الفصل الثاني

دولتان أفريقيتان نفطيتان: دراسة لأوجُه الاختلاف

بحلول العَقْد الأخير للقَرْن العشرين، صار العثور على النِّفْط أمرًا عسيرًا للغاية، ومع ذلك فقد حالت القضايا البيئية دون استخراج النِّفْط من المناطق التي كانت ظروفها الجيولوجية مواتية بدرجة كبيرة. ولم تَعُدِ الدول الكبيرة المنتِجة للنِّفْط عازفة عن تحويل النِّفْط إلى سلاح سياسي، ولم يختلف الحال بالنسبة إلى الدول الصغيرة أيضًا. سادتِ الفوضى. لكن بالنظر إلى الأمر من منظورنا الحالي، وفي ظلِّ التنافُس الشَّرِس والعنف اللذين يَسُودان صناعةَ النِّفْط في القرن الحادي والعشرين، بدا القرن العشرون قرنًا هادئًا في معظمه …

***

fig4
شكل ٢-١: منشأة مارسدن بوينت التابعة لشركة التكرير النيوزيلندية المحدودة، شركة التكرير الوحيدة بالبلاد. الصورة ملتقطة يوم الجمعة ٣٠ سبتمبر ٢٠٠٥. (تصوير برندون أوهاجان/بلومبرج نيوز.)

على حين غِرَّة، صارتْ كلُّ قطرة نفط لها أهميتها. وفي الوقت الحالي، أخذت دول صغيرة لم يكن يُسمَع لها صوت من قبلُ تشقُّ طريقَها نحو دائرة الضوء العالمية. كان النِّفْط يقبع في قلب ذلك التحول في ميزان القوى؛ من حيث مَن يملكه، ومَن يحتاجه. ومِن الممكن إبراز تناقض مثير للاهتمام عند النظر إلى الكيفية التي جرى بها التعاطي مع مسألة النِّفْط في دولتين أفريقيتين مختلفتين؛ دولة تشاد ودولة ساو تومي وبرينسيب.

(١) ساو تومي وبرينسيب

بين شهرَيْ مايو وأكتوبر يتوقف المَطَر عن الهطول في ساو تومي وبرينسيب، تلك الدولة الصغيرة المكوَّنة من جزيرتين وتبعد ١٥٠ ميلًا عن الساحل الغربي لأفريقيا. ولعقود، اقتَصَر نشاط السكان على الصيد، والْتِقاط الفاكهة، وتصنيع الكاكاو بغرض التصدير. ربما بدتْ ساو تومي وبرينسيب جنة حقيقية، لكن في واقع الأمر كان مواطنوها يَرْزَحون تحت نِير فقْرٍ بدا بلا نهاية. وحتى السعر المرتفع للكاكاو لم يؤثِّر إلَّا قليلًا على أحوالهم؛ وفي بداية العَقْد الأول من القرن الحادي والعشرين كان السكان يُعانون من موجةِ جفافٍ قريبة، ومِن إساءة إدارة منظومتهم الزراعية.

fig5
شكل ٢-٢: على مدار عُقُود سابقة على العام ٢٠٠٥، كانت ميزانية دولة ساو تومي وبرينسيب تبلغ نحو ٥٠ مليون دولار في المتوسط كل عام، أغلبها من المحاصيل التقليدية كالكاكاو. (تصوير توم كاهيل/بلومبرج نيوز.)

ساو تومي وبرينسيب ثاني أصغر دولة في أفريقيا. لم تكن تملك موارد طبيعية ذات اعتبار، ونصف سكانها تقريبًا كانوا تحت سِنِّ الرابعة عشرة. كانت من أفقر دول العالم، وبدا أن العالَم قد أغفلها من الحسبان. في الماضي، كانت ساو تومي وبرينسيب تعيش على إعانات من كوبا وكوريا الشمالية والصين. وشأنها شأن العديد من الدول الصغيرة التي فَتَحت أعيُنها فجأة على العالم الحديث في أواخر القرن العشرين، بدت ساو تومي وبرينسيب في حاجة إلى معجزة.

عام ٢٠٠٣ قُدِّر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ﺑ ١٢٠٠ دولار. وبلغت الإيرادات في ميزانيتها السنوية ٧٤٫١١ مليون دولار فقط. كانت ساو تومي وبرينسيب تتمتع بسلام استثنائي، في الداخل والخارج. يقول مختصو العلوم السياسية إن الدول الفقيرة في الموارِد تكون احتمالات غرسها لجذور الديمقراطية أقل كثيرًا من الدول الغنية في مواردها، لكنَّ مواطني ساو تومي وبرينسيب أثبتوا خطأ افتراض هؤلاء المختصين الأكاديميين.

ففي واقع الأمر، نَمَتِ الديمقراطية في ساو تومي وبرينسيب، بداية من عام ١٩٩١، لكن دون أن يُصاحِبها أيُّ عنف. وقع انقلابان عسكريان، أحدهما عام ١٩٩٥، والآخر عام ٢٠٠٣، بَيْدَ أنَّهما فَشِلا. صارت العملية السياسية سلسلة محمومة سريعة الخُطَى من التحالفات المتغيرة. وتغيرت الحكومة أربع عشرة مرَّةً خلال فترةٍ قوامُها اثنا عشر عامًا، وهو معدل أكبر من أغلب الدول الأفريقية الأخرى.

ولأن ساو تومي وبرينسيب تملك موارد شحيحة، عاش مواطنوها دون خوف من العدوان الخارجي، لكن بدا أن اقتصادها محكوم عليه بالفشل الدائم. عاش أغلب المواطنين في فقر مُدْقِع، كثير منهم بلا مياه نظيفة أو كهرباء. وفي التاسع عشر من يونيو ٢٠٠٤، وفي واحدة من الإشارات النادرة التي وردت في صحيفة عن هذه الدولة، وَصَفَتْ صحيفة ديلي تليجراف البريطانية ساو تومي وبرينسيب بأنها «بقعة نائية فقيرة تستوطنها الحُمَّى، كانت جزءًا فيما مضى من الإمبراطورية البرتغالية، ولها تاريخ من العبودية.»

