الفصل الأول

منطقة حرية؟

فكِّرْ بدايةً في استخدام الفنانين المعاصرين للجسد البشري: تمشيط الشعر في أنماط تمثِّل الحروف الصينية، أو نسجه داخل بساط، أو نتفه من جسد الفنان لوضعه في تمثيل شمعي صغير لجثمان والد الفنان؛ تقطير الدم من جروح ألحقها الفنان بنفسه فوق لوحة الرسم، أو استخدامه في صنع تمثال نصفي لنفسه؛ وضع علامات فوق اللوحات — أو فوق الصلبان — عن طريق قذف المني فوقها؛ إجراء جراحات تجميلية كفن أدائي؛ أذن بشرية مزروعة في صحون بتري المختبرية؛ وجثة رضيع تُطهى (وعلى ما يبدو تؤكل). يبدو أن الفن المعاصر يحيا داخل نطاق حرية، منفصلًا عن السمة الدنيوية والعملية للحياة اليومية، وعن قواعدها وتقاليدها. يزدهر داخل ذلك النطاق — جنبًا إلى جنب مع لهوٍ فكري وتأمُّل أكثر هدوءًا — مزيج غريب من الابتكار الكرنفالي، والانتهاكات الهمجية للأخلاق، والإساءات ضد نظم الاعتقاد. إن نقاشات الفن المعاصر — بدءًا من المجلات المتخصصة إلى الأعمدة الصحفية الموجزة — تنطوي على تأويلات تتسم بالاحترام، وانحرافات فلسفية معقدة، ودعايات متملِّقة، وفي النهاية إدانة وتهكُّم ورفض. بيد أن هذا المشهد المألوف — مدى قِدم خرق القواعد في مجال الفن ورسوخه، ومدى رتابة التوصيات والإدانات — يحجب تغيرًا حديثًا مهمًّا.

جزء من هذا التغير كان مدفوعًا بمخاوف داخلية بمجال الفن، في حين أن جزءًا آخر جاء استجابةً لتحوُّل سياسي واقتصادي أوسع نطاقًا. للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد نظام وفقًا له يكون الفن في وقتنا الحالي مختلفًا عن الاقتصاد النيوليبرالي العالمي، القائم على نموذج — إن لم يكن ممارسة — التجارة الحرة. يعمل الاقتصاد على نحو صارم وذرائعي وفقًا لتقاليد صارمة تفرضها الكيانات الاقتصادية الكبرى متعددة الجنسيات بطريقة جائرة على الشعوب كافة، كما يرسخ هياكل هرمية للثروة والسلطة، ويفرض على الأغلبية العظمى من سكان العالم حياة عملية منظمة ومحكومة بجداول زمنية، فيما يواسيهم برؤى عن حيوات سينمائية اكتسبت دلالتها من خلال المغامرة والحكاية المترابطة (يجعل فيها أبطالها حياتهم حرة عبر خرق القواعد تحديدًا)، وبأغانٍ شجية عن التمرد أو الحب. وقد أكد جوناثان ريتشمان على هذا الأمر الشائك في أغنيته التي تبدو في ظاهرها عاطفية «المركز الحكومي»، إليك بعضًا من كلمات الأغنية:

سنرقص ونغني في المركز الحكومي
كي نجعل السكرتيرات يشعُرْنَ بأنهن أفضل حالًا
بينما يلصقن الطوابع البريدية على الخطابات …

تنتهي الأغنية بصوت قرع جرس الآلة الكاتبة. تخبر الأغنية مستمعيها الغايةَ من وراء الأغاني الشعبية (في الغالب).

يبدو أن الفن يقف خارج هذا الحيز من الذرائعية الصارمة، والحياة التي تهيمن عليها البيروقراطية، وثقافتها الجماهيرية التكميلية، وما يمكِّن الفن من فعل ذلك هو اقتصاده المميز الذي يقوم على صناعة أشياء فريدة أو نادرة، وازدراؤه للنسخ الميكانيكي. يقيِّد الفنانون والتجار — ولو بصورة اصطناعية — من إنتاج الأعمال المصنوعة في نطاق وسائل الإعلام القابلة لإعادة الإنتاج، وذلك من خلال الكتب والصور ومقاطع الفيديو والأقراص المدمجة ذات الإصدارات المحدودة. إن هذا العالم الصغير — الذي عندما نراه من الداخل يبدو اقتصادًا جزئيًّا مستقلًّا بذاته تحكمه أفعال قلة مهمة من جامعي التحف والتجار والنقاد ومشرفي المعارض الفنية — يولد حرية الفن من السوق من أجل الثقافة الجماهيرية. غني عن البيان أن أفلام فيديو بيل فيولا لم تُعرض تجريبيًّا أمام جماهير مستهدفة في الغرب الأوسط الأمريكي، كذلك لم يفرض المنتجون على فرق فنية مثل «أوادا» ضمان أن أصواتهم ستبدو غير منفِّرة عند سماعها في المحلات التجارية، أو أنها ستروق لسوق جوهرية قوامها من الفتيات البالغات من العمر أحد عشر عامًا. من ثَمَّ فإن هذا المنعزل الثقافي محميٌّ من الضغوط التجارية الفاحشة، بما يسمح بالعبث الحر بالمواد والرموز، إلى جانب الخرق النمطي للتقاليد والمحرمات.

إن حرية الفن أكثر من كونها مبدأً مثاليًّا. إذا كانت مهنة الفنان أمرًا محبوبًا للغاية — رغم فرص النجاح الضئيلة — فهذا يعود إلى أنها توفر فرصةً لعملٍ يبدو أنه يخلو من التخصص المحدود، بما يسمح للفنانين — على غرار أبطال الأفلام السينمائية — بإضفاء معانٍ خاصة بهم على العمل والحياة. وبالمثل لمشاهدي الفن، ثمة حرية موازية في استحسان العبث العشوائي بالأفكار والأنماط، ليس في محاولة تفتقر للأصالة للتكهُّن بنيَّات الفنانين، بل في إفساح المجال للعمل لاستنباط الأفكار والمشاعر المرتبطة بتجاربهم. يبتاع الأثرياء لأنفسهم المشاركة في هذا المجال الحر عبر الملكية والرعاية، وهم يشترون شيئًا ذا قيمة أصيلة، وتكفل الدولة أن يحظى قطاع أعرض من الجمهور على الأقل بفرصةِ تنسُّم عبير الحرية الذي ينبعث من العمل الفني لبرهة.

