٍ سريري للتشخيص والعلاج.

من بين المبادئ الأساسية لأخلاقيات مهنة الطب، يأتي مبدأ «لا ضرر ولا ضرار» في المقام الأول، وهو ما يُشير إلى نهجٍ شخصي في العلاج. حتى وقت قريب، كان الأفراد المصابون بالمرض نفسه يتلقَّون العلاج نفسه مع تبايُن نتائجه. فيستجيب البعض بشكلٍ جيد لهذه العلاجات، بينما لا يستجيب البعض الآخر، أو حتى قد يُعانون من آثارٍ جانبية خطيرة. في الطب الشخصي، يتمثل النهج المتَّبع في تحديد المؤشرات الحيوية: الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي أو جزيئات البروتين الخاصة بمرضٍ معين أو مرحلة مرَضية معينة. والطب الشخصي هو مجال بحث متطور بموارد هائلة مخصَّصة للبحث عن المؤشرات الحيوية التي يمكن قياسها بدقةٍ لتوجيه التشخيص والعلاج. ومن المجالات التي تُستخدَم فيها المؤشرات الحيوية حاليًّا في الطب السريري علاج السرطان. يمكن استخدام التقنيات الجزيئية العالية الإنتاجية مثل تقنيات الجيل التالي في تحديد تسلسل السرطان الذي يُعاني منه المريض لتحديد العيوب الجزيئية المحدَّدة التي يحملها. إن العثور على نقطة الضعف الجزيئية لسرطان المريض هي الخطوة الأولى في علاجه. ونتحدَّث هنا عن «إدمان» الورَم على عيبٍ جزيئي بعينه يعتمد عليه الورم من أجل بقائه. وهكذا يكون تثبيط هذا العيب أو إزالته هو مفتاح القضاء على هذا السرطان.

المؤشرات الحيوية للتنبُّؤ العلاجي في السرطان

من الأمثلة المعروفة لعلاج السرطان الشخصي استخدام الجسم المضاد الأحادي النسيلة المتوافق مع البشر تراستوزوماب، المعروف تجاريًّا باسم «هيرسيبتين» (Herceptin). يُستخدَم هذا العقار لعلاج مرضى سرطان الثدي الذين تُفرط أورامهم في التعبير عن الجين الورمي HER2. يُجرى اختبار HER2 على عينةٍ حية من نسيج سرطان الثدي لتحديد مدى مُلاءمة العلاج باستخدام عقار هيرسيبتين. HER2 هو مُستقبِل عامل النمو المعبَّر عنه بإفراطٍ في أنواع مُعينة من سرطان الثدي الذي يقف وراء انتشار الورم واستشراسه. ويُعتبر علامة حيوية مهمة للعلاج الموجَّه في ١٥ إلى ٣٠ في المائة من سرطان الثدي وأنواع أخرى من السرطانات. تدمن هذه الأورام على هذا المستقبل غير المنظم؛ ومن ثم يؤدي كبحُه باستخدام الهيرسيبتين إلى وقف انتشار الورم. فقط المرضى الذين يُعانون من أورام HER2 إيجابية سيستفيدون من هيرسيبتين لذلك من المهم أن يقتصر الدواء على هؤلاء المرضى.

التحدي الذي يُواجهنا مستقبلًا هو توصيف إدمان الجينات الورَمية الجديدة، وتوفير أهداف جزيئية مناسبة لتطوير الأدوية، وتوثيق الفائدة السريرية لكبحِها. ويعمل التقدُّم الحثيث في تقنيات الجيل التالي لتحديد التسلسُلات من الجزيئات المشتقَّة من العينات الحية على تعزيز موجةٍ من التقنيات الجينومية والنسخية وفوق الجينية والبروتينية الجديدة لتوفير هذه المعلومات. غير أن ثمة تحذيرًا من أن بعض التغيرات التي يُفترَض أنها مُتعلقة بالورم قد تكون موجودة في الخلايا الطبيعية. ويتطلب ذلك تقنيات آلية قائمة على التسلسُل لإتاحة الحصول على التحليلات العالية الإنتاجية والمتعددة الأبعاد للخلايا الفردية.