في عام ٢٠٠٥ كان لدى ١٩٩ ألف مواطن ٧١٠٠ خط هاتف أرضي، و١٢ ألف هاتف محمول، و٢٣ ألف وصلة إنترنت فقط. كانت الدولة بأكملها تملك مائتَيْ ميلٍ من الطرق، تسعة وتسعون منها فقط مُعبَّدة. كان بها مطاران فقط بهما مَدَارِج طيران مُعبَّدة. كانت المدرسة الثانوية الوحيدة بالدولة تعمل على مدار ثلاث فترات دراسية، مُدَّة الواحدة منها خمس ساعات، ولم يكن بها أيُّ جامعة. وعلى مدار السنوات العشر السابقة على عام ٢٠٠٥ كانت الميزانية القومية تبلغ في المتوسط نحو ٥٠ مليون دولار، أغلبها من تصدير المحاصيل، كالبُنِّ والكاكاو، أو من الصيد. بلغ حجم المساعدات الخارجية نحو ٣٥ مليون دولار سنويًّا. وحتى في عام ٢٠٠٧ كانت احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية والذهب تبلغ ٣٦ مليون دولار فقط، وبلغت صادراتها ٤ ملايين دولار.

في ثمانينيات القرن العشرين، وكجزء من صفقة أجرتْها مع الحكومة الإسبانية، وافقت ساو تومي وبرينسيب على استقبال سُجَناء سياسيِّين باسكيِّين من فرنسا. وفي المقابل، تلقَّتْ ساو تومي وبرينسيب وَعْدًا من فرنسا بزيادة المساعدات الخارجية المقدمة لها. علاوة على ذلك، كانت لدى ساو تومي وبرينسيب طرق أخرى غير قويمة لجمع المال؛ على غرار تحويل المكالمات الإباحية الدولية وبيع الطوابع التذكارية لمارلين مونرو.

شأن غيرها من الحكومات القومية، شعرت حكومة ساو تومي وبرينسيب أنها مطالَبة بالاحتفاظ بقوات مسلَّحة، رغم ميزانيتها العسكرية الهزيلة البالغة مليون دولار فقط. كان الخبر السيِّئ أنها لا تملك أيَّ مَرْكَبات أو طائرات، وأنها كانت سيئة العتاد إلى درجة تمنعها من الدفاع عن نفسها ضد أي أعداء، أمَّا الخبر الطيب فكان أنها ليس لها أعداء من الأساس. وحين أَعلنَتِ الولايات المتحدة أنها ستُرسِل مُلحَقًا عسكريًّا من أجْل بناء جيش ساو تومي وبرينسيب، احتَفَل المواطنون بذلك رغم استحالة المهمة ونقص القوات الجاهزة للقتال. بالنسبة إلى مواطني هذه الدولة الصغيرة، لا بد أنهم رأَوْا أن زمن حدوث المعجزات قد ولَّى وفات، لكنْ مع هذا حدثت المعجزة.

عام ١٩٩٧ كشفتْ عمليات المسح الجيولوجية عن وجود مخزون ضخم يتراوح بين ٤ و١١ مليار برميل من النِّفْط قُبَالَةَ ساحل ساو تومي وبرينسيب مباشرة. كانت الاحتمالات واعدةً للغاية لدرجة أن مجموعة من شركات النِّفْط الكبرى عرضت على ساو تومي وبرينسيب ٢٣٧ مليون دولار١ للحصول على حق البحث عن النِّفْط الموجود قُبالةَ ساحلها. وعلى حين غِرَّة، بدأ الأمل يغزو قلوب الفقراء؛ فلم يكن النِّفْط قادرًا فقط على أن ينتشلهم من هُوَّة الفقر، وإنما قد يجعلهم من أصحاب الملايين أيضًا.

في عام ٢٠٠١، اعتلى الرئيس فردريك دي مينيزيس، تاجر الكاكاو السابق، سُدَّة الحكم. وفَوْر تولِّيه السلطة تعهَّد دي مينيزيس بأن دولته، على العكس من نيجيريا، لن تَقَعَ فريسة للفساد الذي صاحب الزيادة في ثرواتها النِّفْطية. سُرَّ المجتمع الدولي، ليس فقط لسماعه رئيس ساو تومي وبرينسيب وهو يتحدث عن الرغبة في استخدام الثروة النِّفْطية في مساعدة دولته؛ وإنما أيضًا لأن الدولة بَدَتْ أكثر شبهًا بدولةٍ أوروبيةٍ منها بدولة أفريقية. فملابس المواطنين، والطراز المعماري للدولة، والأكلات المحلية، بل واللغة (البرتغالية) كانت كلُّها أوروبية. كانتِ الصراعات العِرْقية، وعدم الاستقرار ووحشية الحكومة كلها غائبة بشكل واضح. كان هذا ما تُحبُّه صناعة النِّفْط، وهذا ما كان العديد من المسئولين يعتمدون عليه؛ تأمين استقرار سياسي وتدفق الأرباح النِّفْطية لأفراد الشعب.

حين بدأت عمليات الاستكشاف في عام ٢٠٠٣ وحين تم العثور على النِّفْط بالفعل كانت المعجزة أن النِّفْط كلَّه كان يَقَع داخل المياه الإقليمية لساو تومي وبرينسيب. لم يكن الناس هناك يجرءون على أن يَحلُموا بمعجزة، لكنهم مع هذا حصلوا على واحدة. لم يكن الأمر أن ميزانية ساو تومي وبرينسيب لن تستفيد بهذه الأنباء الطيبة — وما يُصاحِبها من أموال — بل كل ما في الأمر أن الدول الفقيرة لم تَعْتَدِ الحصولَ على مثل هذه الهِبَات الإعجازية. وحتى لو حصل مواطنو ساو تومي وبرينسيب على هِبَةٍ كهذه، فإنهم لم يكونوا يَملِكون التكنولوجيا ولا المعرفة اللازمتين لتحويل هذه المادة الخام إلى سلعة صالحة للتبادُل التجاري.

