الفصل الثالث عشر

السَّيِّدُ فوج وَفَرِيقُهُ يَعْبُرُونَ الْمُحِيطَ الْهَادِئَ

كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَسْتَغْرِقَ الرِّحْلَةُ مِنَ الْيَابَانِ إِلَى أَمْرِيكَا وَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، حَيْثُ سَتُلْقِي السَّفِينَةُ مَرَاسِيَهَا فِي سان فرانسيسكو فِي الثَّانِي مِنْ دِيسَمْبِرَ، وَتَسْتَغْرِقُ الرِّحْلَةُ مِنْ سان فرانسيسكو إِلَى نيويورك تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ أَمَامَ فيلياس فوج عَشَرَةُ أَيَّامٍ كَامِلَةٌ لِلْعَوْدَةِ إِلَى لَنْدَنَ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلَوْ كَانَتْ هُنَاكَ ذَرَّةُ قَلَقٍ تُخَالِجُ نَفْسَ فيلياس فوج، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَبْدُ عَلَى مَلَامِحِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَبِحُلُولِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ، كَانَ فيلياس فوج قَدْ سَافَرَ حَوْلَ نِصْفِ الْعَالَمِ بِالضَّبْطِ، وَعَلَيْهِ الْآنَ السَّفَرُ حَوْلَ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَتَبَقَّ أَمَامَهُ سِوَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَقَطْ!

فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ، كَانَ الْمُحَقِّقُ فيكس قَدْ حَصَلَ أَخِيرًا عَلَى مُذَكِّرَةِ إِلْقَاءِ الْقَبْضِ عَلَى فوج، وَالَّتِي كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْيَابَانِ. وَفِي الْوَاقِعِ، كَانَتِ الْمُذَكِّرَةُ عَلَى مَتْنِ الْبَاخِرَةِ «كارناتيك» الَّتِي كَانَ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَتْنِهَا. وَبِالطَّبْعِ، أَصْبَحَتِ الْمُذَكِّرَةُ بِلَا فَائِدَةٍ الْآنَ؛ إِذْ إِنَّ فيلياس كَانَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَمْرِيكَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فوج فِي قَلْبِ الْأَرَاضِي الْبِرِيطَانِيَّةِ، فَإِنَّ فيكس لَيْسَ لَدَيْهِ السُّلْطَةُ لِإِلْقَاءِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ.

اسْتَشَاطَ فيكس غَضَبًا: «حَسَنًا، سَتَظَلُّ هَذِهِ الْمُذَكِّرَةُ فَعَّالَةً فِي لَنْدَنَ، فَأَنَا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ فيلياس فوج سَيُضْطَرُّ لِلْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِهِ فِي وَقْتٍ مَا.»

قَرَّرَ فيكس أَنْ يُلَاحِقَ فيلياس حَتَّى النِّهَايَةِ، وَلَكِنَّهُ تَقَوْقَعَ عَلَى نَفْسِهِ فِي كَابِينَتِهِ عَلَى مَتْنِ الْبَاخِرَةِ «جنرال جرانت» حَتَّى لَا يَعْلَمُوا بِوُجُودِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُقَابِلَ باسبارتو وَيُضْطَرَّ إِلَى تَبْرِيرِ وُجُودِهِ عَلَى مَتْنِ السَّفِينَةِ.

وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَقَاءَ بِالدَّاخِلِ طَوَالَ الْوَقْتِ؛ فَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، شَعَرَ أَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى اسْتِنْشَاقِ بَعْضِ الْهَوَاءِ الْمُنْعِشِ. مَا الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ؟! وَبِمُجَرَّدِ أَنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ سَطْحَ السَّفِينَةِ، وَجَدَ باسبارتو الَّذِي اتَّجَهَ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَلَكَمَهُ فِي أَنْفِهِ فَطَرَحَهُ أَرْضًا.

وَسَأَلَهُ فيكس وَهُوَ يُمْسِكُ أَنْفَهُ: «هَلِ اكْتَفَيْتَ بِهَذَا؟»

أَجَابَهُ باسبارتو: «فِي الْوَقْتِ الرَّاهِنِ، نَعَمْ.»

