التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
تمهيد
ومِنَ الشَّواهد أو الأدلة على ما نقول ما نجدُ من هذا التأويل في كل العصور، وهذا ما سنعمل على تبيُّنه في هذا الفصل، وذلك لنعرف أنَّ فكرة التأويل لدى ابن رشد لم تكن بدعًا ولا تقليدًا منه، ولنعرف كذلك ما قد يكون له من أصالة في تطبيقها على النصوص الدينية في الإسلام.
ولعل من البواعث الهامة فيما نرى التي بعثت أولئك المفكرين من رجال الديانات العالمية الثلاث إلى التأويل، هو ما يراه الواحد منهم من أنَّ دينه عالمي للخاصة والعامة من كل الأمم وفي كل العصور، فيجبُ أن يكون متفقًا في أفكاره مع الحقائق الفلسفية التي قامت الأدلة على صحتها، والتي فرضت سلطانها العام أو العالمي، وذلك ما لا يكون إلا بالتأويل.
وفضلًا عن هذا وذاك؛ فإنَّه — وقد وجدت فكرة العالمية لكلٍّ من الدين والفلسفة، وأخذ الباحثون يُعملون عقولهم فيها — كان لا بدَّ أن يظهر التعارض بينهما لاختلاف طريقة العرض والأسلوب وخطة البحث في هذين الطرفين، فكان لا بدَّ إذن من التأويل بينهما، وهذا ما حصل فعلًا في كلٍّ من الأديان الثلاثة.
(١) لدى اليهود قبل فيلون
وقد كان لليهود مثلهم مثل غيرهم من أبناء الأجناس الأُخرى، جالية كبيرة تَعتَزُّ بدينها الذي يقوم على التوراة وتقاليدهم الدينية المأثورة، إلا أنهم مع هذا اضطروا للأخذ بنصيب من الفلسفة والآداب اليونانية، وهذا مما جعلهم يترجمون فيما بعدُ كتبهم المقدسة لليونانية التي كانت لغتهم العادية.
ولكن ينبغي أنْ نَقِفَ لحظة نُحَاول فيها أن نتعرف بعمقٍ العوامل التي دفعت يهود الإسكندرية لذلك التَّصور الذي يجمع بين الديانة الموسوية والفلسفة الإغريقية.
إنَّ جِماع هذه العوامل، في رأينا، هو أنهم أصحاب أول دين سماوي له كتاب بين أيدينا، وهذا الكتاب تناول كثيرًا من المشاكل التي شغلت الفلاسفة القُدَامى، وهم إلى ذلك أو من أجل ذلك شعب الله المُختار أو أبناؤه، جل وعلا عن هذا الزعم، ويُضاف إلى هذا وذاك أنهم فقدوا وطنهم فأصبح الدِّينُ هو الرباط الوحيد الذي يجمع بينهم.
وكان لذلك كله أن رأوا أن يعملوا على إظهار أنَّ دينهم يحتوي ما يعتز به اليونان من فلسفة تقبلتها عقول الأُمم الأُخرى، فكان من هذا تأويلهم التوراة تأويلًا مَجَازيًّا يُظهر ما فيها من حِكمة وفلسفة كما يرون، وبخاصة أنَّ طريق التأويل المجازي كان معروفًا من قبلُ لدى اليونان.
حقًّا إنه كما يكون النَّص الديني موضوعَ التأويل ليتفق والحقيقة التي يثبتها العقل، وهذا الضرب هو بيت القصيد من هذا الفصل، كذلك قد يكون موضوع التأويل نصًّا من الأساطير أو الآداب التي لها حظها من القداسة لدى أُمَّة من الأُمم ليتفق والفكرة التي يراها المؤوِّل بعقله.
(٢) لدى فيلون
الكلام على التأويل عند فيلون الإسكندري معناه الكلام على العُمدة في هذه النَّاحية في رأينا ورأي كثير من الباحثين؛ فقد كان لموقفه حيالَ التوراة وفلسفة اليونان الأوائل، وتأويلِ كثير من نصوص تلك أثَرٌ مباشر أو غير مباشر في مُفكري المسيحية والإسلام في العصر الوسيط، عندما وَجَدوا أنفسهم في مثل موقفه، وقرءوا ما وصل إليهم من كتاباته فيما ورثوه من فلسفة الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية.
•••
إنَّ القارئ لِمَا كتب فيلون يحس إحساسًا قويًّا بأنَّ الشريعة والفلسفة هما المصدران لتفكيره، ولا عجب في هذا، فإنَّ الحقيقة واحدة؛ فلا تناقض نفسها وإن اختلفت صور التعبير عنها، يُريد أن يقول بأنَّ ما هو حق من الفلسفة ليس إلا ما نجده في التوراة من حكمة، وإن لبست على أيدي الفلاسفة ثوبًا أو ثيابًا أخرى.
