الفصل الثالث

الصين تغزو أفريقيا

منذ حظر النِّفْط العربي عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٤، صارتْ لكلٍّ من الدول الغربية والآسيوية تحفُّظات بشأن اعتمادها على نِفْط الشرق الأوسط. ورغم أن الولايات المتحدة ليست بصدَد اتِّباع سياسة فك ارتباط مع دول الخليج، فإنها عَكَفَتْ على البحث عن وسيلة لإنهاء «إدمانها» للنِّفْط العربي. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتؤجِّجَ مخاوِفَ العالَم. فلم يَعُدْ من الضروري أن تكون مصادر الطاقة البديلة «خضراء»؛ أيْ صديقة للبيئة (ومِن ثَمَّ مُفِيدة من الناحية السياسية) وحسب، وإنما يَجِب أن تُحرِّر الولايات المتحدة من بعض جوانب اعتمادها على الدول المنتجة للنِّفْط. لكن للأسف، رغم ما اتَّسَمت به مفاهيم الطاقة البديلة (على غرار طواحين الهواء والألواح الشمسية والإيثانول) وتدابير حفظ الطاقة (على غرار السيارات الأصغر حجمًا وحدود السرعة الأقل) من جسارة، فإنه على أرض الواقع يَجِد العالَم المتقدِّم أنه كان من الواجب عليه أن يبدأ سَعْيَه هذا منذ سنوات عديدة خَلَتْ. وفي وقتنا الحالي يوجد كذلك اقتصادات نامية تُشبِه في نموِّها وُحوشًا جائعة لا بُدَّ من إطعامها؛ ولهذا من الضروري العثور على حلول فورية للطاقة.

***

fig6
شكل ٣-١: أحد أفراد جيش تحرير السودان يقف في قرية دريبات بالسودان، يوم الجمعة ٨ يوليو ٢٠٠٥. في منطقة دارفور بالسودان تَسبَّب صراع امتدَّ لعامين في مقتل ١٨٠ ألف فرد وتشريد مليونَيْ شخص من منازِلهم. (تصوير كارل ماير/بلومبرج نيوز.)

لوقت طويل لم يرتبط اسم «أفريقيا» إلا بالأخبار السيئة. فأغلب سكان العالم حين يُفكِّرون في أفريقيا يَرِد على خاطرهم الحروب الأهلية والمجاعات ووباء الإيدز ومعدلات وَفَيَات الأطفال المرتفعة والفقر المُدْقِع والفساد الحكومي. إلا أن اكتشاف النِّفْط مَنَح بصيصَ أملٍ لتغيير حياة العديد من الأفارقة إلى الأفضل.

شأن ساو تومي وبرينسيب وتشاد، اللتين ناقشناهما في الفصل الثاني، باتتْ دول أفريقيَّة أخرى عديدة، على غرار غينيا الاستوائية والجابون وغيرهما، تملك قدْرًا كبيرًا من السلطة السياسية والاقتصادية.

في البداية دخلتْ شركات النِّفْط الكبرى أفريقيا وهي تأمل أن تمثل لها هذه القارة مصدرًا جديدًا للنِّفْط. لكن مع مرور الوقت بدا أن أفريقيا تَطرَح أمام تلك الشركات مشكلات جديدة تُعادِل ما قدمت من حلول للمشكلات القديمة. وقد وَجدتِ الشركات أن التعامل مع السعوديين والكويتيين أيْسَرَ مقارنة بالتعامل مع الأفارقة. فدول الشرق الأوسط، مهما بَدَتْ عليها أمارات عدم الاستقرار، تملك على الأقل أنظمة سياسية حاكمة يُمكِن الاعتماد عليها لمدة جيل من الزمان أو نحو ذلك، بينما في أفريقيا قد يحدث انقلابٌ عسكريٌّ على الحكم كل بضعة أشهر في الدولة الواحدة. وقد تُبرِم شركة ما صفقة مع متمرِّد مَنَحَ نفسَه لقب الجنرال اليوم، ثم تَجِده غدًا قد أُزيح تمامًا عن السلطة. ومِن ثَمَّ رأتِ الشركات أنه من الأفضل لها التعامُل مع مَن تعرِفُهم من قبلُ. استمر بعض هؤلاء المستثمرين المبكرين، لكن بدأ عدد قليل منهم في مغادرة القارة الأفريقية، مانِحين بهذا فُرَصًا للدول التي تملك قدرًا أقل من الخوف من عدم اليقين وقدْرًا أقل من القلق بشأن الأخطار المحتملة للاضطرابات السائدة في أفريقيا.