قَالَ فيكس: «إِذَنْ مِنْ فَضْلِكَ، دَعْنِي أَتَحَدَّثُ إِلَيْكَ لِلَحْظَةٍ، إِنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِسَيِّدِكَ.»

وَافَقَ باسبارتو، رَغْمَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ لَا يَثِقُ بِذَلِكَ الْمُحَقِّقِ، فَوَقَفَ فيكس عَلَى قَدَمَيْهِ وَذَهَبَ الرَّجُلَانِ وَجَلَسَا معًا عَلَى الْمَقَاعِدِ عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ.

قَالَ باسبارتو: «إِذَنْ أَنْتَ تَعْلَمُ الْآنَ أَنَّ سَيِّدِي رَجُلٌ شَرِيفٌ، وَتَخَلَّيْتَ عَنْ تِلْكَ الْفِكْرَةِ الْمَجْنُونَةِ أَنَّهُ لِصُّ الْبَنْكِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟»

قَالَ فيكس: «بِالطَّبْعِ لَا.» فَرَفَعَ باسبارتو قَبْضَتَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَهُمُّ بِتَوْجِيهِ لَكْمَةٍ ثَانِيَةٍ؛ فَقَالَ فيكس «انْتَظِرْ! دَعْنِي أُكْمِلْ.» أَنْزَلَ الْخَادِمُ يَدَهُ، فَاسْتَطْرَدَ فيكس: «أَنَا الْآنَ دَاخِلَ اللُّعْبَةِ، فَالطَّرِيقَةُ الْوَحِيدَةُ لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ هِيَ أَنْ يَكُونَ فِي إِنْجِلْتِرَا، وَالطَّرِيقَةُ الْوَحِيدَةُ لِعَوْدَتِكُمْ إِلَى إِنْجِلْتِرَا هِيَ أَنْ تُكْمِلُوا هَذَا السِّبَاقَ الْمَجْنُونَ حَوْلَ الْعَالَمِ، فَأَنَا أُدْرِكُ أَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ إِيقَافَهُ؛ لِذَا سَأَفْعَلُ مَا بِوُسْعِي لِلْمُسَاعَدَةِ.»

لَمْ يَتَفَوَّهْ باسبارتو بِكَلِمَةٍ؛ فَتَابَعَ فيكس: «هَلْ نَحْنُ أَصْدِقَاءُ؟»

– «كَلَّا، لَسْنَا أَصْدِقَاءَ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ نَكُونَ حُلَفَاءَ. وَرَغْمَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ أُحَذِّرَكَ بِأَنَّنِي سَوْفَ أَدُقُّ عُنُقَكَ عِنْدَ أَوَّلِ إِشَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ سَتُكَرِّرُ مَا فَعَلْتَهُ فِي هونج كونج!»

قَالَ فيكس: «مُوَافِقٌ.» وَكَانَ يُدْرِكُ أَنَّهُ فِي مَوْقِفِ ضَعْفٍ.

بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، رَسَتِ الْبَاخِرَةُ «جنرال جرانت» فِي سان فرانسيسكو، وَبِذَلِكَ لَمْ يَكْسِبْ فيلياس فوج أَوْ يَخْسِرْ أَيَّ يَوْمٍ فِي رِحْلَتِهِ، وَقَدْ دَوَّنَ ذَلِكَ فِي دَفْتَرِ يَوْمِيَّاتِهِ.

ذَهَبَ فيلياس مُبَاشَرَةً إِلَى مَحَطَّةِ الْقِطَارِ لِيَعْرِفَ مَوْعِدَ الْقِطَارِ التَّالِي الْمُتَّجِهِ إِلَى مَدِينَةِ نيويورك، فَوَجَدَ أَنَّ مَوْعِدَهُ فِي السَّادِسَةِ مَسَاءً؛ مِمَّا يَعْنِي أَنَّهُ وعودا يُمْكِنُهُمَا أَنْ يَنَالَا قِسْطًا مِنَ الرَّاحَةِ فِي فُنْدُقِ «إنترناشونال هوتيل» لِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ.