مع ذلك، ثمة أسباب تجعلنا نتساءل: هل تتعارض التجارة الحرة والفن الحر كما يبدوان؟ أولًا: إن اقتصاد الفن يعكس عن كثب اقتصاد التمويل الرأسمالي. في تحليل حديث لدونالد ساسون لمعنى الهيمنة الثقافية، يستطلع فيه أنماط استيراد الرواية والأوبرا والأفلام وتصديرها في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت البلدان ذات الهيمنة الثقافية تملك إنتاجًا محليًّا غزيرًا يلبي حاجات الأسواق المحلية بها، فتستورد القليل وتصدِّر الكثير بنجاح. ففي القرن التاسع عشر، كانت فرنسا وبريطانيا تمثلان قوتين ذواتي هيمنة أدبية، أما الولايات المتحدة فهي الآن إلى حد بعيد البلد الأكثر هيمنةً من الناحية الثقافية، تصدِّر منتجاتها على مستوى العالم فيما تستورد أقل القليل. وكما أوضح ساسون، هذا لا يعني أن الجميع يستهلك الثقافة الأمريكية، بل يعني أن الجزء الأعظم من الثقافة المتداولة عبر الحدود القومية أمريكي.

يستثني ساسون الفنون الجميلة من تحليله بناءً على أسباب منطقية بأنها ليست لها سوق جماهيرية. ومن الصعوبة بمكان فهم الأرقام التجارية الخاصة بمؤشرات الهيمنة الثقافية في إطار نظام عالمي بمعنى الكلمة؛ إذ إنه من الممكن أن يشتري جامعُ تحفٍ ألماني عبر تاجر بريطاني عملًا لفنان صيني مقيم في الولايات المتحدة. لكن بإمكاننا أخذ فكرة عن حجم التجارة في كل دولة، وهو ما يقدِّم بالفعل إشارة على الهيمنة العالمية، في ضوء النسبة المرتفعة للتجارة الدولية في سوق الأعمال الفنية، وهنا تكمن توازيات لافتة للنظر مع توزيع القوى المالية. ليس من المفاجئ أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة، فهي تمثِّل ما يقلُّ بصورة طفيفة عن نصف المبيعات الفنية في العالم؛ وتمثِّل أوروبا أغلبية النسبة الباقية، ويأتي نصيب بريطانيا حوالي نصف نسبة أوروبا. تتجه أسعار الأعمال الفنية وحجم المبيعات الفنية إلى التشابه مع أسواق المال كثيرًا، وليس من قبيل المصادفة أن المراكز المالية الكبرى بالعالم هي أيضًا المراكز الرئيسية لبيع الأعمال الفنية. إن إثارة هذا التوازي تتيح لنا النظر إلى الفن ليس فقط باعتباره منطقة للعبث الحر العشوائي، بل أيضًا كسوق مضاربة صغيرة تُستخدم فيها الأعمال الفنية من أجل مجموعة من الغايات الذرائعية، بما في ذلك الاستثمار، والتهرب الضريبي، وغسيل الأموال.

ثانيًا: في سبيل صرف مثل هذه الاعتبارات الاقتصادية الفجَّة من أذهان مشاهدي الفن المعاصر، لا بد وأن يُبرز الفن المعاصر بصفة مستمرة أمارات حريته وتميزه، عن طريق تمييز إنتاجاته عن ذلك المبتذل من خلال الإنتاج الجماهيري والاستحسان الجماهيري، كذا يمكنه استغلال حالة الغموض أو حتى الملل إلى الحد الذي يصيران فيه تقاليد في حد ذاتهما. إن افتقاره إلى العاطفة هو صورة سلبية للقصص الخيالية العذبة والنهايات السعيدة المنتشرة في الأغاني الشعبية والأفلام السينمائية والتليفزيون، وفي استكشافات الفن المعاصر الغامضة للنفس الإنسانية — التي عامةً ما يُفترض الأسوأ فيها — يبدو أنه لا يقدم أية مواساة. مع ذلك، من الطبيعي أن يفضي كل ذلك إلى تقديم مواساة إلى حد ما؛ لأنه من رحم السلبية تظهر رسالة مختلفة تمامًا، مفادها أن ذاك المجال الحر، والنقد الحر، يمكن أن يصونهما النظام الذرائعي للرأسمالية.

ثالثًا: والأكثر خطورة على المبدأ المثالي القائل بالحرية الثقافية غير الملوثة، أننا من الممكن أن نرى تجارة حرة وفنًّا حرًّا كمصطلحين غير متعارضين، بل بالأحرى يشكلان نظامًا مهيمنًا وآخر مكمل له على التوالي. ربما يبدو المكمل كشيء زائد غير ضروري، لكنه (كما جاء في تحليل جاك دريدا الشهير) شأنه شأن خاتمة كتاب أو حاشية سفلية بمقال، يلعب دورًا في إتمامه ويتقاسم معه سمته الجوهرية. يحمل الفن الحر تشابهًا غير معترف به مع التجارة الحرة، فالممارسة الثانوية المكملة تلعب دورًا هامًّا في عمل الممارسة الرئيسية؛ لذا فإن خلط الرموز ومزجها دون كلل في الفن المعاصر في إطار سعيه وراء الابتكار والاستفزاز (من بين الأمثلة الحديثة: أسماك القرش وخزانات العرض الزجاجية، الطلاء والروث، القوارب والنحت الحداثي، طاولات البلياردو البيضاوية) يعكس بدقة مجموعات العناصر اللافتة للنظر في الدعاية، وكلاهما يستفيد من الآخر باستمرار. وكما في عروض المنتجات في الثقافة الجماهيرية، تمتزج الأنماط والعلامات وتتطابق، وكأن كل عنصر من عناصر الثقافة رمز قابل للاستبدال والتداول كالدولار. إن الابتكار الجريء في الفن الحر — في خرقه المستمر للتقاليد — ليس سوى ترجمة باهتة للتبخر المتواصل للقواعد اليقينية التي أفرزها رأس المال نفسه، وهو ما يعصف بأية مقاومة أمام التدفق غير المقيد بين أرجاء الكرة الأرضية للأموال، والبيانات، والمنتجات، وأخيرًا أجساد ملايين المهاجرين. وكما جاء على لسان ماركس منذ قرن ونصف في فقرة تحمل قوة معاصرة مثيرة للدهشة:

إن الطبقة البرجوازية — بفعل التحسن السريع في كافة أدوات الإنتاج، وبفعل وسائل الاتصال الميسرة بصورة هائلة — تجذب كافة الأمم، حتى أكثرها همجية، نحو الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وترغم بها الكراهية الشديدة للغاية التي يبديها البرابرة تجاه الأجانب على الاستسلام، وتجبر كل الأمم — إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك — على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبُّل ما تصفه بالحضارة … باختصار، تخلق البرجوازية عالمًا وفقًا لتصورها.

إلا أنه لم تتحطم الحواجز القومية فحسب، فالابتكار المستمر في الصناعة والثقافة يذيب البنى والتقاليد والارتباطات القديمة، كما في قول ماركس الشهير: «كل ما هو صلب يذوب في الهواء …»

سنرى أن هناك الكثير من الفنانين يسبرون على نحو نقدي أغوار التشابه بين الفن المعاصر ورأس المال بدرجات مختلفة، إلا أنه في التوجه العام للتصريحات في عالم الفن — لا سيما في تلك الموجهة للعامة أكثر منها للمتخصصين — لا يظهر ذلك التشابه. إن أي فرد كثير الاطلاع على الفن المعاصر كثيرًا ما تصادفه صياغة ما من قبيل هذه العبارات المكررة التالية: إن هذا العمل الفني، أو عمل هذا الفنان، أو إن المشهد الفني في مجمله يسمو فوق الفهم العقلاني، ويقذف بالمشاهد داخل حالة من الشك المتأرجح تختفي في طياته كافة التصنيفات العادية، وتفتح معها نافذة محيرة على اللامتناهي، جرح فاجع يقطبه في المعتاد المنطق، أو داخل الفراغ. وفقًا لهذه الرؤية القياسية، لا تعدو الأعمال الفنية كونها منتجات تُصنع وتُشترى وتُعرَض بصورة عرضية، نظرًا لكونها جوهريًّا وسائلَ نقلٍ خيالية للأفكار والمشاعر، وفارض مهام الإدراك الذاتي الذي يكون أحيانًا صارمًا وأحيانًا أخرى لينًا.

في كتاب «قواعد الفن» تحليلٌ فذٌّ للأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يتتبع بيير بورديو الظروف الاجتماعية التي أفضت لظهور فن مستقل، متحرر من مطالب الدين ومن الرعاة الخاصين والدولة، ويشير إلى بقاء هذا الاعتقاد — بأن الفن غير قابل للتفسير — الذي ولد في ذلك الوقت، واستمر حتى الوقت الحاضر:

كنت سأسأل ببساطة: لماذا يُغرَم كثير من النقاد وكثير من المؤلفين وكثير من الفلاسفة هكذا في الزعم بأن تجربة عمل فني ما تعلو عن الوصف، وأنها بطبيعتها تتجاوز الفهم العقلاني؟ لمَ يتلهفون إلى التسليم جدلًا دون أي عناء بهزيمة المعرفة؟ ومن أين أتت حاجتهم غير المسئولة إلى الحط من شأن الفهم العقلاني، وهذا الشغف إلى التأكيد على عدم قابلية العمل الفني للاختزال، أو بكلمة ملائمة أكثر، سُمُوُّه؟ (ص١٤).

من المفترض اليوم أن الفن قد دخل في عصر مختلف، لا يمتُّ بصلة للموجة الأولى من النشاط الريادي في أعمال فلوبير وكوربيه، والتفاني المتجدد للفن من أجل الفن. بداية من منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبقوة متزايدة، كان الغرض من مرحلة ما بعد الحداثة أن تنحي تلك المخاوف جانبًا، وتتحدى فئة الفن الراقي نفسه، أو على الأقل تتلذذ بتلوثه من قِبَل عدد لا حصر له من الأنماط الثقافية. وهكذا نبدأ بأمر مثير للغرابة: أنه في الفنون المرئية اليوم لا تزال تلك الأفكار العتيقة الخاصة بسمو الفن عن الوصف — والتي تُناقَش من منظورٍ متصوف أكثر منه تحليلي — تلقى رواجًا.

إن هذا الإصرار المستمر على عدم قابلية الفن للتعريف غريب بصورة أكبر لأنه كان مصحوبًا مؤخرًا ببعض الممارسات الفنية الذرائعية على نحو واضح. ولأننا لا يمكننا معرفة ما لا نستطيع معرفته، فهذه العبارة المكررة حول عدم قابلية مجال الفن للتفسير تبرز على أنها دعاية إعلامية فجة. إن استخدامات الفن، وهوية هؤلاء الأشخاص الذين يستخدمونه، غالبًا ما تكون غير غامضة على الإطلاق. ومنذ انهيار شيوعية أوروبا الشرقية وظهور الرأسمالية باعتبارها نظامًا عالميًّا حقًّا، أصبحت تلك الاستخدامات أكثر تقدمًا وأكثر وضوحًا على حد السواء.

