مغامرة تاج الزمرد

قلتُ بينما كنتُ واقفًا ذات صباح أمام نافذتنا الناتئة المُدوَّرة أنظر إلى الشارع: «هولمز، يوجد رجل مجنون في الشارع. إنه لمن المحزنِ حقًّا أن يسمح له أقاربه بالخروج وحده.»

نهض صديقي من كرسيه ذي الذراعين بتكاسُلٍ ووقف واضعًا يديه في جيبَي رداء نومه وأخذ ينظر من فوق كتفي. كان صباح أحد أيام شهر فبراير، وكان مُشرقًا وباردًا، وكانت ثلوج اليوم السابق لا تزال موجودة على الأرض بكثافة وتلمع بإشراقٍ في شمس الشتاء. أما في وسط شارع بيكر، فقد جرف مرور العربات الثلوج حتى صارت شريطًا بُنيًّا مُفكَّكًا، وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلَّت الثلوج الموجودة على جانبَي الطريق والمتراكمة على حوافِّ مسارات المشاة بيضاءَ اللون كما هي. كان الرصيف الرمادي قد نُظِّفَ وكُشِطَت من عليه الثلوج، ولكنه كان لا يزال زلقًا بنحوٍ خطير؛ لذا كان عدد المارَّة أقلَّ من المعتاد. في الواقع، لم يكن هناك أي شخص قادم من ناحية محطة مترو الأنفاق سوى هذا الرجل الذي لفت سلوكه الغريب انتباهي.

كان رجلًا يبلغ من العمر خمسين عامًا تقريبًا، طويل القامة وبدينًا، ذا وجه ضخم واضح المعالم وهيئة مهيبة. وكان يرتدي ملابسَ داكنة ولكنها أنيقة. كان يرتدي معطفًا أسودَ طويلًا، وقبعةً لامعة، وزوجًا بنيًّا أنيقًا من الجراميق، وسروالًا مُفصَّلًا جيدًا لونُه رمادي فاتح. إلا أن تصرفاته كانت غريبةً وتتناقض مع ملابسه الأنيقة الغالية وملامحه المهيبة؛ فقد كان يركض بقوةٍ ويَثِب وثباتٍ صغيرةً بين الحين والآخر مثلما يفعل رجلٌ مُرهَق غير معتادٍ على أن يُرهِق ساقيه. وبينما كان يركض، كان يهُزُّ يديه لأعلى ولأسفل، ويهُزُّ رأسه، ويلوي وجهه بانقباضاتٍ غير عادية.

تساءلت قائلًا: «ماذا به بحق السماء؟ إنه يحملق في أرقام المنازل.»

قال هولمز وهو يفرك يديه: «أعتقد أنه سيأتي إلى هنا.»

«هنا؟»

«أجلْ، أعتقد أنه سيأتي طالبًا مساعدتي المهنية. إنني أعرف الأمارات. هه! ألم أخبرك؟!» بينما كان هولمز يتحدث، اندفع الرجل نحو بابنا، وهو ينفخ ويتأفَّف، ودقَّ الجرس حتى ضج المنزل بأكمله بالرنين.

بعد لحظاتٍ قليلة، كان في غرفتنا وهو ما يزال ينفخ متأفِّفًا ويومِئ بيديه، ولكن استقرت في عينيه نظرةُ حزن ويأس لم تلبث أن حوَّلت ابتساماتنا إلى رعبٍ وشفقة. لم يتمكَّن من الكلام لبعض الوقت، ولكنه كان يتمايل بجسمه ويشُدُّ شَعره وكأنه أُصيب بأقصى درجات الجنون. ثم انتصب واقفًا على قدميه فجأة وضرب رأسه في الحائط بقوة شديدة، فهُرِعْنا نحوه وجذبناه إلى منتصف الغرفة. دفعه شيرلوك بقوةٍ إلى كرسيٍّ مريح، ثم جلس بجانبه وأخذ يُربِّت على يده ويتحدَّث معه بالنبرة الهادئة المريحة التي كان يعرف جيدًا كيف يوظِّفها.

«لقد أتيتَ لتُخبرني بقصَّتك، أليس كذلك؟ لقد أرهقك تعجُّلُك؛ لذا أرجوك أن تنتظر حتى تلتقط أنفاسك، وبعد ذلك سأكون سعيدًا للغاية لأن أساعدك في أي مسألةٍ قد تَعرضها عليَّ.»

جلس الرجل لدقيقة أو أكثر وهو يتنفَّس بقوة ويحاول أن يتمالك نفسه. ثم مسح جبهته بمنديله وزمَّ شفتيه وأدار وجهه نحونا.

وقال: «لا شكَّ في أنك تظن أنني مجنون، أليس كذلك؟»

فردَّ هولمز قائلًا: «أرى أنك تواجه مشكلة كبيرة جدًّا.»

«بكل تأكيد! يعلم الربُّ أنها مشكلة قادرة على أن تُذهِب عقلي بالكامل، ويعلم كم هي مفاجئة ورهيبة. كان من الممكن أن أواجه فضيحةً عامة، على الرغم من أنني رجل لم تَشُبْ سمعتَه شائبةٌ حتى الآن، كما أن المصائب الشخصية هي قدَرُ الجميع. ولكن أن تأتي المصيبتان معًا، وبهذه الصورة المرعبة، فقد كان ذلك كافيًا أن يُزلزل وجداني. وإلى جانب ذلك، فلست أنا وحدي من سيَلحق به الأذى؛ فأنبل رجل في البلد قد يتأثَّر ما لم تكن هناك طريقة للخروج من هذه المصيبة المروِّعة.»

قال هولمز: «أرجو أن تتمالك نفسك يا سيدي، وأعطني نبذة واضحة عن هويتك وعما أصابك.»

أجاب زائرنا قائلًا: «ربما يكون اسمي مألوفًا لك. أنا ألكسندر هولدر، من مؤسسة هولدر وستيفينسون المصرفية التي مقرُّها في شارع ثريدنيدل.»

كان الاسم معروفًا لنا بلا شك؛ فقد كان اسم الشريك الأكبر في ثاني أكبر مصرف خاص في مدينة لندن. فما الذي يمكن أن يكون قد حدث إذن ليجعل واحدًا من أبرز مواطني لندن في هذه الحالة الأكثر إثارة للشفقة على الإطلاق؟ انتظرناه بكل فضول حتى استجمع قواه مرةً أخرى ليبدأ في رواية قصته.

وقال: «أعتقد أن عامل الوقت مهم؛ لذا سارعت بالقدوم إلى هنا عندما اقترح مفتش الشرطة أن أسعى للحصول على مساعدتك. لقد أتيت إلى شارع بيكر عبْر مترو الأنفاق، ومن هناك مشيت مسرعًا إلى هنا لأن عربات الأجرة تسير ببطء عبْر هذه الثلوج. لذلك كنت ألهث؛ فأنا لا أمارس الرياضة كثيرًا. على أية حال، أشعر بتحسُّن الآن، وسأضع الحقائق أمامك بأكثر قدْر ممكن من الاختصار والوضوح.

أنت تعلم جيدًا بالطبع أن العمل المصرفي الناجح يعتمد على قدرتنا على إيجاد استثمارات مجزية لأموالنا بقدْرِ ما يعتمد على توسيع شبكة علاقاتنا وعدد المُودِعين لدينا. وإحدى أكثر وسائلنا تحقيقًا للربح هي القروض التي تكون درجة الأمان فيها عالية. لقد حققنا الكثير في هذه الناحية خلال السنوات القليلة الماضية، وقد أقرضنا مبالغ كبيرة للعديد من العائلات النبيلة بضمان لوحاتها أو مجموعات كُتُبِها أو مقتنياتها الثمينة.

كنت جالسًا في مكتبي بالمصرف صباح أمس عندما أحضر أحد الموظفين إلى مكتبي بطاقة شخص. جفلتُ عندما رأيت الاسم؛ لأنه لم يكن سوى اسم — حسنًا، من الأفضل ألا أقول، حتى لكَ، أكثرَ من أنه اسم معروف في جميع أنحاء العالم — أحد أنبل وأرقى وأرفع الأسماء في إنجلترا. لقد أربكني شرف مقابلته، وحاولت عندما دخل أن أُعبِّر عن ذلك، ولكنه تطرَّق إلى أمور العمل مباشرةً، بأسلوب رجل يرغب في إنهاء مهمة مزعجة بسرعة.

وقال: «سيد هولدر، علمتُ أنكم معتادون على إقراض الأموال.»

فرددت عليه قائلًا: «يقوم المصرف بذلك عندما تكون الضمانة جيدة.»

«من الضروري للغاية بالنسبة إليَّ أن أحصل على خمسين ألف جنيه إسترليني على الفور. يمكنني بالطبع أن أقترض عشرة أضعاف هذا المبلغ الزهيد من أصدقائي، ولكنني أفضِّل أن يكون هذا الأمر رسميًّا، وأن أقوم به بنفسي. يمكنك أن تتفهم بسهولة أنه من غير الحكمة لرجلٍ في مكانتي أن يضع نفسه تحت التزاماتٍ كهذه.»