وإذن، فالتَّأويل ضروري لما يراه فيلون وأمثاله من أنَّ الأنبياء تكلموا كثيرًا بالمجاز سترًا للحقيقة عن غير أهلها، إذن يكون فهْم النص على حقيقته ليس مقدورًا للجميع، ما دام طريق هذا هو التأويل الذي ليس مقدورًا أو مسموحًا به للناس جميعًا.
- (أ)
إنَّه يَرَى أنَّ المعنى الحرفي يُشبه الجِسْمَ، والمعنى الخفي يُشبه الروح.
- (ب)
ومع هذا ينبغي ألا نُهْمِلَ المعنى الحرفي، بل يجبُ أن نُراعي الحرف والروح معًا أو الظاهر والخفي؛ ولهذا يلوم الذين لا يُلقون بالًا لكلٍّ منهما، ويرى من الواجب العناية بهذا وبذاك، وذلك بما أنَّه من الواجب العناية بالجسم والروح معًا.
وإذن يرى فيلون أنَّ من الضروري تأويل النصوص التي تثبت بظاهرها لله ما لا يليق به من الصفات والأحوال: كالتجسيم، والكون في مكان، والكلام بصوت وحروف، والندم، وهو في هذا يقول: الله لا يأخذه الغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات، وليس له مكان خاص يَقَرُّ فيه.
كما يؤوِّل أيضًا للتخلص من المعنى الحرفي الأسطوري ذي الغرض، وهو يُحارب بشدة هذا الضرب من التأويل الذي يهدف إلى نقد التوراة بجعلها بمنزلة كتب الأساطير الإغريقية، إنَّه يُقاتل هذا الفهم الحرفي في ميدانه، وذلك بأنْ يُعارضه بفهم حرفيٍّ آخر يتفق وسمو التوراة، ثم يُضيف بعد هذا تأويلًا آخر مجازيًّا.
وأخيرًا في تلك الناحية، نكتفي بالقول بأنَّ فيلون يؤوِّل أيضًا لغاية أُخرى مُهِمَّة جدًّا في رأيه؛ إذ إنَّها تُعبر عن فكرته الأساسية من استعماله للتأويل المجازي، وهي أنْ يَصِيرَ الدين الموسوي دينًا عالميًّا، وهذه الغاية يحول دونها فهم النصوص فهمًا حرفيًّا دائمًا.
ومما تَقَدَّم كله نرى أنَّ أنواع التأويل التي عرفناها عن فيلون هي ثلاثة كما يذكر الأستاذ برهييه، وهي: التأويل الحرفي ذي الغرض، والتأويل الحرفي البسيط، والتأويل المجازي.
•••
والآن ماذا كانت نتيجة اصطناع فيلون طريقةَ التأويل المجازي حسب ما رأى لنفسه، التأويل الذي عرفنا مبلغ تشدده في رعايته؟
هذا، وسَنَرى عندَ الحديث عن التأويل لدى ابن ميمون، كيف أنَّ سبينوزا الفيلسوف اليهودي أيضًا يُعارض التأويل المَجَازي مُعَارضة شديدة، ويرى أنَّ التوراة يجبُ أن تفسر بالتوراة نفسها، لا بالفلسفة اليونانية أو غيرها من الفلسفات المختلفة.
(٣) التأويل لدى ابن ميمون
إذا تركنا فيلون، وتخطينا العصر الذي كان يعيش فيه ببضعة قرون، نجد حبرًا آخر من أحبار اليهود وفلاسفتهم يرى ضرورة التأويل المجازي للتوراة، نعني بذلك «ابن ميمون» الذي كان يعيش في القرن الثاني عشر، بل نجد قبل ظهور ابن ميمون نفس التأويل لدى غيره من مفكري اليهود، مثل سعاديا الفيومي (٨٩٢–٩٤٢م)، وابن جبريول من رجال القرن الحادي عشر.
•••
ولأجل فهم طريقة ابن ميمون في التأويل، وغرضه منه والبواعث التي بعثته عليه، لا نَرى خيرًا من الرُّجوع إلى كتابه «دلالة الحائرين»، فقد أَفْصَح عن ذلك كله بما يكفي الباحثَ ويُرضيه، إنَّه يقول في مُقَدِّمة هذا الكتاب: «هذه الرِّسَالة لها أيضًا غرض ثانٍ، وهو شرح النصوص المجازية الشديدة الغموض، هذه النصوص التي نصطدم بالكثير منها في أسفار الأنبياء دون أن يكون واضحًا أنَّها من المجاز، والتي — على الضد من هذا — يأخذها الجاهلُ والذاهل على معناها الخارجي، دون أن يرى فيها معاني خفية.»