ما وراء الحرب الباردة

إن الأحداث العالمية لعام ١٩٨٩ وما تلاه — إعادة توحيد ألمانيا، وتفكُّك الاتحاد السوفييتي، وظهور اتفاقيات التجارة العالمية، واندماج التكتلات التجارية، وتحوُّل الصين إلى اقتصاد رأسمالي جزئيًّا — غيَّرت من شخصية عالم الفن بشدة. ومنذ أن تحولت عاصمة الفنون من باريس إلى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، قام عالم الفنون، مع ذلك، على تقسيم الحرب الباردة للعالم إلى الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. كان الفن الراقي الذي تدعمه الدولة لكل كتلة يقدم صورة سلبية عن الآخر: إذا كان الفن الخاص بالكتلة الشرقية يتوافق مع أيديولوجية محددة ويمثِّلها وله فائدة اجتماعية واضحة، فلا بد إذن أن يكون الفن الخاص بالغرب على ما يبدو خاليًا من مثل ذلك الاتجاه، ويحقق انعدام الفائدة التام له. إذا كان الفن الشرقي يحتفي بإنجازات الإنسانية، ولا سيما تلك الخاصة بالإنسان الاشتراكي، فلا بد أن يركِّز الفن الخاص بالغرب على حدود الإنسانية، وإخفاقاتها، وقسوتها (فيما يبرز الأمل بأن الفن نفسه، في تنقيبه الحقيقي عن تلك المشكلات، ربما يكون إنجازًا في حد ذاته). ومع تلاشي هذه الخصومة (ببطء إبَّان سياسة الجلاسنوست في الاتحاد السوفييتي، ثم بسرعة مع انهيار نظم الحكم في الشرق من تلقاء نفسها)، ومع انتصار الرأسمالية الذي يكثر التفاخر به (إقامة «نظام عالمي جديد» تكون فيه الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة)، سرعان ما أعاد عالم الفن تهيئة نفسه، وكما سنرى، اجتاحت سلسلة من الفاعليات الفنية العالم، فيما حقَّق فنانون من أمم وأعراق وثقافات عديدة، طالما تجاهلها الغرب، نجاحًا على المستويين التجاري والنقدي.

مهَّد لهذا التحول نقدُ ما بعد الحداثة الذي أكد — في سلسلة معقدة من الإجراءات النظرية — على ما أجازته السوق ببطء، كاشفًا النقاب عن الرجل الأبيض «العبقري» الذي يتخفى وراء مظهر الثقافة الراقية الشامل. وتحدى مناصرو حقوق المرأة الهيمنة الذكورية على الساحة الفنية، وقدموا الكثير لإعادة صياغة معايير الحكم عينها التي كفلت إقصاء النساء. أما تحرك الجماعات العرقية الأخرى فاتخذ وقتًا أطول، وفي الولايات المتحدة — كما سنرى — صاحبه جدل عنيف.

تزامن ظهور المعارض متعددة الثقافات الشهيرة تحديدًا مع نهاية الحرب الباردة بمعرضين خُطِّط لهما خلال سنوات الجلاسنوست، وحطما الاحتكار المؤسسي للبيض في لندن وباريس، وهما: معرض «سحرة الأرض» بمركز بومبيدو، ومعرض «القصة الأخرى» بمعرض هيوارد جاليري، وأقيما كلاهما في عام ١٩٨٩. كان كلٌّ منهما مثيرًا للجدل، واتسما بالتحيز بلا شك، باعتبارهما أولى الغزوات في هذا المجال. تعرَّض معرض «سحرة الأرض» على وجه الخصوص للانتقاد؛ لأنه اعتبر فناني العالم الثالث غرباء، وهو توجه انعكس في عنوان المعرض نفسه، غير أنه كان أول معرض ضخم يقام في مركز فنون عالمي حضري يعرض فن العالم الأول والعالم الثالث معًا على قدم المساواة. وحارب رشيد آرايين اللامبالاة والتعالي للنخبة الفنية البريطانية ليقدم معرض «القصة الأخرى»، والذي عُرض للمرة الأولى لفنانين بريطانيين سود ومن أصول آسيوية في مكان عام بارز. حقَّق المعرضان رؤية جديدة للفنانين المعاصرين من الملونين، وكلا المعرضين — على الرغم من مخاوف آرايين الذي ساوره القلق بوجه حق بعد سنوات من التهميش حيال أن معرضه لن يعدو كونه «شيئًا مثيرًا للفضول» منعزلًا في وسط يتعذر تحديد ملامحه — أثبت أنه بشائر نظام لم يعد يحتاج في إطاره الفنانون غير البيض أن يتذمروا من أنهم غير مرئيين، واضطروا إلى أن يبدءُوا في القلق بدلًا من ذلك حيال نوع الاهتمام الذي يحظون به.

عقب انتهاء الحرب الباردة، تزامن أيضًا توحد العالم خلف نمط جامح من الرأسمالية، أُطلق عليه «النيوليبرالية»، مع ظهور غير البيض على الساحة الفنية. تحت شعار النيوليبرالية، تُردَّد أحاديث عن التجارة الحرة، لكن الكيانات التنظيمية العالمية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) تفرض قواعد تحمي الصناعات والزراعة في الدول الثرية فيما تفتح الاقتصاديات الهشة أمام التجارة غير المنظمة (هذا يشمل إغراق الأسواق بسلع بأسعار أقل من التكلفة)، والخصخصة، وتفكيك برامج الرعاية الاجتماعية. تظهر النتائج العامة عبر أرجاء العالم في الأجور المنخفضة والعمالة غير الآمنة، والبطالة المرتفعة، وإضعاف النقابات. بيَّن جوزيف ستيجلتز — الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي سابقًا — مؤخرًا هذا النظام، وعواقبه الكارثية على الشعوب الأضعف، والذي أوضح، على سبيل المثال، كيف صنع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الأزمات في روسيا وغرب آسيا وفي مناطق أخرى أو فاقمها؛ مما كان له عواقب خطيرة وكثيرًا ما تكون وخيمة على قاطني تلك المناطق. مع ذلك، رغم الثروة التي تتدفق على الشركات متعددة الجنسيات — وعلى الساحة الفنية كما سنرى — لم يتجلَّ الأثر الأكبر على الفن في اقتصاده بل في خطابه. تردد صوت جوقة مرتفعة من الأصوات تمتدح تحطيم الحواجز الثقافية الذي صاحب الهدم المفترض للحواجز التجارية، والاختلاط الثقافي المجيد الذي نتج عنه. ليس المجال الفني وحده في هذا الأمر؛ إذ إن موجة من الحماسة للعولمة اجتاحت الخطابات الاقتصادية والسياسية، إلى جانب العلوم الإنسانية، بدءًا من المؤتمرات الأكاديمية إلى الصحف الليبرالية. انتقد جاستن روزنبرج المنطق وراء تلك الأحاديث انتقادًا لاذعًا بصورة تحليلية، إذ بيَّن التنافر الذي بزغ من تحليلات تزعم استخدام الصفات المجردة للمكان والزمان باعتبارها المحركات الرئيسية في النظرية الاجتماعية، وتحل بذلك محل المؤشرات الخاصة بالقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتقدم نتائج غالبًا ما تكون مبهمة أو مجرد فصاحة فارغة ليس إلا. أمَّا على الساحة الفنية، فغالبًا ما كانت هوجة الحديث عن العولمة يعوزها الزخم وموجودة في كل مكان.

