الفصل السادس

فيلياس فوج عَلَى ظَهْرِ فِيلٍ

انْطَلَقَتْ صَافِرَةُ الْقِطَارِ مُعْلِنَةً مُغَادَرَةَ الْمَحَطَّةِ فِي الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ، وَكَانَ مَعَ باسبارتو وفيلياس فِي الْكَابِينَةِ الَّتِي يَجْلِسَانِ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ يُدْعَى السِّيرْ فرانسيس كرومرتي، وَهُوَ رَجُلٌ طَوِيلُ الْقَامَةِ ذُو بَشَرَةٍ بَيْضَاءَ وَيَبْلُغُ الْخَمْسِينَ مِنَ الْعُمْرِ. وَكَانَ السِّيرْ فرانسيس فِي طَرِيقِهِ لِلِانْضِمَامِ إِلَى كَتِيبَتِهِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ الْمُتَمَرْكِزَةِ فِي مَدِينَةِ بيناريس، وَهِيَ مَدِينَةٌ كُبْرَى أُخْرَى فِي الْهِنْدِ.

تَقَابَلَ فيلياس وَالسِّيرْ فرانسيس عَلَى مَتْنِ «منغوليا» حَيْثُ لَعِبَا الْوَرَقَ مَعًا، وَكَانَ السِّيرْ فرانسيس — وَهُوَ جِنِرَالٌ فِي الْجَيْشِ الْبِرِيطَانِي — يَرَى أَنَّ فيلياس مَجْنُونٌ؛ لِأَنَّهُ يُحَاوِلُ السَّفَرَ حَوْلَ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْقَصِيرِ، بَلْ وَكَانَ يَرَى أَنَّ فيلياس شَخْصٌ غَرِيبٌ حَقًّا.

وَبَعْدَ مُرُورِ سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ مِنْ رِحْلَةِ الْقِطَارِ، قَالَ السِّيرْ فرانسيس: «لَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ مَضَتْ يَا فيلياس، لَكُنْتَ عَلِقْتَ هُنَا وَخَسِرْتَ رِهَانَكَ.»

سَأَلَ فيلياس: «كَيْفَ ذَلِكَ؟»

– «كَانَ الْقِطَارُ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ قَاعِدَةِ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَكَانَ عَلَى الرُّكَّابِ امْتِطَاءُ الْمُهُورِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ.»

قَالَ فيلياس: «آهْ، حَسَنًا، كُنْتُ سَأَحْرِصُ عَلَى التَّخْطِيطِ لِذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ سَتَسِيرُ عَلَى خَيْرِ مَا يُرَامُ.»

وَبَيْنَمَا كَانَ الرَّجُلَانِ يَتَجَاذَبَانِ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ، نَامَ باسبارتو بِهُدُوءٍ وَهُوَ يَتَدَثَّرُ بِبَطَّانِيَّةٍ. وَأَخِيرًا تَوَقَّفَ الرَّجُلَانِ عَنِ الْكَلَامِ وَبَقِيَا صَامِتَيْنِ، وَشَقَّ الْقِطَارُ طَرِيقَهُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ، وَبِحُلُولِ النَّهَارِ كَانَ قَدْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الْجِبَالِ، الَّتِي أَصْبَحَتْ خَلْفَهُمَا.

كَانَتْ مَحَطَّتُهُمُ الْأُولَى بَعْدَ مُغَادَرَةِ بومباي هِيَ برهامبور، وَعِنْدَمَا تَوَقَّفَ الْقِطَارُ لِلتَّزَوُّدِ بِالْمُؤَنِ وَالْفَحْمِ، اشْتَرَى باسبارتو لِنَفْسِهِ حِذَاءً جَدِيدًا؛ إِذْ إِنَّهُ قَدْ فَقَدَ حِذَاءَهُ فِي الشِّجَارِ فِي الْمَعْبَدِ. وَكَانَ حِذَاؤُهُ الْجَدِيدُ عِبَارَةً عَنْ خُفٍّ هِنْدِيٍّ مُزَيَّنٍ بِلَآلِئَ غَيْرِ أَصْلِيَّةٍ، وَلَمْ يَمْتَلِكْ باسبارتو قَطُّ شَيْئًا بِهَذَا الْجَمَالِ.