وإذن يجب التأويل لفهم المجازات وما ترمي إليه من معانٍ، فذلك — فيما يؤكد ابن ميمون — هو المفتاح لفهم كل ما قاله الأنبياء، ولمعرفة حقيقته تمامًا، وبهذا التأويل نتجاوز المعنى الظاهر للنفس إلى المعنى المراد، وكم بينهما من فرق!
- (أ)
يجبُ أن يكون في الظَّاهر ما يُرشد المتأمل بعقله إلى المعنى الخفي.
- (ب)
أن يكون هذا المعنى الخفي أجمل وأليق من المعنى الذي يدلُّ عليه النص بظاهره.
- (جـ)
أن نصير إلى التأويل إذا كانت النصوص لو أخذت حرفيًّا تؤدي إلى التجسيم، أو جواز النقلة أو الكون في مكان على الله، ونحو هذا مما يتصل بصفات المخلوقين التي يَسْتَحيل عقلًا أن تُنسب إليه؛ ولهذا يجبُ إذاعة تأويل هذه النصوص وأمثالها للعامَّة والخاصَّة على سواء.
- (د)
أن يُصار إلى التأويل متى قام الدَّليل العقلي الصحيح على بُطلان المعنى الذي يُؤخذ من ظاهر النَّص؛ ولهذا تُركت النصوص التي تشهد بظواهرها لحدوث العالم، مع إمكان تأويلها؛ لأنَّه لم يَقُم الدليل القاطع على قِدمه حتى من أرسطوطاليس.
- (هـ) ألا نصل بسبب التأويل إلى معنى يهدم أساسًا من أسس الشريعة؛ ولهذا كان السَّببُ الثاني في عدم تأويل النصوص التي تشهد بظاهرها لحدوث العالم، أنَّ القول بقِدَمِه كما يرى أرسطوطاليس يستأصل الدين من أساسه، ويدمغ كل المعجزات بأنها أكاذيب.٢٩
- (و)
وأخيرًا ألا يُذاع من التأويل إلا القليل الذي يكفيي لفهمه، وأن يكون ذلك للمُستعد له فحسب.
هذه هي الأصول الهامة التي أمكن استخلاصها من كتابه القيم الآنف الذكر، والتي على هداها سَارَ ابن ميمون في تأويلاته، ومنها يتبين أنَّه كان يسير على الجادَّة التي سار عليها قبله وبعده أمثالُه من رجال الدين الفلاسفة والمفكرين.
وذلك بأنه قد يستعين حقًّا ببعض الآراء الفلسفية الصحيحة على فهم بعض ما جاء في التوراة كما قلنا، وقد يؤوِّل بعض نصوصها تأويلًا مجازيًّا لتتفق وما قام الدليل القاطعُ على صحَّته من الآراء الفلسفية كما ذكرنا آنفًا أيضًا، ولكنه مع هذا وذاك لا يجنح إلى التأويل إذا كان الأمر على غير ما ذكر، بل يقبل الحل الذي جاء في التوراة عن الأنبياء بلا تأويل.
ولذلك نراه يلوم جِد اللوم الذين قالوا بِقِدَم العالم تقليدًا لأرسطوطاليس وغيره من الذين يعتبرون حجة في الفلسفة، دون دليل صحيح قاطع بالقدم، ثم رفضوا لهذا ما جاء به الأنبياء مما يُثبت الحدوث.
الأمر واضح إذن، إنَّ صاحب «دلالة الحائرين» يؤمن إيمانًا تامًّا بأنَّ ما قام عليه الدليل العقلي الصحيح القاطع لا يُمكن أن يتناقض أو يتعارض وما جاء به الوحي، فإن أحسسنا تعارُضًا بينهما كان ظاهريًّا يجب أن يزول بتأويل النَّص، أو إذا لم يكن الدليل صحيحًا قاطعًا، وجب قبول ما جاء به الوحي؛ حتى ولو كان تأويله مُمكنًا، وحتى لو كان الرأي الفلسفي لأرسطوطاليس أو غيره من مشاهير الفلاسفة.
•••
وموقف سبينوزا هذا واضح، وذلك متى لاحظنا رأيه في العلاقة بين الوحي والعقل أو بين الدين والفلسفة، فهُما متمايزان في الطبيعة والغاية كما ذكرنا من قبل؛ ولهذا يجبُ الفصل بينهما وإبقاء كلٍّ منهما مُستقلًّا في دائرته الخاصة به.