في حين أن المجال الفني تبنَّى الجانب الليبرالي من الناحية السياسية لهذا الخطاب، وبوجه خاص استحسان منافع الامتزاج أو الاختلاط الثقافي، فإن الرؤية الشاملة وراءه — حلم رأس المال العالمي — سرعان ما انعكست عليه وبصورة كاملة؛ نتيجة لذلك، تغيَّر سريعًا الخطاب الفني والمؤسسات والأعمال الفنية. وخلال تسعينيات القرن العشرين، أقيم العديد من البيناليات وغيرها من الفعاليات الفنية في أنحاء العالم، فيما شيدت المدن متاحف جديدة للفن المعاصر، أو قامت بتوسعة القديمة. أضحت أنشطة تلك المتاحف تجارية أكثر بصفة متزايدة مع تبنيها مبادئ المؤسسات التجارية، فأقامت تحالفات مع الشركات التجارية، وجعلت منتجاتها أقرب إلى الثقافة التجارية، وحاكت المحال التجارية والمدن الترفيهية أكثر مما حاكت المكتبات. وفي الوقت نفسه، اتجه الفن المعاصر نحو اتصال أقرب بعناصر منتقاة لثقافة جماهيرية أضحت متغلغلة للغاية لدرجة أن هذا التوجه يختلط أحيانًا مع ارتباط جديد «بالواقع» أو «الحياة الواقعية». لطالما كان نجوم الفن من المشاهير، لكن المشهد الفني الآن في مجمله يُعامَل كثيرًا مثل عالم الأزياء أو عالم موسيقى البوب، حتى إن أصحاب الأدوار الثانوية به يظهرون في الوسائل المخصصة لتتبع سِيَر النجوم. وبوجه خاص، تزايد ظهور عالم الفن وعالم الأزياء جنبًا إلى جنب مع قيام جمهور الشباب الذي طوَّق الثقافة ككل بملء عالم الفن أيضًا.

إن هذا الكتاب في جلِّه سيناقش الفترة منذ عام ١٩٨٩ كما لو أنها كيان موحَّد بحيث يتسنى لنا فحص بنية العالم الفني ومنتجاته بوضوح أكثر، لكن يجدر بنا أيضًا الحديث بإيجاز عن بعض من التغيرات المهمة المرتبطة بالعولمة التي غيَّرت من الفن المعاصر، وهي قضايا ذات صلة بالفن المسيَّس في الولايات المتحدة، والدورة الاقتصادية، وتحوُّل النمط القياسي لمعارض الفن المعاصر.

حروب ثقافية

في الولايات المتحدة، كان الفن المعاصر — لا سيما التصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي — في قلب معركة سياسية حول التمويل الحكومي المركزي للفنون. أشعل شرارة تلك الحرب عرضُ أعمال يمكن اعتبارها فاحشة أو تجديفية في أماكن تدعمها الدولة. في عام ١٩٨٩، مزَّق ألفونس داماتو أمام زملائه أعضاء مجلس الشيوخ نسخةً من صورة فوتوغرافية لأندريس سيرانو باسم «تبول على المسيح»، ويظهر بالصورة صليب عادي مغمور في بول الفنان. في عام ١٩٩٠ وجد دينيس باري، مدير مركز سنسيناتي للفن المعاصر، نفسه مدانًا أمام منصة القضاء باتهامات متعلقة بانتهاك قوانين مكافحة الإباحية؛ وذلك لتقديمه معرض روبرت مابلثورب «اللحظة المثالية». تضمَّن المعرض تصويرًا في صور مابلثورب الفوتوغرافية بالأبيض والأسود شديدة الجمال متعلقة بالجنس بين الشواذ، والسادية المازوخية، وثمارِ بحثِ الفنان الطويل عن قضيب «رجل أسود» مثالي الشكل. أُبرئ باري من التهم المنسوبة إليه، رغم أن الدفاع اضطر إلى التأكيد أن الصور هي فن، ولم تكن صورًا إباحية؛ وذلك لأنه يمكن التمتع بها بصورة تقليدية. استُخدمت هذه الأعمال وغيرها بوصفها أساسًا لهجوم الحزب الجمهوري على المنحة الوطنية للفنون — المصدر الفيدرالي لتمويل الفنون في الولايات المتحدة. نجح الهجوم جزئيًّا، وأدى إلى خفض المبلغ المتواضِع بالفعل المودَع تحت تصرف المنحة الوطنية للفنون خفضًا كبيرًا، وفي النهاية إخافة المعارضة والمساهمة في إنتاج مشهد أكثر جمودًا، رغم الجدل السياسي الغاضب. وكما أوضح دوجلاس ديفيز في وصف رائع وتفصيلي حول سجل إدارة الرئيس كلينتون الخاص بالفنون أن الاستراتيجية المتبعة في وجه الهجمات المحافظة المتتابعة كانت دفاعية ومحدودة، ولم تمتد يقينًا إلى أي دعم صريح للفنون المرئية. وكانت النتيجة مزيدًا من الاقتطاع المدفوع سياسيًّا من ميزانية المنحة الوطنية للفنون.