وَبَيْنَمَا اتَّجَهَ باسبارتو لِقَضَاءِ بَعْضِ الْمَهَامِّ، تَنَاوَلَ فيلياس وَعودا فَطُورًا شَهِيًّا، ثُمَّ ذَهَبَ فيلياس — مِثْلَمَا فَعَل فِي كُلِّ مِينَاءٍ رَسَا بِهِ — لِيَخْتِمَ جَوَازَ سَفَرِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ أَحْدَاثٍ مُؤْسِفَةٍ، وَاسْتَقَلَّ الْجَمِيعُ الْقِطَارَ الْمُتَّجِهَ إِلَى نيويورك — وَمَعَهُمْ فيكس — فِي تَمَامِ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاءِ.

•••

عَلَى مَتْنِ الْقِطَارِ، اسْتَغْرَقَ الْمُسَافِرُونَ الْمُتْعَبُونَ فِي النَّوْمِ؛ فَعِنْدَمَا اسْتَقَلُّوا الْقِطَارَ كَانَ الظَّلَامُ قَدْ حَلَّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ الْكَثِيرُ لِيُشَاهِدُوهُ مِنَ النَّافِذَةِ. شَقَّ الْقِطَارُ طَرِيقَهُ مُسْرِعًا عَبْرَ كاليفورنيَا، وَمُرُورًا بِساكرامنتو، ثُمَّ بَدَأَ يَعْبُرُ خِلَالَ جِبَالِ سييرانيفادا. وَكَانَتْ قُضْبَانُ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ تَلْتَفُّ عَبْرَ الْمَمَرَّاتِ، وَالدُّخَانُ الَّذِي يَتَصَاعَدُ مِنَ الْقِطَارِ يَتَطَايَرُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الضَّخْمَةِ.

وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَبَعْدَ تَنَاوُلِ الْإِفْطَارِ، كَانَ الْمُسَافِرُونَ الْأَرْبَعَةُ يُحَدِّقُونَ خَارِجَ النَّافِذَةِ فِي الْمَنَاظِرِ الطَّبِيعِيَّةِ الْخَلَّابَةِ أَمَامَهُمْ، حَيْثُ كَانَتِ الْجِبَالُ تَصْطَفُّ فِي الْأُفُقِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُرُوجِ. وَلَمْ يَمُرَّ وَقْتٌ طَوِيلٌ حَتَّى عَادَ فيلياس يُدَوِّنُ مُلَاحَظَاتِهِ فِي دَفْتَرِ الْيَوْمِيَّاتِ، بِهُدُوئِهِ الْمُعْتَادِ طَوَالَ الرِّحْلَةِ. وَقَبْلَ الْغَدَاءِ مُبَاشَرَةً، دَخَلَ قَطِيعٌ مِنَ الْجَامُوسِ عَلَى مَسَارِ خَطِّ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ؛ فَتَوَقَّفَ الْقِطَارُ وَانْتَظَرَ السَّائِقُ بِصَبْرٍ حَتَّى عَبَرَ الْقَطِيعُ، لَكِنَّ باسبارتو لَمْ يَسْتَطِعِ الْجُلُوسَ سَاكِنًا، فَأَخَذَ يَقْطَعُ عَرَبَاتِ الْقِطَارِ جِيئَةً وَذَهَابًا وَهُوَ يَتَسَاءَلُ لِمَاذَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِإِبْعَادِ ذَلِكَ الْقَطِيعِ!

وَبِحُلُولِ مَسَاءِ الْيَوْمِ الثَّانِي، كَانُوا قَدْ عَبَرُوا إِلَى وِلَايَةِ يوتا، وَكَانُوا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنَ مَدِينَةِ سولت ليك سيتي الْكُبْرَى، حَيْثُ كَانَتْ قَبَائِلُ الْمورمون تَسْتَوْطِنُ الْمِنْطَقَةَ.

فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ الطَّقْسُ فِي غَايَةِ الْبُرُودَةِ عِنْدَمَا خَطَا باسبارتو إِلَى الْخَارِجِ لِاسْتِنْشَاقِ بَعْضِ الْهَوَاءِ الْمُنْعِشِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ تَسَاقُطُ الثُّلُوجِ، وَلَكِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ سَاطِعَةً كَذَلِكَ. أَخَذَ الْقِطَارُ يَشُقُّ طَرِيقَهُ بِسُرْعَةٍ بَيْنَ الْمَزَارِعِ وَالْحُقُولِ الَّتِي تَنْمُو فِيهَا مَحَاصِيلُ الْقَمْحِ وَالذُّرَةِ فِي الْمَوَاسِمِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُغَطَّاةً بِطَبَقَةٍ رَقِيقَةٍ مِنَ الثُّلُوجِ. مَدَّ باسبارتو ذِرَاعَيْهِ لِأَعْلَى فَوْقَ رَأْسِهِ وَفَكَّرَ: «إِنَّهُ حَقًّا بَلَدٌ مُثِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ.»

وَفِي تِلْكَ الظَّهِيرَةِ، تَوَقَّفَ الْقِطَارُ فِي مَدِينَةِ أوجدن، وَكَانَ مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنْ يُغَادِرَ مُجَدَّدًا فِي غُضُونِ سِتِّ سَاعَاتٍ؛ مِمَّا أَتَاحَ لِلْمُسَافِرِينَ الْفُرْصَةَ لِاسْتِكْشَافِ مَدِينَةِ سولت ليك سيتي، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ مُحَاطَةً بِسُورٍ بُنِيَ فِي عَامِ ١٨٥٣ مِنَ الطِّينِ وَالْحَصَى. تَجَوَّلَ الْمُسَافِرُونَ فِي الشَّوَارِعِ، وَتَأَمَّلُوا الْمَنَازِلَ الْمُرَبَّعَةَ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْقِطَارِ.

وَبِمُجَرَّدِ أَنِ انْطَلَقَتْ صَافِرَةُ الْقِطَارِ وَبَدَأَتِ الْعَجَلَاتُ فِي التَّحَرُّكِ، نَظَرَ باسبارتو خَارِجَ النَّافِذَةِ فَرَأَى رَجُلًا طَوِيلًا يَرْتَدِي مِعْطَفًا طَوِيلًا دَاكِنَ اللَّوْنِ يَجْرِي عَلَى الرَّصِيفِ.

فَصَاحَ باسبارتو: «تَوَقَّفْ! تَوَقَّفْ!» وَبِالطَّبْعِ لَمْ يَتَوَقَّفِ الْقِطَارُ، فَرَكَضَ الرَّجُلُ أَسْرَعَ فَأَسْرَعَ حَتَّى قَفَزَ أَخِيرًا عَلَى الْمِنَصَّةِ الْخَلْفِيَّةِ لِلْقِطَارِ، فَابْتَسَمَ باسبارتو وَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ: «رُبَّمَا يَقُومُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَيْضًا بِجَوْلَةٍ حَوْلَ الْعَالَمِ!»

•••

اتَّجَهَ الْقِطَارُ شَمَالًا مِنْ أوجدن إِلَى جِبَالِ روكي، وَكَانَ باسبارتو يَقْطَعُ الْقِطَارَ ذَهَابًا وَإِيَابًا؛ إِذْ إِنَّهُ كَانَ يَجِدُ صُعُوبَةً فِي الْبَقَاءِ هَادِئًا فِي مَكَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ فيكس لَا يُحِبُّ السَّفَرَ عَبْرَ الْجِبَالِ، فَلَقَدْ أَخَافَهُ ذَلِكَ قَلِيلًا. أَمَّا فيلياس، فَكَانَ بِالطَّبْعِ هَادِئًا تَمَامًا كَطَبِيعَتِهِ.

وَكَانَتِ الثُّلُوجُ لَا تَزَالُ تَنْهَمِرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَسَاءَلَ باسبارتو فِي نَفْسِهِ: «لِمَاذَا لَمْ يَقُمْ سَيِّدِي بِهَذِهِ الْجَوْلَةِ فِي الصَّيْفِ، وَبِذَا لَمْ نَكُنْ لِنُوَاجِهَ مُشْكِلَةَ الطَّقْسِ السَّيِّئِ؟» ثُمَّ نَظَرَ خَارِجَ النَّافِذَةِ وَتَأَمَّلَ السَّمَاءَ الْغَارِقَةَ فِي الْغُيُومِ.