بحلول أوائل تسعينيات القرن العشرين، ورغم المشكلات السياسية ومقاطعات الإنتاج، بدأ النِّفْط الأفريقي يلعب دورًا ملموسًا في الوفاء بالاحتياجات النِّفْطية العالمية، وكانت التَّوَقُّعات الخاصة بعدد البراميل التي يمكن استخراجُها من الأراضي الأفريقية تَوَقُّعات متفائلة. وقد قالت التنبُّؤات المبكِّرة أنه بحلول عام ٢٠١٥ ستنمو حصة أفريقيا من سوق النِّفْط الأمريكية من ١٥ بالمائة إلى ٢٥ بالمائة. ولو ثبتت دقَّة هذه التَّوَقُّعات فستُزيح أفريقيا الشرق الأوسط بوصفِها المصدر الأساسي للنِّفْط الأجنبي في الولايات المتحدة في غضون فترة وجيزة لا تتجاوز ثمانية أعوام. بالتأكيد بدَتِ الأمور وكأنها تسير في هذا الاتجاه. في عام ٢٠٠١ كانت الواردات النِّفْطية الأمريكية من الشرق الأوسط قد تجاوزت الواردات النِّفْطية الأفريقية بما يزيد عن عشرة بالمائة بقليل، بحجم يصل إلى ١٫٣ مليون برميل يوميًّا. لقد باتت منطقتا إنتاج النِّفْط الرئيستان متساويتين تقريبًا وقتَها. ومثَّلتِ الواردات النِّفْطية من أفريقيا والشرق الأوسط حصةً مقدارُها ٢٢ بالمائة من الواردات الأمريكية من النِّفْط الخام، بَيْدَ أنَّ هذا التوازُن من شأنه أن يبدأ في المَيْل ناحية أفريقيا خلال السنوات القليلة القادمة.

عام ١٩٨٢ كان اقتصاد الصين ينمو بمعدل سنوي يبلغ ٩ بالمائة، وفي عام ١٩٩٣ كان معدل النمو ١٣ بالمائة، وفي عام ٢٠٠٦ بلغ ١١٫٣ بالمائة. وكذلك وَاجَه زعماؤه معضلة بشأن معدلات نمو دولتهم. ولِضمان أن يُواصِل مواطنوهم دعْمَ النظام السياسي الحالي، تعيَّن على هؤلاء الزعماء أن يُقدِّموا لهؤلاء المواطنين ولو إمكانيةَ أن يعيشوا حياة الطبقة الوسطى. لكنْ عند تقييمهم للكيفية التي سيَفُون بها باحتياجاتهم من الطاقة اللازمة لتلك الاستراتيجية، وَجَدوا أنفسَهم في مواجَهَة موقفٍ آخِذٍ في التغيُّر تحت أقدامهم.

بحلول عام ١٩٨٩ كان المخزون النِّفْطي آخذًا في النقصان، وتعيَّن على الأطراف الجديدة الداخلة من جهة الطلب في معادلة العَرْض والطلب أن تبحث عن موارد غير تقليدية. ما تبقَّى كان الدولَ الصغرى، الأقلَّ استقرارًا، والخطيرةَ غالبًا، وكثيرٌ من هذه الدول كان يَقَع في أفريقيا. تنبَّأ الخُبَراء بأنه بحُلُول عام ٢٠٤٥ سيمثِّل النِّفْطُ المستورَدُ نسبةَ ٤٥ بالمائة من الاحتياجات النِّفْطية الصينية. لم يَعُدْ هناك أيُّ شكٍّ؛ فلو أرادتِ الصين مواجهة خُطَّة نموِّها الداخلي وأن تَصير مستورِدًا صافيًا للنِّفْط، فمن الضروري أن تَلعَب أفريقيا دورًا محوريًّا في خطتها.

