الفصل الثاني

عوائق النمو في الشخصية

  • (١)

    التربية المنزلية وأثرها.

  • (٢)

    حجاب المرأة وأثره.

  • (٣)

    الفصل بين الجنسين.

  • (٤)

    العادات التي تضعف الشخصية.

  • (٥)

    مركب النقص.

  • (٦)

    المباراة الاقتصادية.

  • (٧)

    شخصية المرأة.

  • (٨)

    رواسب الطفولة.

  • (٩)

    مجتمعنا المصري يعوق الشخصية.

  • (١٠)

    تلخيص.

(١) التربية المنزلية وأثرها

يقاس الذهن بمعدل الذكاء وتقاس الشخصية بمعدل العاطفة، والذكاء بطبيعته مرن لا تُؤثر فيه العادات، ولكن العاطفة تجمد بالعادة، ولا تكاد تتغير إلا بمجهود شاق، ونحن حين نبحث الشخصية عند أحد الأفراد نلتفت إلى الأسلوب الذي يتخذ في عواطفه؛ أي: كيف ينشط؟ وهل يتخذ نشاطه أسلوب المثابرة أم أسلوب الوثبة، أو هو حين يغضب يكظم ويكتم أو يصارح ويهاجم؟ وهل هو رعديد أم ضديد؟ يخاف أم يجرؤ؟ وهل هو يعالج مشكلاته بالتحدي أم بالفرار أم بالمصالحة؟ وهل هو اجتماعي أنيس يختلط بالناس أم يُؤثر العزلة والانفراد؟ وهل هو حيي ظريف أم خجول متراجع؟ وهل هو جريء إلى حد الوقاحة أم صريح فقط يكره المواربة؟

وكل هذه الحالات تدل على العاطفة ولا تدل على الذكاء، ومجموعة العواطف التي نتهيأ بها لمواجهة الحياة، والتي تتكوَّن بها شخصياتنا، إنما تتكوَّن أيام الطفولة، ومن هنا قيمة التربية المنزلية وأثرها في الشخصية، ولهذا السبب نجد أن لكل بيت طرازه المعين من الشخصيات التي نبتت ونمت في بيئته وجوه، لهم طريقة معينة في الغضب إما بالصراخ والسب والعربدة، وإما بالكظم والصمت والسكينة، ولهم طريقة معينة في مواجهة المشكلات إما بالتدبير والتأمل، وإما بالهجوم الأعمى، وإما بالتجاهل والفرار، يتعلمون ذلك بالقدوة فتأخذ عواطفهم قوالب معينة تثبت عليها مدى الحياة.

وكثيرًا ما قيل بحق: إن المدرسة تُدرب الذكاء وتُنير الذهن، ولكن البيت هو الذي يُعلِّم الأخلاق؛ أي: يربي الشخصية، وشخصية الشاب الأوروبي أنجع من شخصية الشاب المصري؛ لأن البيت الأوروبي يمتاز بآباء متمدنين، وبجو من الأمن والطمأنينة لا يمتاز بمثلها البيت المصري، فالشاب في أوروبا ينشأ على عادات تتدرب بها عواطفه في طلب الطعام وتناوله، وفي معاملة الخدم، وفي مقابلة الضيوف، وفي التصرف الاستقلالي، وفي غير ذلك مما لا يجد مثله الشاب المصري، فنحن مثلًا في مصر نأتي بالخادمة الصبية من الريف ونشتمها ونضربها أمام أطفالنا؛ فيشبون وقد اكتسبوا منا هذا الأسلوب الوحشي في المعاملة، فالسباب يجري على أطراف ألسنتهم وأيديهم مرفوعة بالاعتداء لأقل احتكاك، ونحن نمنع أطفالنا من لقاء الضيف فينشئون وهم يخافون الغرباء، لا تتحرك ألسنتهم بكلمة التحية أو الترحيب إلا بمشقة وبعد تعنيف، ونحن نأكل بالتهام، ونهمل أدوات المائدة، فينشأ أطفالنا بالقدوة وهم يتعجلون الأكل، فيسيئون إلى الغريب إذا اشتركوا معه في المائدة، ومرجع ذلك أننا لم نتكلف قليلًا في التزام عادات حسنة وقت الطعام، وكل شخصية تحتاج — في الأول على الأقل — إلى شيء من التكلف.

ثم قد يكون البيت من تلك البيوت القديمة التي تعتز بالتقاليد وتؤمن بالعصا والقسر، فلا يكون للأطفال شيء من الحرية، ولا يجوز لهم اللعب والانطلاق إلا بإذن، فنيشئون وهم لا يعرفون الاستقلال، بل يخشونه ويفرون منه، وعكس ذلك بيت آخر يترك الفوضى تعم الأولاد حتى يفعلوا كل ما يشاءون، ولا يحسنوا تكليفًا معينًا في الحديث واللعب والإيماءة والمشي والتصرف، وكلا البيتين سيئ، القسر والتقيد يؤخران نمو الشخصية، كما أن الإباحة تعمم الفوضى، ولكن الطريق السديد هو وسط بينهما … تكليب دون قسر وحرية دون إباحة.