(٤) التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية
نحنُ الآن في العالم المسيحي حيث يُوجد دين جديد له كتاب موحى به، ويُحاول أن يكون عالميًّا، ويجدُ نفسه إزاء الفلسفة اليونانية التي صارت عالمية بالفعل، ويرى مُفكروه في هذه الفلسفة حقائق لا يمكن إنكارها، وبعضها لا يتفق وبعضَ نصوص الكتاب المُقدس لهذا الدين السماوي، فكيف العمل؟
كيف سيعمل رجال هذا الدين إزاء هذه الفلسفة؟ أينكرون ما فيها من حقائق تُعارض كتابهم المُقدس، وحينئذ لا يتكلفون عناء تفسير ما جاء بكتابهم تفسيرًا فلسفيًّا؟ أم يعترفون بها، وإذن لا بد من تأويل بعض النصوص الدينية لتتفق وتلك الحقائق؟
هكذا وُضعت المُشكلة أمام مُفكري العصر المسيحي وفلاسفته من أول ظهور المسيحية إلى نهاية العصر الوسيط، بل إلى هذه الأيام، كما وضعت من قبل أمام مُفكري اليهودية، وكما ستظهر من بعدُ أمام فلاسفة الإسلام.
•••
وإذن إذا كان الأمر هكذا، أي: إذا كان الإنجيلُ قد حوى ما هو حق من الفلسفة اليونانية، بل حوى حقائق أُخرى لم يصل إليها هؤلاء الفلاسفة اليونان، وكان الإنجيلُ إذا أُخِذَت نُصوصه كلها حرفيًّا لا تظهر منه هذه الحقائق، كان لا بُدَّ من تأويل بعضها ليظهر ما فيها من المعاني الخفية الفلسفية، وهذا الموقف، والأمر كما ذكرنا، هو ما وقفته الكنيسة من أَوَّل أمرها، حيثُ قبلت مبدأ احتمال بعض النصوص معاني مُتعددة، ووجوب التأويل أحيانًا حسب ما تعارف اليهود قبلهم عليه من قواعد وأصول.
حقًّا إنه يعود إلى مدرسة الإسكندرية مبدأ تعدد معاني الكتاب المقدس، ومبدأ التأويل المجازي لبعض نصوصه، هذا التأويل الذي ساد في العصر الوسيط وبخاصة في القرون الأولى منه، والمُثل في هذا لا تُعْوزِنا بحالٍ.
وهذا التأويل من أُوريجين لما ذكرناه ونحوه لم يَعُد شيئًا نكرًا في أَيَّامه؛ لأنَّه كان من المُجْمَع عليه تقريبًا من آباء الكنيسة في القرون الخمسة الأولى، تأويل قصة الخلق في ستة أيام تأويلًا مَجَازيًّا، كما يذكر الأب مارتان.
وهنا ينبغي أن نُشير إلى وقوف القديس «برنارد» موقف المُعارض الشديد لأبيلارد فيما اصطنعه من طريقة فهم الفلسفة والإنجيل، حتى كان ما هو معروف من الحكم على هذا بالسكوت وحرمان أنصاره سنة ١١٤٠م.
وإذا تركنا القرن الثاني عشر إلى ما بعده، نجد التأويل المجازي نزل عن مكانته التي عرفناها، إلى درجة أنه لم يعد يُعَدُّ من التأويل أو التفسير بمعنى الكلمة.
ولنا أن نُقرر أنَّ الأكويني في تقديره للمعنى الحرفي وجعل المعاني الأُخرى تقوم عليه، يستلهم القديس أوغسطين كما يذكر هو نفسه، كما يستلهم «هيج» وسان فيكتور.
وما ينبغي لنا أنْ نَفْهَم من هذا أنَّ الأكويني يرفضُ دائمًا التفسير المجازي المأثور وبخَاصَّة أنَّه يُعنى كثيرًا بما أثر من التفسير عن أسلافه، فإنَّ من الحق أنه إن كان يستبعد التآويل المجازية؛ لأنها لا تتفق وسياق النص ومحتواه، فإنه يقبلها غالبًا وكثيرًا، على أنه يميزها دائمًا بعناية عن التأويل الحرفي.
والآن لننتهي من التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية، نذكر أنَّ الحال في القرن الرَّابع عشر كان كما هو الحال في الثالث عشر من الاتجاه للتأويل الحرفي وتقديره، كما نُلاحظ أخيرًا أنَّ تأويل الكتاب المُقدس ليتفق والفلسفة الإغريقية كان له رجاله مثل كليمانت الإسكندري وأوريجين وأبيلارد، على اعتبار أنه يحوي كل الحقائق الفلسفية الصحيحة، وأنَّ التأويل أو التفسير أخذ بعد هذا اتجاهًا آخر هو وجوب اتفاق نتائجه والعقيدة، وهذا الاتجاه كان له ممثلوه كما عرفنا آنفًا.
ومعنى هذا الاتجاه أنَّ تفسير الكتاب المقدس صارت الغاية منه فَهْمَ الكتاب نفسه، وحسب ما توحي به النصوص من معانٍ، لا ليتفق مع هذه الفكرة أو تلك من الفلسفة اليونانية، كما أصبحت الغاية منه أيضًا التدليل على الآراء والعقائد اللاهوتية.