كانتِ الصين قد اكتشفتِ النِّفْط في أراضيها عام ١٩٥٩، وهو ما رَفَعَها إلى مصافِّ الدول المحتمل كونُها لاعبًا في أسواق النِّفْط، بَيْدَ أنَّ حقول النِّفْط الموجودة في أراضيها لم تكن قادرةً مطلقًا على أن تُجارِيَ اقتصادَها المتوسِّع بسرعة كبيرة. وأخيرًا، في عام ١٩٩٣، تغيَّر التوازُن بين الإمداد النِّفْطي القومي للصين وبين معدَّل نموِّ اقتصادِها بحيث صارتِ الصين مستورِدًا صافيًا للنِّفْط. وخلال عَقْد التسعينيات من القرن العشرين والعَقْد الأول من القرن الحادي والعشرين كان النِّفْط هو ما جمع بين دولة الصين وقارة أفريقيا معًا. كانت الصين متلهِّفة لدَفْع قاطرة نموِّها الاقتصادي، وكانت أفريقيا تفتقر إلى المعرفة والتكنولوجيا كي تُحوِّل مواردَها المكتَشَفة حديثًا من كونِها سلعةً خامًا إلى سلعة مُدِرَّة للأرباح. كان التوقيت مثاليًّا لكِلَا الطرفين. وقد يسَّر عدم تركيز الصين على قضايا معيَّنة بدا الغرب متخوِّفًا بشأنها — على غرار الرِّشوة والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان — كثيرًا على الدول الأفريقية التعاملَ مع الصينيين. وبينما بدأتْ أسعار النِّفْط في الارتفاع، أخذتْ أطراف أخرى تَخطُب وُدَّ الدول الأفريقية — شركات عملاقة مثل توتال وإلف ورويال دَتش شِل وإكسون موبيل وشيفرون تكساكو — لكن الطلب الصيني على النِّفْط كان نَهِمًا على وجْه الخصوص؛ فبداية من عام ٢٠٠٤ مثَّل هذا الطلب نسبةً مقدارُها ٤٠ بالمائة من النمو الإجمالي في الطلب العالمي على النِّفْط، بحيث تخطَّى اليابان وصار في المركز الثاني من حيث استهلاك النِّفْط بعد الولايات المتحدة. أطلق خبراء النِّفْط على منطقة غرب أفريقيا اسم «إلدورادو صناعة النِّفْط». ويؤمن بعض المحلِّلين أن المنطقة تضم ١٠ بالمائة من احتياطي النِّفْط العالمي. وقيل إن الولايات المتحدة استوردت من غرب أفريقيا أكثر مما استوردتْه من الشرق الأوسط عام ٢٠٠٥. وكانت نيجيريا، العملاق النِّفْطي في غرب أفريقيا، تمدُّ الولايات المتحدة بِحَوالَيْ ١٠ إلى ١٢ بالمائة من وارداتها النِّفْطية.

بحلول عام ٢٠٠٦ كانت صورة عالَم النِّفْط قد تغيَّرت عما كانت عليه منذ عَقْد من الزمان؛ إذ فاقت الواردات النِّفْطية الأمريكية من أفريقيا نظيرتَها من الشرق الأوسط، وارتفع الميزان التجاري الصيني مع أفريقيا إلى رقم هائل بلغ ٥٥ مليار دولار. كانت الشراكة المتكوِّنة بين الصين والدول الأفريقية تشغل موضعًا محوريًّا في النظام النِّفْطي الجديد. لقد جمع النِّفْط فعليًّا بين الفُرَقاء.

غزتِ الصينُ أفريقيا، لا بالأسلحة وإنما بالمال والنفوذ. عام ٢٠٠٥ استثمرت الشركات الصينية ١٧٥ مليون دولار في أفريقيا في مشروعات استكشاف النِّفْط وتشييد البنية التحتية والطرق والسكك الحديدية وفي برامج الزراعة والتعليم. وفي العاشر من يناير عام ٢٠٠٦ أعلنتِ «المؤسسة الوطنية الصينية للنِّفْط البحري»، تلك الشركة الصينية الحكومية، أنها تُخطِّط لشراء حصةٍ نسبتُها ٤٥ بالمائة (٢٫٢٧ مليار دولار) في حقل نفطي يَقَع قُبَالَةَ سواحل نيجيريا، وكان الصينيون يشترون نسبة ٦٤ بالمائة من صادرات السودان النِّفْطية.

بحلول أوائل عام ٢٠٠٧ كان الصينيون يواصلون سَعْيَهم للحُصول على النِّفْط، ليس فقط في السودان ونيجيريا وتشاد، وإنما أيضًا في أنجولا والجزائر والجابون وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو. كان النهج الصيني للحَفْر بحثًا عن النِّفْط في أفريقيا يروق بشدة للأفارقة. فبينما بدت كندا والولايات المتحدة معنيَّتَيْن فقط بالاكتشافات الكبيرة، كانت الصين راضية بوضْع يَدِها على الاكتشافات الصغيرة، مُؤمِنة بأن للتنوُّع مزاياه في قارة غير مستقرة كقارة أفريقيا.