أدَّت الرغبة في استخدام طرقٍ أقل اجتياحًا من عينة الأنسجة إلى انهماك الباحثين في دراسة المؤشرات الحيوية في الدم للكشف عن السرطان والأمراض الأخرى، كما أن الحمض النووي الريسبي الميكروي من المرشَّحين المحتمَلين الجدد. تتورط جزيئات الحمض النووي الريبي التنظيمية الصغيرة هذه في العديد من الأمراض، منها السرطان والاضطرابات العصبية وأمراض القلب والأوعية الدموية، من بين أمراضٍ أخرى. تنتشر هذه الجزيئات في سوائل الجسم في حالةٍ مستقرة مما يجعلها علامات حيوية قوية محتمَلة، ولكن التقنيات الجديدة مطلوبة لقياسها قياسًا دقيقًا. قد تكمن الإجابة في تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي الذي كانت تكاليفه المرتفعة حتى وقتٍ قريب تعوق استخدامه. يُعَد تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي أحد أشكال الطريقة التقليدية التي تُتيح قياس المتغيرات النادرة بدقةٍ في سياق بيئة من جزيئات النمط الشائع. كذلك تُتيح تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي عدَّ خلايا الدم البيضاء التي تتسرَّب إلى الورم بدقةٍ بحيث يمكن تقسيم المرضى إلى مجموعاتٍ للعلاج باستخدام العلاجات المناعية الجديدة. هذه العلاجات عبارة عن عقاقير مُصمَّمة لمنع الخلايا السرطانية من الهروب من جهاز المناعة؛ ومن ثم السماح للمناعة الطبيعية بالقضاء عليها.

الحمض النووي للميتوكوندريا والأمراض الوراثية

ترتبط مجموعة كبيرة من الحالات المنهِكة والمميتة، والتي لا يمكن علاج أيٍّ منها، بطفراتٍ في الحمض النووي للميتوكوندريا. ونظرًا لأن الحمض النووي للميتوكوندريا موروث من الأم، فإذا كانت المرأة تحمل طفرةً في الحمض النووي في الميتوكوندريا الخاصة بها، فهي مُعرضة لخطر نقْل هذه الطفرة إلى أطفالها. يتحوَّر الحمض النووي للميتوكوندريا بمُعدل أعلى من الحمض النووي بسبب ارتفاع عدد جزيئات الحمض النووي وانخفاض الكفاءة في التحكُّم في أخطاء تكرار الحمض النووي. يمكن أن تُسبب الطفرات في الحمض النووي للميتوكوندريا كلًّا من الإجهاض والمرض فيما يصل إلى واحدٍ من كل ٢٠٠ مولود حي في المملكة المتحدة. تتراوح أمراض الميتوكوندريا في شِدَّتها من المنهِكة إلى المميتة. ونظرًا لأن الميتوكوندريا تُوفر غالبية الطاقة في الخلية، تشعر الأنسجة التي تتطلَّب الطاقة مثل القلب والدماغ والعضلات الهيكلية بالطفرات الضارة بشكلٍ أكثر حدة. على سبيل المثال، ترجع بعض أشكال الحثل العضلي إلى طفرةٍ في الحمض النووي للميتوكوندريا. كذلك تُقرر المزيد من النساء الغربيات تأجيل الأمومة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالعقم، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الميتوكوندريا المسنَّة والمتحوِّلة. وقد يؤدي تصحيح عيوب الميتوكوندريا هذه إلى تقليل العقم وفشل التلقيح الصناعي.