•••
وهكذا رأينا كيف كان موقف رجال الدين الموسوي، ثم رجال الدين المسيحي من التأويل ومدى عنايتهم به، وعلينا بعد ذلك أن ننتقل أخيرًا لبحث مسألة التأويل لدى مفكري الإسلام أيضًا.
(٥) التأويل لدى المسلمين
وأخيرًا قد ثارت المسألة نفسها في الإسلام، واتخذت الوضع نفسه، ورُبَّما كان ذلك للعوامل نفسها التي من أجلها ثارت في اليهودية والمسيحية، مع زيادة عامل آخر، ونعني بهذا محاولة كل أصحاب مذهب من المذاهب الإسلامية، وبخاصة في علم الكلام وفي التصوف، إيجادَ سند لآرائهم من كتاب الدين الأول نفسه، وطريق ذلك تأويل نصوص القرآن العظيم التي يرون ضرورة تأويلها حسب القواعد التي ذهبوا إليها.
وقبل الكلام عن التأويل لدى مُفكِّري الإسلام، نُشير أولًا إلى أنَّ تفسير القرآن — وكم بين التفسير الذي يراد منه فهم القرآن، وبين التأويل الذي يُراد منه الاستدلال لرأي أو مذهب مُعَيَّن من فرق! — كان يُنظر إليه في فجر الإسلام والصدر الأول منه بعين الحذر الشديد؛ إذ كان رجال السلف الصالح يتهيَّبون القرآن.
على أَنَّهم ما كانوا يرون بأسًا في تفسير القرآن بالمأثور الثابت عن الرَّسُول ﷺ والصحابة والتابعين بالنقل الصحيح، بل قد ظهرت الحاجة شديدة إليه، والمثل الأعلى لهذا الضرب من التفسير نجده في تفسير الطبري المعروف.
(٥-١) لدى المعتزلة
ومِنْ أَجل ذلك نجد بينهم وبين فيلون وابن ميمون تشابهًا كبيرًا من ناحية الغاية من التأويل من بعض النواحي، وإن كان المُعتزلة لم يكن من هدفهم أن يعملوا لإظهار اشتمال القرآن على أمهات الأفكار والآراء الفلسفية اليونانية، كما كان صنيع المتقدمين.
- (أ) «محاضرات» الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر المتوفى سنة ٤٣٦ﻫ.٥٠
- (ب)
«الكشاف» لمحمود بن عمر الزمخشري الذي جاء بعد سابقه بقرن من الزَّمان، ويُعتبر هذا الكتاب المثل الأعلى للتفسير الاعتزالي.
- (أ) الآية ٢٥٥ من سورة البقرة: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ … وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
- (ب) الآية ١٨ من سورة آل عمران: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
- (جـ) الآية ١٢٩ من السورة نفسها: وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
- (د) الآية ١٧٢ من سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ …
- (هـ) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
- (و) الآية ١٠ من سورة فصلت: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.
إلى غير ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصر، والتي سلط عليها المعتزلة التأويل بكل سبيل، وذلك لتتفق معانيها في مذهبهم المعروف.
على أنَّه مع هذا ما ينبغي لنا — وقد أشرنا إلى هذا آنفًا — أن نقول بأنَّ المعتزلة بما أوَّلوا من آيات القرآن تأويلًا مجازيًّا، كانوا يُريدون أن يُظهِروا ما رأوه حقًّا من فلسفة اليونان في القرآن، كما كان الأمر بالنِّسبة إلى صنيع فيلون الإسكندري، وابن ميمون الأندلسي في التوراة.
وكذلك ليس لنا أن نقول بأنهم تأثَّروا بهذين المُفكرين اليهوديين في طريقة التأويل، وإن كان الشبه غير قليل بين طريقة الأولين وطريقة المعتزلة.
كل ما في الأمر على ما نعتقد أنَّ المسألة كما ثارت في اليهودية والمسيحية، وضعت كذلك بالنسبة للإسلام، أي إنه يجب تنزيه الله تعالى عن كل ما يُوهم أنَّ له شبهًا كثيرًا أو قليلًا بالإنسان، ومعنى هذا تنزيهُه عن الصفات الجسمية والعواطف البشرية، كأن يكون له وجه أو يدان أو عينان أو قدمان، أو يكون له حركة وينتقل من مكان إلى آخر، أو أن يحس ما يحسه الإنسان من الغضب والمكر والفرح ونحوها من الإحساسات والعواطف البشرية.