وَعِنْدَمَا بَدَأَ الْقِطَارُ يَسْتَأْنِفُ رِحْلَتَهُ، جَلَسَ باسبارتو مَرَّةً أُخْرَى يَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ، وَكَانَ مَشْدُوهًا لِأَنَّهُ فِي الْهِنْدِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ؛ وَفِي الْوَاقِعِ كَانَ بَدَأَ يُغَيِّرُ فِكْرَتَهُ عَنِ الرِّحْلَةِ الْعَاصِفَةِ، بَلْ وَبَدَأَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا.

وَفَجْأَةً تَوَقَّفَ الْقِطَارُ وَصَاحَ مُحَصِّلُ الْقِطَارِ: «عَلَى جَمِيعِ الرُّكَّابِ مُغَادَرَةُ الْقِطَارِ هُنَا!»

نَظَرَ فيلياس إِلَى السِّيرْ فرانسيس، وَلَكِنَّهُ هُوَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ يُدْرِكُ سَبَبَ تَوَقُّفِهِمْ، وَبِالْخَارِجِ كَانَتْ هُنَاكَ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ مُحَاطَةٌ بِغَابَاتٍ مِنْ أَشْجَارِ النَّخِيلِ. انْدَفَعَ باسبارتو خَارِجَ الْقِطَارِ لِيَرَى مَا يَحْدُثُ.

وَعِنْدَ عَوْدَتِهِ قَالَ: «سَيِّدِي! لَا يُوجَدُ الْمَزِيدُ مِنَ الْقُضْبَانِ!»

سَأَلَهُ السِّيرْ فرانسيس: «مَاذَا تَعْنِي؟»

أَجَابَ باسبارتو: «أَقْصِدُ أَنَّ الْقِطَارَ لَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ السَّفَرِ لِأَبْعَدَ مِنْ هُنَا.»

خَرَجَ الجِنِرَالُ وَلَحِقَ بِهِ فيلياس فوج وَذَهَبَا لِيَتَحَدَّثَا مَعَ مُحَصِّلِ الْقِطَارِ.

سَأَلَ السِّيرْ فرانسيس: «مَاذَا يَحْدُثُ؟»

– «لَمْ يَنْتَهِ إِنْشَاءُ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ بَعْدُ، لَا تَزَالُ هُنَاكَ مَسَافَةُ خَمْسِينَ مِيلًا لَمْ يَنْتَهِ إِنْشَاؤُهَا، يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمُ اسْتِكْمَالُ طَرِيقِكُمْ وَحْدَكُمْ مِنْ هُنَا.»

وَبَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، تَرَكَ الْمُحَصِّلُ الرِّجَالَ الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَكُنْ أَيٌّ مِنْهُمْ يَعْلَمُ مَاذَا سَيَفْعَلُ بَعْدُ.

لَقَدْ كَانَتْ كُلُّ الصُّحُفِ اللَّنْدَنِيَّةِ مُخْطِئَةً؛ حَيْثُ إِنَّ السِّكَكَ الْحَدِيدِيَّةَ الَّتِي تَقْطَعُ الْهِنْدَ كَانَتْ عَلَى وَشْكِ الِانْتِهَاءِ.

قَالَ السِّيرْ فرانسيس: «بِالتَّأْكِيدِ، سَتُمَثِّلُ هَذِهِ مُشْكِلَةً لَكَ؛ إِذْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الْوُصُولَ إِلَى كلكتا الْآنَ.»

قَالَ فيلياس: «بِالْعَكْسِ، لَدَيَّ عِدَّةُ أَيَّامٍ إِضَافِيَّةٍ؛ فَالْيَوْمَ مَا زَالَ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أُكْتُوبَرَ وَلَنْ تُغَادِرَ الْبَاخِرَةُ إِلَى هونج كونج إِلَّا يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، فَمَا زَالَ لَدَيْنَا مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلْوُصُولِ إِلَى كلكتا.»