يُوجَد أكثر من ١٠٠ ألف نسخة من الحمض النووي للميتوكوندريا في سيتوبلازم البويضة البشرية. بعد الإخصاب، تبقى ميتوكوندريا الأم فقط على قيد الحياة، بينما تُستهدَف الأعداد القليلة من ميتوكوندريا الأب في البويضة الملقَّحة من أجل تدميرها. وهكذا يكون كل الحمض النووي للميتوكوندريا لجميع أنواع الخلايا في الجنين الناتج مُشتقًّا من الأم. عادة لا تحمل كل الميتوكوندريا الخاصة بالأم أي طفرةٍ بعينها، وهي حالة تُعرَف باسم التنسُّج المغاير. والمرضى المصابون بمرض مُتعلق بالميتوكوندريا عادةً ما يكون لدَيهم مزيج من نمط الحمض النووي الشائع (العادي) للميتوكوندريا والحمض النووي المتحوِّر للميتوكوندريا، وتعتمد شدة المرض على نسبة الاثنين. والأهم من ذلك أن المستوى الفعلي للحمض النووي المتحور في التنسُّج المغايِر للأم ليس وراثيًّا، ويمكن أن يكون النسل في حالةٍ أفضل أو أسوأ من الأم. يؤدي هذا أيضًا إلى عدم اليقين؛ إذ إن نسبة ميتوكوندريا النمط الشائع مقارنة بالميتوكوندريا المتحورة قد تتغير أثناء التطور. لا تزال هذه العملية غير مفهومة بشكلٍ جيد حاليًّا، ولكن أي زيادة في نسبة الحمض النووي المتحور تؤدي إلى ظهور المرض تدريجيًّا وهو عادةً ما يكون أكثر وضوحًا في الأنسجة غير المنقسمة مثل الدماغ والقلب مما يؤدي إلى الإصابة بالخلل المعرفي والاعتلال العضلي.

من أمثلة الأمراض المتعلقة بالميتوكوندريا متلازمة بيرسون، حيث يؤدي حذف ٥ كيلو قاعدة من الحمض النووي للميتوكوندريا إلى فقر الدم في مرحلة الطفولة. ويُصاب الأطفال الذين يبقَون على قيد الحياة حتى سنِّ المراهقة باعتلالٍ عضلي مع زيادة الحمض النووي المتحور في عضلاتهم. وقد وجد أكثر من ٧٠٠ طفرة في الحمض النووي للميتوكوندريا تؤدي إلى الاعتلال العضلي والتنكُّس العصبي ومرض السُّكَّري والسرطان والعقم. من الواضح أن التدخُّل للوقاية من هذه الأمراض المدمِّرة يُعَدُّ احتمالًا جذابًا وقد يوفر استبدال الميتوكوندريا (MR) باستخدام التلقيح الصناعي الثلاثي الاتجاهات الحل لهذه المعضلة. في هذه التقنية تُقدِّم متبرعةٌ الحمضَ النووي للميتوكوندريا مع الحمض النووي الخاص بالأم والأب، مما يمنح الجنين ثلاثة آباء (انظر شكل ٩-١).
fig24
شكل ٩-١: ينتقل الحمض النووي من بويضة الأم إلى خلية بويضة مانحة سليمة تفتقر إلى نواتها. يحتفظ بالحمض النووي الخاص بالأم في الكروموسومات في هيكلٍ يُسمى المغزل. لذا تُعرف هذه التقنية باسم «نقل المركب الكروموسومي المغزلي».

ثمة مخاوف بشأن هذه التقنية؛ لأننا ما زلنا نجهل العواقب المحتمَلة لجينوم الميتوكوندريا على النسل، إما بشكلٍ مباشر من خلال دوره في توفير الطاقة الخلوية، وإما بشكلٍ غير مباشر من خلال تخفيف أنشطة الجينوم النووي. وقد أظهر علم الأحياء الجزيئي أن جينوم الميتوكوندريا قد تطور ليكون مُتناغمًا مع نظيره النووي وأن آثار اختلال هذا التوازن قد تكون شديدة. فتشير الدراسات الحديثة في نماذج الفئران إلى أن استخدام الميتوكوندريا والجينومات النووية غير المتطابقة أثناء عملية استبدال الميتوكوندريا يمكن أن يحفز استجابةً مناعية أو يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية وسلوكية في النسل. من المؤكد أن الميتوكوندريا لها وظائف تتجاوز عملية إنتاج الطاقة البسيطة، مما يُعزِّز المخاوف بشأن استبدال الميتوكوندريا.