ولكن القرآن وكذلك حديث الرسول ﷺ، اشتملا على نصوص كثيرة تُشير إذا أخذت حرفيًّا إلى التجسيم والتشبيه، وما يكون من ذلك من الصفات والعواطف والإحساسات البشرية؛ فيجبُ إذن صرفها عن معانيها الظاهرية الحرفية إلى معانٍ أُخرى مجازية، وبخاصة أنَّ القرآن نفسه استعمل التمثيل أحيانًا في تفهيمنا ما يُريد.
ومن ذلك قوله تعالى (سورة البقرة: ٢٦): إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، وقوله (سورة الحشر: ٢١): لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
على أنَّ المسألة وإن اتخذت نفس الوضع لدى كثير من رجال الديانات الثلاث؛ فإنَّ الأسباب قد تختلف كثيرًا أو قليلًا، لم يكن في رأينا من الأسباب لدى المُعتزلة الاعتزازُ بأنَّ التوراة اشتملت على ما ثبت صحته من الفلسفة اليونانية، أو ما عرفوا منها، كما كان الأمر بالنسبة لفيلون مثلًا؛ بل الأمر أنَّ المعتزلة فرقة من رجال علم الكلام لهم مذهبٌ خَاصٌّ، فأرادوا أن يجدوا له مثل غيرهم مِنَ المُتكلمين المسلمين أدلة من القرآن على ما ذهبوا إليه.
أمَّا موقف أهل السنة في مقابل هؤلاء المعتزلة، فمن الممكن إيجازه في أنهم ينقدون بشدة طريقة المُعتزلة في تأويلهم القرآن تأويلات يظهر فيها الميل إلى الرَّأي والتعسف، وهذا الموقف يظهر لنا واضحًا جدًّا في تفسير الإمام المتكلم المتفلسف فخر الدين الرَّازي المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ، وتفسيره هذا يُعتبر بحق في نظر كثير من الباحثين نهاية ما وصل إليه إنتاج المسلمين الفكري في هذه النَّاحية، ومنه نعرف أنَّ المؤلف قد عُني عناية شديدة بتفنيد آراء المعتزلة التي عملوا بكل جهدهم للاستدلال لها، إن لم نَقُل لأخذها من القرآن.
(٥-٢) لدى المتصوفة والشيعة
هذا؛ وبجانب التأويل الاعتزالي، نجد ضربًا آخر من التأويل سار فيه أصحابه إلى أبعد الشوط، ونعني به التأويل الصوفي.
وفي هذا يقول عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المعروف، في قصيدته التائية المشهورة:
- (أ)
المبالغة في التأويل المجازي الذي لا قرينة مُطلقًا عليه من القرآن، وفي طلب ما زعموه من المعاني الخفية فيه، حتى خرجوا به عن معانيه الحقة الواضحة التي لا ريب فيها.
- (ب)
إسناد هذه التآويل للإمام علي كما رأينا بلا دليل صحيح.
وبعد هذا وذاك، نرى هؤلاء وأولئك يشتركون مع المعتزلة في أنهم عملوا جاهدين على إدخال آرائهم الفلسفية في القرآن والحديث بطريق ذلك التأويل المجازي، فيه — على رأيهم — يستخلص ما في النصوص الدينية الوحيية من حقائق فلسفية عميقة تستتر وراء المعاني الحرفية لهذه النصوص.
- (أ)
كتاب حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري المتوفى سنة ٤١٢ﻫ.
- (ب)
تفسير محيي الدين بن عربي، المتوفى سنة ٦٣٨ﻫ.
- (جـ)
تأويلات القرآن، لعبد الرازق القاشي أو القاشاني السمرقندي، المتوفى سنة ٨٨٧ﻫ.
ومع ذلك؛ فإننا نرى أنْ نأتي بمثال واحد للتأويل الصوفي، ومثال واحد آخر للتأويل الشيعي. يقول الله تعالى في سورة يس: (الآيات ١٢–١٧): وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
وهكذا نجد الغالين من هاتين الفرقتين قد بالغوا في التأويل، فحمَّلوا القرآن كثيرًا من المعاني والآراء التي لا يُقرُّها بحقٍّ أهلُ السنة، وجعلوا للآية الواحدة معاني باطنية مُتدرجة في صعوبة معرفتها والإحاطة بها، وفي هذا يقول جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي المعروف، وهو ما يُوافقه عليه الشيعة الباطنية الإسماعيلية: «اعلم أنَّ آيات الكتاب سهلة يسيرة، ولكنها على سهولتها تخفي وراءها معنى خفيًّا مستترًا.
ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يُحَيِّر ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها، والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية، من لا شبيه له، وهكذا نصل إلى معاني سبعة الواحد تلو الآخر.
(٥-٣) لدى الغزالي وابن تيمية
وإذا تركنا المعتزلة والشيعة والمتصوفة، نرى مشكلة التأويل تعرض لأهل السنة من رجال علم الكلام، فيتعرض لها كلٌّ من الغزالي وابن تيمية، ويقف كل منهما منها موقفًا خاصًّا يتعارض وموقف الآخر.