والبيت الحسن الذي يُربي الشخصية الناجعة؛ هو ذلك الذي يمتاز بأبوين محبين يُحب أحدهما الآخر ويحترمه، وهو بيت موقر يستقبل الضيوف في وقار وبلا أبهة سخيفة، تنظم فيه المائدة الحسنة ولكن غير المطهمة، والخدم فيه محترمون لا يسب واحد منهم، وللأطفال فيه غرفة أو بهو يستطيعون فيهما اللعب الحر، ولكل طفل أو صبي مصروفه الأسبوعي أو الشهري (وليس اليومي)؛ كي يتصرف ويتحمل مسئولية الحساب بين الوارد والمنصرف على مدى أيام، وهو البيت الذي يحتوي مكتبة عصرية، وصورًا فنية، وجرائد ومجلات حسنة لا ينقطع ورودها حتى يتشبع الجو بالسياسة والثقافة، فينشأ الصبي والصبية وهما يعرفان أن اللغو والقيل ليست من شأن الرجل العصري المهذب.

والبيت الحسن الذي يُربي الشخصية هو الذي يستشير فيه الأبوان الأطفال عن النزهة المنتظرة، أو طعام الغد، أو زيارة هذا القريب، بل هو الذي يؤلف من أعضاء العائلة جمعية لمحاكمة الصبي المتمرد، أو لتعيين النشاط الذي قد يتخذه الأعضاء بعد أسبوع أو شهر في شأن معين؛ حتى ينشأ الطفل ديمقراطي العواطف يشعر بحقوقه وواجباته

(٢) حجاب المرأة وأثره

إذا كان المجتمع المصري قد ضُرِبَ بضربات عدة ثقيلة تُحطم كيانه وتهدم شخصيات أفراده، من الملوكية العاتية إلى الأرستقراطية الفاجرة، إلى الفاقة المهينة؛ إلى غير ذلك، فإن حجاب المرأة يجب أن يُعد من أفدح هذه الضربات، ليس للمرأة وحدها بل للرجل أيضًا

ذلك أن الشخصية كما قلنا خاصة اجتماعية تخصب بالاجتماع وتضمر بالانعزال، والمرأة التي حُبست في البيت ومُنعت من الاختلاط بالتاجر والصانع، وقصرت معاملتها على الزوج والأطفال والخدم، وزيارة الأقارب وشراء الحاجات التافهة على عتبة الباب، هذه المرأة التي لا تحضر محاضرة ولا تؤدي عملًا يُطالبها بالسفر والتنقل، أو تحمل مسئوليات اجتماعية أو مالية أو حرفية، لا يمكن أن تتكون لها شخصية، وهي بالقياس إلى امرأة أخرى تحترف وتعيش بما تكسب تُعد — من ناحية الشخصية — في شبه الطفولة، ونحن نلتقي أحيانًا بمثل هذه المرأة التي تنقرض رويدًا رويدًا في عصرنا؛ فنجد الجمود الحيواني الذي يبدو كأنه حياء، مع أنه في الواقع مجموعة من الجهل والخوف والانعزال الروحي والمادي عن المجتمع.

وهذا الحجاب قد أفسد مجتمعنا؛ لأنه عزل المرأة وقصرها على شئون البيت، وشئون البيت عند المرأة المحجبة القديمة هي الطبخ والغسل والتناسل، وليس في هذه الأعمال ما يكوِّن الشخصية، وقد خفت وطأة الحجاب عما قبل أو تراخت قيوده في بعض البيئات، كما أنه أُلغي تمامًا في العائلات المصرية الراقية، ولم يعد أحد يدافع عنه باعتبار أنه من التقاليد التي يجب أن نقدسها ونصونها، ومع الأسف لقيت الدعوة إلى السفور معارضة مثابرة أكثر من أربعين سنة منذ بداية نهضتنا الاجتماعية، ومعارضين من الزعماء كما نرى في كتاب طلعت حرب الذي رد به على قاسم أمين.

ولكن مع تهتك الحجاب المادي لا يزال الحجاب الروحي قائمًا، فإننا ما زلنا كارهين لدعوة المساواة بين الجنسين، إذا أجزنا دخول فتاة في كلية الآداب منعناها من الدخول في كلية الهندسة أو الزراعة، وإذا سمحنا لها بالحصول على إجازة كلية الحقوق منعناها من احتراف القضاء، ونحن نُجيز للمرأة أن تكون معلمة أو مفتشة في وزارة المعارف أو طبيبة في وزارة الصحة، ولكننا لا نُجيز لها أن تكون وكيلة، فضلًا عن وزيرة في المعارف أو الصحة.