كان من الصعب على ساو تومي وبرينسيب أن تأخذ هذا الاكتشاف على محمل الجِدِّ، بسبب حقيقة أنه سيمر وقت طويل قبل أن يتمكَّن أيُّ شخص مِن أنْ يُنتِج ولو برميلًا واحدًا من النِّفْط بغرض التصدير. كانت ساو تومي وبرينسيب ونيجيريا قد سوَّتَا خلافاتهما حول الحدود البحرية في وقت قريب، في عامَيْ ٢٠٠٠ و٢٠٠١، ووافقتا على الاستكشاف المشترك للنِّفْط قُبَالَةَ سواحلهما. وكان من المتوقَّع أن تتمكَّن منطقة التنمية المشتركة من إنتاج ٢٥٠ ألف برميل من النِّفْط يوميًّا في غضون خمس سنوات. لكن كي تُعتَبَر الدولةُ لاعبًا حقيقيًّا على مسرح النِّفْط العالمي كان عليها أن تُنتِج ما لا يَقِلُّ عن مليون برميل يوميًّا. وذهب بعض المتشكِّكين إلى أنه حتى على مدار وقت طويل لن يستفيد الفقراء بالأرباح، والأرجح أن أي عوائد ستظل حبيسةَ جيوب السياسيين.

عام ٢٠٠٤ فازت كلٌّ من شيفرون تكساكو وإكسون موبيل وشركة الطاقة النرويجية إكويتي إنرجي على نحو مشترك بحقِّ التنقيب في واحدة من مناطق التنقيب التِّسْع مقابل ١٢٣ مليون دولار. كان سِبَاق التنمية دائرًا. وبدأت شركات سويدية في البحث عن مشروعات للاتصالات الهاتفية، وَسَعَتْ شركاتٌ بلجيكية للعمل في مجال البناء، وأرسلت شركات من الولايات المتحدة والصين والنرويج وكندا فِرَقًا إلى الجزيرة.

ما كل هذه الضجة المُثَارة حول هذا المُنتِج الصغير للنِّفْط؟ أولًا: وفَّرت ساو تومي وبرينسيب نوعية النِّفْط الحُلْو الخفيف الذي يَسهُل تكريرُه إلى بنزين خالٍ من الرصاص. ثانيًا: لم تكن ساو تومي وبرينسيب عضوًا بمنظمة الأوبك، ومِن ثَمَّ لم تكن مُلزَمةً بحصَّة إنتاج إلزامية، ومن الممكن تحميل احتياطيها المعتبر الموجود قُبَالَةَ السواحل على ناقلات النِّفْط دون أن تَطَأَ أيُّ شركة أجنبية بأقدامها أرض الدولة. وأخيرًا، مثَّلتْ ساو تومي وبرينسيب بالنسبة إلى الدول المستهلِكة للنِّفْط، ملجأً تحتاج إليه بشدة يَقِيها أخطارَ انقطاع تدفُّق النِّفْط من أيِّ موضع آخَر من الكوكب. فإذا انفجرتْ قنبلة في السعودية أو وقع إضراب في فنزويلا، من شأن أسعار النِّفْط أن ترتفع لا محالة. في تلك الحالة ستكون كل قطرة نفط لها أهميتها، وستكون نسبة اﻟ ١٥ بالمائة التي تمثِّلها الواردات الأمريكية من غرب أفريقيا لا غِنَى عنها. وبفضل الموقع الاستراتيجي الذي تحتلُّه ساو تومي وبرينسيب في خليج غينيا الثَّرِيِّ بالنِّفْط، أعلنتِ الولايات المتحدة أنها بصدد بناء قاعدة بحرية في الخليج من أجْل مراقبة وحراسة منصَّات النِّفْط وحركة ناقلاته. وقد طمأن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش؛ رغبةً منه في تهدئة أي مخاوفَ قد تُراوِد ساو تومي وبرينسيب بشأن التدخُّل الأجنبي في سياساتها، رئيسَ ساو تومي وبرينسيب أن القوة العسكرية لن تتمركز في جزيرتي ساو تومي وبرينسيب، وإنما ستظل على متن السفن الرابضة قُبَالَةَ سواحلها. رحَّب رئيس ساو تومي وبرينسيب بالخطوة؛ لأن القاعدة، بادئ ذي بدء، ستوفِّر فُرَص عَمَل للمواطنين المحليين، الذين يُعانون من نسبة بطالة قدرها ٥٥ بالمائة. ويكشف اهتمام دولة في حجم الولايات المتحدة بمثل هذه الدولة الصغيرة عن الكيفية التي تغيَّر بها وجهُ عالَم النِّفْط.