قد يحتاج المانح والمتلقي إلى أن يكونا مُتطابقَين على غرار ما يحدث في عمليات نقل الدم لمنع انخفاض الكفاءة نتيجة للانهيار في تفاعلات الحمض النووي والحمض النووي للميتوكوندريا التي تطوَّرت بشكلٍ مُشترك. إن تأثيرات عدم التطابق في الحمض النووي للميتوكوندريا والحمض النووي وعتباته القابلة للاستمرار مطلوبة، وكذا قياسات الطفرات الموجودة في الحمض النووي للميتوكوندريا في الأم التي تنتقِل إلى النسل. مطلوب العمل لوصف هذه الظواهر وتقديم أدلةٍ من شأنها طمأنة الآباء المحتمَلين أنهم لا يُشكلون تهديدًا كافيًا لمنع تطبيق العلاج باستبدال الميتوكوندريا.

علم الأحياء التخليقي

يعد علم الأحياء التخليقي مجالًا بحثيًّا آخر مُثيرًا وآخِذًا في التطور. إنه يجمع بين تقنيات الهندسة الوراثية والمبادئ العملية للهندسة لتصميم وبناء أنظمةٍ بيولوجية جديدة أو كائنات حية ذات خصائص جديدة أو مُعززة. ونظرًا لأن الأنظمة الطبيعية لا يمكن التنبؤ بها إلى حدٍّ كبير، فالهدف من علم الأحياء التخليقي هو جعل هذه الأنظمة أكثر موثوقية؛ ومن ثم توسيع نطاق الوظائف الحيوية. وهذا بدوره يمكن استخدامه لتحسين صحة الإنسان ومعالجة القضايا البيئية والزراعية. في الهندسة، يُصمَّم أي نظام من أجهزةٍ تتكوَّن من أجزاء فردية. على سبيل المثال، السيارة (النظام) هي جهاز مُتعدد المكونات (بما في ذلك المحرك، والهيكل المعدني، وصندوق التروس)، وكل مُكون فيها يتشكَّل من أجزاء فردية (الإطارات، والمكابح، وقابض التعشيق، وما إلى ذلك). يُستخدَم نهج الأجزاء والأجهزة والأنظمة هذا أيضًا في علم الأحياء التخليقي. فالأجزاء، التي تُسمَّى «الكتل البنائية الحيوية» وهي عبارة عن قِطَع من الحمض النووي، تُشفِّر وظيفة حيوية ما. من بين هذه الكتل البنائية تسلسلات تشفير الجينات، وتسلسلات المحفز والمُنهي، ومواقع ارتباط الريبوسوم. تُصَمَّم الأجهزة من مجموعةٍ من الأجزاء الحيوية، بينما يُنشأ النظام من الجمع بين الأجهزة (انظر شكل ٩-٢). تُصَمَّم الأنظمة لتنفيذ مهمة محددة؛ على سبيل المثال، يُستخدَم مُستشعِر حيوي (النظام) لتشخيص الأمراض، أو خلية (النظام) لتخليق بروتين مُعين. في علم الأحياء التخليقي، كما هو الحال في الهندسة، تتمثل نقطة البداية في تحديد مواصفات الجزء أو الجهاز أو النظام ثم تطوير تصميمٍ يُلبي هذه المتطلبات. وتتَّسِم هذه العملية بكونها دورية، وتتطلَّب جولاتٍ متكررة من النمذجة الحاسوبية التفصيلية والاختبار العملي ومع كل دورةٍ يُصقل المنتج ويُحَسَّن. يضمن هذا النهج أن تُصنع الأجهزة والأجزاء، بغض النظر عمن يقوم بتصنيعها، بناءً على مواصفاتٍ مُعينة. تُخَزَّن لَبِنات البناء المميزة أو القياسية في قواعد البيانات وهي متاحة مجانًا لاختصاصيِّي علم الأحياء التخليقي الآخرين.
fig25
شكل ٩-٢: على غرار الهندسة، يَستخدِم علم الأحياء التخليقي نهج الأجزاء والأجهزة والأنظمة. CDS = تسلسلات التشفير، RBS = موقع ارتباط الريبوسوم، T = المُنهي، TF = عامل النسخ.