سألته: «إن كان لي أن أسأل، لِكم من الوقت تريد هذا المبلغ؟»

«سأتسلَّم مبلغًا كبيرًا مستحقًّا لي يوم الإثنين القادم، وعندئذٍ سأسدِّد لك بلا شك كلَّ ما ستُقرضه لي بأي نسبة فائدة تجدها مناسبة. ولكن من الضروري للغاية لي أن تُقرضني المبلغ على الفور.»

«كان سيسعدني أن أقرضك المبلغ من مالي الخاص دون أي حاجة للمزيد من المفاوضات لو لم يكن ذلك سيشكِّل عبئًا شديدًا لا يمكنني تحمُّله. وعلى الجانب الآخر، لو فعلت ذلك تحت اسم المصرف، فإذن من باب إحقاق الحق لشريكي لا بد أن أُصر، حتى في حالتك، أن نتخذ كل الاحتياطات العملية الممكنة.»

ردَّ وهو يرفع حقيبةً سوداء مربعة مصنوعة من جلد السختيان كان قد وضعها بجانب كرسيه: «هذه هي الطريقة التي أفضِّلها تمامًا. لقد سمعتَ بلا شك عن تاج الزمرد، أليس كذلك؟»

«إنه واحد من أثمنِ ممتلكات الإمبراطورية العامة.»

«بالضبط.» ثم فتح الحقيبة وكانت تستقر داخلها في مساحةٍ من المخمل الناعم ذي اللون الوردي قطعةُ المجوهرات النادرة التي حدَّثني عنها. وأردف قائلًا: «يحتوي التاج على تسعٍ وثلاثين زمردة ضخمة، أما النقوش الذهبية فلا تُقدَّر بثَمن. إن أقل تقدير لقيمة التاج يساوي ضِعف المبلغ الذي طلبته منك. وأنا مستعد لترْك التاج بحوزتك كضمانة.»

أخذت الحقيبة الثمينة في يديَّ ونظرت إليها ثم إلى عميلي الشهير ببعض الحيرة.

فسألني قائلًا: «هل تشك في قيمته؟»

«لا إطلاقًا، أنا فقط أتساءل …»

«تتساءل بشأن مدى مناسبة تركه لديك. يمكنك أن تطمئن حيال هذا الأمر، لم أكن لأفكر في ذلك إن لم أكن على أتم اليقين من أنني سأتمكَّن من استرداده خلال أربعة أيام. إنه مجرد إجراء شكلي. هل الضمانة كافية؟»

«تمامًا.»

«أنت تفهم بالطبع يا سيد هولدر أنني أعطيك دليلًا قويًّا على ثقتي بك المبنية على كلِّ ما سمعتُه عنك. أنا أعتمد عليك ليس فقط في التكتم وفي الامتناع عن أي قيلٍ وقال في هذه المسألة، وإنما أيضًا، وقبل كل شيء، في الحفاظ على هذا التاج بكل الاحتياطات الممكنة؛ إذ إنني لست بحاجةٍ للقول إنه إذا لحق أي ضرر به، فسينتج عن ذلك فضيحة عامة. إن أي ضرر سيصيبه سيكون على نفس القدْر من خطورة فقدانه بالكامل؛ إذ إنه لا توجد أحجار زمرد في العالم كله تضاهي هذه الأحجار، وسيكون من المستحيل استبدالها. على أية حال، سأتركه معك وأنا كلي ثقة بك، وسآتي لتسلُّمِه شخصيًّا صباح يوم الإثنين.»

عندما رأيت أن عميلي كان يتعجَّل المغادرة، لم أقل أي شيء واستدعيت الصرَّاف وأمرته بصرف خمسين ألف جنيه إسترليني. ومع ذلك، بعدما صرت وحدي مرة أخرى مع هذه الحقيبة الثمينة الموضوعة على الطاولة أمامي، لم يسعني سوى التفكير بشيء من الخوف في المسئولية الهائلة التي ألقتها هذه الحقيبة على عاتقي. فلم يكن هناك أدنى شكٍّ أنه إذا لَحِق أيُّ ضرر بملكية قومية كهذه، فسيتسبب ذلك في فضيحةٍ مروِّعة. لقد ندمت بالفعل على موافقتي على تولي مسئولية هذا الأمر. ولكن كان الأوان قد فات لتغيير أي شيء؛ لذا فقد أغلقت على الحقيبة في خزانتي الخاصة وعُدت إلى العمل مرة أخرى.

عندما حل المساء، شعرت أنه سيكون من التهور أن أترك شيئًا ثمينًا كهذا في مكتبي وأغادر. لقد سُرقت خزانات مصرفيين آخرين من قبل، فلمَ ستكون خزانتي استثناءً؟ وإن حدث ذلك، فلا يمكنني تخيُّل كم سيكون الوضع الذي سأجد نفسي فيه رهيبًا! لذا قررت أنني خلال الأيام القليلة المقبلة سأحمل الحقيبة معي دائمًا ذهابًا وإيابًا حتى لا تغيب عن ناظري أبدًا. وهكذا، استقللتُ عربةَ أجرةٍ وتوجَّهت إلى منزلي في ستريتام وأنا أحمل الكنز الثمين معي. لم أتنفَّس الصُّعداء إلا عندما صعدتُ إلى الطابق العلوي بمنزلي، ووضعته في مكتب غرفة ملابسي وأغلقته عليه.

والآن يا سيد هولمز سأعطيك نبذةً عن الأفراد المقيمين في منزلي لأنني أريدك أن تكون مُلِمًّا بالوضع جيدًا. ينام سائسي وخادمي خارج المنزل، ويمكن استثناؤهما من الشكوك تمامًا. لديَّ ثلاث خادمات يعملن عندي منذ عدة سنوات وأثق بهن ثقةً مطلقة. وهناك خادمة أخرى تُدعى لوسي بار تعمل عندي ولم يمرَّ على وجودها سوى بضعة أشهر، ولكن طباعها ممتازة وأنا راضٍ تمامًا عن عملها. إنها فتاة جميلة للغاية، وقد جذبت الكثير من المعجبين الذين يحومون حول المنزل بين الحين والآخر. هذا هو العيب الوحيد الذي وجدناه فيها، ولكننا نعتقد أنها فتاة جيدة بكل المقاييس.

هذا فيما يخص الخدم. أما عائلتي نفسها فهي عائلة صغيرة للغاية، حتى إنني لن أستغرق الكثير من الوقت لوصفها. أنا أرمل ولدَيَّ ابن وحيد، آرثر. إنه يمثِّل خيبةَ أمل بالنسبة إليَّ، يا سيد هولمز — خيبة أمل كبيرة. وليس لديَّ أدنى شكٍّ في أنني المسئول عن ذلك. يقول لي الناس إنني أفسدته، وهو ما قد فعلته على الأرجح. فعندما تُوفيت زوجتي العزيزة، شعرت أنني يجب أن أوجِّه كلَّ حبي إليه. فلم أستطع تحمُّل رؤية الابتسامة تتلاشى ولو للحظة من وجهه. ولم أرفض له طلبًا أبدًا. ربما كان من الأفضل لكلينا لو كنت أكثرَ حزْمًا، ولكنني كنت أقصد خيرًا.

كنت أعتزم بطبيعة الحال أن يخلفني في عملي، ولكنه لم يكن يميل إلى العمل. لقد كان جامحًا وصعب المِراس، ولكي أكون صريحًا، لم أستطع الوثوقَ به في التعامل مع مبالغ كبيرة من المال. عندما كان صغيرًا، صار عضوًا في نادٍ أرستقراطي، ولتمتعه بأسلوب ساحر، سرعان ما أصبح صديقًا مقرَّبًا لعدد من الرجال الأثرياء المبذِّرين. تعلَّم أن يلعب القمار بكثرة وأن يهدر المال على سباقات الخيل، حتى إنه كان يأتيني مرارًا وتكرارًا متوسِّلًا أن أعطيه سلفة من مخصصاته المالية حتى يسدد ديونه التي تعهَّد بشرفه أن يسدِّدها. حاول أكثرَ من مرة الابتعاد عن أصدقاء السوء الذين كان يرافقهم، ولكن في كل مرة كان تأثير صديقه السير جورج بيرنويل كافيًا لأن يعود إلى رفقتهم مرة أخرى.

وقطعًا لم يكن من الغريب بالنسبة إليَّ أن يكون لرجلٍ كالسير جورج بيرنويل تأثيرٌ كهذا على آرثر؛ فقد كان يُحضره إلى منزلي باستمرار، وكنت أجد أنني بالكاد أستطيع مقاومة أسلوبه الساحر. إنه يكبر آرثر، وهو رجل محنَّك بكل معنى الكلمة، سافر إلى أماكن عديدة واكتسب خبرات كبيرة، وهو متحدث بارع، وشخص يتمتع بجمال شخصي هائل. ومع ذلك، عندما أفكر فيه بحيادية بعيدًا عن حضوره الساحر، أقتنع من حديثه الساخر ومن النظرة التي لمحتها في عينيه أنه شخص لا يمكن الوثوق به إطلاقًا. هذا هو رأيي الذي توافقني عليه ماري الصغيرة، والتي تتمتع بالنظرة التحليلية الثاقبة لشخصيات البشر التي تُميز النساء.