قَرَّرَ فيلياس: «سَنَقْطَعُ الْمَسَافَةَ سَيْرًا عَلَى الْأَقْدَامِ.»

نَظَرَ باسبارتو إِلَى حِذَائِهِ الْجَدِيدِ، وَالَّذِي لَنْ يَصْمُدَ لِمَسَافَةِ خَمْسِينَ مِيلًا مِنَ السَّيْرِ، وَنَظَرَ حَوْلَهُ لِدَقِيقَةٍ ثُمَّ قَالَ: «أَعْتَقِدُ أَنَّنِي وَجَدْتُ طَرِيقًا آخَرَ يَا سَيِّدِي!»

قَالَ فيلياس: «مَا هُوَ يَا باسبارتو؟»

أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى كُوخٍ صَغِيرٍ يَبْعُدُ عِدَّةَ يَارْدَاتٍ عَنِ الْمَحَطَّةِ وَقَالَ: «فِيلٌ!» وكَانَ ثَمَّةَ فِيلٌ يَقِفُ هُنَاكَ بِالْفِعْلِ، وَسَارَ الرِّجَالُ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْكُوخِ وَطَرَقُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ رَجُلٌ هِنْدِيٌّ وَأَرَاهُمْ «كيوني»، وَكَانَ هَذَا هُوَ اسْمَ الْفِيلَةِ.

حَاوَلَ فيلياس تَأْجِيرَ الْفِيلَةِ لِإِيصَالِهِمْ إِلَى مَدِينَةِ «الله أباد»، حَيْثُ تَسْتَأْنِفُ السِّكَّةُ الْحَدِيدِيَّةُ رِحْلَتَهَا، وَلَكِنَّ الْمَالِكَ رَفَضَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَبْلَغًا أَكْبَرَ مِنَ الْمَالِ، لَكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى الرَّفْضِ. وَبَعْدَ عِدَّةِ دَقَائِقَ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ عَرَضَ فيلياس مَبْلَغَ سِتِّمِائَةِ جُنَيْهٍ، وَلَكِنَّ الْإِجَابَةَ كَانَتْ لَا تَزَالُ بِالرَّفْضِ! ثُمَّ حَاوَلَ شِرَاءَ كيوني مُقَابِلَ أَلْفِ جُنَيْهٍ، وَلَمْ يَلْقَ عَرْضُهُ قَبُولًا كَذَلِكَ! فِي النِّهَايَةِ اضْطُرَّ فيلياس لِعَرْضِ شِرَائِهَا مُقَابِلَ أَلْفَيْ جُنَيْهٍ حَتَّى يُوَافِقَ الْمَالِكُ.

قَالَ باسبارتو: «أَلْفَا جُنَيْهٍ مِنْ أَجْلِ فِيلَةٍ!» وَتَعَجَّبَ لِأَنَّ سَيِّدَهُ كَانَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِإِنْفَاقِ كُلِّ هَذِهِ الْأَمْوَالِ!

لَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْعُثُورُ عَلَى مُرْشِدٍ، وَوَجَدُوا فِي الْمَدِينَةِ شَابًّا لَطِيفًا يُدْعَى عَلِيًّا فَاسْتَأْجَرُوهُ عَلَى الْفَوْرِ. كَمَا اشْتَرَوُا الْمُؤَنَ كَذَلِكَ وَأَصْبَحُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلرَّحِيلِ. جَلَسَ فيلياس وَالسِّيرْ فرانسيس عَلَى كُرْسِيَّيْنِ عَلَى جَانِبَيِ الْفِيلَةِ — يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا هَوْدَجٌ — بَيْنَمَا جَلَسَ باسبارتو بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، عَلَى ظَهْرِ كيوني، وَجَلَسَ مُرْشِدُهُمْ عَلَى رَقَبَتِهَا، وَبَدَءُوا رِحْلَتَهُمْ مِنَ الْقَرْيَةِ فِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ، وَبَدَءُوا يَشُقُّونَ طَرِيقَهُمْ عَبْرَ غَابَةِ النَّخِيلِ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