تعرَّض الغزالي لهذه المُشكلة ولا عجب في هذا، فهو مُتكلم ومُتصوف وفيلسوف معًا! فهل نراه يُسرف في تأويل القرآن والحديث كالمعتزلة والمتصوفة ومن إليهم؟ أو نراه يسير فيه بحذر وعلى بيِّنة كابن رشد مثلًا؟
حجة الإسلام يرى أنَّ في القرآن والحديث نصوصًا تفيد غير معانيها الظاهرية؛ ولهذا يُجيز تأويلها؛ ولهذا أيضًا عُني بوضع رسالة في ذلك تسمى «قانون التأويل»، كما تناول هذه المشكلة بالبحث في رسالة أخرى هي «إلجام العوام عن علم الكلام». ومن تلك النصوص مثلًا ما يُشير بظاهره إلى التجسيم أو التشبيه في ذات الله تعالى أو صفاته.
وذلك مثل الآيات التي تُوهم بظاهرها أنَّ له تعالى بعضَ ما للإنسان من الأعضاء والحواس، وأنَّه يتحرك وينتقل ويجلس على العرش، وأنه فوقنا، ومثل ما جاء في بعض الأحاديث من أنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا.
وإذا كانت هذه المعاني الخفية يصل إلى إدراكها «أهل المعرفة»، فهل لهم أن يُذيعوها بين الناس، أي: هل لهم أن يظهروا للناس جميعًا ما يدركونه من التأويلات؟
وما ينبغي لنا أن نفهم من إجازة الغزالي التأويلَ لأهله، وإجازته إظهارَ التأويلات لمن هو أهل لمعرفتها، أنَّه في هذا أو ذاك كابن رشد الذي رأينا فيما سبق عنه أنه يُجيز إذاعته في هاتين الحالتين، كما أجاز ابن ميمون من بعده، ليس لنا أن نفهم هذا، فإنَّ أهل التأويل وأهل المعرفة في رأي «حجة الإسلام» هم المُتصوفة كما عرفنا، على حين أنَّهم الفلاسفة عند فيلسوف الأندلس وبلديِّه الحبر اليهودي، وشتان بين أولئك وهؤلاء.
ولهذه المشقة والعسر يجب أحيانًا الكف عن التأويل، وعدم تعيين المعنى الخفي المراد ما دام لا يوجد الدليل القاطع على تعيين هذا المعنى الذي يقصده الله أو الرَّسول عليه الصلاة والسلام.
مثلًا جاء في القرآن والحديث أنَّ أعمال الإنسان تُوزن يوم القيامة، والعقل يقطع بلا شك أنَّ المعنى الظاهر الحرفي غير مقصود؛ لأنه غير معقول، وإذن لا بدَّ من تأويل لفظ «الوزن» تأويلًا مجازيًّا بإرادة نتيجته وهي تعريف مقدار العمل، أو تأويل لفظ «العمل» بإرادة الصحيفة التي كان مكتوبًا فيها، وليس لدينا ما يدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ هذا التأويل أو ذاك هو المراد، والنتيجة أنه يجب الكف عن تعيين المعنى المجازي المراد؛ لأنه لا يجوز الحكم على مراد الله أو رسوله بالظن والتخمين.
من هذا كله نرى الإمام الغزالي مع مشاركته للصوفية في أنه يوجد «مريدون» يصحُّ أن تُذَاع لهم التأويلات الحقيقية والمعاني الخفية لبعض النصوص المُقَدَّسة، لم يُفْرط كما أفرطوا في التأويل، بل إنه رأى التوقف فيه في حالات كثيرة عندما لا يوجد دليل قاطع على تعيين المعنى المجازي المراد.
أمَّا الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية والمتوفى عام ٧٢٨ﻫ، وبه نختم هذا البحث الذي طال إن كُنَّا نرى أنَّ ذلك كان ضروريًّا في نظرنا، فإنه قد وقف بالنسبة لمشكلة التأويل موقفًا معارضًا كما رأينا عند من سبق من أولئك الفلاسفة والمفكرين.
إنه يرى أن يفرق بين لفظ «التأويل» في عرف السلف، وبينه عند المُتكلمين — وبخاصة المعتزلة — والمتصوفة والفلاسفة من رجال الدين.
وما دام الأمر كذلك؛ فلا تعارُض إذن بين المَعقول الصريح والمنقول الصحيح، أي: لا تعارُض بين ما يؤدي إليه العقل السليم وبين ما ثبت نقله عن الرسول.