كان غضب المحافظين موجهًا نحو الأشكال التصويرية والفنون الأدائية التي احتفت بالشذوذ الجنسي، أو اعترضت على التراخي الحكومي حيال الإيدز، أو عرضت علانية أجسادًا سوداء وعلاقات جنسية، في حين أن تلك الأعمال كان يندَّد بها علنًا بغضب شديد كَشَفَ النقاب عن العنصرية ورهاب المثلية الجنسية في جزء كبير من المشهد السياسي بالولايات المتحدة، كذلك امتد الهجوم ليشمل الأعمال السياسية في حد ذاتها، ولا سيما استكشاف العنصرية في الفن برمته. في عام ١٩٩٤، كان معرض «الذكر الأسود» بمتحف ويتني للفنون — وكانت ثيلما جولدن المشرفة على المعرض — مثار جدل خاص؛ نظرًا لاحتوائه على صور كثيرة لأجساد عارية في معرض سياسي بصورة واضحة تعامل مع خوف المؤسسة البيضاء وإخضاع السود. في إحدى الصور التي لخصت على نحو معبر مخاوف العرض كانت صورة ميل تشين «راب ليلي»، التي تُظهر هراوة شرطي، ويأخذ المقبض الجانبي بها شكل قضيب منتصب.

fig1
شكل ١-١: ميل تشين، «راب ليلي».1

قوبل معرض «الذكر الأسود» باعتراضات ليس فقط من قِبَل المحافظين البيض الذين أزعجهم الصدى السياسي للموضوع، بل أيضًا من النشطاء والفنانين السود الذين انتقدوا تركيزه على العري، ومن ثم التأكيد الممكن على المواقف الفعلية التي شرع لانتقادها.

بصورة أكثر إجمالًا، عُرض قدر كبير من الفن السياسي الصريح على نحو بارز في الولايات المتحدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وصدرت ردود فعل حادة ضده حتى بين النقاد المحافظين المعتدلين، على غرار بيتر شيلدال وروبرت هيوز اللذين بذلا محاولة مشتركة لاستبعاد مثل هذه الأعمال من تصنيف «الفن». بعد بضع سنين، نجح أمثال هؤلاء النقاد بالفعل في صناعة شعبية «للجمال» في الفن المعاصر، كما سنرى. على النقيض، فشلت هجمات اليمين المتطرف في النهاية في تغيير مشهد الفن المعاصر بصورة جوهرية. وقليلون فقط هم من استطاعوا تقبُّل البديل الموصى به؛ ألا وهو الفن الوطني والمبجل الذي خرج مباشرة من العهد المكارثي، لكن كان هناك أيضًا تناقض جوهري في موقفهم: إذ إن المظاهر الثقافية التي اعترضوا عليها اعتراضًا شديدًا أفرزتها القوى الاقتصادية بعينها التي التزموا بالدفاع عنها.

لكن كيف وصل الفن المُسَيَّس — الذي صنعه نشطاء يناضلون ضد الاتجاه السائد منذ زمن بعيد، لكن قليلًا ما عُرض — إلى هذه الدرجة من الأهمية؟ من ناحية، كان ردة فعل مضادة للفن صديق السوق بالثمانينيات والذي تعرَّض للهجر على نحو مفاجئ للغاية بفعل الركود. ومن ناحية أخرى، كان توقعًا بمنعطف ليبرالي في السياسة؛ فكثير ممن عملوا بمجال الفن دعموا كلينتون في انتخابات عام ١٩٩٢، حتى إن بعضهم اشترك في جمع التبرعات لحملته الرئاسية. ورغم أن تلك التوقعات خاب أملها على المدى البعيد، فقد أمدَّ دهاء كلينتون في التعامل مع الإشارات الثقافية التي أوحت بتغيير وليد، الكثيرَ بالشجاعة في البداية، الأهم من هذا وذاك كان إعادة تهيئة للفن الأمريكي في وجه عالم فني معولم حديثًا. إذا كان ترسيخ مدينة نيويورك بوصفها مركزًا لعالم الفن عقب الحرب العالمية الثانية يعني تحولًا في تركيز الفن الأمريكي من الشئون المحلية والوطنية إلى موضوعات من المفترض أنها عالمية، فقد استلزم النظام الجديد التخلي عن العالمية لصالح استكشاف التنوع والاختلاف والتهجين. ظلَّ المركز المادي لعالم الفن بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان بالضبط، وكما سنرى؛ حيث إن أكثر الشعوب التي تتمتع بتعددية ثقافية — وهي الولايات المتحدة — تملك هذه الميزة بموجب النظام الجديد لتضيف إلى قوتها الثقافية والسياسية، إلا أنها لم تستطع استغلال تلك الميزة إلى أن تمت مواجهة تحيزاتها وإقصاءاتها، والعوائق التجارية. كانت «الحروب الثقافية» والمعركة حول الفن السياسي التي تبعتها عمليةً تحديثيةً، وكان مقررًا لها أن تتكرر في بلدان أخرى مثل بولندا واليونان؛ حيث يحتل الدين فيهما مكانة مميزة في السياسة والحياة العامة، وشهدتا فضائح فنية مشابهة حول إساءة استخدام الرموز الدينية والمشاهد الجنسية الفاضحة؛ مما أدى إلى فرض الرقابة وفصل مشرفي المعارض الفنية عن العمل.

إذا كان بزوغ نجم هذا الفن السياسي قصيرًا نسبيًّا، فإن ذلك يرجع جزئيًّا إلى أنه أدى الغرض المرجو منه؛ فقد تنوَّع الفن بالفعل، وما إن كيَّف نفسه مع ظروفه الجديدة حتى فقد القدرة على العودة إلى سابق عهده. وإذا أخفق هذا الفن في تحقيق مبادئه الأوسع نطاقًا، فهذا يرجع إلى طبيعته الناقصة، لا سيما انعزاله عن العمليات السياسية الفعلية. ويؤكد بنجامين بوكلو في وصف لاذع — بيد أنه مقنع — للفن المعاصر، أن التوجه طويل الأمد في الولايات المتحدة (ويمكن للمرء أن يضيف بلدًا آخر) لانتقال السياسة من المجالات العامة إلى الخاصة، انعكس في فن ركَّز على هويات الفنانين والطريقة التي يمكن تشكيلها بها عن طريق تجميع إشارات تقليدية. كان من الأيسر استكشاف تلك المخاوف منه عن القضايا المستعصية الخاصة بالطبقة الاجتماعية والمؤسسات السياسية غير المبالية.

fig2
شكل ١-٢: كارا ووكر، «سيدات كامبتاون».2

بيد أن الهويات التي شكَّلها كلٌّ من المال والطبقة الاجتماعية، وروابطها الوثيقة بهويات أخرى، كانت نسيًا منسيًّا في هذه السياسة؛ لذا لما انتعش الاقتصاد الأمريكي، على وجه التحديد خلال منتصف التسعينيات، برزت إلى السطح أعمال متحولة صديقة للسوق مرة أخرى، أضحت فيها الهويات اتحادات طيفية، وأضحى مزجها ودفعها في كافة الاتجاهات أمرًا خاضعًا للنزوة الاستهلاكية. أحد الأمثلة الجيدة اللافتة للنظر هو العمل الناجح للغاية لكارا ووكر الذي أثار بما يحويه من مشاهد خيالية تصوِّر الجنس والعنف فوق أرض خضراء جدلًا واسعًا.