ولست هنا بسبيل البحث عن حقوق المرأة التي ساوت بينها وبين حقوق الرجل جميع الأمم المتمدينة، ولكني أنظر إلى حرمانها من هذه الحقوق، وإلى الحجاب، من الناحية الشخصية، فإن شخصية المرأة تضمر وتهزل بمقدار المدى الذي يصل إليه هذا الحرمان، والوطأة التي يثقل بها الحجاب؛ لأن شخصيتنا تنمو بالاختلاط والمعاملة وتحمل المسئوليات الجسيمة، ونحن نرى أثر الحرمان والحجاب حين نقارن بين امرأة محترفة وبين امرأة محجبة، الأولى صاحية يقظة متكلمة متنبهة إلى مجتمعها تتحدث عن الدنيا والوطن والسياسة والحرب والبر، وتهتم بالنشاط الاجتماعي، وهي رشيقة الحركة مهندمة الملابس، بعيدة عن ترهل الجسم أو الذهن، نقعد إليها فنحس أننا إزاء إنسان مثلنا نخاطبه على قدم المساواة، ولا نحس الرغبة في أن نتغاضى عن نقصه أو نرعاه في عجزه، أما المرأة المحجبة فإننا — حين نلقاها في النادر — نحس عجزها، ونخاطبها كما لو كانت طفلة نجاريها في الحديث ولا نجادلها لو أخطأت؛ لأننا نشعر أننا يجب أن نتسامح معها لعجزها، وعندئذ لا مفر من أن نعترف للأولى بشخصية محترمة أو محببة، وننكر هذه الشخصية على الثانية.

ولأن المرأة المحجبة — بالحجاب المادي أو الحجاب الروحي — لم تتعود تحمل المسئوليات، كثيرًا ما تسيء إلى أبنائها إذا ترملت؛ لأنها تعجز عن إدارة تركة الأب كما تعجز عن تربية الأبناء، ومن أين لها ذلك إذا كان زوجها يمنعها من الاختلاط ودراسة المجتمع، ويقصر تربية الأولاد على نفسه؟ ومن هنا كارثة الأوصياء الذين يسنمون بالوصاية على الأم العاجزة، وما أعجزها عن إدارة أموالها وتربية أولادها سوى الحجاب.

وقد قلنا: إن المرأة المحجبة لا تُربي أولادها؛ لأنها تعجز عن ذلك، ولكن هذا التعبير مخطأ؛ لأن المرأة حين تصير أمًّا لا تستطيع أن تقف الموقف السلبي من تربية أبنائها؛ أي: تترك هذه التربية للأب وحده؛ لأن التربية الحقيقية تكاد تنتهي عند السادسة من العمر، والأب قلما يعامل أطفاله وهم دون هذه السن، وإنما الذي يعاملهم ويربيهم هو المرأة، تربيهم بالقدوة.

فالأطفال الذين يرون أمهم تختبئ عندما يطرق الباب زائر، وتتجنب مقابلة الغرباء يقتدون بها في الخوف الذي يلازمهم مدى حياتهم، وليس هناك شك في أن الشاب الأوروبي أجرأ على مقابلة الغريب، وأرشق حركة من الشاب المصري لأثر الحجاب هذا.

ولذلك يجب ألا نعتقد أن الحجاب يضر المرأة وحدها؛ لأنه يفقدها شخصيتها؛ إذ إن الحقيقة أنه يضر الرجل أيضًا من حيث إن المربي الأصلي له هو المرأة؛ أي: الأم، ويجب لهذا السبب أن نُكافح الحجاب بشكله الروحي؛ أي: منعها من الاشتغال في الشئون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كأن الوطن ليس وطنها، بل وطن الرجل وحده

وكي نكون شخصية المرأة وننميها يجب ألا نرتكب أي عمل يؤدي إلى أن تفهم منه منذ السنة الأولى من عمرها أنها دون الرجل، فعلينا أن نساوي بين الصبي والفتاة في الحقوق والواجبات، وأن نكلفهما على السواء المسئوليات، وأن نخلطهما بالمجتمع يتشربان روحه ويتفهمان سبله، وإذا كان الرجل في العادة يمتاز بالحرفة التي تُنمي شخصيته وتُرقيها، فإن المرأة تمتاز بالأمومة، وهذه إلى حد ما تُكوِّن شخصيتها وتُنميها، والمرأة المثلى من حيث الشخصية هي تلك التي تجمع بين الحرفة والأمومة كما هي الحال في أوروبا وأمريكا، ومجتمعنا في الوقت الحاضر لا يسمح بهذا إلا في النادر.

(٣) الفصل بين الجنسين

في سن المراهقة يحتد الشعور الجنسي عند الشاب والفتاة، وهذا الشعور يبدو حياء أو ارتباكًا أو خوفًا من الجنس الآخر، وليس في هذه الأعراض ما يبعث على القلق؛ لأنها لا تدوم سوى فترة وقتية، ثم يعود كل منهما إلى شعور سوي نحو الآخر.

ولكننا في مصر — لأننا نفصل بين الجنسين — نجعل هذه الفترة تمكث أطول مما كان يجب، بل أحيانًا تدوم مدى الحياة؛ ذلك أننا منذ الطفولة ونحن نلقن من أبوينا بأن الجنسين يجب أن ينفصلا, ونرى هذا الانفصال قائمًا في المجتمع، فهناك مدارس للبنين وأخرى للبنات، وهناك انفصال في المجتمعات العائلية منذ المراهقة، بل عندنا من يلحون في الفصل بين الجنسين عند الشواطئ، وفي الترام نجد مقاصير خاصة بالنساء، بل كذلك نجد هذه المقاصير في عربات القطار، وهذا الانفصال يجعل الشعور الجنسي مضطربًا يلهيه التطلع للخفايا والرغبة في الوقوف على خواص الجنس الآخر، ولذلك يؤدي الخيال ما ينقص الواقع، ولكنه يؤديه على غير الأساس الصحيح.