والآن إنها هي الوحيدة المتبقية لأتحدث عنها. إنها ابنة أخي، ولكنني توليت رعايتها عندما مات أخي قبل خمس سنوات وتركها وحيدة في العالم، ومنذ ذلك الحين أعتبرها ابنتي. إنها شعاع ضوء يُشرق في منزلي؛ فهي لطيفة ومحبة وجميلة، ومديرة ومدبِّرة منزل رائعة، وفي الوقت نفسه رقيقة وحنونة وهادئة كما يجب أن تكون المرأة. إنها ساعدي الأيمن، لا أعرف ما الذي كنت سأفعله بدونها. لم تعارضني قطُّ سوى في أمر واحد؛ فقد طلب ابني الزواج منها مرتين، فهو يحبها بشدة، ولكنها رفضت طلبه في المرتين. أعتقد أنه إن كان يمكن لأي شخص أن يعيده إلى طريق الصواب، فستكون هي، وأن زواجه منها كان من الممكن أن يُغيِّر حياته بأكملها، ولكن للأسف! لقد فات الأوان، فات الأوان إلى الأبد!

والآن يا سيد هولمز أنت تعرف مَن يعيشون تحت سقف منزلي، وسأواصل سرد قصتي البائسة.

عندما كنا نحتسي القهوة في غرفة الجلوس تلك الليلة بعد العشاء، أخبرت آرثر وماري بما حدث وبالكنز الثمين الموجود في منزلنا، ولكن الشيء الوحيد الذي لم أقله كان هو اسم عميلي. لوسي بار، التي كانت قد أحضرت القهوة، كانت قد غادرت الغرفة بالفعل قبل أن أخبرهما بهذا؛ أنا متأكد من ذلك، ولكن لا يمكنني الجزم أن الباب كان مغلقًا. ماري وآرثر كانا مهتمَّين بالأمر، وكانا يرغبان في رؤية التاج الشهير، ولكنني اعتقدت أنه من الأفضل ألا أعبث به.

سألني آرثر: «أين وضعته؟»

«في مكتبي الخاص.»

فقال: «حسنًا، أدعو الرب ألا يُجرى السطو على المنزل أثناء الليل.»

رددت قائلًا: «إنه محكم الغلق.»

«أوه، يمكن لأي مفتاح قديم أن يفتح قفل هذا المكتب. عندما كنت صغيرًا فتحته بنفسي بمفتاح خزانة غرفة التخزين.»

عادة ما كان يتكلم بأسلوب جامح؛ لذا لم أعِر انتباهًا إلى ما قاله. ومع ذلك، فقد تبعني إلى غرفتي في تلك الليلة ووجهه شديد العبوس.

قال وهو ينظر إلى الأرض: «انظر، يا أبي، هل يمكنك أن تعطيني مائتي جنيه إسترليني؟»

أجبته بحدة: «لا، لا يمكنني! لقد كنت شديد الكرم معك حتى الآن فيما يتعلق بالأمور المالية.»

فقال: «لقد كنت شديد اللطف، ولكني لا بد أن أحصل على هذا المبلغ، وإلا فلن أتمكن من الظهور أبدًا داخل النادي مرة أخرى.»

صحت قائلًا: «وهذا شيء جيد للغاية!»

«أجل، ولكنك لن تجعلني أتركه وأنا مُهان. لا يمكنني تحمُّل العار. لا بد أن أحصل على المبلغ بطريقةٍ ما، وإن لم تسمح لي بالحصول عليه، فلا بد أن أجرِّب طرقًا أخرى.»

كنت أستشيط غضبًا؛ إذ إنها كانت المرة الثالثة خلال الشهر التي يطلب فيها مالًا.

صحت قائلًا: «لن تحصل مني على بنس واحد!» فانحنى وغادر الغرفة دون أن يقول كلمة أخرى.

عندما غادر، فتحت مكتبي وتأكدت أن كنزي كان آمنًا ثم أعدتُه وأغلقت مكتبي مرة أخرى. بعد ذلك بدأت أتجول في المنزل لأتأكد من أن كل شيء كان آمنًا — وهي مهمة عادة ما أتركها لماري، ولكنني فكَّرت أنه من الجيد أن أؤديها بنفسي في تلك الليلة. وبينما كنت أنزل على الدَّرَج، رأيت ماري تقف عند النافذة الجانبية للردهة، ولكنها أغلقتها وأوصدتها عندما اقتربت منها.

قالت وهي تبدو منزعجة بعض الشيء، حسبما اعتقدت: «أخبِرْني يا أبي، هل أذنت للوسي الخادمة أن تخرج الليلة؟»

«بالطبع لا.»

«لقد دخلت للتو من الباب الخلفي. ليس لدي أدنى شك أنها خرجت فقط إلى البوابة الجانبية لترى شخصًا ما، ولكني أعتقد أنه تصرُّف خَطِر ولا بد من إيقافه.»

«لا بد أن تتحدثي إليها في الصباح، أو سأتحدث أنا معها إن كنتِ تفضلين ذلك. هل أنتِ متأكدة من أن كل شيء موصَد؟»

«متأكدة تمامًا يا أبي.»

«تصبحين على خير إذن.» قبَّلتها وصعدت إلى غرفة نومي مرة أخرى وسرعان ما استغرقت في النوم.

إنني أحاول أن أخبرك بكل شيء قد يكون له أي علاقة بالقضية يا سيد هولمز، ولكني أرجوك أن تستوقفني عند أي نقطة لا أوضحها وتسألني فيها.»

ردَّ هولمز قائلًا: «على العكس، كلامك واضح بنحو فريد.»

«لقد وصلت إلى نقطةٍ في قصتي أود أن أكون واضحًا فيها بهذا النحو على وجه الخصوص. أنا لا أنام بعمق عادة، كما جعل القلق نومي، بلا شك، أقل عمقًا مما هو عليه في المعتاد. لذا، في حوالي الساعة الثانية صباحًا، استيقظت على صوتٍ في المنزل. ولكنه توقَّف قبل أن أستيقظ تمامًا، إلا أنه ترك أثرًا كما لو أن إحدى النوافذ قد أُغلِقَت بخفةٍ في مكانٍ ما. رقدت أنصت بدقة. فجأة، لفزعي، كان هناك صوتٌ واضحٌ لوقْع أقدامٍ تتحرك بهدوء في الغرفة المجاورة. نزلت من السرير وقلبي يدق خوفًا، واختلست النظر عند زاوية باب غرفة ملابسي.

صرخت قائلًا: «آرثر! أيها الشرير! أيها اللص! كيف تجرؤ على لمس التاج؟»

كان مصباح الغاز نصف مضاء، كما تركته، وكان ابني التَّعيس الذي كان يرتدي فقط قميصًا وسروالًا، يقف بجانب الضوء وهو يمسك التاج في يديه. كان يبدو أنه يحاول انتزاع شيء منه، أو أنه كان يَثنيه بكل قوَّته. وعندما سمع صراخي، أسقطه من قبضته واستدار نحوي بوجه شديد الشحوب. التقطته من الأرض وفحصته، ووجدت أن أحد الأركان الذهبية، بزمرداته الثلاث، كان مفقودًا.

صرخت وأنا في قمة الغضب: «أيها الحقير! لقد دمرتَه! لقد شوَّهت سُمعتي إلى الأبد! أين الجواهر التي سرقتها؟»

صاح قائلًا: «سرقتها!»

صرخت وأنا أمسك بكتفيه وأهزهما: «أجل، إنك لص!»

ردَّ قائلًا: «ليس هناك أي أحجار مفقودة. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء مفقود.»

«توجد ثلاث زمردات مفقودة، وأنت تعلم أين هي. هل لا بد أن أنعتك بالكاذب إلى جانب كونك لصًّا؟ ألم أرَك وأنت تحاول انتزاع قطعة أخرى؟»

فقال: «لقد أهنتَني بما يكفي، لن أتحمل هذا الوضع بعد الآن. لن أقول أي شيء عن هذا الأمر بما أنك اخترت أن تهينني. سأغادر منزلك في الصباح وسأشق طريقي وحدي.»

صرخت بجنون ممزوج بالحزن والغضب قائلًا: «ستغادره بصحبة الشرطة! سأطلب التحقيق في هذا الأمر حتى أصل إلى منتهاه.»

قال بانفعالٍ لم أكن أظن أنه جزء من طبيعته: «لن تعرف أي شيء مني. إن اخترت أن تتصل بالشرطة، فلْتفعل، ولْتدعهم يكتشفون ما يمكنهم اكتشافه.»

بحلول هذا الوقت كان المنزل كله قد استيقظ؛ إذ إنني كنت قد رفعت صوتي أثناء غضبي. ماري كانت هي أول مَن سارع إلى غرفتي، وعند رؤية التاج ووجه آرثر، فهمت المسألة كلها وصرخت ثم سقطت على الأرض مغشيًّا عليها. أرسلتُ الخادمة لتُحضر الشرطة ووضعت مسألة التحقيق في أيديهم على الفور. عندما دخل المفتش والشرطي المنزل، سألني آرثر الذي كان يقف عابسًا وهو عاقد ذراعيه، عما إن كنت أنوي توجيه الاتهام بالسرقة إليه. أجبت أنه لم يَعُد أمرًا خاصًّا، وأنه أصبح عامًّا لأن التاج المدمَّر ملكية قومية. كنت مصممًا على أن يتخذ القانون مجراه في كل شيء.