كان من أقدم النجاحات التي تحقَّقت في مجال علم الأحياء التخليقي؛ إنتاجُ أرتيميسينين شبه مُخلق، وهو عقار مضاد للملاريا يُنتجه نبات الشيح الحَوْلي طبيعيًّا. استُخْدِم هذا النبات في الطب الصيني التقليدي لسنواتٍ عديدة وفي سبعينيات القرن الماضي، عرف العلماء الصينيون الأرتيميسينين على أنه المكوِّن المضاد للملاريا. والملاريا مرض يصيب ٣٠٠ مليون شخص كل عام وهو شائع بشكلٍ خاص في أفريقيا.

بعد ما يقرب من ٣٠ عامًا، اعترفت منظمة الصحة العالمية بالعقاقير القائمة على الأرتيميسينين كعلاجٍ فعَّال ضد المتصورة المنجلية وهي الطفيلي المسبب للملاريا. ونظرًا لأن الأرتيميسينين مُستخرَج من النباتات، يمكن أن تحدُث تقلُّبات في سعر الدواء وإمداداته على نطاقٍ واسع مع اختلاف إنتاجية محصول النبات نتيجة للتغيرات المناخية. ولضمان مصدرٍ معقول سعرًا وموثوق به، أُطلِقَ مشروع الأرتيميسينين شبه المخلَّق في عام ٢٠٠٤ بتمويلٍ من مؤسسة «بيل وميليندا جيتس». كان الهدف هو تصميم كائن حي دقيق لإنتاج مُركب أرتيميسينين طليعي على مستويات عالية يمكن بعد ذلك استخلاصه وتحويله إلى العقار الفعلي باستخدام العمليات الصناعية. ولتطبيق ذلك، أنشأ اختصاصيُّو علم الأحياء التخليقي مسارًا أيضيًّا يتضمن عددًا من الخطوات المتتابعة داخل خميرة الكائن المضيف لإنتاج المركب الطليعي. أنتج العقار المضاد للملاريا على نطاق واسع في عام ٢٠١٣، وبعد عام، أصدرت شركة «سانوفي» لتصنيع الدواء أول دفعة من الأرتيميسينين شبه المخلق.

يُعد دمج مسارات كيميائية حيوية مُحددة أو مُعادٍ تشكيلها داخل الكائنات المضيفة أحد جوانب علم الأحياء التخليقي. والمجال الآخر الأكثر إثارة للجدل هو بناء خلايا جديدة تحمل حمضًا نوويًّا مُخلَّقًا بالكامل. ستُصَمَّم هذه الخلايا القليلة — التي شُكِّلت من لَبِنات بناء كيميائية وبيوكيميائية أساسية تحتوي على الحد الأدنى من الجينات — بحيث تعمل كمُضيفِين مُتخصِّصِين، أو هياكل، يقوم كلٌّ منها بوظيفةٍ محددة. تتمثل الميزة في أن الوظائف الحيوية لجميع الجينات المضافة ستكون معروفةً وسيمكن التغلُّب على عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الخلايا الطبيعية، التي تُعد سمةً متأصلة لها. أنتج الباحثون في معهد جي كريج فنتر أول جينوم خلوي مُخلَّق كيميائيًّا، ونُشِر عملهم الرائد في عام ٢٠١٠. قام هؤلاء الباحثون بتجميع جينوم دائري كامل يحتوي على مليون زوج قاعدي، لبكتيريا المفطورة الفطرانية من قِطَع مخلَّقة من الحمض النووي. تم تجميع الجينوم في الخميرة ثم زُرع في خلية بكتيرية تخلو من الحمض النووي. يُشار إلى الخلية باسم «الخلية المخلَّقة»، على الرغم من أن الجينوم فقط هو ما يُصنع كيميائيًّا، وليس خلية المتلقي.