خط زمني لساو تومي وبرينسيب

١٩٩٧: عمليات المسح الجيولوجية تكشف عن إمكانية وجود النِّفْط قُبَالَةَ سواحل ساو تومي وبرينسيب.
٢٠٠٠: أغسطس: تسوية الخلاف بين ساو تومي وبرينسيب ونيجيريا بشأن الحدود البحرية غير المحدَّدة بدقَّة؛ تمهيدًا لبدء عمليات استكشاف النِّفْط. تأسيس منطقة التنمية المشتركة من جانب الدولتين.
٢٠٠١: اعتلاء دي مينيزيس سُدَّة الحكم في ساو تومي وبرينسيب.
٢٠٠٢: دي مينيزيس يُعلِن خُطَط إقامة قاعدة بحرية أمريكية في ساو تومي وبرينسيب؛ من أجْل حماية مصالح البلاد النِّفْطية.
٢٠٠٣: اكتشاف النِّفْط في ساو تومي وبرينسيب.
٢٠٠٣: أكتوبر: شركات النِّفْط تقدِّم عطاءاتها من أجل مناطق التنقيب الواقعة تحت سيطرة ساو تومي وبرينسيب ونيجيريا. من المتوقَّع أن تُولِّد العطاءات مئات الملايين من الدولارات من الأموال المرخَّص بها لساو تومي وبرينسيب.
٢٠٠٤: مايو: الاقتصادي جيفري ساكس يلتقي مسئولي حكومة ساو تومي في عاصمة البلاد.
٢٠٠٤: ديسمبر: البرلمان يوافق على قانون النِّفْط الموضوع من أجْل حماية العوائد من الفساد.
٢٠٠٥: فبراير: ساو تومي وبرينسيب ونيجيريا توقِّعان أول اتفاق بشأن التنقيب عن النِّفْط وإنتاجه قُبَالَةَ سواحلِهما مع شركات النِّفْط الدولية.
٢٠٠٦: شيفرون — مشغِّل المنطقة الأولى — تُعلِن أن النِّفْط الذي اكتشفتْه لن يكون قابلًا للاستغلال التجاري.
٢٠١٠: الموعد المرجَّح لبدء إنتاج النِّفْط.

وكما ذكر الرئيس دي مينيزيس، فإنه في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر باتَ العالَمُ يحتاج مصادر بديلة للنِّفْط بعيدًا عن منطقة الشرق الأوسط التي يعوزها الاستقرار. وقد ذكَّر الرئيس الأطراف المعنية بأن دولته تقع في «موقع استراتيجي في أهم منطقة نِفْطِية على مستوى العالم؛ في أعماق المحيط المقابل لساحل أفريقيا الغربي.» ورغم أن الكثيرين قد يزعمون أن منطقة الشرق الأوسط ستظل المصدر الأهمَّ للنِّفْط، فإنه لا يستطيع أحد أن يُنكِر أن منطقة غرب أفريقيا أخذت تَزْدَاد في الأهمية. كان الأمريكيون يستوردون بالفعل ١٥ بالمائة من احتياجاتهم النِّفْطية من أفريقيا جنوب الصحراء، ومن المتوقَّع أن ينمو هذا الرقم ليصل إلى ٢٥ بالمائة في غضون سنوات قلائل.

الآن بات مواطنو ساو تومي وبرينسيب يأخذون النِّفْط مأخَذَ الجِدِّ، لدرجة أنهم أرادوا أن يُنفِقوا عوائد النِّفْط حتى قَبْلَ أن يحصلوا عليها. لوَهْلة، كان هناك شعور سائد بحدوث انتعاش وشيك، وأخذت جماعات الضغط ورجال النِّفْط الأمريكيون يَزُورون الجزيرة. لكنَّ المحنَّكين في شئون النِّفْط يعلمون أن الإنتاج لا يتبع الاكتشاف بهذه السرعة، وأن ما صَنَعَ الانتعاشَ كان الإثارةَ بشأن احتمال وجود النِّفْط وليس النِّفْطَ نفسَه.

تحول الرئيس دي مينيزيس — رغبةً منه في التأكُّد من أن دولته ستستخدم ثرواتِها النِّفْطية الجديدة بحِكْمة — إلى البروفيسور جيفري ساكس، الأستاذ بجامعة كولومبيا في نيويورك، وهو خبير أمريكي في المساعدة الإنمائية، الذي وجدها فرصة لتحويل ساو تومي وبرينسيب إلى نموذج للكيفية التي يمكن بها لدولة فقيرة أن تتعامل مع النِّفْط بصورة ناجحة، دون الانخراط في صراعات عنيفة أو الاتِّكال على هذه السلعة. ونتيجة لذلك، في ديسمبر ٢٠٠٤، أصدرت ساو تومي وبرينسيب قانونًا نفطيًّا جديدًا كان الأفضل من نوعه على مستوى العالم؛ إذ ألزم بوضع عوائد النِّفْط مباشرة في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. ومن هذه المبالغ لا يمكن إدخال سوى حصة صغيرة إلى الميزانية المحلية، أما البقية فيجب حِفْظُها من أجْل المستقبل. أما السيطرة على النِّفْط نفسه فكانت موكَّلة إلى لجنة مؤلَّفة من مواطني ساو تومي وبرينسيب.

استمر ساكس في العمل مع المسئولين على قضايا الشفافية، والتشريعات النِّفْطية، والتنمية، والسيطرة على الملاريا، لكنْ في ضوء عدم توقُّع إنتاج النِّفْط لبعض الوقت، تضاءل الأمل في المشروع النِّفْطي، و«كان الانتعاش قصير الأجَل بشكل نسبي … أُقِرَّ القانون، لكن تظل مسألة إن كان سيصمد في وجْه الضغوط التي ستسبِّبها تدفُّقات النِّفْط الفعلية غير محسومة. ما كنَّا نحاول فعلَه هو أن نَخلُق إطارَ عمل يُمكننا، في حال تدفُّق النِّفْط، ألَّا نُبدِّده، بحيث يذهب إلى بناء المدارس والطرق والعيادات … لم نكن واثقين قط إنْ كان بمقدورنا أن ننجح، لكنِّي رأيتُ أنَّ الأمر يستحقُّ المحاولة … من المدهش كيف أنَّ شعبًا قوامه ١٤٠ ألف نسمة يمكن أن يكون به مثل هذه التعقيدات السياسية.» هكذا تحدَّث ساكس وهو يهزُّ رأسَه.٢ وفي عام ٢٠٠٩ بدأ الحفرُ بالفعل، ومن المتَوَقَّع أن يبدأ الإنتاج التجاري في غضون بضع سنوات.