قال آرثر: «على الأقل، لن تجعلهم يلقون القبض عليَّ في الحال. سيكون من مصلحتك ومصلحتي أن أغادر المنزل لخمس دقائق.»

فأجبته قائلًا: «تغادر المنزل كي تهرُب، أو ربما كي تخفي ما سرقته.» ولكن عندئذٍ، وبعد أن أدركت الموقف المخيف الذي وُضِعت فيه، توسَّلت إليه أن يتذكر أنْ ليست سمعتي فقط، بل سمعة مَن هو أعظم مني بكثير، كانت معرضة للخطر، وأنه يهدِّد بإثارة فضيحة من شأنها أن تهزَّ الأمة بأكملها. إنه يمكن أن يتجنَّب كل ذلك فقط إن أخبرني بما فعله بالأحجار الثلاثة المفقودة.

وقلت له: «يمكنك أن تواجه الأمر كذلك؛ فقد قُبِضَ عليك متلبسًا، ولا يمكن لأي اعتراف أن يجعل ذنبك أكثر بشاعة. فقط إن أصلحت الوضع بما هو في وُسعك، وهو أن تخبرنا عن مكان الأحجار، فسأنسى الأمر برُمَّته وأغفره لك.»

«احتفظ بمغفرتك لمن يطلبها.» هكذا أجاب وهو يبتعد عني بابتسامة ساخرة. لقد رأيت أنه شديد القسوة بحيث لن يؤثر فيه شيء مما أقول. لم يكن هناك سوى طريقة واحدة للتعامل معه. دعوت المفتش وسلَّمته إليه. فُتِّش على الفور، وليس هو شخصيًّا فقط، بل غرفته وكل جزء من المنزل من الممكن أن يكون قد خبأ الجواهر فيه، ولكن لم يُعثَر على أي أثر لها، ورفض الشاب البائس أن ينبس ببنت شفة على الرغم من كل محاولات إقناعنا وتهديدنا. لقد نُقِلَ هذا الصباح إلى السجن، وبعد أن أتممتُ كافة الإجراءات الرسمية للشرطة، هُرِعْتُ إليك لأتوسل إليك أن تستخدم كل مهاراتك في كشف المسألة. لقد اعترفت الشرطة بوضوحٍ أنهم لا يستطيعون تبيُّنَ أي شيء في القضية في الوقت الحالي. يمكنك أن تطلب ما تشاء من المال وفق ما تراه ضروريًّا. لقد عرضت بالفعل مكافأة قدرها ألف جنيه إسترليني. يا إلهي، ماذا أفعل؟! لقد فقدت سمعتي والأحجار الكريمة وابني في ليلة واحدة. أوه، ماذا أفعل؟!»

وضع يديه على جانبي رأسه وأخذ يَهُزُّ نفسَه إلى الأمام والخلف، مُهَمْهِمًا كطفلٍ جعله حزنُه عاجزًا عن الكلام.

جلس شيرلوك هولمز صامتًا لبضع دقائق وحاجباه معقودان وعيناه مثبتتان على النار.

ثم سأله قائلًا: «هل تستقبل الكثير من الزوار في منزلك؟»

«لا يزورني أحد سوى شريكي وأسرته وأحد أصدقاء آرثر بين الحين والآخر. زارنا السير جورج بيرنويل عدة مرات في الآونة الأخيرة. لم يزُرنا أي أحد آخرَ حسبما أعتقد.»

«هل تخرج وتختلط بالناس كثيرًا؟»

«آرثر هو مَن يفعل ذلك. أما أنا وماري فنبقى في المنزل، ولا يهتم أيٌّ منا بالخروج.»

«هذا أمرٌ غير عادي لشابة صغيرة.»

«إنها ذات طبيعة هادئة. كما أنها ليست صغيرة السن جدًّا، إنها تبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا.»

«يبدو مما قلته أن هذه المسألة كانت صادمة لها أيضًا.»

«كانت رهيبة! لقد أثَّرت فيها حتى أكثر مني.»

«لا يشكُّ أيٌّ منكما في أن ابنك هو المذنب، أليس كذلك؟»

«كيف يمكن أن نشك في ذلك وأنا رأيته بعيني وهو يحمل التاج في يده؟»

«بالكاد أعتبر ذلك دليلًا قاطعًا. هل لحقتْ بباقي التاج أيُّ أضرار؟»

«أجل، لقد كان مثنيًّا.»

«ألا تعتقد إذن أنه كان يحاول إصلاحه؟»

«ليباركك الرب! إنك تفعل كلَّ ما في وُسعك من أجله ومن أجلي، ولكنها مهمة ثقيلة. ما الذي كان يفعله هناك من الأساس؟ وإن كانت نواياه بريئة، لمَ لم يفصح عنها؟»

«بالضبط! وإن كان مذنبًا، لِمَ لم يخترع أي كذبة؟ يبدو لي أن صمته يوحي بالأمرين. هناك العديد من النقاط الغريبة التي تخص هذه القضية. ماذا كان رأي الشرطة في الضوضاء التي أيقظتك من نومك؟»

«لقد اعتبروا أنها قد تكون بسبب إغلاق آرثر لباب غرفة نومه.»

«يا لها من قصة محتملة! كما لو أن مَن يرتكب جريمة سيغلق بابه بقوةٍ توقظ منزلًا بأكمله! ما الذي قالوه إذن عن اختفاء هذه الجواهر؟»

«إنهم ما زالوا يفحصون الألواح الخشبية ويفتشون الأثاث على أمل العثور عليها.»

«هل فكروا في البحث خارج المنزل؟»

«أجل، لقد عملوا بجهد استثنائي. لقد فُتِّشَت الحديقة بأكملها بالفعل تفتيشًا دقيقًا.»

قال هولمز: «حسنًا، يا سيدي العزيز، أليس من الواضح لك الآن أن هذه المسألة أعمقُ بكثير مما كنتَ أنت أو الشرطة تظنون؟ لقد بدت لك أنها قضية بسيطة، ولكنها تبدو لي شديدة التعقيد. فكِّر في تفاصيل نظريتك. إنك تفترض أن ابنك قام من سريره، وفي مخاطرة كبيرة، توجَّه إلى غرفة ملابسك وفتح مكتبك وأخذ تاجك وكسر بقوةِ يديه فقط جزءًا صغيرًا منه وذهب إلى مكانٍ آخرَ وأخفى فيه ثلاث جواهر من أصل تسع وثلاثين، بمهارةٍ تجعل من المستحيل لأحد أن يعثر عليها، ثم عاد بالستِّ والثلاثين الأخرى إلى الغرفة التي عرَّض فيها نفسَه للخطر الهائل بأن يجري اكتشافه! وأنا أسألك الآن: هل ترى أن هذه النظرية مقبولة؟»

صاح هولدر بإيماءةِ يأسٍ قائلًا: «ولكن ما البدائل الأخرى؟ لو كانت دوافعه بريئة، فلمَ لا يوضِّحها؟»

فأجاب هولمز: «مهمتنا هي اكتشاف ذلك، والآن، إذا سمحت يا سيد هولدر، سنتوجَّه إلى ستريتام معًا ونخصِّص ساعةً لإلقاء نظرةٍ أدقَّ على التفاصيل.»

أصرَّ صديقي على أن أرافقهما في رحلتهما الاستكشافية، وهو ما كنت أتوقُ إليه بما يكفي؛ لأن القصة التي استمعنا إليها كانت قد أثارت فضولي وتعاطفي الشديدين. أعترف أن تورُّط ابن المصرفي في القضية بدا واضحًا لي كما كان بالنسبة إلى والده البائس، وعلى الرغم من ذلك، فقد كنت أثق ثقةً شديدة في حصافة هولمز جعلتني أشعر أنه لا بد أن يكون هناك بعض الأسباب التي تدعو إلى الأمل ما دام لم يُرضِه التفسيرُ المُجمَع عليه. بالكاد تحدَّث طَوال الطريق إلى الضاحية الجنوبية، ولكنه جلس واضعًا ذقنه على صدره وقبعته تغطي عينيه وكان غارقًا في التفكير. بدا أن بصيص الأمل الصغير الذي مُنِحَ لعميلنا قد دبَّ فيه الروح حتى إنه دخل في حوار عابر معي حول شئون عمله. قادتنا رحلة قصيرة بالقطار ورحلةُ سيرٍ أقصر إلى فيربانك؛ المنزل المتواضع للمصرفي العظيم.