يتسم علم الأحياء التخليقي بالقدرة على تزويد المجتمع بأدويةٍ أكثر فاعلية، وأنواع من الوقود الحيوي الرخيص، ومحاصيل مُعاد تصميمها بحيث تكون أغنى بالعناصر الغذائية وذات إنتاجيةٍ مُعزَّزة. غير أن هذه التكنولوجيا المتقدِّمة تثير مخاوف أخلاقية واجتماعية بشأن المخاطر التي قد تشكلها على صحة الإنسان، والتلوث البيئي، وإساءة الاستخدام المتعمد، وهي مسائل قيد النظر بالتزامن.

التحرير الجينومي

تناولنا في الفصل السادس وصف العمليات التي يتم بموجبها إدخال بنية حمض نووي مُعاد التركيب في خلايا الثدييات لعددٍ من الأغراض، مثل إنتاج البروتين المعاد التركيب، وتوليد كائنات حية معدَّلة وراثيًّا، والعلاج الجيني. عادةً ما تتكامَل بُنى الحمض النووي هذه عشوائيًّا في الجينوم المضيف، مما يُسبب تأثيرات غير مرغوب فيها. غير أن ثمة تكنولوجيا جديدة — هي تكنولوجيا تحرير الجينوم — تعمل على تغيير هذا، مما يسمح للباحثين بتعطيل التسلسُلات الجينية أو إضافة تسلسُلاتٍ جديدة بدقة فائقة. تستخدم هذه التكنولوجيا النوكليازات الداخلية المصمَّمة اصطناعيًّا أو ما يُعرف ﺑ «المقصات الجزيئية»؛ إذ إنها تُستدعى لإنشاء قَطْعٍ من الحمض النووي مزدوج الشريط (DSBs) في مواقع محددة داخل الجينوم. يعمل هذا على تنشيط آليات الإصلاح الطبيعية للخلايا، التي يُوجَد منها نوعان: إعادة التركيب المتماثل (HR) ودمج النهايات غير المتماثل (NHEJ). في إعادة التركيب المتماثل، يتم إصلاح التلَف باستخدام نسخة متطابقة أو متماثلة من الكروموسوم المقطوع كقالبٍ وهي في الأساس عملية إصلاح خالية من الأخطاء. في عملية تحرير الجينوم، تُنقل النوكليازات الداخلية بشكلٍ مُشترَك مع تسلسل الحمض النووي المطلوب، الذي يَستخدِمه نظام إعادة التركيب المتماثل بعد ذلك كقالب؛ ومن ثم يتم إدخال التغيير المطلوب للتسلسل في موقع القَطع. في عملية دمج النهايات غير المتماثِل، ببساطة، يتم ربط نهايات الكروموسوم المقطوعة معًا دون استخدام قالب إصلاح. ولكنها عملية معرضة لحدوث أخطاء، وهو ما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى عمليات إدخال أو حذف صغيرة تُسمَّى «إنديل» Indels))، في موقع القطع. في عملية تحرير الجينوم، يُستخدَم دمج النهايات غير المتماثل لتعطيل التعبير عن أحد الجينات؛ إذ غالبًا ما تتسبَّب عمليات الحذف والإدخال في فقدان التعبير عن البروتين أو الوظيفة (انظر شكل ٩-٣).
fig26
شكل ٩-٣: كسور الحمض النووي المزدوج الشريط (DSBs) التي تُنشأ باستخدام أدوات تحرير الجينوم، تحفز آليات إصلاح كسور الحمض النووي المزدوج الشريط داخل الخلية. اليسار: دمج نهايات غير متماثل، اليمين: إعادة تركيب مُتماثل في وجود قالبٍ مانح.