قَالَ فيكس: «إِنَّ السَّاعَاتِ تَمْضِي كَالدَّهْرِ عَلَى مَتْنِ الْقِطَارِ.»

قَالَ فيلياس: «نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا تَمْضِي.»

فَقَالَ فيكس مُقْتَرِحًا: «يُمْكِنُنَا أَنْ نَلْعَبَ بَعْضَ الْجَوْلَاتِ مِنَ الْوَرَقِ.»

فَأَجَابَ فيلياس: «فِكْرَةٌ رَائِعَةٌ! لِنَلْعَبْ بريدج.»

وَهَكَذَا أَمْضَى الْجَمِيعُ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؛ يَلْعَبُونَ الْوَرَقَ وَيَتَحَدَّثُونَ إِلَى بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ وَيَتَنَاوَلُونَ الْإِفْطَارَ أَوِ الْغَدَاءَ أَوِ الْعَشَاءَ. وَكَانَ فيلياس مُحِقًّا؛ فَلَقَدْ مَرَّ الْوَقْتُ.

•••

فَجْأَةً، انْطَلَقَتْ صَافِرَةٌ مُدَوِّيَةٌ وَتَوَقَّفَ الْقِطَارُ تَمَامًا.

قَالَ فيلياس: «رَجَاءً، اذْهَبْ وَانْظُرْ مَاذَا حَدَثَ يَا باسبارتو.»

هُرِعَ باسبارتو خَارِجًا مِنَ الْعَرَبَةِ، وَكَانَ هُنَاكَ مَجْمُوعَةٌ أُخْرَى مِنَ الرُّكَّابِ قَدْ تَجَمْهَرُوا. لَقَدْ أَوْقَفَ ضَوْءٌ أَحْمَرُ حَرَكَةَ الْقِطَارِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَحَدَ الْجُسُورِ، وَكَانَ سَائِقُ الْقِطَارِ وَالْمُحَصِّلُ يَتَحَدَّثَانِ مَعَ مَسْئُولِ الْإِشَارَةِ عَنْ سَبَبِ إِيقَافِ الْقِطَارِ.

فَقَالَ لَهُمَا: «إِنَّ الْجِسْرَ خَارِجَ الْخِدْمَةِ وَمُسْتَحِيلٌ عُبُورُهُ.»

وَهُنَا قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي يَرْتَدِي الْمِعْطَفَ الْأَسْوَدَ الطَّوِيلَ وَيُدْعَى كولونيل بروكتور: «إِنَّنَا لَنْ نَظَلَّ هُنَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَسَوْفَ نَقْبَعُ بَيْنَ هَذِهِ الثُّلُوجِ؟»

قَالَ الْمُحَصِّلُ: «قَطْعًا لَا، لَقَدْ أَرْسَلْنَا بَرْقِيَّةً لِقِطَارٍ آخَرَ لِمُلَاقَاتِنَا فِي مَدِينَةِ ميديسين باو فِي غُضُونِ سِتِّ سَاعَاتٍ.»

صَاحَ باسبارتو: «سِتِّ سَاعَاتٍ! سِتِّ سَاعَاتٍ!»

تَابَعَ الْمُحَصِّلُ: «نَعَمْ، سَنَسْتَغْرِقُ هَذَا الْوَقْتَ لِلْوُصُولِ إِلَى هُنَاكَ سَيْرًا عَلَى الْأَقْدَامِ.»

قَالَ باسبارتو: «سَيْرًا عَلَى الْأَقْدَامِ! كَمْ تَبْعُدُ تِلْكَ الْمَدِينَةُ؟»

قَالَ كولونيل بروكتور: «إِنَّهَا عَلَى بُعْدِ مِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ هُنَا، لِمَاذَا سَنَسْتَغْرِقُ سِتَّ سَاعَاتٍ لِلْوُصُولِ إِلَى هُنَاكَ؟»

قَالَ الْمُحَصِّلُ: «حَسَنًا، إِنَّهَا عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ النَّهْرِ.»