كان فيربانك منزلًا مربَّعَ الشكل ذا حجم جيد، مبنيًّا بالحجر الأبيض، ويبعد عن الطريق قليلًا. وأمام بوابتَي مدخله الحديديتَين الكبيرتَين، يمتد طريق مزدوج مخصَّص للعربات له مَرْج مغطًّى بالثلوج. وعلى اليمين توجد أجَمَةٌ صغيرة تؤدي إلى ممرٍّ ضيِّق بين سياجَين أنيقَين يمتد من الطريق إلى باب المطبخ، ويشكِّل مدخلَ البائعين. وعلى اليسار امتدَّ ممر يؤدي إلى الإصطبل، ولكنه لم يكن ضمن إطار الأرض الخاصة بالمنزل، بل كان جزءًا من الطريق العام ولكنه لم يكن يُستخدَم كثيرًا. تركَنا هولمز واقفَين عند الباب ومشى ببطء حول المنزل بأكمله، بطول مقدمة المنزل وممر البائعِين، وكذا حول الحديقة بالخلف إلى الممر المؤدي للإصطبل. تأخَّر هولمز كثيرًا حتى إنني دخلت أنا والسيد هولدر غرفة الطعام وانتظرنا بجانب المدفأة حتى يعود. كنا لا نزال نجلس هناك في صمتٍ عندما فُتِحَ الباب ودخلت شابة صغيرة. كانت أطول من المتوسط، ممشوقة القوام وعيناها سوداوان وشعرها أسود، وقد بدَوا أكثرَ سوادًا نتيجة الشحوب التام لبشرتها. لا أعتقد أنني رأيت مثل هذا الشحوب القاتل في وجه امرأة من قبل. كانت شفتاها أيضًا شاحبتَين، وعيناها محتقنتين بسبب البكاء. وعندما انسلت بهدوء إلى الغرفة، أدهشني شعورها بالحزن الشديد الذي يفوق الحزن الذي أبداه السيد هولدر في الصباح، كما كان الحزن لافتًا للنظر فيها أكثر لأن من الواضح أنها كانت امرأة قوية الشخصية وتتمتع بقدرة هائلة على ضبط النفس. لم تُعِر وجودي انتباهًا وتوجَّهت مباشرة إلى عمِّها، ومرَّرت يدها على رأسه وربَّتت عليه بلطفٍ أنثوي.

سألته قائلة: «لقد أمرت بالإفراج عن آرثر، أليس كذلك يا أبي؟»

«لا، لا، يا عزيزتي، لا بد من استقصاء الأمر بدقة.»

«ولكنني واثقة أنه بريء، أنت تعلم أن إحساس المرأة لا يخطئ. أعلم أنه لم يرتكب جرمًا وأنك ستندم على تصرُّفك بمثل هذه القسوة.»

«إن كان بريئًا، لمَ لمْ يتحدث إذن؟»

«مَن يدري؟ ربما لأنه كان غاضبًا بشدة منك لشكِّك فيه.»

«كيف يمكنني ألا أشك فيه وقد رأيته بالفعل وهو يحمل التاج في يده؟»

«أوه، ولكنه أمسك به ليلقي نظرة عليه فحسب. أوه، صدقني أرجوك أنا متأكدة أنه بريء. أوقف البحث في القضية وأنهِ الأمر. إنه لأمرٌ مروُّع تصوُّر عزيزنا آرثر وهو في السجن!»

«لن أدع أبدًا الأمر يمر حتى يُعثَر على الأحجار الثمينة، لن أدعه يمر أبدًا يا ماري! إن عاطفتك نحو آرثر تعميكِ عن العواقب الرهيبة للأمر عليَّ. وبدلًا من التكتُّم على الأمر، أحضرتُ سيدًا من لندن ليستقصي الأمر بدقة أكبر.»

سألته وهي تستدير نحوي: «هذا السيد؟»

«لا، صديقه. لقد طلب منَّا أن نتركه وحده، إنه في ممر الإصطبل الآن.»

رفعت حاجبيها الأسودين قائلة: «ممر الإصطبل؟ ما الذي يأمل في إيجاده هناك؟ أوه! أعتقد أنه هو هذا الشخص. أنا واثقة يا سيدي أنك ستنجح في إثبات أن ابن عمي آرثر بريء من هذه الجريمة، وهو ما أثق فيه تمامًا.»

قال هولمز وهو يعود إلى ممسحة الأرجل لينفض الثلوج عن حذائه: «أشارككِ الرأي تمامًا، وأثق في أننا، بمساعدتكِ، سنُثبِت ذلك. أعتقد أنني أتشرَّف بمخاطبة الآنسة ماري هولدر. هل يمكنني أن أطرح عليكِ سؤالًا أو اثنين؟»

«تفضل أرجوك يا سيدي، ما دام ذلك قد يساعد في تفسير هذه المسألة الرهيبة.»

«هل سمعتِ أي شيء ليلة أمس؟»

«لم أسمع أي شيء حتى بدأ عمي في الكلام بصوتٍ عالٍ. هذا ما سمعته وأسرعت إليه لأرى ما الأمر.»

«لقد أغلقتِ النوافذ والأبواب في الليلة السابقة، هل أوصدتِ كل النوافذ؟»

«أجل.»

«هل كانت كلها موصدة هذا الصباح؟»

«أجل.»

«لديكِ خادمة لها حبيب، أليس كذلك؟ أعتقد أنكِ قد أشرتِ لعمكِ ليلة أمس أنها كانت بالخارج لرؤيته، أليس هذا صحيحًا؟»

«بلى، وهي الفتاة التي كانت تخدمنا في غرفة الجلوس والتي ربما تكون قد سمعت كلام عمي عن التاج.»

«حسنًا، تستنتجين أنها ربما تكون قد خرجت لتخبر حبيبها، وأن كليهما ربما يكونان قد خطَّطا للسرقة.»

صاح المصرفي بنفادِ صبرٍ قائلًا: «ولكن ما فائدة كل هذه النظريات الغامضة في حين أنني قد أخبرتكَ بأنني رأيت آرثر وهو يحمل التاج في يده؟»

«انتظر قليلًا يا سيد هولدر، لا بد أن نعود لتلك النقطة. فيما يخص هذه الفتاة يا آنسة هولدر، لقد رأيتِها وهي تعود من باب المطبخ كما أظن، أليس كذلك؟»

«بلى، عندما ذهبت لأتأكد إن كان الباب موصدًا أم لا، رأيتُها وهي تتسلل عائدة منه. ورأيت الرجل أيضًا في الظلام.»

«هل تعرفينه؟»

«أوه، أجل! إنه بائع الخضراوات الذي يجلب الخضراوات لنا. اسمه فرانسيس بروسبر.»

«هل كان يقف إلى يسار الباب؟ بعبارة أخرى، هل كان يقف بعيدًا في الممر لدرجةٍ لا تُمكِّنه من الوصول إلى الباب؟»

«أجل.»

«وهو رجل ذو ساق خشبية، أليس كذلك؟»

نما تعبير يشبه الخوف في عيني الشابة السوداوين المعبرتين وقالت: «يا إلهي! إنك مثل الساحر! كيف تسنَّى لك معرفة ذلك؟» ابتسمت، ولكن في المقابل لم ترتسم أي ابتسامة على وجه هولمز الرفيع المتحفز.

قال هولمز: «أرجو أن أصعد إلى الطابق العلوي الآن. وقد أحتاج إلى تفقُّد خارج المنزل مرة أخرى. أفضِّل أن ألقي نظرة على النوافذ السفلية قبل أن أصعد.»

مشى بسرعة من نافذة إلى الأخرى، ولم يتوقَّف سوى عند النافذة الكبيرة الموجودة في الردهة، والتي تطلُّ على ممر الإصطبل. فتحها وفحص حافتها فحصًا دقيقًا بعدسته المكبرة الضخمة. وقال أخيرًا: «سأصعد الآن إلى الطابق العلوي.»

كانت غرفة الملابس الخاصة بالمصرفي صغيرة ذات أثاث بسيط، بها سجادة رمادية ومكتب كبير ومرآة طويلة. اتجه هولمز إلى المكتب أولًا وفحص القفل بدقة.

«أي مفتاح كان يستخدم لفتحه؟»

«المفتاح الذي أشار إليه ابني، مفتاح خزانة غرفة التخزين.»

«هل هو لديك هنا؟»

«إنه هناك على التسريحة.»

أخذه شيرلوك هولمز وفتح المكتب.

ثم قال: «إنه قفل لا يُحدِث صوتًا، لا عجب أنه لم يوقظك. تحتوي هذه الحقيبة، كما أظن، على التاج. لا بد أن نلقي نظرة عليه.» فتح هولمز الحقيبة وأخذ التاج ووضعه على الطاولة. كان عملًا فنيًّا رائعًا، وكانت الأحجار الستة والثلاثون هي أروع ما رأيت على الإطلاق. عند أحد جانبي التاج كانت توجد حافة مكسورة انتُزع منها جزء يحمل ثلاثة أحجار كريمة.

قال هولمز: «الآن يا سيد هولدر، هذا هو الجزء المقابل للجزء الذي فُقد للأسف الشديد. هل لي أن أطلب منك أن تكسره؟»

تراجع المصرفي في رعب وقال: «لا يمكنني حتى أن أجرؤ على المحاولة.»

«إذن سأفعل أنا ذلك.» فجأة، حاول هولمز بكل قوَّته أن يكسره، ولكن بلا جدوى. فقال: «أظن أنه يتحرك قليلًا، ولكن على الرغم من أنني أتمتَّع بأصابع قوية بنحوٍ استثنائي، فسأحتاج إلى وقت طويل جدًّا لأكسره. لا يمكن لرجل عادي أن يكسره. والآن ما الذي تظن أنه سيحدث إذا كسرته يا سيد هولدر؟ ستَصدر ضجة تضاهي الضجة التي تصدر من إطلاق طلقة مسدس. فهل تريد أن تقنعني بأن كلَّ ذلك قد حدث على بُعدِ بضع ياردات من سريرك ولم تسمع شيئًا؟»

«لا أدري ماذا أقول. كل شيء غامض بالنسبة إليَّ.»