(٢) تشاد

على مسافة غير بعيدة إلى الشمال من ساو تومي وبرينسيب تقع دولة تشاد. وتشاد، التي تُشبِه في نواحٍ كثيرة ساو تومي وبرينسيب، تقع في قلب القارة الأفريقية وتُعاني في أغلب ربوعها من الفقر. في ستينيات القرن العشرين اكتُشف خام نِفْط منخفِضِ الجَوْدة في تشاد، لكنْ لم يُصاحِبه إسراع في تشييد البنية التحتية اللازمة لضَخِّه؛ لأن المستثمرين خَشُوا من عَدَم الاستقرار السياسي والفساد. واستمر الموقف غير مستقِرٍّ في تشاد على مدار ثلاثين عامًا متوالية.

اعتَلَى الناشط إدريس ديبي سُدَّة الحكم في الثاني من ديسمبر عام ١٩٩٠، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره. تزوَّج ديبي، المُسْلِم، عدَّة مرات، وله ما لا يَقِلُّ عن دستة أبناء. ورغم أنه كان ابنًا لراعٍ فقد دخل الكلية الحربية في إنجامينا، عاصمة تشاد. بعدَ ذلك أُرسِل إلى فرنسا، وحين عاد إلى تشاد عام ١٩٧٦ كان قد حَصَل على شهادته كطيار محترِف. كان وفيًّا للجيش وللرئيس فيليكس معلوم إلى أنِ انهارتِ الحكومة عام ١٩٧٩.

بعد ذلك ارتبط قَدَرُ ديبي بحسيني حبري، أمير الحرب التشادي. صار حبري الرئيس عام ١٩٨٢، وتقديرًا لولائه عُيِّن ديبي رئيسًا لأركان الجيش التشادي. وقد صنع ديبي لنفسِه سمعةً طيبة حينَ دمَّر القوات الموالِية لليبيا في شرقي تشاد عام ١٩٨٤. وفي عام ١٩٨٥ أرسله حبري للدراسة في المدرسة العسكرية بباريس. وحين عاد ديبي عُيِّن كبير المستشارين الحربيين لحبري. ومع ذلك، في عام ١٩٨٩ دبَّ الشِّقَاقُ بين حبري وديبي بشأن النفوذ المتنامي للحرس الجمهوري. وحين اتَّهم حبري ديبي بالاستعداد لشَنِّ انقلابٍ عسكريٍّ عليه، فرَّ ديبي إلى ليبيا ثم إلى السودان، حيث شكَّل حركة الإنقاذ الوطنية، وهي جماعة منشقَّة مدعومة من ليبيا والسودان، هاجمتْ قوات حبري في تشاد في أكتوبر ١٩٨٩. وفي أوائل ديسمبر ١٩٩٠ دخلتْ قواتُ ديبي، دون مقاومة، إلى إنجامينا. بعد ذلك انتُخِب ديبي رئيسًا لتشاد في ٢٨ فبراير ١٩٩١، حيث فاز بنسبة ٦٤٫٦٧ بالمائة من الأصوات.

(٢-١) الاقتصاد التشادي في الثمانينيات

حصلت تشاد على استقلالها عن فرنسا عام ١٩٦٠. وتشاد دولة حَبِيسة شِبْه قاحلة، وفي ذلك الوقت كانت تعتمد على محصولٍ وحيدٍ هو القطن. وعام ١٩٨٥ صنَّف البنك الدولي تشاد كواحدة من الدول الخمس الأشدِّ فقرًا على مستوى العالم.

كان تعداد سكان تشاد عام ١٩٨٥ يبلغ ١٠ ملايين نسمة، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ١٦٠ دولارًا فقط. كان ثمانون بالمائة من السكان يعيشون على أقلَّ من دولار واحد يوميًّا، وكانت نسبة ٩٨٫٥ بالمائة من السكان يعيشون بلا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب ولا قدرة على استخدام المرافق الصحية الأساسية. وكان الرَّوث والحَطَب هما وَقود الطَّهْي الأساسي.

عام ١٩٨٥ انهارتْ أسعار القطن، المحصول النقدي الوحيد للبلاد، على مستوى العالم. كان مصدر الدخل الثاني لتشاد هو تربية الماشية، لكن خلال الجفاف الذي ضرب البلاد عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥ نَفَقَ ثُلُثُ الثروة الحيوانية البالغ عددُها ٤٫٧ ملايين رأس من الماشية.

تبعد دوالا، الميناء الكاميروني الأقرب لتشاد، مسافة ١٠٥٦ ميلًا. وبحلول منتصف الثمانينيات كانت الطرق المُعبَّدة الوحيدة التي تربط العاصمة بالمناطق الداخلية قد اختَفَتْ بسبب انعدام الصيانة. ومن بين الأميال البالغ طولها ١٩ ألف ميل من الطرق والمسارات الترابية، كان المقدار الصالح للاستخدام خلال موسم المطر يبلغ ٧٨٠ ميلًا فقط. لم تكن هناك سكك حديدية في تشاد، ودُمِّر مطارها الدولي الوحيد بسبب الصراعات المسلَّحة عامي ١٩٨٠ و١٩٨١.

وفي عام ١٩٨٥ كانت الدولة لا تَملِك سوى خطَّيْ هاتف دوليَّيْن فقط.

(٢-٢) خط الأنابيب التشادي

رغم اكتشاف النِّفْط في تشاد للمرة الأولى في أواخر الستينيات، فإن الحرب الأهلية التي امتدَّتْ على مدار ثلاثين عامًا تسببت في إبعاد المستثمرين.