من خلال استثمارات الصين في الموادِّ الخام وشهيتها لها، كانت تلك الدولة الأعلى من حيث عدد السكان على مستوى العالم تُغيِّر وجهَ اقتصادات دول عِدَّة، من أنجولا إلى أستراليا. لكن الأمر المُهِمَّ كذلك هو أن الصين كانت تُحوِّل قوتها التجارية الجديدة إلى قوة سياسية، بحيث خَطَتْ إلى المسرح العالمي وتصرَّفتْ كدولة تَعتَزِم اعتزامًا لا يَلِين أن تَصِير القوى العظمى العالمية التالية.

الهيمنة من خلال الرخاء

من المعروف أن الصين كانتْ معنيَّة بما هو أكثر من نموها الداخلي. ورغم أنه ما من زعيم صيني سيُقِرُّ بهذا فإن الصينيين أظهَروا كلَّ الإشارات الدالَّة على أنهم يرغبون في الهيمنة على العالم في القرن الحادي والعشرين.

fig7
شكل ٣-٢: تشين يون، رئيس بنك التنمية الصيني، يقصُّ شريط الافتتاح لاحتفال صندوق التنمية الصيني الأفريقي في قاعة الشعب العظمى في بكين، الصين، في السابع والعشرين من يونيو ٢٠٠٧. وَعَدَتِ الصين بمَنْح ما قيمتُه ٢٠ مليار دولار أمريكي من البنية التحتية ودعم التمويل التجاري إلى الدول الأفريقية على مدار السنوات الثلاث القادمة. (تصوير شيفر/بلومبرج نيوز.)
بالنسبة إلى الصينيين، كان الاستثمار في أفريقيا وغيرها من البقاع جزءًا من استراتيجية سياسية شاملة، وكان النِّفْط جزءًا آخَرَ منها. تاريخيًّا، كانت السياسة الخارجية الصينية في سوادها الأعظم عبارة عن هجمات حادَّة موجَّهة ضد الإمبريالية. نظرتِ الصين إلى العالَم بمنظور أبيض وأسود؛ فما هو في صالح الولايات المتحدة أو الغرب يكون تلقائيًّا في غير صالح الصين، والعكس صحيح. ومن خلال العزلة عن بقية دول العالم، لم يَرَ الصينيون أيَّ أهمية لتعلُّم اللغة الإنجليزية،١ كما لم يُبدوا سِوَى قليلٍ من الحماس للفن أو الصناعة الغربيَّين. والآن باتوا يُدرِكون أن التفاعلات والتعاملات الاقتصادية مع الغرب يمكن أن تكون ذات قيمة وأن الدبلوماسية والمساعدات الخارجية لها بعضُ القيمة من حيث النفوذ. وفي اللقاءات الدولية خَفَّت حِدَّة التصريحات الصينية، وتخلَّتِ الصين عن خطابها التقليدي المستنكِر للغرب. وبدلًا من ذلك، كثيرًا ما أقْرَضَ الصينيون نفوذَهم النابع من حَجْمِهم وكذلك قوتهم التصويتية إلى الأفارقة.

يقول الرئيس ديبي، رئيس تشاد: «فيما مضى، حين كانت تواجهنا مشكلات تتعلق بإرسال إحدى الدول المجاورة لنا بعضَ المرتزقة لغَزْوِنا، لم تكن أيٌّ من الشكاوى التي قدَّمناها أمام الأمم المتحدة يُنظَر فيها؛ لأن الصين كانت تعترض على هذا.» منذ ذلك الحين، قطعتْ أنجولا علاقاتها مع تايوان تقرُّبًا للصين وكي تفتح الباب أمام الاستثمارات الصينية. ويُضيف ديبي إنه في الوقت الحالي «بِتْنا قادرين على التعبير عمَّا يُقْلِقُنا من قضايا دون خوف.»