«ولكن ربما قد يتَّضح لك الأمر كلما تقدَّمنا في التحقيق. ما رأيكِ يا آنسة هولدر؟»

«أعترف أنني ما زالت حائرة مثل عمي تمامًا.»

«لم يكن ابنك يرتدي حذاءً أو شبشبًا عندما رأيته، أليس كذلك؟»

«لم يكن يرتدي سوى سروال وقميص.»

«شكرًا لك. لقد حظينا بتوفيق استثنائي خلال هذا التحقيق بلا شك، وسنكون نحن المذنبين إن لم ننجح في تفسير هذه المسألة. بعد إذنك يا سيد هولدر، سأواصل الآن تحقيقاتي بالخارج.»

ذهب وحده بناءً على طلبه؛ إذ إنه أوضح أن أي آثار أقدام إضافية قد تجعل مهمته أكثر صعوبة. ظل يعمل لمدة ساعة أو أكثر، ثم عاد أخيرًا وحذاؤه مغطًّى بالثلوج وملامح وجهه غامضة كالعادة.

وقال: «أعتقد أنني رأيت الآن كلَّ ما يمكن رؤيته يا سيد هولدر. سيمكنني خدمتك بنحوٍ أفضل إذا عُدت إلى منزلي.»

«ولكن الأحجار الكريمة يا سيد هولمز، أين هي؟»

«لا أعرف.»

فرك المصرفي يديه وصاح قائلًا: «لن أراها مرة أخرى! وماذا عن ابني؟ لقد أعطيتني أملًا.»

«رأيي لم يتغير بأي حال من الأحوال.»

«إذن، فبحق الرب، ما حقيقة العمل الشيطاني الذي حدث في منزلي ليلة أمس؟»

«إذا زرتني في منزلي بشارع بيكر صباح الغد ما بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة، فسأكون على استعدادٍ لبذل قصارى جهدي لتفسير المسألة لك. كما فهمت، إنك تعطيني تفويضًا كاملًا بالتصرُّف نيابة عنك شريطة استعادة الجواهر، وإنك لا تضع حدًّا للمبلغ الذي قد أطلبه، أليس كذلك؟»

«سأقدِّم ثروتي كلها لاستعادة الجواهر.»

«جيد جدًّا، سأبحث في الأمر خلال هذا الوقت. إلى اللقاء. من الممكن أن أحتاج إلى أن آتي إلى هنا مرة أخرى قبل المساء.»

كان من الواضح لي أن رفيقي قد حسم أمر القضية، ولكن الاستنتاجات التي وصل إليها كانت أكثر غموضًا مما يمكنني تخيُّله. حاولت العديد من المرات أثناء رحلة عودتنا إلى المنزل أن أعرف منه أي معلومات عن الأمر، ولكنه كان يراوغ دائمًا ويتحدث في موضوعٍ آخرَ حتى يئست من المحاولة في النهاية. لم تكن الساعة قد بلغت الثالثة بعدُ عندما وصلنا إلى المنزل. سارع هولمز إلى غرفته ثم خرج مرة أخرى بعد بضع دقائق وهو يرتدي ملابس متسكع وضيع. كانت ياقته مرفوعة وكان يرتدي معطفًا لامعًا رثًّا ورابطة عنق حمراء وحذاءً باليًا ذا رقبة عالية؛ وهو ما كان تمثيلًا مثاليًّا لهذه الطبقة.

قال وهو يلقي نظرة سريعة على نفسه في المرآة الموضوعة فوق المدفأة: «أعتقد أن هذا كافٍ. كنت أتمنى أن ترافقني يا واطسون، ولكنني أخشى أن ذلك لن يكون مناسبًا. قد أكون على الطريق الصحيح في هذه المسألة أو أسعى وراء سراب، ولكنني سأعرف قريبًا هل هو هذا أم ذاك. أتمنى أن أعود خلال بضع ساعات.» قطع شريحة من قطعة اللحم الموضوعة على المنضدة الجانبية، ووضعها بين قطعتين من الخبز ودفع بهذه الوجبة البسيطة في جيبه وانطلق في رحلته الاستكشافية.

كنت قد انتهيت للتو من تناول الشاي عندما عاد، ومن الواضح أنه كان في حالة معنوية ممتازة؛ إذ إنه كان يمسك بحذاء قديم ذي جوانب مطاطية ويأرجحه. رماه في أحد الأركان ثم صب لنفسه كوبًا من الشاي.

وقال: «كنت أمرُّ من هنا، ففكرت في القيام بزيارة سريعة. سأذهب على الفور.»

«إلى أين؟»

«أوه، إلى الجانب الآخر من ويست إند. قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن أعود، لا تنتظرني في حال تأخرت.»

«كيف تسير الأمور؟»

«أوه، لا هي بالجيدة ولا بالسيئة. لكن ليس لدي ما أشكو منه. لقد ذهبت إلى ستريتام منذ أن رأيتك آخر مرة، ولكنني لم أزُر منزل هولدر. إنها قضية صغيرة لطيفة للغاية، ولم أكن لأفوِّتها بأي ثَمَن. ومع ذلك، يجب ألا أجلس هنا وأثرثر معك، بل لا بد أن أتخلص من هذه الملابس المشينة وأن أعود لهيئتي البالغة الاحترام.»

كنت أستطيع أن أرى من خلال أسلوبه أنه كان لديه أسباب قوية تجعله يشعر بالرضا أكثر مما كانت توحي به كلماته وحدَها. كانت عيناه تلمعان، حتى خداه الشاحبان كانا متورِّدين قليلًا. سارع إلى الطابق العلوي، وبعد دقائق قليلة سمعتُ صوت باب الردهة يُغلق بقوة، وهو ما أخبرني أنه قد خرج مرة أخرى ليستكمل مطاردته التي تناسب طبيعته تمامًا.

انتظرت حتى منتصف الليل، ولكن لم يكن هناك أي علامة على عودته؛ لذا ذهبت إلى غرفتي. لم يكن غريبًا أن يظل خارج المنزل لأيام وليالٍ متتالية عندما يسعى لكشف خبايا مسألةٍ ما؛ لذا لم يكن تأخُّره مفاجئًا لي. لا أعرف في أي ساعةٍ عاد، ولكن عندما نزلت لتناول الإفطار في الصباح، كان موجودًا وكان يحمل فنجان قهوة في يد والصحيفة في اليد الأخرى، وكان يبدو منتعشًا وأنيقًا جدًّا.

وقال: «لا تؤاخذني في أنني قد بدأت بدونك يا واطسون، ولكنك تتذكر أن عميلنا لديه موعد مبكر هذا الصباح.»

«يا إلهي! لقد تجاوزت التاسعة الآن. لن أتفاجأ إن كان هذا هو. أعتقد أنني سمعت صوت جرس.»

كان صديقنا المصرفي بالفعل. صُدِمتُ بالتغيير الذي قد حلَّ به؛ فوجهه الذي كان عريضًا وضخمًا بطبيعته، صار الآن منكمشًا ومنهارًا، بينما بدا لي أن شعره قد ظهر عليه على الأقل بعض الشيب. دخل بوهن وخمول كانا حتى أشد إيلامًا من العنف الذي أبداه في صباح اليوم السابق، وارتمى ببطء شديد على الكرسي ذي الذراعين الذي دفعته إلى الأمام ليجلس عليه.

وقال: «لا أدري ما الذي فعلته لأتعرَّض لبلاء شديد كهذا. فقط قبل يومين كنت رجلًا سعيدًا ناجحًا لا يُثقل كاهلي شيء. أما الآن فقد صرت أواجه عهدًا موحشًا وشائنًا. تصيبني الأحزان الواحد تلو الآخر. لقد تركتني ابنة أخي، ماري.»

«تركتك؟»

«أجل، كان سريرها وغرفتها فارغَين هذا الصباح ووجدت رسالة لي على طاولة الردهة. كنت قد قلت لها الليلة الماضية بحزن وليس بغضب، إنها لو كانت قد وافقت على الزواج من ابني، فلربما كان حاله قد انصلح. ربما كان من الرعونة أن أقول هذا. وهي تشير إلى تلك النقطة في رسالتها:

عمي العزيز

أشعر أنني قد تسببت لك في مشكلة، وأنني إن كنت قد تصرفت بنحوٍ مختلف، فربما لم تكن لتقع هذه المأساة الرهيبة على الإطلاق؛ ومن ثَمَّ لا يمكنني أن أشعر بالسعادة مرة أخرى في منزلك، وأعتقد أنني لا بد أن أتركك إلى الأبد. لا تقلق بشأن مستقبلي؛ فأنا أعرف ماذا أفعل، وقبل كل شيء، لا تبحث عني لأن ذلك سيكون جهدًا بلا جدوى وسيؤذيني. في الحياة أو الموت، سأظل دائمًا ابنتك المُحبَّة.