ومن هنا إقبال شبابنا عقب المراهقة على العادة السرية؛ ذلك لأننا قد نفيناهم أو نحيناهم عن الواقع حين منعنا الاختلاط بينهم وبين الفتيات، فدفعتهم الرغبة الجنسية إلى الاستسلام لخيال تعويضي يجترون الصور النسوية في وحدتهم فتلهب شهواتهم، وهم كلما تمادوا في الخيال ابتعدوا عن الواقع، حتى ليشق على الشاب بعد ذلك لقاء فتاة أو التحدث إليها، وإذا زاد التمادي في الخيال أنكر الشاب المرأة وقنع بأخيلته، وهنا الكارثة.

ولكن ما شأن هذا بالشخصية؟ شأنه عظيم؛ لأن الشخصية الناجعة تحتاج إلى الاتجاه الاجتماعي السوي، ونصف المجتمع من النساء، فإذا عجز الشاب عن معاملة الجنس الآخر فهو ناقص الشخصية، ومهما يكن لبقًا رشيقًا فإنه يضطرب ويشعر بخبال عندما يلتقي بامرأة ما دام في هذه الحال.

والنجاح في الزواج يحتاج أول كل شيء إلى شخصية ناجعة تغري الفتاة أو الفتى بقبول الخطبة، والفتاة التي تضطرب عند لقاء الشاب — أو العكس — تُتهم بالارتباك؛ أي: البعد عن الرشاقة, وكذلك الشاب يبدو جلفًا جافيًا بطيء الذهن والحركة، وقد يفقد أحدهما الآخر ولا يتم الزواج؛ لأنهما لم يتعودا الاختلاط، ولم تتكون لهما شخصية جنسية راقية مهذبة رشيقة، وإذا كان النجاح يحتاج إلى الشخصية، فإن أكبر الخيبة في الحياة هي خيبة الشباب في الحصول على الزوجة التي يطمح إليها، لا لشيء إلا لأنه نشأ منفصلًا عن الجنس الآخر، لا يعرف كيف يعامل أفراده.

وحسبنا أن نقارن بين شاب مصري وآخر فرنسي أو إنجليزي قد اتفق وجودهما في مجتمع مختلط، فإن الأول يبقى جامدًا أو مضطربًا ومنزويًا، يتوقى الحديث مع السيدة أو الآنسة في حين أن الشاب الإنجليزي أو الفرنسي يُسارع إلى الحديث والاختلاط كما تسارع البطة إلى الماء، وفي مباراة جنسية غايتها يد فتاة ما، يتغلب الشاب الأوروبي على الشاب المصري تغلبًا ساحقًا.

وارتباك الفتاة أو جمودها يُنقص من جمالها أيضًا، ويفوت عليها فرصًا في الزواج، ولكن هناك شأنًا آخر له قيمة سيكلوجية، وهو أن الانفصال بين الجنسين يجعل الشاب يهمل هندامه وعاداته في الحديث، فيفقد كثيرًا من الظرف والكياسة حتى في مجتمع الرجال؛ لأن الاجتماع المختلط يحثنا على طلب الإعجاب من الجنس الآخر، وهذه العناية تحثنا على التكمل في الهندام والحديث، وتوخي الظرف والكياسة، ومراعاة النظافة، ونحن نفقد هذا أو كثيرًا منه بالانفصال القائم في مجتمعنا بين الجنسين، ومن هنا أيضًا هذه الجلافة في النكات الغليظة التي تتفشى في مجتمع الرجال عندنا، وهي جلافة لا يمكن أن توجد في مجتمع أوروبي مختلط.

بل يمكن عند التأمل السيكلوجي أن نصف مجتمعنا الحاضر بأنه في سكون عام — أي: غير سليم — يتوهم أوهامًا وقيمًا زائفة غير سوية، والشاب أو الفتاة اللذان ينشآن في هذا المجتمع هما بعيدان عن الحال السيكلوجية السوية التي هي ثمرة الصحة النفسية.

(٤) العادات التي تُضعف الشخصية

لكل عادة سيئة يقع فيها الشاب أسباب سيكلوجية هي التي دعت إليها، وهي التي حملت معتادها على أن يداوم عليها حتى رسخت وصارت «طبيعة ثانية»، فإن الشاب الذي يلجأ إلى الخمر ويعتادها إنما يفر من الواقع؛ كي يسري عن نفسه همومه وصعوباته بالاستسلام للخيال الذي تثيره الخمر، وكذلك معتاد التدخين يلجأ إلى هذا المخدر المنبه؛ كي يفرج عن ضيق دائم أو وقتي.

ولكننا لسنا الآن بسبيل البحث عن الأسباب لهذه العادات أو غيرها، وإنما ننظر إليها من حيث أنها تضعف الشخصية وتعوق نموها، فإن «سيكلوجية العادة» تحتاج إلى كتاب مفرد، ولكننا نكتفي هنا بأن نقول: إن الشخصية الناجعة تحتاج إلى مرونة أو لدونة بعيدة عن التحجر النفسي الذي تحدثه العادة، فإن الرقي يعني في كل الحالات تغييرًا، وهذا التغيير تعوقه العادة الراسخة.