لم تَعُدِ الصين ذلك اللاعبَ تافِهَ الشأن، بل صارتْ أحدَ اللاعبين الكبار في مجال النِّفْط في أفريقيا. لقد درَّبتِ الصين آلاف الأفارقة في جامعات صينية، وأرسلتْ آلاف الأطباء إلى أفريقيا، وهي أفعال تذكَّرها الأفارقة بكل عِرْفان. لقد قَطَع الرئيس الصيني هو جينتاو عِدَّة وعود: مضاعفة المساعدات الصينية إلى أفريقيا بحلول عام ٢٠٠٩، وتدريب خمسة عشر ألف مهني محترف، وتقديم مِنَح دراسية لأربعة آلاف طالب أفريقي، وتقديم المساعدة بشأن مشكلات الزراعة بالقارة.٢

هو جينتاو: زعيم صيني ذو خُطَط طموحة

الرئيس الصيني هو جينتاو، البالغ من العمر أربعة وستين عامًا، زعيم بالغ الطُّموح. ففي أوائل الستينيات، حين كان طالبًا بالجامعة، انضم إلى الحزب الشيوعي، ومنذ ذلك الوقت وهو عضو مخلص بالحزب.

رغم ما يبدو على هو جينتاو من عدم ارتياح عند لقائه بالأجانب، فإنه مع ذلك كان أنشط سفراء الصين وأهمَّهم بداية من عام ٢٠٠٤. وقد قضى أسبوعين في جنوب أفريقيا ذلك العام، وتعهَّد بعمل استثمارات بمليارات الدولارات لكلٍّ من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكوبا. كما قضى أيضًا بعض الوقت في كينيا ونيجيريا والولايات المتحدة وروسيا والسعودية والمغرب.

بنهاية عام ٢٠٠٦ كان هو جينتاو قد استضاف ثمانية وأربعين زعيمًا أفريقيًّا لمدة ثلاثة أسابيع من المباحثات في بكين، كوسيلة للانطلاق في «الغزو» الصيني لأفريقيا.

(١) أنجولا

اكتشفتْ أنجولا النِّفْط في أراضيها للمرة الأولى عام ١٩٥٥، ومضتْ سنوات عِدَّة قبل أن يُدرِك أيُّ شخص مقدارَ الأهمية التي تتَّسِم بها احتياطيات هذه الدولة النِّفْطية. في عام ٢٠٠٧ قُدرت احتياطيات النِّفْط الأنجولية المؤكَّدة بنحو ٨ مليارات برميل، أغلبه يقع في مواقع لا تبعد بأكثر من مائة ميل عن ساحلها. تَضاعَف إنتاج أنجولا النِّفْطي عشر مرات بداية من منتصف سبعينيات القرن العشرين ليَصِلَ إلى ١٫٤ مليون برميل يوميًّا عام ٢٠٠٥ و١٫٥ مليون برميل يوميًّا عام ٢٠٠٦. وعلى مدار عَقْدَيْن تَضَاعَف إنتاج النِّفْط الخام بأكثر من أربع مرات. ووفق تقديرات إدارة معلومات الطاقة فإن من المقرَّر أن يَصِل إنتاج النِّفْط الأنجولي إلى مليونَيْ برميل يوميًّا بحلول عام ٢٠٠٨، وهو الوقت الذي من المتَوَقَّع أن تبدأ فيه مواقع الإنتاج الموجودة في المياه العميقة عملَها. في ديسمبر ٢٠٠٦ أعلن البنك الدولي أنه — بما يتفق وتقديرات إدارة معلومات الطاقة — من المرجح أن يُعادِل إنتاجُ أنجولا النِّفْطي الإنتاجَ الكويتي بحلول عام ٢٠١١، وذلك بوصوله إلى ٢٫٦ مليون برميل يوميًّا.

fig8
شكل ٣-٣: عُمَلاء يَدخُلون ويَخرُجون من أحد فروع ستاندرد بنك في روزبانك بجوهانسبرج في جنوب أفريقيا في الخامس والعشرين من أكتوبر عام ٢٠٠٧. دفع بنك الصين للصناعة والتجارة ذو المسئولية المحدودة ٣٦٫٧ مليار راند (أيْ ما يُعادِل ٥٫٦ مليارات دولار) مقابل حصةٍ مقدارُها ٢٠ بالمائة في مجموعة ستاندرد بنك جروب ذات المسئولية المحدودة، أكبر بنوك أفريقيا، في أكبر عملية امتلاك تقوم بها شركة صينية في الخارج. (تصوير ناشان زالك/بلومبرج نيوز.)

كانت شركات النِّفْط حول العالم تشكُّ في أن أنجولا قد تكون واحدة من أواخر المناطق غير المستكشفة المحتوية على النِّفْط. وفي عام ٢٠٠٦، عرضت شركة النِّفْط الإيطالية إنِي مبلغًا مذهلًا مقداره ٩٠٢ مليون دولار من أجل تأمين حقوق الحفر الخاصة بها قُبَالَةَ سواحل أنجولا. كان ذلك في وقته أعلى مقابلٍ دفعتْه شركة نِفْط مقابلَ حقوق الحفر.