ماري

ما الذي يمكن أن تعنيه بهذه الرسالة يا سيد هولمز؟ هل تعتقد أنها تشير إلى أنها تنوي الانتحار؟»

«لا، لا، لا يوجد شيء من هذا القبيل. ربما يكون هذا هو أفضل حلٍّ مُمكن. أنا واثق يا سيد هولدر أنك تقترب من نهاية مشاكلك.»

«ها! هل تظن ذلك؟ لقد سمعت شيئًا، يا سيد هولمز؛ لقد عرفت شيئًا! أين الأحجار الكريمة؟»

«لا أظن أن ألف جنيه إسترليني لكل حجر كريم مبلغ كبير في رأيك، أليس كذلك؟»

«أنا مستعد لدفع عشرة آلاف.»

«لن يكون ذلك ضروريًّا، ثلاثة آلاف إسترليني تكفي. وأعتقد أنه سيكون هناك مكافأة صغيرة، هل دفتر شيكاتك معك؟ إليك قلمًا. من الأفضل أن نزيد المبلغ إلى أربعة آلاف إسترليني.»

كتب المصرفي الشيك المطلوب بوجهٍ مذهول. توجَّه هولمز إلى مكتبه وأخرج قطعة مثلثية صغيرة من الذهب وفيها ثلاثة أحجار كريمة وألقاها على الطاولة.

التقطها عميلنا بصرخة فرح.

شهق قائلًا: «إنها لديك! أنا بأمان! أنا بأمان!»

كان ردُّ فعله الفرح بنفس شدة الحزن الذي كان عليه، وضم جواهره المستردة إلى صدره.

قال هولمز بشيء من الصرامة: «إنك مدين بشيء آخرَ يا سيد هولدر.»

«مدين؟!» التقط القلم وأردف قائلًا: «حدِّد المبلغ وسأدفعه.»

«لا، إنك لست مدينًا لي. أنت مدين باعتذار متواضع لذلك الشاب النبيل، ابنك، الذي تصرَّف في هذه المسألة على نحوٍ لو تصرَّف ابني مثله، إن قُدر أن يكون لي ابن يومًا، لكان مدعاة لفخري.»

«إذن لم يكن آرثر هو الفاعل؟»

«أخبرتك بالأمس، وأكررها اليوم، لم يكن هو.»

«هل أنت متأكد من ذلك؟! إذن دعنا نذهب إليه على الفور لنخبره أن الحقيقة قد كُشِفَت.»

«إنه يعلمها بالفعل. بعدما اكتُشفت المسألة بالكامل، قابلته وعندما وجدت أنه يرفض أن يخبرني بالقصة، أخبرته أنا بها، وحينها اعترف أنني على حق وأضاف بعض التفاصيل القليلة التي لم تكن واضحة بالكامل لي بعد. ومع ذلك، قد يجعله الخبر الذي قلته لنا هذا الصباح يتحدث.»

«بحق الرب أخبرني إذن، ما حقيقة هذا اللغز الغريب؟!»

«سأفعل، وسأخبرك بالخطوات التي أوصلتني إلى الحل. ولكن دعني أقول لك أولًا ما يصعب عليَّ قوله ويصعب عليك سماعه: لقد كانت هناك علاقة بين السير جورج بيرنويل وابنة أخيك ماري؛ فلقد هربا معًا الآن.»

«ماري؟ غير ممكن!»

«مع الأسف إنه ليس فقط ممكنًا، بل مؤكدٌ. لا أنت ولا ابنك كنتما تعرفان المعدن الحقيقي لهذا الرجل عندما سمحتما له أن يكون جزءًا من دائرة عائلتكما. إنه واحد من أخطر الرجال في إنجلترا، إنه مقامر فاسد وشرير ميئوس منه تمامًا، إنه رجل بلا قلب ولا ضمير. إن ابنة أخيك لا تعرف شيئًا عن هؤلاء الرجال. وعندما عبَّر لها عن حبه، كما فعل مع المئات من قبلها، شعرت بالإطراء أنها هي وحدَها من لمست قلبه. يعلم الشيطان ما قاله لها، ولكنها في النهاية أصبحت أداة في يده وكانت معتادة على رؤيته كل مساء تقريبًا.»

صاح المصرفي بوجهٍ شاحب قائلًا: «لا أستطيع أن أصدق، ولن أصدق!»

«سأخبرك إذن بما حدث في منزلك الليلة الماضية. تسللت ابنة أخيك إلى أسفل عندما، كما اعتَقَدْتُ، ذهبت إلى غرفتك، وتحدثت مع حبيبها عبْر النافذة المؤدِّية إلى ممر الإصطبل. لقد حُفِرَت آثارُ قدميه في الجليد؛ فقد وقف هناك لفترة طويلة. لقد أخبرته عن التاج، فأشعل هذا الخبر جشعه للحصول على المال، وطوَّعها لإرادته. لا أشك في أنها كانت تحبك، ولكن هناك بعض النساء في العالم يطفئ فيهن حب العشيق أي حب آخر، وأعتقد أنها واحدة منهن. بالكاد أنصتت لتعليماته عندما رأتك تهبط الدَّرَج، فأغلقت النافذة بسرعة وأخبرتك عن خروج إحدى الخادمات للحديث مع عشيقها الذي له ساقٌ خشبية، وهو ما كان صحيحًا تمامًا.

ذهب ابنك آرثر إلى الفراش بعدما تحدث معك، ولكن كان نومه سيئًا بسبب قلقه بشأن ديونه في النادي. سمع في منتصف الليل صوت خطوات خفيفة تعبر أمام باب غرفته، فنهض ونظر إلى الخارج وفوجئ برؤية ابنة عمه تتسلل بخفة بطول الممر حتى اختفت في غرفة ملابسك. شَلَّته الدهشة، وارتدى بعض الملابس وانتظر هناك في الظلام ليرى ما سيحدث في هذا الأمر الغريب. خرجت من الغرفة مرة أخرى على الفور، وعلى ضوء مصباح الممر، رآها ابنك وهي تحمل التاج الثمين في يديها. هبطت الدَّرَج، وركض آرثر خلفها والرعب يملؤه واختبأ خلف الستارة بالقرب من باب غرفتك بحيث يتمكن من رؤية ما يحدث في الردهة بالأسفل. رآها وهي تفتح النافذة خلسة وتعطي التاج لشخصٍ ما في الظلام، ثم تغلق النافذة مرة أخرى وتسارع بالعودة إلى غرفتها وهي تمر بالقرب من المكان الذي كان يقف فيه خلف الستارة.

لم يكن باستطاعته أن يقوم بأي تصرُّف ما دامت موجودة في المكان دون أن يخاطر بتعريض المرأة التي كان يحبها لفضيحةٍ مروعة. ولكن بمجرد رحيلها، أدرك كم أن مصيبةً كهذه ستُحطمك وكم كان من المهم تصحيح الوضع. هُرِع إلى أسفل وهو حافي القدمين، تمامًا كما رأيته، وفتح النافذة وقفز إلى الخارج على الجليد وركض بطول الممر حيث كان بإمكانه رؤيةُ خيالٍ أسودَ في ضوء القمر. حاول السير جورج بيرنويل الفرار، ولكن آرثر أمسك به ودار صراعٌ بينهما، وكان ابنك يشد التاج من ناحية، ويشده غريمه من الناحية الأخرى. وأثناء المشاجرة، ضرب ابنك السير جورج وجرحه فوق عينه. ثم انكسر شيء فجأة، وعندما وجد ابنك أن التاج بحوزته، عاد إلى المنزل مرة أخرى وأغلق النافذة وصعد إلى غرفتك، ولاحظ حينئذٍ أن التاج قد انثنى أثناء الصراع وكان يحاول تقويمه عندما ظهرت أنت في المكان.»

شهق المصرفي قائلًا: «هل هذا ممكن؟»

«ثم أثرتَ غضبه عندما كنت تُهينه في الوقت الذي كان يشعر فيه أنه يستحق منك الشكر الشديد. لم يستطع شرحَ ما حدث فعلًا دون أن يخون الإنسانة التي بلا شك لا تستحق ولا حتى القليل من اهتمامه. ومع ذلك، فقد اختار التصرُّفَ الأكثر شهامةً وحفظَ سرَّها.»

صاح السيد هولدر قائلًا: «ولهذا السبب صرخت وفقدت الوعي عندما رأت التاج. أوه، يا إلهي! كم كنت أحمق أعمى! لهذا طلب أن أسمح له بالخروج لخمس دقائق! كان الشاب العزيز يريد أن يرى إن كانت القطعة المفقودة موجودةً في مسرح الصراع أم لا. كم كنت قاسيًا وأسأت الحكم عليه!»