ولنضرب على ذلك مثلًا بالخمر أو المقامرة، فها هما قياسًا عادتان مستوليتان على الشباب، ويستهلكان وقته وماله، فهو مشغول بهما منذ الغروب إلى ساعة متأخرة في الليل، وطيلة هذا الوقت قد حرم المخالطة المنيرة للأصدقاء والمعارف، كما حرم قراءة الكتب التثقيفية والملاهي الراقية والرياضة المفيدة، وسائر ما يسمو بالشخصية، وهذا إلى الخسار المالي الذي يحرمه من شراء الحاجات للرقي الذهني أو الجسمي أو الاجتماعي أو العائلي، وإذا رسخت العادة في الخمر أو القمار أدت إلى انهيار الشخصية؛ لأن المدمن قد يشرب الخمر في النهار، وأسير القمار قد يقع في الإجرام.

وعادة أخرى — وإن تكن أقل سوءًا من العادتين السابقتين — هي الإدمان للتدخين، فإن ما فيها من تفريج وقتي لا يعادل خطرها المالي والصحي، بل الواقع الذي تثبته الإحصاءات في شركات التأمين أن التدخين أضر بالصحة من الخمر، ولكن ما نثبته نحن هنا أن الخمور أضر بالشخصية من التدخين، بل من القمار، وجدير بمن يكافحون الخمور أن يقتصروا على ذكر الأضرار الفادحة منها للشخصية دون الصحة.

وقد شاهدنا من بعض المدخنين عادات وإيماءات تدل على قلق نفسي، وعلى غلظة بعيدة عن الرشاقة والجمال والظرف التي تتصف بها الشخصية الراقية، وخاصة شخصية المرأة، وعادة التدخين تبدأ للرغبة في تكبير الشخصية، ولكها تنتهي بإدمان ينأى عن الرشاقة والكياسة.

وهناك عادات أخفى مما ذكرنا تؤثر في الشخصية أثرًا سيئًا، من ذلك مثلًا التسكع الأخلاقي الذي يبدو في شاب ليست له مبادئ يوسم بها، بحيث لا نستطيع أن نتكهن بما سوف يسلك حين تواجهه الحوادث أو الأخطار، فهو لا يسير على خطة معينة، بل يعمد إلى التقلب، تارة يتسامح وأخرى يتصاعب وأحيانًا ينشط وأخرى ينقبض، ومثل هذه الحال نادرة، وهي أقرب أسلوبًا إلى المرض النفسي منها إلى الصحة النفسية؛ لأن الرجل السوي يتخذ أسلوبًا معينًا قد استقر عليه بتفاعل معين بين نفسه وبين البيئة المحيطة، ولكنا على كل حال ننتظر ممن يمتاز بشخصية ناجعة أن تكون قاسية صارمة أو رحيمة عاطفة، ولكنا لا ننتظر منه التقلب بين الكِفتين.

وهناك التسكع الذهني، فإن من يُعنَى بترقية شخصيته يكره الاستهتار الثقافي، فهو لا يقرأ كي يقتل الوقت، كأن الوقت أرخص الأشياء، وأحيانًا أتعجب من الشاب الذي يلعب إحدى لعب الحظ حين يقول: إنه يقتل الوقت ولا يقامر، كأن إضاعة ساعة من الزمن أرخص عنده من إضاعة قرشين من النقود، مع أن القرشين يمكن تعويضهما أما الساعة فلن تعوض، والشاب الذي يُنمي شخصيته يجب أن يضع لنفسه برنامجًا للدراسة يقوم على نظام حاوٍ وافٍ، لا يقرأ جزافًا ولا ينفق وقته وذهنه في القراءة الرخصية.

وإذا كانت عادة التسكع تدل على نشاط أعوج، فإن هناك عادة أخرى لا تدل على أي نشاط، هي الترهل الذهني الذي قد يرافقه ترهل جسمي، وكلاهما يتضح لنا في ذلك الشاب السمين قعيد المقاهي الذي يسدر ويهيم كأنه لا يجد على الكرة الأرضية ما يشغل باله، فهو راكد الجسم والذهن، ولهذا الترهل أسباب سيكلوجية بالطبع؛ لأنه فرار من الواقع بالاستسلام للخيال من جهة، وباستسلام لملاذ المائدة من جهة أخرى، ولا بد من التغلب على هذه العادة؛ أي: معالجتها؛ كي ترقى الشخصية.

وهناك عادات أخرى تُضعف الشخصية، وهي جميعًا تلتف حول الغريزة الجنسية، وتدل على انحراف؛ أي: زيغ فيها، مثل: العادة السرية، والشذوذ الجنسي، والتشرد الجنسي.

فالعادة السرية التي يؤدي الإدمان لها إلى انعزال الشاب واستسلامه للخيال، وإلى قلق نفسي ووسوسة دائمة، هذه العادة يجب التخلص منها، وكذلك الشذوذ الجنسي الذي يجعل الشاذ يتهم نفسه وينكمش ويتوسوس ويجبن، وكلتا العادتين عائقة عن الاختلاط السوي بالجنس الآخر، كما هي عائقة عن الرقي، وشخصية الزائغ مريضة تحتاج للعلاج العاجل.