في السنوات العشر الماضية، صُمِّمت أربع فئات من نوكليازات تحرير الجينوم. من بين هذه النوكليازات، كريسبر-كاس ٩ (CRISPR-CAS9)، الذي يُحدِث ثورة في علم الأحياء الجزيئي ووصف بأنه أكبر مُغير لقواعد اللعبة ظهر في علم الأحياء منذ ظهور تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل. كريسبر هو اختصار للتكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة المنتظِمة التباعُد، ويتكوَّن من شريط حمض نووي ريبي مُصمَّم للتوجُّه مباشرة إلى الحمض النووي المرتبط بإنزيم قطع الحمض النووي كاس ٩ (Cas9) الذي يستهدفه. تُصلِح عملية دمج النهايات غير المتماثل أو إعادة التركيب المتماثل كسورَ الحمض النووي الناتجة عن إنزيم Cas9 في المواقع المستهدفة. ونظرًا لأن أول عمل بحثي منشور في عام ٢٠١٢ يوضح إمكانية استخدام تقنية كريسبر-كاس ٩ لتحرير الجينومات، فقد اعتمدها الباحثون على نطاقٍ واسع، ما يَسَّر ذلك هو إمكانية تصميمه بسهولة وبتكلفة منخفضة مقارنة بنوكليازات تحرير الجينوم السابقة.
يمكن استخدام كريسبر في أي كائنٍ حي أو أي نوعٍ من الخلايا تقريبًا — الميكروبات، والنباتات، والحيوانات، والبشر — لقطع تسلسُلات الحمض النووي غير المرغوب فيها، أو إضافة امتدادٍ جديد من الحمض النووي داخل موقعٍ مُحدد. ويتمُّ تطبيقه في تحرير وتجميع مسارات التمثيل الغذائي المعقدة في علم الأحياء التخليقي، وفي تعطيل أو طرق الجينات لنمذجة الأمراض، وفي نقل سمات وراثية مُحددة في المحاصيل الزراعية والماشية. تمتاز تقنية تحرير الجينوم أيضًا بقُدرتها على تسريع علاج الأمراض الوراثية. وقد نُشِر أول استخدام لكريسبر في تصحيح مرضٍ وراثي في حيوان بالغ في عام ٢٠١٤. ينتج اضطراب فرط تيروزين الدم، وهو اضطراب وراثي في البشر، عن طفرةٍ نقطية في جين FAH. يشفر جين FAH إنزيمًا مسئولًا عن تكسير حمض التيروزين الأميني، وهو لبنة بناء لمعظم البروتينات. تؤدي الطفرة إلى غياب إنزيمٍ وظيفي يؤدِّي إلى تراكم النواتج السامَّة والتسبُّب في تلَف الكبد. وقد أوضح هاو يين وزملاؤه أن تقنية كريسبر-كاس ٩ يمكنها تصحيح طفرة FAH واستعادة إنتاج الإنزيم الوظيفي. نُفِّذَ هذا العمل في نموذج فأر للمرَض البشري، وأدى نجاحه إلى تقدُّم الباحثين خطوةً نحو استخدام العلاج بتحرير الجينوم في البشر. في الوقت الحالي، يدرس الباحثون تطبيق تقنية تحرير الجينوم على عددٍ من الأمراض الوراثية بما في ذلك الهيموفيليا بي، والتليُّف الكيسي، والحثل العضلي الدوشيني. كذلك تُدرَس كوسيلة محتمَلة لعلاج الأمراض الفيروسية، مثل فيروس نقص المناعة البشرية والتهاب الكبد بي، وذلك عن طريق إسكات العناصر الحرجة للجينوم الفيروسي. غير أن هذه التكنولوجيا لا تزال في مهدِها، ولا يزال هناك الكثير الذي لا بدَّ من معرفته قبل أن نتمكَّن من استخدامها بأمانٍ وكفاءة في الطب السريري.

إن الإمكانات المستقبلية لتقنيات البيولوجيا الجزيئية هائلة، وإذا وجِّهَت بصورةٍ صحيحة، فستكون قادرة على تحسين الصحة وإفادة البيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