أردف هولمز قائلًا: «عندما وصلتُ إلى المنزل، تجوَّلت حوله بحرصٍ شديد لأرى ما إن كانت هناك آثار في الجليد قد تساعدني. كنت أعلم أنه لم تتساقط أي ثلوج أخرى منذ الليلة السابقة، وأنه كان هناك صقيع قوي سيحافظ على الآثار. مررت على ممر البائعين، ولكنني وجدت أن كل آثار الأقدام مداسة ولا يمكن تمييزها. ومع ذلك، فبعد هذا الجزء مباشرة، وعند الجانب الأبعد لباب المطبخ، كانت توجد آثار أقدام امرأة قد وقفت تتحدَّث مع رجلٍ أظهرت آثارُ أقدامه المستديرة على أحد الجوانب أنه كان ذا ساقٍ خشبية. كما تمكنت من معرفة أنهما قد قُوطعا؛ إذ إن المرأة قد عادت إلى الباب مرة أخرى بسرعة كما أظهرت آثار أصابع القدم العميقة وآثار كعب القدم الخفيفة، بينما انتظر صاحب الساق الخشبية قليلًا ثم رحل. ظننت في ذلك الوقت أن هذه قد تكون آثار أقدام الخادمة وحبيبها اللذين كنتَ قد أخبرتني عنهما بالفعل، وأظهر التحقيق أن الأمر كان كذلك فعلًا. سرت حول الحديقة دون أن أرى أي شيء سوى الآثار العشوائية التي استنتجت أنها تخص الشرطة، ولكن عندما وصلت إلى ممر الإصطبل وجدت أمامي قصة طويلة ومعقدة مكتوبة في الجليد.

كان هناك خطٌّ مزدوجٌ من آثار الأقدام لرجلٍ كان يرتدي حذاءً ذا رقبة عالية، ولسروري، رأيت خطًّا آخرَ لرجلٍ حافي القدمين فاقتنعت على الفور بما أخبرتني به أنها هي آثار أقدام ابنك. كان الأول يمشي في كلا الاتجاهين، بينما كان الآخر يركض بسرعة، وبما أن آثار أقدامه كانت مطبوعة في بعض الأماكن فوق آثار الأقدام المحفورة التي تخص الحذاء ذا الرقبة، فقد كان من الواضح أنه كان يتبعه. تتبعت الآثار ووجدت أنها تقود إلى نافذة الردهة حيث تآكل الجليد كله بفعل صاحب الحذاء ذي الرقبة أثناء انتظاره. بعد ذلك، مشيت إلى الطرف الآخر الذي كان على بُعد مائة ياردة أو أكثر في الممر. ووجدت آثارًا تدل على أن الرجل الذي كان يرتدي حذاءً ذا رقبة عالية قد استدار، وعلى أن الجليد قد تشقَّق كما لو كان قد وقع صراع، وأخيرًا، وجدت بضع قطرات من الدم أثبتت لي أنني لم أكن مخطئًا. حينئذٍ، ركض الرجل الذي يرتدي الحذاء ذا الرقبة في الممر، ثم أظهرتْ بقعةُ دمٍ صغيرة أخرى أنه هو من أُصيب. وعندما وصل إلى الطريق السريع على الطرف الآخر، وجدت أن الآثار الموجودة على الرصيف قد أُزيلت، ومن ثم كانت هذه هي نهاية ذلك الدليل.

ومع ذلك، فحصت بعد دخولي المنزل، كما تتذكر، حافة وإطار نافذة الردهة بعدستي المكبرة، وتمكنت على الفور من إدراك أن شخصًا ما قد عبَر منها إلى الخارج. تمكنت من تمييز شكل مشط قدم حيثما وطأت قدم مبتلة وهي تدخل المنزل. حينئذٍ بدأت أتمكَّن من تكوين رأي حولَ ما حدث. كان هناك رجل ينتظر خارج النافذة، وأحضر أحدهم الأحجار الكريمة، وقد راقب ابنك هذه الوقائع ولاحق اللص وصارعه وشدَّ كلٌّ منهما التاج وهو ما ألحق به أضرارًا تسببت فيها قوَّتهما المشتركة، والتي لم يكن من الممكن أن يتسبب فيها أي منهما وحدَه. عاد ابنك وبحوزته الغنيمة، ولكن جزءًا منها كان في قبضة خصمه. لقد كان كل شيء واضحًا في ذلك الوقت، ولكن بقي سؤال وهو: مَن كان هذا الرجل ومَن الذي أحضر التاج إليه؟

أحد مبادئي الأساسية هو أنه بعدما تستبعد المستحيل، فما يبقى، مهما كان مستبعدًا، لا بد أن يكون هو الحقيقة. كنت أعرف أنك لم تكن أنت مَن أخذت التاج إلى أسفل؛ لذا لم يتبقَّ سوى ابنة أخيك والخادمات. ولكن لو كانت الخادمات، لِمَ قد يقرر ابنك أن يتهم نفسه بدلًا منهن؟ لا يمكن أن يكون هناك سبب ممكن لهذا. ولكن بما أنه كان يحب ابنة عمه، فقد كان هناك تفسير ممتاز لسبب حفظه لسرِّها — خاصةً وأن السرَّ كان مشينًا. وعندما تذكرت أنك رأيتها تقف عند تلك النافذة، وكيف فقدت الوعي عندما رأت التاج مرة أخرى، أصبح تخميني يقينًا.

ولكن مَن الذي يمكن أن يكون شريكها؟ من الواضح أنه حبيب لها؛ فمن الذي يمكن أن يفوق حبُّه الحبَّ والعرفان اللذين تكنهما لك؟ علمت أنك لا تخرج إلا قليلًا، وأن دائرة أصدقائك محدودة للغاية، ولكن السير جورج بيرنويل كان ضمن هذه الدائرة. وكنت قد سمعت عنه من قبل أنه رجل له سمعة سيئة مع النساء. لا بد أنه هو مَن كان يرتدي ذلك الحذاء ذا الرقبة العالية ويحتفظ بالجواهر المفقودة. وعلى الرغم من علْمه أن آرثر قد كشفه، فربما كان لا يزال يطمئن نفسه أنه بأمانٍ حيث إن آرثر لن يستطيع أن يقول كلمة واحدة دون تعريض سمعة أسرته للخطر.

حسنًا، سينبئك إدراكك الجيد بالخطوات التي اتخذتها بعد ذلك. ذهبت إلى منزل السير جورج على هيئة رجل متسكع، وتمكَّنت من التعرُّف على خادمه، وعلمت منه أن سيده قد جُرِح رأسه في الليلة السابقة، وأخيرًا حرصت على شراء أحد أحذية بيرنويل القديمة البالية بعد أن دفعت لخادمه ستة شلنات. أخذت الحذاء وذهبت إلى ستريتام ووجدت أن آثاره تطابق تمامًا آثار الأقدام الموجودة.»

قال السيد هولدر: «لقد رأيت متشردًا يرتدي ملابسَ رثة في الممر مساء أمس.»

«بالضبط، كنتُ أنا. وجدت أنني قد وضعت يدي على الرجل المطلوب، فعُدت إلى المنزل وبدلت ملابسي. عندئذٍ كان عليَّ أن ألعب دورًا حسَّاسًا؛ إذ إنني رأيت أنه لا بد من تجنُّب الملاحقة القضائية لتحاشي الفضيحة، وكنت أعلم أن وغدًا شريرًا كهذا سيعلم أننا مغلولو الأيدي في هذه المسألة. ذهبت وقابلته. نفى كل شيء في البداية بالطبع. ولكن عندما واجهته بكل تفصيلة دقيقة لِما حدث، حاول تهديدي وأخذ هراوة كانت معلَّقة على الحائط ليضربني بها. لكنني كنت أعرف ما سيفعله جيدًا، فوجَّهت المسدس نحو رأسه قبل أن يتمكَّن من مهاجمتي، وعندئذٍ، صار أكثر عقلانية. أخبرته أننا سنعطيه ثَمَن الأحجار الكريمة التي بحوزته؛ ألف جنيه إسترليني لكل قطعة. وهنا أبدى أولى علامات الحزن وقال: «أوه! اللعنة! لقد بِعْت الثلاثة لقاء ستمائة جنيه إسترليني!» سرعان ما تمكَّنت من الحصول على عنوان المُشتَري بعد أن وعدته أنه لن تكون هناك ملاحقة قضائية. على الفور، توجَّهت إلى المُشتَري، وبعد الكثير من المساومة، حصلت على الأحجار لقاء ألف جنيه إسترليني لكل قطعة. وبعد ذلك، زرت ابنك وأخبرته أن كل شيء على ما يُرام، ثم أويت إلى فراشي أخيرًا في حوالي الساعة الثانية، بعد ما يمكنني أن أسميه يوم عمل شاق للغاية.»

قال المصرفي وهو ينهض: «يومٌ أنقذ إنجلترا من فضيحةٍ عامةٍ ضخمة. أنا عاجز عن شكرك يا سيدي، ولكنني لن أدخر وُسعًا في إبداء امتناني لما فعلته. لقد فاقت مهارتك كلَّ ما سمعته بالفعل، والآن لا بد أن أذهب سريعًا إلى ابني العزيز لأعتذر له عن الخطأ الذي ارتكبته في حقه. أما فيما يخص ما أخبرتني به عن ماري المسكينة، فهو يؤلمني كثيرًا. فحتى مهارتك لا يمكنها أن تخبرني بمكانها الحالي.»

أجاب هولمز قائلًا: «أعتقد أننا يمكننا أن نقول بكل ثقة إنها أينما يكون السير جورج بيرنويل. كما أنه من المؤكد كذلك أنها سرعان ما ستتلقى ما يكفي من العقاب على خطاياها أيًّا كانت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