ولنا أن نأخذ بحق مما تقدم أنَّ مُشكلة التأويل لم توضع أمام ابن تيمية، بمعنى أنه لم يرها مشكلة تتطلب حلًّا لها، وذلك بأنَّ هذه المشكلة لم تعرض للمفكرين من رجال الدين إلا لما رأوه من وجود تعارض بين ما ثبت بالعقل وما ورد به الشرع، فاضطروا لتأويل ما لا يتفق والعقلَ من النصوص الدينية الوحيية.
ولكن ابن تيمية لا يرى وجود تعارض مُطلقًا، والمنقول الذي يُقال إنه يُخالف العقل لا يكون إلا حديثًا موضوعًا، أو نصًّا آخر لا يدلُّ دلالة قاطعة على ما يُراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله.
•••
والآن وقد رأينا مشكلة التأويل في النصوص المقدسة توضع قبل ابن رشد في اليهودية والمسيحية والإسلام، أمام الفلاسفة والمفكرين من رجال هذه الديانات، علينا أن نقارن موقف ابن رشد فيها بموقف غيره ممن تناولناهم بالدراسة.
لم يُحاول ابن رشد أن يَجعل من القرآن أو الحديث كتابًا فلسفيًّا، أو لم يُحاول — بتعبير آخر — أن يَجِدَ فلسفة أرسطو الذي عُرف بأنَّه شَارِحه الأوَّل في القرآن والحديث، ليكون هذا توفيقًا بين الوحي والفلسفة، كما حاوله تقريبًا، وعمل له كلٌّ من فيلون وموسى بن ميمون في اليهودية، وكلمانت الإسكندري وأوريجين وأبيلارد في المسيحية، وكذلك لم يسِر مع خياله في تآويله كما فعل فيلون، وذلك حين جعل الأشخاص التي جاءت في تاريخ الخليقة وتاريخ اليهود في التوراة رموزًا لحالات النفس.
ولم يغلُ غُلوَّ المعتزلة أحيانًا في إكراههم النَّص القرآني على أن يتفق ومذهبهم في علم الكلام بتأويله كما يرون، ولم يُسرف أخيرًا إسراف المتصوفة والشيعة الذين تعسَّفوا إلى أقصى الحدود أحيانًا في تأويل القرآن والحديث.
إنَّ فيلسوف الأندلس حين نُريد أن نُقارنه بهؤلاء وأولئك، نراه كما تقدم قد وجد في القرآن والحديث ما لا يقدر العامَّة على فهمه، وما له تأويلات عقلية لا يصل إليها إلا أهل المعرفة وهم الفلاسفة في رأيه؛ فأوجب على الأولين أخْذَ هذه النصوص حسب معانيها الظاهرة، وأوجب على الآخرين تأويلها ومعرفة المعاني الخفية التي لها.
كما حاول أن يجد لآرائه الكلامية سندًا من القرآن لإقناع العامَّة ومن إليهم، وهذا ما فعل غيره من رجال المسيحية كما رأينا، وإن كان لم يجعل مثلهم الغرض من تفسير القرآن هو الاستدلالَ على اللاهوت الذي أخذ حظًّا غير قليل من الفلسفة، بل جعل عمدته في الاستدلال لآرائه الفلسفية — حتى ما يتصل منها بالدين — هو الدليل المنطقي، وشاهِدُ هذا ما سنراه فيما يأتي عند الكلام عن المعركة بينه وبين الغزالي.
وفيما يختصُّ بالمُقارنة بينه وبين الغزالي أشد المفكرين معارضة لمذهب أسلافه فلاسفة الإسلام، نجد أنَّ كلًّا منهما يرى وجود عامَّة وخاصة بين الناس، وإن كانا كما عرفنا يختلفان في تحديد الطبقة الخاصة.
كما يتفقان على أنَّه ليس للعامي أن يؤوِّل ما يحتاج لتأويل من النصوص، ولا لمن هو من الخاصَّة أن يكشف له التأويل الذي يصل إليه، وإن كان ابن رُشد يُوجب في بعض الحالات التي يكون التأويل فيها واضحًا أن يُصَرَّح بالتأويل ويُذاع للجميع لا فرق بين الخاصة والعامة.
وبعد هذا وذاك نجد إيمان ابن رشد بقدرة العقل أقوى من إيمان الغزالي، وهذا ما يجعله لا يوجب التوقف أحيانًا عن التأويل مع القطع بنفي المعنى الظاهر من النص، كما رأينا من الغزالي.
•••
وأخيرًا ننتقل إلى الفصل التالي؛ لنعرف كيف يمكن لفيلسوف الأندلس — مع المحافظة على المبادئ والأصول التي وضعها للعلاقة التي ينبغي أن تكون بين الشريعة والحكمة — كيف يمكنه الاستدلال للعقائد التي جاء بها الوحي بالنِّسبة لطوائف الناس جميعًا، نعني استدلالًا يقنع به القلب والعقل معًا.