يقول باولو سكاروني، الرئيس التنفيذي لشركة إني: «بدا الأمر وقتَها ضربًا من الجنون، لكننا في الواقع نشعر أنه ليس من الجنون في شيء. فهناك احتياطيات نفط كبيرة في أنجولا. وهي منطقة أفريقية يمكن أن ينمو إنتاج النِّفْط بها، وكنا نريد أن نكون جزءًا من هذا النمو.»٣

بعد عرض إني، عرضت ساينوبك، وهي شركة صينية مملوكة للحكومة، وسونانجول، وهي شركة نفط أنجولية قومية، معًا ٢٫٢ مليار دولار مقابل الحفر في موقعين آخرين قُبَالَةَ ساحل أنجولا.

عام ٢٠٠٦ كانت أنجولا تقع في المرتبة ١٤٢ من بين ١٦٣ دولة على مؤشر الفساد السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. كان صندوق النقد الدولي متردِّدًا حيالَ منْحِها أي أموال إضافية ما لم تفسِّر أنجولا على نحو لائق ما حدث للأربعة مليارات دولار من أموال النِّفْط التي اختفتْ في السنوات الأخيرة للحرب الأهلية التي مرَّتْ بها البلاد. ومع ذلك فقد كان حجم عوائد النِّفْط الأنجولي يضع أنجولا في موضع يُمكِّنها ألَّا تولِيَ اهتمامًا حيالَ مخاوِف صندوق النقد الدولي، فبمقدور الأنجوليين أن يتلاعبوا بالصين والأمريكيين وأن يتجاهلوا البنك وصندوق النقد الدوليين بالمرة. عام ٢٠٠٤، حين حبس صندوق النقد الدولي قرضًا لأنجولا بسبب الاشتباه في الفساد، سارع الصينيون بتقديم قَرْض بديل مقدارُه مليارا دولار، وبفعلهم هذا حصل الصينيون على نصيب كبير من الإنتاج النِّفْطي الأنجولي المستقبلي. كانت الصين بالأساس تلتف على سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين بشأن الحدِّ الأدنى من الشفافية، والتقييمات الخاصة بالدَّيْن الإجمالي والسياسة المالية، والعطاءات المفتوحة للعقود، والدراسات الخاصة بالآثار البيئية.

بحلول عام ٢٠٠٥ أصبحت أنجولا المُوَرِّد الأكبر للنِّفْط إلى الصين؛ إذ يمثِّل النِّفْط الأنجولي نحو ٤٠ بالمائة من الواردات النِّفْطية الصينية من أفريقيا. دخلت الشركات الصينية أنجولا لبناء المستشفيات والجسور والمكاتب والسكك الحديدية والمدارس والطرقات، علاوة على نَشْر شبكة ألياف ضوئية وتدريب العمال الأنجوليين في مجال الاتصالات. في العاصمة الأنجولية لواندا، ارتفع سعر الليلة في الفنادق لأكثر من ٢٠٠ دولار، وكانت شركات النِّفْط هي المسئولة عن الحجز الكامل للغرف الفندقية لمدة شهرين مقدَّمًا، وبعض موظَّفي هذه الشركات كانوا يُسافِرون دون توقُّف إلى هيوستن ثلاث مرات أسبوعيًّا. وبمعدل نمو من عام لآخَر يبلغ ١٨ بالمائة، يُعَدُّ اقتصاد أنجولا اليوم من أسرع الاقتصادات نموًّا، ليس فقط في القارة الأفريقية، وإنما في العالم أجمع. لقد صارت أنجولا ثاني أكبر مُصدِّر للنِّفْط في دول جنوب الصحراء الأفريقية بعد نيجيريا. ومنذ عام ٢٠٠٣ اجتذبت صناعاتُ النِّفْط والغاز استثماراتٍ أجنبيةً تَزِيد عن عشرين مليار دولار. ويمثل النِّفْط أكثر من ٤٠ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ونحو ٩٠ بالمائة من الإيرادات الحكومية.