وهناك زيغ آخر قلما يلتفت إليه هو التشرد الجنسي؛ أي: كراهة الاستقرار، فالشاب لا يستقر على حب معين، بل ينتقل بسرعة كأنه هائم أو ناهم، وهذا الزيغ يدل على «مركب نقص» يحتاج أيضًا إلى علاج.

وجميع هذه العادات هي في لبابها فرار من الواقع وكراهة لمواجهة الدنيا، كما هي بصعوباتها ومشكلاتها القائمة، فهي؛ أي: هذه العادات، محاولات لإيجاد عالم آخر قد خلص من الهموم ووافق الخيال المحبوب، ولا بد للتخلص منها كي تحقق الشخصية الراقية، والتخلص منها يحتاج إلى تحليل نفسي ليس هنا مكانه، وقصارانا أن نُنبه على ضررها.

ويجب أن نُنبه القارئ إلى أن الضرر من هذه العادات السيئة ليس ناشئًا من الوصمة التي يصم بها الجمهور المعتاد لها، وإن كان هذا ليس بالأمر الهين، بل إنما نعني بالضرر ما يحسه الإنسان من قلق وهوان وضعة وتردد وخوف وجبن واتهام، فإن المدمن للخمر والزائغ الجنسي والمقامر؛ كل هؤلاء تتزعزع نفوسهم ولا يستقرون على نظام نفسي مرض، فهم في قلق ليس بينهم وبين نفوسهم سلام، وهذا القلق يفتت الشخصية ويحول دون سوائها فضلًا عن ترقيتها.

(٥) مركب النقص

عندما نرى رجلًا أحدب يجب أن نذكر أن هذه الحدبة التي تشوه جسمه وتحني ظهره وتغمس رأسه في جذعه قد رافقها في بعض سني حياته، أو لا تزال ترافقها حدبة نفسية، فهو يحس نقصًا عندما يحدث غريبًا، وهوانًا عندما تنظر إليه امرأة، ولسنا ننتظر منه أن يجرؤ على أن يكون خطيبًا، فهو يعيش مثقلًا بهذا العبء.

ولكن للأعباء أيضًا فوائدها؛ لأنها تُقوي العضلات وتُشعر بالمسئوليات، وهذا الأحدب الذي أحس «مركب النقص» واستشعر كارثته منذ الصغر، قد ينشأ وهو يتحدى القدر ويغالب ويجاهد حتى يتسامى بهذا المركب، ويفوز بالسيادة والتفوق، وعندئذ يكون مركب النقص قد نفعه وخدمه.

و«مركب النقص» هو العاهة الجسمية تشوه صاحبها، كالعين العوراء أو حدبة الظهر أو الأنف الأفطس أو العرج أو العمى أو القصر البالغ أو الطول المفرط أو الاستكراش أو الهزال. وهو سواد الزنجي يعيش بين البيض، وهو أيضًا العيب أو العاهة الاجتماعية يتسامع بها الناس، ويحمل وزرها الشاب في أب سكير أو أخت فاجرة أو إفلاس سابق أو فقر قد سبق الثراء، وهو حادثة معينة قد وقعت في أيام سلفت فخلفت في النفس هوانًا وحقدًا كأنها النار عند ذكرها، وهو خيبة مدرسية أو عادة سرية، وهو خجل أو خوف أو تردد أو تشاؤم أو كسل أو اعتزال أو فقر أو جمود. وجميع هذه الحالات نتائج لعاهة، أو عيب خفي قد استقرت آثاره وخفيت أسبابه.

ومركب النقص ينشأ على غير وجدان، والناقص يستجيب له، في الأكثر، بالاستكانة، كالأعمى يرضى بما قُسِمَ له؛ لأنه يعجز عن مقاومة القدر، وفي الأقل بالمقاومة. ولكن المقاومة نوعان:

فهناك النوع الطفلي الذي لا يدل على نضج، كالحياء ينشأ من الخوف في الصغر ثم يتطور خجلًا في الكبر، والطفل بطبيعة بيئته من الكبار يعيش وهو يعاني «مركب النقص»؛ لأنه صغير عاجز يعيش بين من هم أكبر منه سنًا وأقدر قوة، فإذا أوهمناه العجز وصددناه عن السعي ومنعناه من تحمل المسئوليات نشأ بهذا المركب، فيعيش طفلًا ولو بلغ الخمسين، والطفلة عندما ترى شقيقها ممتازًا عليها بجسمه ومكانته الاجتماعية تنشأ بهذا المركب أيضًا، فإذا أكدنا هذا النقص بحقوق مدنية ودستورية وشخصية يمتاز بها الشاب على الفتاة انتهت الحال بالفتيات إلى اضمحلال شخصياتهن في المستقبل، كما هي الحال الآن في المرأة المصرية التي ليس لها مما نسميه «شخصية» سوى الظل، والمرأة المصرية تقاوم هذا النقص أحيانًا بطرق طفلية هي السيطرة على الزوج، أو القحة في الخلاف، وأحيانًا تثور عليه كما نرى في حفلة الزار التي تُعد علاجًا صبيانيًّا لأوان مختلفة من مركب النقص.