إن الهوية في أكثر صورها الصادمة — الإذلال المطبق للعبودية — نجدها حرفيًّا في صورة ظلية تُظهر أشخاصًا كاريكاتوريين يقومون بأكثر أعمال الاستعباد فظاعةً بأسلوب القصص الخيالية اللطيف. كما أشارت كوكو فوسكو، لا يوجد ثمة إطار مرجعي أخلاقي واضح في عمل كارا ووكر، وهذا العمل لا يُوثِّق ولا يَعظ، لكنه يستميل الخيال والرغبة المكبوتة. السؤال هو: «رغبات مَن؟» انزعج بعض المعلقين السود، خصوصًا بيتي سار، بشدة من النجاح المفاجئ والمثير الذي حققته ووكر على مستوى المؤسسات الفنية السائدة التي اعتبرت العمل مسليًا لجمهور من البيض لديهم تأكيد خطير على تحيزاتهم الخاصة.

ولما كان المجال الفني مرتبطًا بالاقتصاد ارتباطًا وثيقًا كما ارتبط آهاب بالحوت الأبيض، فإن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى العلاقة نفسها، وهي من خلال الدورة الاقتصادية. إن الفترة محلَّ النقاش في الكتاب — من عام ١٩٨٩ إلى يومنا الحالي (أخطُّ هذا الكتاب بينما تجتاح القوات الأمريكية مدينة بغداد، مؤسِّسةً بذلك لنظام إمبريالي جديد ومُعادٍ للعولمة بلا جدال) — يحدها الركود من كلتا الناحيتين: الركود الأول يتمثل في الانهيار الهائل لعام ١٩٨٩ الذي قضى على عمالقة الفن الأثرياء خلال الوفرة الإنتاجية بالثمانينيات؛ مما أدى إلى تحطيم الزهو والثقة بالنفس اللذين وسما المجال الفني، وعلى مدى أبعد أفرز أعمالًا أكثر فظاظة وأكثر شعبية، جنبًا إلى جنب مع الفن الملتزم سياسيًّا. إن الفقاعة التي انفجرت كانت نتيجة لوخزة الانسحاب المفاجئ لليابانيين الذين يشترون من السوق، كنتيجة جزئية لمشكلات اقتصادية أوسع، لكنه أيضًا نتيجة للكشف الفاضح بأن جزءًا كبيرًا من شراء الأعمال الفنية في اليابان كان يتم كطريقة للتهرب من الضرائب على الأرباح العقارية؛ مما كان له تأثير جانبي متمثل في تضخم الأسعار على نحو زائف.

أما الركود العالمي الثاني فكان مسألة تفاقمت تدريجيًّا في الغرب، نتيجةً لإخفاق قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وأعقبته انهيارات عامة في سوق الأوراق المالية، وفضائح حول الفساد المالي، وأخيرًا الحرب. بين هذين الركودين، كان الانتعاش الاقتصادي غير مؤكد، عدا في الاقتصاديات الأكثر اتباعًا للنيوليبرالية تمامًا بالغرب حيث اعتمدت على التكنولوجيا العالية وفقاعة الإنترنت. في تلك الشعوب، أدَّت الوفرة الإنتاجية (كما سنرى، على نحو متوقع) إلى ردة فعل ضد الفن المرتبط بالنظرية والسياسة، لصالح الأعمال الفنية التي تشرع في التجميل والإدهاش والتسلية ويمكن بيعها.

أما التغيير البارز الآخر في فن التسعينيات فتمثَّل في ظهور «فن التجهيز في الفراغ»، وهذا مصطلح معقَّد ومحلُّ جدال. يراه البعض أنه فن يقاوم بصرامة البيع والشراء، لكونه في حد ذاته سريع الزوال ويصعب أو يستحيل تحريكه؛ لذا، كما أكدت جولي إتش رايس، انتعش فن التجهيز في الفراغ — الذي ولد في الستينيات — من سباته الطويل إبان سنوات الثمانينيات ذات الدوافع التجارية. في ظهوره الأول (وكان يُعرف حينئذٍ بفن «البيئة») عُرض في «بديل» أُسِّس حديثًا وأماكن يديرها الفنانون في الغالب. تزامن تجدد شعبية فن التجهيز في الفراغ مع ركود عام ١٩٨٩، لكنه في صورته المستعادة رسَّخ نفسه في قلب عالم الفن، في المتاحف. إن تغيُّر الاسم من فن «البيئة» إلى «التجهيز في الفراغ» يحمل دلالة؛ وذلك لأن المعارض يجب أن تُجهَّز. لم يعد التجهيز في الفراغ يقاوم الطابع التجاري بالضرورة؛ لأنه الآن كثيرًا ما يتم تحريكه ويُدفع المال من أجله، حتى عندما لا يحدث ذلك، عادة ما يستخدم فن التجهيز في الفراغ فنانون وتجار كسلعة اجتذاب تُباع بالخسارة من أجل بيع منتجات أكثر رواجًا.