(٢) زيمبابوي

قصة زيمبابوي قصة مختلفة. ففي يوليو ٢٠٠٥، ورغم الاتهامات العديدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان الموجَّهة إلى الرئيس روبرت موجابي، وَعَدَتِ الحكومة الصينية زيمبابوي بحزمة مساعدات اقتصادية، وذلك في مقابل «امتيازات معدنية وتجارية أخرى». وقد قال وزير الخارجية الصيني إن الصين «تَثِقُ بأن حكومة وشعب زيمبابوي لدَيْهم القدرة على إدارة شئونهم على نحو لائق.» مشيرًا بوضوح إلى أن وزارته تَثِق في أن معسكرات تعذيب موجابي لن تَقِفَ في سبيل الاستثمارات الصينية في عملية إنتاج النِّفْط الزيمبابوي أو شراء ذلك النِّفْط. وقد نُقِل عن هو جينتاو أنه قال لموجابي: «لقد أسهمتَ مساهمة عظيمة في العلاقات الودية بين بلدينا … وأنا على استعداد لتبادُل عميق للآراء مع فخامتكم بشأن العلاقات الثنائية بين البلدين.» بعدها بعدة أعوام، وفي مواجهة السخط الدولي، استجابتِ الصين وبدتْ وكأنها قد تَسعَى إلى إبعاد نفسِها عن موجابي، لكن ربما فك الارتباط هذا في العلن وحسب.

(٣) مساعدة أم تحريض؟

نظرًا لأن غالبية حقول النِّفْط الكبرى في العالم بعيدة عن منال الصين، «انتهى الحال بالصين — في محاولتها تأمينَ المخزون النِّفْطي من أكبر عدد ممكن من المصادر — بالتعامل مع أنظمة قمعية على غرار السودان وإيران وميانمار. كما نشطت الصين تحديدًا في أفريقيا.»٤ في الواقع، في منطقة دارفور بالسودان، ساندتْ أموال النِّفْط الصينية والأسلحة المصنوعة في الصين المجازِرَ التي تعرَّض لها مئات الآلاف من الأشخاص هناك.

بفضل الاكتشافات النِّفْطية في أرجاء القارة، سيواصل منتجو النِّفْط الأفارقة جَنْيَ مكاسب مالية هائلة. ولو ظل سعر برميل النِّفْط فوق الخمسين دولارًا حتى عام ٢٠٢٠، سيجني منتجو النِّفْط بغربيِّ أفريقيا تريليون دولار، وهو رقم يَزِيد بمقدار الضعف عن كل مساعدات ما بعد الاستعمار التي مُنحتْ للدول الأفريقية بُعيَد استقلالها في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. في صيف عام ٢٠٠٨، فاقت أسعار النِّفْط هذا المستوى بثلاثة أضعاف. وهذه الأموال يُمكِنها أن تُموِّل العديد من الانقلابات، وحركات التمرُّد، والمذابح العِرْقية، لكنْ في المعتاد لا يُوجَّه منها لمكافحة الفقر إلا القدْر اليَسِير.

لا شك أن الغزو الصيني للقارة الأفريقية منح القارة مظهرًا مختلفًا تمامًا. فمنذ عام ١٩٩٠ لم يُحدِث أيُّ مُنتِج نفط أجنبي أثرًا يُضاهِي الأثرَ الذي أحدثتْه الصين. والسؤال الذي يُراوِد العالم هو: هل كان تأثير الصين على أفريقيا تأثيرًا إيجابيًّا؟

في الأغلب الأعمِّ، يبدو أن الجواب هو: نعم. اتَّهم بعض المنتقدين الصينَ بتقديم عروض تَقِلُّ عن عروض الشركات الأفريقية المحلية وعدم توظيف عُمَّال أفارقة. كما لم يُقدِّر آخرون تلك الأريحية التي دَفَعَتْ بها الصينُ الرِّشا للأفارقة أو تقديم الصين لأموال مساعدات دون فرض أي شروط متعلقة بالحوكمة. كما عبَّر آخرون عن قلقهم من أن الوجود الصيني في أفريقيا من شأنه أن يصد جهات راعية خارجية أخرى ربما قد ترغب في مساعدة الأفارقة مثلما ساعدها الصينيون، إن لم يكن بدرجة أكبر. ومع هذا، في عام ٢٠٠٥ كان الغزو الصيني لأفريقيا قد تمخَّض عن معدَّل نمو مقداره ٥٫٥ بالمائة بالنسبة إلى الدول الأفريقية المصدِّرة للنِّفْط.٥ وبحلول عام ٢٠٠٩، كان من المتَوَقَّع أن ينخفض النمو في الدول المصدِّرة للنِّفْط إلى ٢٫٤ بالمائة بسبب الأزمة المالية العالمية.