عام ١٩٩٩ قرر المجتمع الدولي استخدام تشاد بوصْفِها حالةً اختباريةً يتمُّ فيها استخدام عوائد النِّفْط في انتشال الفقراء من أزمتهم. وعند تدشين مشروع مشترك بين الحكومة التشادية وبين ائتلاف من شركات إنتاج النِّفْط بقيادة إكسون موبيل، وضع البنك الدولي خُطَطًا تَهدِف لبناء خط أنابيب بطول ٦٥٠ ميلًا يُمكِنه نقل ٢٢٥ ألف برميل نفط يوميًّا. سيمتدُّ الخط من الكاميرون إلى خليج غينيا، ويربط حقولَ النِّفْط جنوبيَّ تشاد بموانئ التصدير على ساحل الأطلسي بالكاميرون، حيث سيُشحَن النِّفْط إلى الغرب. رأى البنك في هذا الترتيب خطةً جديدةً شُجاعةً لتقليل الفقر، ليس فقط في تشاد وإنما كذلك في غيرها من الدول النامية المشابهة الغنية بالموارد. كانت خُطَط إنتاج النِّفْط بالبلاد تَمضِي قُدُمًا. وفي ضوء توافُر التمويل اللازم للمشروع، سريعًا ما صارت تشاد وِجهةً جذَّابة للاستثمار الدولي.

أصرَّ البنك الدولي في مقابل مشاركته في المشروع على شرط قانوني — يتمثَّل في الالتزام بقانون إدارة عوائد النِّفْط — من أجْل دعْم خط الأنابيب الذي يربط تشاد بساحل الأطلسي بالكاميرون. وافقت حكومة تشاد على هذا الشرط ووعدتْ بعدم تعديل أي بنود للقانون من شأنها أن «تؤثِّر على نحوٍ مادي بالسلب» على استراتيجية تقليل الفقر التي يهدف إليها القانون. وفي حال أقدَمَتْ تشاد على خرق القانون، يحقُّ للبنك الدولي تعليق أيِّ مِنَح جديدة، ووقف دفعات التمويل، والمطالبة بالرد السريع لأي قروض حالية.

بعد الموافقة على هذا، ضخَّ البنك الدولي ١٩٠ مليون دولار من أجْل بدء المشروع. كان مشروع خط الأنابيب، المتَوَقَّع الانتهاء منه في يوليو ٢٠٠٣، يخدم غرضًا مزدوجًا؛ إذ لن يُخرِج فقط النِّفْط التشادي إلى العالم وإنما كذلك سيُثبِت أن النِّفْط يُمكِنه تعزيزُ نمو الدول المتخلِّفة.

لم تبدأ تشاد ضخَّ النِّفْط حتى عام ٢٠٠٣. ورغم تواضُع الناتج السنوي البالغ ٢٥٠ ألف برميل يوميًّا، فإن المستثمرين — وتحديدًا الشركتين الأمريكيتين العملاقتين شيفرون وإكسون موبيل، وشركة النِّفْط القومية الماليزية بتروناس — كانوا مهتمِّين بحقول تشاد النِّفْطية الوليدة وبأجزاء غير مطروقة بعدُ من صحرائها. ورغم صعوبة تصديق الأمر فإنه بحلول عام ٢٠٠٤ — بفضل الاستثمار الأجنبي وتصدير النِّفْط عبر خط الأنابيب الجديد — امتلكتْ تشاد أسرعَ الاقتصادات نموًّا على مستوى العالم.

كان ديبي «من الظاهر» حَسَنَ النوايا. كان قد أصرَّ على أن تَستخدِم تشاد جزءًا من دخل خط الأنابيب في الميزانية القومية. خُصِّص عشرةٌ بالمائة من الأموال الحكومية للبِنْية التحتية الخاصة بالطرق والصحة والمياه والتعليم. اعتُبرتِ الخُطَط التشادية الهادِفة لتخصيص عوائد النِّفْط للفقراء سلوكًا جديرًا بالإعجاب بعد ما رأيناه من السياسيين الفاسدين في الدول الأفريقية الأخرى — على غِرار نيجيريا والكونغو برازافيل والجابون وأنجولا — الذين لم يَجِدوا أيَّ وَازِعٍ من الضمير يمنعهم من حشْوِ جيوبهم بأموال النِّفْط. نُظِرَ إلى اتفاق خط أنابيب النِّفْط التشادي بوصفِه طريقًا مثاليًّا لمساعدة دول العالم الثالث في الخروج من هوة الفقر والفساد. وتابع العالم الصناعي التجربة التشادية باهتمام متزايد.

في البداية بدا أن خط الأنابيب لم يَجلِب سوى تحسُّنٍ طفيفٍ في أحوال مواطني تشاد. كانت إشارات المرور في إنجامينا خافتةً لدرجة أنها لم تكن ذات جدوى؛ وذلك لأن تشاد لم تكن تنتج ما يكفي من الكهرباء، كما لم تكن مولِّداتها تعمل على نحوٍ ملائم. بَيْدَ أنَّ المرور لم يكن مشكلة كبيرة؛ نظرًا لأن معظم محطَّات الوقود في الدولة كانت مهجورة. كانت منعطفات الطرقات الترابية في قلب العاصمة إنجامينا تعجُّ بأطفال يبيعون أكياس الفول السوداني، أطفالٍ لن يعيشوا على الأرجح حتى سِنِّ الخامسة والأربعين. ففي ظل معدل أجور يَقِلُّ عن دولار واحد يوميًّا، كانت قلةٌ قليلة من التشاديين قادرة على تحمُّل تكاليف الرعاية الصحية.

على النقيض من ذلك، خارج مكاتب إكسون موبيل كانت أضواء الحراسة التي تُشغِّلها مولِّدات كهربائية تُلقِي ضوءًا ساطعًا يُمكِّن الأطفالَ من عَمَل فروضِهم الدراسية ليلًا. كان البنك الدولي قد أصرَّ على تخصيص جزءٍ من أموال النِّفْط للفقراء، لكن بدا أن الحكومة التشادية لها أولويات أخرى. كانت مجموعة المواطنين التي ستُقرِّر الكيفية التي ستُنفَق بها أموال النِّفْط عامرة بأصدقاء الرئيس المقرَّبين، وحين تَلَقَّى ديبي أول دفعة من أموال النِّفْط من إكسون موبيل عام ٢٠٠٤، أنفق هذا المال على المُعَدَّات العسكرية.