سَأَلَ الكولونيل: «أَلَا يُمْكِنُنَا عُبُورُ النَّهْرِ عَلَى مَتْنِ قَارِبٍ؟»

أَجَابَ الْمُحَصِّلُ: «هَذَا مُسْتَحِيلٌ، فَالنَّهْرُ يَفِيضُ بِسَبِبِ الْأَمْطَارِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا السَّيْرُ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ شَمَالًا حَتَّى يُمْكِنُنَا الْعُبُورُ.»

وَكَانَ الرُّكَّابُ جَمِيعًا مُنْزَعِجِينَ مِنْ فِكْرَةِ السَّيْرِ لِمَسَافَةِ عَشَرَةِ أَمْيَالٍ فِي الْأَمْطَارِ وَالْبَرْدِ وْالثُّلُوجِ. صَمَتَ الكولونيل لِدَقِيقَةٍ، ثُمَّ تَحَدَّثَ بِصَوْتٍ عَالٍ مُخَاطِبًا الْجَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا مَشْغُولِينَ فِي تَذَمُّرِهِمْ.

قَالَ: «انْتَظِرُوا، أَعْتَقِدُ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقَةً لِعُبُورِ الْجِسْرِ.»

قَالَ الْمُحَصِّلُ: «مَاذَا تَعْنِي؟»

أَجَابَ الكولونيل: «أَعْتَقِدُ أَنَّ لَدَيْنَا فُرْصَةً فِي عُبُورِ الْجِسْرِ إِذَا جَعَلْنَا الْقِطَارَ يَسِيرُ بِأَقْصَى سُرْعَتِهِ؛ فَإِذَا كُنَّا نَسِيرُ بِالسُّرْعَةِ الْقُصْوَى، فَقَدْ يَكُونُ لَدَينَا فُرْصَةٌ لِلْعُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَارَ الْجِسْرُ تَمَامًا.»

كَانَ الرُّكَّابُ وَالسَّائِقُ مُتَحَمِّسِينَ لِلتَّجْرِبَةِ، وَكَانُوا عَلَى اقْتِنَاعٍ بِنَجَاحِ الْخُطَّةِ وَأَنَّهُمْ سَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْعُبُورِ، حَتَّى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَلِقًا بِشَأْنِ انْهِيَارِ الْجْسِرِ قَبْلَ أَنْ يَعْبُرُوا لَمْ يَتَفَوَّهْ بِشَيْءٍ، وَكَانَ باسبارتو خَائِفًا لَكِنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ. عَادَ الْجَمِيعُ عَلَى مَتْنِ الْقِطَارِ، وَسُرْعَانَ مَا بَدَأَ الْقِطَارُ يَتَحَرَّكُ مَرَّةً أُخْرَى.

انْطَلَقَتْ صَافِرَةُ الْقِطَارِ وَبَدَأَ يَنْطَلِقُ، ثُمَّ أَسْرَعَ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ؛ فِي الْوَاقِعِ، كَانَ يَسِيرُ بِسُرْعَةٍ جَامِحَةٍ حَتَّى بَدَا كَمَا لَوْ أَنَّهُ لَا يَسِيرُ عَلَى قُضْبَانٍ مُطْلَقًا! ثُمَّ عَبَرَ الْجِسْرَ! لَمْ تَسْتَغْرِقْ تِلْكَ الرِّحْلَةُ الْمَصِيرِيَّةُ سِوَى ثَانِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْقِطَارُ يَطِيرُ مِنْ ضَفَّةِ النَّهْرِ إِلَى الْأُخْرَى، وَبَعْدَ ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ مِنْ مُرُورِ الْقِطَارِ بِأَكْمَلِهِ، تَهَاوَى الْجِسْرُ إِلَى الْمِيَاهِ أَسْفَلَهُ مُحْدِثًا ضَجَّةً شَدِيدَةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