ولكن في معظم الأحيان تستكين المرأة لمكانتها المنحطة وتخضع، وتقنع بالطاعة للزوج وأمه وأبيه وأخيه، بل وابنه بعد ذلك، والزنوج في الولايات المتحدة يستكينون ويرضون بأن يكونوا خدمًا في البيوت أو فلاحين في المزارع.

والمقاومة الطفلية لمركب النقص تعد نيوروزًا؛ أي: مرضًا نفسيًّا يحتاج للمعالجة، كالزوجة التي تعاند زوجها وتشاجر حماتها، والشاب الذي يعتزل المجتمع (مقاومة سلبية)، والأديب الذي يعمد إلى الرجعية والجمود، والوقاحة في الحديث، والجري وراء النساء والتفاخر بزيارتهن يعد نقصًّا في الميل الجنسي؛ كل هذا وأمثاله يعد نيوروزًا يحتاج إلى العلاج؛ لأن الناقص هنا يعمد إلى أساليب الأطفال كي يتعوض من نقصه قوة موهومة.

ولكن الناقص إذا كان على ذكاء سوى أو متفوق، ونشأ على نقص خفي، فإنه يُقَوِّم هذا النقص بأساليب الذكاء، كالمرأة الشوهاء تحترف الحرفة السامية وتخدم المجتمع ولا تبالي الزواج، بل إن الزواج عندئذ يأتيها طوعًا وطمعًا في مكانتها الاجتماعية، وكالشاب ينشأ في بيئة عائلية سيئة إذا كان يرى أباه سكيرًا عربيدًا فلا يتجنب الخمر فقط، بل يستنكر حتى الدخان، وينشأ جادًّا حريصًا على وقته وماله، فلا تمضي السنوات حتى يكون قد حقق لنفسه التفوق على الأسوياء الذين نجوا من نقصه.

وخلاصة القول: إن مركب النقص من أعظم أدواء الشخصية، وهو يصيبنا بالخجل والخوف والتردد والتشاؤم والكسل والفتور والجمود والرجعية والقحة والعناد والكبرياء والإسراف، وكل هذه صفات تعوق نمو الشخصية السوية، ونحن جميعًا ننشأ وفي كل منا شيء من هذا المركب يقل أو يكثر، ونحن نستجيب له:
  • (١)

    بالاستكانة التي نسميها أحيانًا قناعة، كالأعمى يرضى بما قُدِّر له، ويقنع بأن يعيش شحاذًا أو كالشحاذ.

  • (٢)

    بالمقاومة الطفلية؛ أي: أننا نقاوم النقص بأساليب الأطفال، وهذا هو النيوروز؛ أي: المرض النفسي، كالغني المحدث يقيم الوليمة المطهمة؛ كي ينفي تهمة الفقر السابق، أو الأعرج يمارس السرقة، أو الناقص في القوة التناسلية يُكثر من زيارة النساء.

  • (٣)

    بالمقاومة الرشيدة التي تدل على نضج ذهني، مثل روزفلت (الأول) نشأ ضعيف الجسم فما زال يكافح الضعف حتى صار فارسًا، إنه طوف في غابات أمريكا وإفريقيا وهو في العقد الثالث من عمره، أو مثل روزفلت (الثاني) ابتلي بمرض أقعده فما زال في مرانة يومية حتى برئ وصار رئيسًا للجمهورية، أو مثل الشاب قد أفسده فاسق وهو صبي، فما زالت هذه العاهة النفسية تبعثه على التفوق حتى صار على رأس الجماهير.

(٦) المباراة الاقتصادية

يتجاذب عصرنا الحاضر روحان؛ أحدهما: روح التعاون والاشتراك، والآخر: روح المباراة والتنازع. والشخصية تنمو في جو التعاون والاشتراك، وهي تهزل وتضعف في جو المباراة والتنازع؛ لأن التعاون يتطلب صفات من السماحة والحب والرغبة والخير والقدرة على الإقناع والمصلحة، وسائر الصفات الاجتماعية البارة، أما المباراة فتدعو إلى الحسد والكراهية والأنانية والرغبة في الإيذاء، وهذه جميعها صفات لا تعين على تكوين الشخصية الاجتماعية، بل هي تنقصها وتفتتها.

ونحن نعيش في بيئة المباراة الاقتصادية ونتطلع إلى عصر التعاون، وفي كل منا رذائل هذه المباراة قليلة أو كثيرة تبعًا لظروفنا، فإن منا المحظوظ الذي ورث ماله أو حقق نجاحه، فلا نجد عليه أمارات الهم والكد والهرولة التي نجدها في فرد آخر لم يتحقق نجاحه الذي ينشد.

وترقية الشخصية تحتاج إلى تكاليف غير صغيرة من الوقت والمال والجهد، من البزة الحسنة إلى الرياضة التي نواظب عليها لتثقيف أجسامنا، إلى ثقافة الذهن، إلى توفير الوقت للاجتماع بالأصدقاء، إلى الاجتماعات المنزلية، إلى الخدمة الاجتماعية؛ إلى غير ذلك، وذلك المجهود في المباراة التي يطلبه الراغب في النجاح ويهرول ويتعجل ويبكر إلى عمله، ولا يتركه إلا متأخرًا في المساء لا يتيح الفرص التي تمكنه من ترقية شخصيته.