مع بدء شركات النِّفْط استكشافَ أجزاء أخرى من تشاد في عامَيْ ٢٠٠٥ و٢٠٠٦، شهدت الأرباح النِّفْطية المتَوَقَّعة في المستقبل القريب زيادةً كبيرة. وقد زُعم أن حقول النِّفْط الثلاثة الأولى يُمكِنها أن تَجلِب ٥ مليارات دولار من الأرباح النِّفْطية على مدار الأعوام الخمسة والعشرين القادمة، التي تمثِّل المدى الإنتاجي المتَوَقَّع للحقل.

باتت تشاد في المركز الرابع على قائمة الدول الأفقر على مستوى العالم بعدَ أنْ كانت تحتلُّ المركز العاشر، لكن الرئيس ديبي بدا مُهْتمًّا فقط بأمْنِه الخاص لا برفاهية شعبه؛ فحين كان يَصِل إلى العاصمة، كانت الشوارع تُخلَى، والمتاجر تُغلَق، وتُزال السيارات من الشوارع. وصدرتِ الأوامر بإطلاق النار على أيِّ شخص يَختَلِس النظر من وراء نافذة. وفي عام ٢٠٠٥، بينما كان مشروع خط الأنابيب يَدرُّ ٣٠٦ ملايين دولار، صَنَّفت إحدى مجموعات المراقبة الدولية، وتُدعَى منظمة الشفافية الدولية، تشادَ بوصفِها الدولةَ الأكثر فسادًا على مستوى العالم.

كان من المخَطَّط إجراء انتخابات في تشاد في الثالث من مايو عام ٢٠٠٦، لكن في الثالث عشر من أبريل اجتاح نحو ٦٠٠ متمرِّد العاصمةَ، مهدِّدين حكومة ديبي. وسريعًا ما امتلأتْ شوارع إنجامينا بشاحنات خفيفة مليئة برجال مسلَّحين. بعض الرجال كانوا يرتَدُون ملابسَ بُنِّيَّة مموَّهة من النوعية المخصَّصة للجيش، بينما فضَّل غيرُهم ارتداءَ العباءات ولفافات الرأس التي يرتديها مواطنو العاصمة في المعتاد. كانت تلك هي قوات ديبي، الموجودة هناك للدفاع عن النظام ضد المتمرِّدين الذين اتَّخذوا من السودان قاعدةً لهم في محاولتهم إزاحة ديبي عن السلطة.

لو أراد ديبي النجاح في مساعيه، فسيحتاج إلى أن يتَسَاهَل البنك الدولي في سيطرته على الكيفية التي ستُنفِق بها تشاد أموال النِّفْط. وبالفعل اتَّخذ برلمان تشاد خطوةً استثنائيةً متمثِّلة في تغيير قانون إدارة عوائد النِّفْط بحيث يسمح الآن بتجنيب ٥٠ مليون دولار من عوائد النِّفْط الآتية من إكسون موبيل وعدم وضْعِها في حساب البنك الدولي المخصَّص لمشروعات التنمية على أنْ تُنقَل هذه الأموال مباشرة إلى الحكومة. كانت هذه المناورة التشريعية بمنزلة تَحَدٍّ سافرٍ للنبك الدولي من طرف دولة صغيرة، واحدة من الدول النِّفْطية المعتدية الجديدة. استجاب البنك الدولي بأن جمَّد الحساب المعلَّق في لندن والبالغ قيمته ١٢٥ مليون دولار من عوائد النِّفْط التشادية واستقطاع ١٢٤ مليون دولار أخرى من المساعدات المالية المقدَّمة لتشاد.

كان ردُّ فِعْل ديبي على خطوة التجميد التي أقدم عليها البنك الدولي هو أنْ أغْلَقَ خطَّ الأنابيب الجديد إلى أن يدفع له ائتلاف شركات النِّفْط بقيادة إكسون موبيل ١٠٠ مليون دولار. في الوقت ذاته، أرادت تشاد أن تضمن استمرار تدفُّق عوائد النِّفْط من احتياطي النِّفْط المؤكَّد لدَيْها البالغ مقداره مليارًا ونصفَ مليار برميل. ورغم افتقار تشاد للبِنْية التحتية الملائمة، استطاع ديبي الاعتماد على البنية التحتية الكاميرونية والنيجيرية من أجْل النقْل. وقد حذَّر ديبي، أنَّ بمقدوره أنْ يَجِد مستثمرين آخَرين يكونون أكثر صداقة للشعب التشادي من هؤلاء الموجودين في الائتلاف، خاصة في ظل الارتفاع المطَّرِد في أسعار النِّفْط. من إجمالي ٣٠٦ ملايين دولار تلقَّتْها تشاد من عوائد النِّفْط، خُصِّص ٢٧٫٤ مليون دولار فقط لأغراض التنمية، وسريعًا ما حُوِّلت الأموال المستقبلية لشراء السلاح من أجْل الإبقاء على حكومة ديبي في السلطة. علم البنك الدولي أنه لا يستطيع الثقة بديبي بعدَ الآن. كان من المقرَّر أن تنتهي فترة ديبي الرئاسية الثانية والأخيرة، البالغ مُدَّتُها خمسة أعوام، في مايو ٢٠٠٦، لكنه عدَّل الدستور في عام ٢٠٠٤ بغرض البَقَاء في السلطة لعدد غير محدود من الفترات الرئاسية.