السعيُ لإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في خليج غينيا

بسبب المصالح الحيوية في أفريقيا، بدأتِ الولايات المتحدة الأمريكية في وقت مبكِّر يَرْجِع إلى عام ٢٠٠٢ في التفكير في سُبُل لحماية مصالحها النِّفْطية في خليج غينيا. غير أن فكرة القاعدة العسكرية واجهتْ بعضَ المقاومة؛ فبقدْر ما تتفهَّم الدول الأفريقية سبب رغبة الولايات المتحدة في حماية مصالحها النِّفْطية، إلا أنها كانت لا تَثِق بأيِّ تحرُّكٍ ذي صبغة استعمارية. وحتى عام ٢٠٠٨، لا تزال الفكرة محلَّ نقاش.

(٣-١) التلهُّف لتقديم المساعدات في أفريقيا

كانت أنجولا أكثر الدول الأفريقية ترحيبًا بالصينيين، ومع ذلك فقد كانت قوًى غربية وآسيوية أخرى سعيدة الحظ مع دول أفريقية أخرى؛ كفرنسا مع الجابون، واليابان والهند وروسيا مع غينيا الاستوائية وتشاد والكاميرون. في ساحل العاج الزراعية في معظمها، موَّلت الصين قروضًا لبناء عاصمة جديدة في ياموسوكرو. وفي تشاد، كانت الصين تُخطِّط لبناء أول مصفاة لتكرير النِّفْط وتشييد طرق جديدة وتوفير الريِّ وبناء شبكة للهاتف المحمول.

لم يكن هناك مَن هو أسعدُ بالمستوى المرتفع للطلب الصيني على النِّفْط من الأفارقة، الذين كانوا يستفيدون مِن كلٍّ مِن ارتفاع أسعار النِّفْط وكذلك العلاقات المَتِينة التي كانوا يتمتعون بها مع أصدقائهم الصينيين الجُدُد، الذين كانوا يَبْنُون الطرقات والجسور والسدود بتكاليف أقلَّ وفي وقت أقلَّ ممَّا كان الأفارقة يتَوَقَّعونه. أيضًا، ليس من قَبِيل المفاجأة أنْ يَسعَد الأفارقةُ حين شَطَبَتِ الصينُ ١٠ مليارات دولار من الديون الثنائية المستحقَّة على بعض الدول الأفريقية.

بغضِّ النظر عن الكيفية التي سيتطوَّر بها الموقف — سواء أنخرطت الدول الساعية وراء قوة النِّفْط في علاقات متشابكة مع الصينيين أم تورَّطت واحدة أو أكثر من شركات النِّفْط الدولية الكبرى في صراعات أو عنف بعضها مع بعض — فإن النظام النِّفْطي الجديد اختلف تمامًا عن أجواء السكون التي سادت المشهد في القرن التاسع عشر والسواد الأعظم من القرن العشرين، ومجددًا شهد ميزان القوى تحولًا.

هوامش

(١) على النقيض من ذلك، العديد من الشباب الأمريكي والأوروبي يعكفون في حماس على تعلُّم اللغة الصينية الحديثة (الماندرين)!
(٢) لم ينسَ هو جينتاو بقية دول العالم؛ ففي عام ٢٠٠٦ سافر، ليس فقط إلى فيتنام لحضور قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، وإنما ذهب كذلك إلى لاوس والهند وباكستان.
(٣) مقال «الوقت الراهن، أنجولا هي الموضوع الأول على قائمة اهتمامات قطاع النفط»، نيويورك تايمز، ٢٠ مارس ٢٠٠٧.
(٤) نيكولاس كريستوف، نيويورك تايمز، ٢٣ أبريل ٢٠٠٦، http://nytimes.com/2006/04/23/opinion/23kristof.html في أماكن أخرى كحقول النفط البحرية قبالة سواحل كمبوديا، كانت كلٌّ من فرانس توتال وائتلاف بقيادة شيفرون والمؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري تتسابَق بعضُها مع بعض من أجْل الفوز بنصيب الأسد من احتياطي النفط المقدَّر بما يزيد عن المليارَيْ برميل. ويبدو أنه سيكون للصين قصب السبق.
(٥) مقال بعنوان: «تحسُّن توقعات النمو في أفريقيا»، بي بي سي نيوز، ١٦ مايو ٢٠٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