إن التجهيز في الفراغ لا يتغير بتغير الوسيلة، وليس في حد ذاته وسيلة؛ فهو يستوعب الفيديو ووسائل أكثر قدمًا كالرسم، ولعله يمكن النظر إليه باعتباره فنًّا مكانيًّا تندرج فيه كافة الوسائل — حتى عناصر الأداء. مع ذلك، صاحب ظهوره انخفاض نسبي في الوسائل التقليدية كالرسم الزيتي والنحت، إلا أن عالم الفن يُقسَّم رأسيًّا وأفقيًّا بتفاوت، متضمنًا العديد من الأطر المتداخلة للتنظيم والتجارة. لا يزال الرسم الزيتي — سواء أكان يشغل تركيز الخطاب الفني أم لا — الشكل الفني الأكثر رواجًا، ولا يزال يُصنع ويُباع للأفراد والشركات بنجاح إلى حد ما وفقًا للحالة الاقتصادية. يمكن قول الأمر نفسه إلى حد بعيد عن الرسم، والطباعة، وكتب الفنانين، وعدد كبير من الممارسات الأخرى، إلا أن محور التركيز هنا هو على ما يحظى بالأضواء، وما يتم تداوله على المستوى الدولي في أفق الساحة الفنية العالمية.

في هذا السياق، يتسم فن التجهيز في الفراغ بميزتين واضحتين: الأولى تتمثل في المنافسة المستمرة مع الثقافة الجماهيرية — كيفية إقناع جمهور ما بالسفر إلى متحف أو موقع آخر بدلًا من مشاهدة التليفزيون، أو الذهاب إلى السينما، أو حفلة موسيقية، أو مباراة كرة قدم، أو التسوق. كان هناك ازدياد لحدة المنافسة في هذا الصدد، تنافسٌ على المشاهدين، خاصة مع تحول التليفزيون — كأحد الأمثلة — إلى شاشة واسعة ضخمة ذات دقة عالية، وبه مسجل دي في دي. لقد رأينا أن الفن يختلف عن الثقافة الجماهيرية في تعامله مع المحتوى، بعيدًا عن ذلك، ما لم تحاكيه الوسائل القابلة لإعادة الإنتاج بعدُ هو إحساس جسم يتحرك في فضاء محدد محاط بأجهزة عرض فيديو ضخمة أو عمل له وزن أو رائحة أو اهتزاز أو حرارة؛ لذا يحتل فن التجهيز في الفراغ، الذي يسمح لفراغ بأن يُملأ بدلًا من مجرد تقديم عمل فني يشاهده الناس، مكانةً بارزةً.

أما الميزة الثانية، فهي أن تفويض عمل فني لموقع محدد تفويضًا حصريًّا هو طريقة لضمان أن المتفرجين سيذهبون حتمًا إلى هناك، وحشد مجموعات من تلك الأعمال الفنية الخاصة بفنانين ذوي شأن في بيناليات هو عامل جذب قوي لانتباه عالم الفنون. وهكذا، يرتبط التجهيز في الفراغ وخصوصية الموقع بعولمة المجال الفني، وبفن يستخدم بغرض التنمية الإقليمية أو الحضرية. لما كانت هذه هي الاستراتيجية المعتادة الآن، فإن حضور تلك المعارض — ليس فقط في فينيسيا وبازل ومدريد، لكن الآن في ساو باولو ودكار وشنغهاي — أضحى طريقة أخرى للتأكيد على التميز الاجتماعي للمتفرج (ومجرد التعرض الطفيف لثرثرة الساحة الفنية — في أغلب الأحيان نجدها تدور حول آخر المهرجانات الغريبة — سيؤكد ذلك).

في الفصول الأخيرة سنسبر أغوار الروابط التي تصل بين هذه العناصر المختلفة للفن منذ عام ١٩٨٩؛ إذ قد يُنظر إلى الحروب الثقافية في الولايات المتحدة باعتبارها مقدمة محلية للقضايا الأوسع نطاقًا الخاصة بالاختلاط العالمي، وأنها نشأت نتيجة لنسق القوى نفسه: من ناحية، الاستهلاكية الليبرالية الملتزمة بتحطيم القيود على التجارة بمعناها الأوسع، ومن ناحية أخرى، القوى المحلية الخاصة بالتقاليد والدين والسلوك الأخلاقي. إن التجهيز في الفراغ (إذا نظرنا إليه من منظور شامل مرة أخرى) يقترن بالمشهد وبالمنافسة مع وسائل الاتصال الجماهيري. إن فن التجهيز في الفراغ المعاصر باهظ الكُلفة ويعتمد عامةً على الرعاية الخاصة والتمويل العام؛ ومن ثَمَّ فهو مرتبط بتدخل المؤسسات التجارية في الفن واستخدام المتاحف في أغراض تجارية، على نحو يتنافى مباشرة مع نشأته الأولى في مشروعات الفنانين بمبادرات خاصة، وهذا بدوره يتصل بالعلاقة بين العولمة والخصخصة التي تكون فيها خصخصة عالم الفن جزءًا صغيرًا ليس إلا، والتي تدفع المتاحف والمعارض نحو تقديم عروض مذهلة أكثر باستمرار. على نحو مماثل، يعد التكافل بين العناصر الراقية للثقافة الجماهيرية، والدافع إلى التعامل مع «الحياة الواقعية» (أي ثقافة المستهلك وشواغل وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءًا من الحافز نفسه.

مخافة أن يبدو هذا الكتاب مقسمًا على نحو منظم أكثر من اللازم، آمل أن يتضح فيما بعد أن هناك توترات وتناقضات هائلة بين هذه العناصر. وفي الفصول التالية عن العولمة، والعلاقة بالثقافة الجماهيرية، وتكلفة الفن واستخداماته، وسمات الفن وسمات الكتابة عنه، سنسبر أغوار هذه التناقضات. وفي النهاية، تأكيدًا على ما هو بيِّن، لا يمكن لكتاب بهذا الطول إلا أن يكون مقدمة فحسب، وقد اضطررت إلى الإقصاء أكثر من الإدراج بكثير. إن ذكر الفنانين والأعمال الفنية لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يلمِّح إلى أي حكم على الجودة، بل إنه بالأحرى إشارة إلى أهميته المحورية في القضايا الجوهرية التي يتناولها الكتاب: تنظيم الفن ودمجه في النظام العالمي الجديد.

هوامش

(1) © the artist.
(2) © the artist. Courtesy of Brent Sikkema, New York.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