انتهى الصراع التشادي مع البنك الدولي بانتصار مدوٍّ لديبي. تفاجأ بول ولفويتس، رئيس البنك الدولي، بجرأة ديبي لدرجة أنه مَنَحَ ديبي كلَّ ما كان يَطلُبه، واستأنف كلًّا من القروض ومدفوعات النِّفْط. لقد زَأَرَ الفأر، وأذْعَن الأسد! لكن تشاد كانت مع ذلك حريصةً على الحصول على المزيد من الدعم من البنك الدولي، ولهذا توصَّلت إلى اتفاقية تسوية مع البنك الدولي في يوليو ٢٠٠٦ تستقطع بموجبها ٧٠ بالمائة من الأرباح النِّفْطية لمحاربة الفقر. بعد ذلك مباشرة اندفعت تشاد في عمليات شراء ضخمة للأسلحة والطائرات والمركبات المدرَّعة وسيارات الهامفي.

رغم أن صادرات تشاد النِّفْطية البالغة ١٦٠ ألف برميل يوميًّا — ذلك النِّفْط المحتوي على نسبة عالية من الكِبْرِيت تُقلِّل من قيمته — تُعَدُّ حصةً قليلة بالمعايير الدولية، فإنها أحدثَتِ الفارقَ الذي جعل البنك الدولي يُعِيد التمويل الذي طالَبَ به ديبي، أو على الأقل هذا ما كان ديبي يَأمُلُه. لقد أخذ المعروض العالمي من النِّفْط في التناقُص لدرجة أنه صارَ لدولة ذات نفط قليل الكمية وفقير الجودة مثل تشاد أن يكون لها موقف قوَّة في مواجهة مؤسَّسة راسخة مثل البنك الدولي.

في أغسطس ٢٠٠٦ شكا ديبي من أن تشاد لا تحصل إلا على «الفُتَات» — حسب تسميته — من الشركات الكبيرة التي تُدِير الصناعة النِّفْطية، ودَعَا إلى زيادة حصة دولته في الإنتاج النِّفْطي إلى ٦٠ بالمائة. علاوة على ذلك، قال ديبي إن شيفرون وبتروناس رفضتا أن تَدْفَعا للحكومة ٤٨٦٫٢ مليون دولار من الضرائب المستحقَّة عليهما.

ربما عضَّد استعراضُ القوة هذا موقفَ ديبي السياسي بالداخل، لكنْ في أعيُن المراقِبِين النِّفْطيين المحنَّكِين بالخارج، كان ديبي بهذا يُجازِف بوضْع علاقاته بتلك المؤسسات تحديدًا موضعَ خطر، تلك المؤسَّسات التي كان يحتاجها أشدَّ الاحتياج من أجْل تقوية إنتاجه من النِّفْط.

وحتى أواخر عام ٢٠٠٨، تظل تشاد دولةً ديكتاتورية، وتظلُّ مسألة إقصاء ديبي عن الحكم مسألة وقت. تُطلِق تشاد على نفسِها دولةً ديمقراطية، لكن منذ استقلالها عن فرنسا عام ١٩٦٠، لم تشهد تشاد تَدَاولًا سِلْميًّا للسلطة ولو لمرة واحدة.

فعلى العكس من ساو تومي وبرنسيب، تعلَّمتْ تشاد استغلال ثروتها النِّفْطية الجديدة في اكتساب موقف قوة، وقد تعلَّمت أن تُثِير ضِيقَ المؤسسات الدولية وأن تَجعَل كبرى شركات النِّفْط العالمية تتنافس باستمرار على مَوْطِئ قدم داخل حدودها. إن مناورات تشاد وتلاعُبَها في المسألة النِّفْطية تُعَدُّ إحدى المؤشِّرات القوية على أن الدولة الصغيرة المنتِجة للنِّفْط على غرار تشاد يُمكِنها أن تُمارِس لعبة النِّفْط بصورة جيدة بما يمكنها من أن تكتسب مكانة لاعب نفطي كبير. لقد كانت حالة تشاد حالة مثالية للدولة النِّفْطية المعتدية التي تتجاوز حدودَها داخل النظام النِّفْطي الجديد.

مَأزِق حقيقي

أثارتْ جهود تشاد الرامية للضغط على البنك الدولي اهتمام الكثيرين في الغرب، ودفعت جيم جوباك، كاتب عمود بموقع «إم إس إن موني ويب» أن يقول: «يا إلهي! حين تضغط عليك دولة مثل تشاد، بسكَّانها البالغِ عددُهم ٨٫١ ملايين نسمة ويعيشون على ١٫٣ مليون كيلومتر من الصحراء، وتُملِي عليك ما تُريده، ستُدرِك وقتَها أنك في مأزِق حقيقي.» لم يكن هناك ما يدعو للشعور بالأسف من أجل شركات النِّفْط العملاقة بعدُ، لكنَّ دولًا مثل روسيا وإيران وفنزويلا — بل وحتى تشاد — صارت هي المتحكِّمة في زمام الأمور على نحو متزايد.

في الفصل التالي سنُلقِي نظرةً على العلاقة المتنامية بين الصين وأفريقيا. إن الصينيين والأفارقة مختلفون سياسيًّا أشدَّ الاختلاف، ومع ذلك فقد كان النِّفْط هو العاملَ الذي لعب دورًا أساسيًّا في الجمع بينهما.

هوامش

(١) حصلت ساو تومي وبرينسيب على أقلَّ من نصف هذا المبلغ؛ لأن نيجيريا، إذ تحمَّلتِ التكلفةَ المبدئية لعملية إنتاج النفط، حصلت على ٦٠ بالمائة منه. ومع هذا، ظلت حصة ساو تومي وبرينسيب أكبر بأربعة أضعاف من حجم الإيرادات الحكومية لعام ٢٠٠٤.
(٢) جيفري ساكس، في مقابلة مع مؤلِّف الكتاب، ٢٩ أبريل ٢٠٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