وصحيح أن الحرفة تكسبنا شخصية بما تلقيه علينا من مسئوليات، وبما تضطرنا إليه من تنظيم الوقت والمال، ولكن يجب ألا ترهقنا حرفتنا، وألا تستغرق كل وقتنا؛ لأننا نكون في هذه الحال بمثابة ذلك المسكين الذي كتب على قبره: «ولد إنسانًا ومات بقالًا»؛ لأنه قضى حياته في البقالة لم يرقٍ شخصيته، ولم يستمتع بالدنيا، ولم يعرف منها غير البقالة؛ لأن النجاح الحق إنما هو النجاح في الحياة، وليس هو النجاح في البقالة أو المحاماة أو الهندسة أو الوظيفة كائنة ما كانت.

والمباراة الاقتصادية زيادة على أنها تستغرق معظم وقتنا، ولا تترك لنا منه غير القليل — أو لا تترك بتاتًا — لترقية شخصيتنا تغرس في كل منا صفات غير اجتماعية: فإن الرغبة في النجاح الاقتصادي قد تبعث على العزلة، وتجنب الحديث في الشئون العامة والبخل ونحو ذلك مما تهزل معه الشخصية هزالًا عظيمًا.

وفي ظروفنا الحاضرة حيث المباراة الاقتصادية تعم نظامنا الاجتماعي وتصبغ عقلياتنا يجب — مع تطلعنا إلى نظام تعاوني كالاشتراكية — ألا نترك هذه المباراة تستغرق وقتنا وجهدنا، بل علينا أن نتنبه إلى مساوئها ونعالجها، والعلاج الكلي هو الاشتراكية، ولكن العلاجات الجزئية يجب ألا تُهمل، مثال ذلك يجب على كل منا أن يتنبه إلى أن نجاحه يقتضيه اتزانًا من ترقية الذهن والجسم والمجتمع الذي يعيش فيه، وأن يدأب في هذه الترقية حتى تبرز شخصيته.

وعلى كل منا أن يبحث مقدار الاصطدام القائم بين ترقية شخصيته وبين مجهوده في المباراة الاقتصادية العامة؛ لأن لكل منا حالته الخاصة، وعلى قدر هذه الحالة يكون العلاج، فهناك من لا يتوافر له أي وقت لترقية شخصيته؛ لأنه مكدود مهموم ليله ونهاره في الكسب وجمع المال، وقد تولاه الطمع المالي فلا يكاد يدري شيئًا آخر في الدنيا يستحق أي مجهود.

ومثل هذا الرجل في سيكوز يحتاج إلى العلاج، والفرق بينه وبين المجنون الذي يتوهم أنه ملك متوج أو غني يملك الملايين هو فرق في الدرجة فقط، وليس في النوع، وكلهم غير نافع للمجتمع، ولكن إلى جنب هذا السيكوزي آخرين دونه في الدرجة، وهم يحتاجون إلى التنبيه، بل يحتاجون إلى مرانة جديدة لترقية شخصياتهم.

(٧) شخصية المرأة

حسبنا ما ذكرنا عن الحجاب وضرره الفادح بالشخصية المصرية سواء للمرأة أو للرجل، ولكن ما دمنا قد خصصنا فصلًا لشخصية المرأة فليس مفر من أن نقول: إن الحجاب يئد الشخصية في المرأة، وإنه يغرس في نفسها اعتقادًا مستقرًّا راسخًا بأنها دون الرجل، والمرأة التي قضت فترة من عمرها في الحجاب ثم سفرت، لا يمكن أن تتخلص من الآثار السابقة للحجاب، وإذا كان هناك فرق عظيم في الشخصية بين الشاب المصري والشاب الأوروبي؛ فإن هذا الفرق أعظم جدًّا بين الفتاة أو السيدة المصرية وبين الفتاة أو السيدة الأوروبية بسبب الحجاب.

والمرأة على وجه عام — سواء في أوروبا أو في مصر — تنشأ وبها «مركب نقص»؛ لأن الطبيعة قد خصت أخاها بزيادة في الأعضاء، وخصتها هي بنقص، فهي منذ الطفولة تحس نقصًا، كما أن العادة الشهرية عندها تحملها على الإحساس بالخجل، وبأن لها حياة سرية لا يعرفها الرجال، وهذا يبعثها على المواربة والتحفظ، وفي مصر تزيد المكانة الاجتماعية قيمة أخيها؛ لأنه هو الذي يرث ضعفي ميراثها، وهو المختلط بالمجتمع الذي يتكسب بالحرفة، وهي مقيدة بالدار تعيش بما يكد لها أخ أو أب أو زوج، وقد أوشكنا في مصر أن نتخلص من الحجاب الذي لم تعد تمارسه سوى العائلات المتأخرة، ولكن الحجاب الروحي لا يزال باقيًا، فالمرأة أو الفتاة في بعض أوساطنا قد نزعت البرقع عن وجهها، وقد صارت تفتح الباب بنفسها للضيف، وتلقاه سافرة، وقد تقعد مع ضيوف زوجها من الجنسين، ولكن الحجاب الروحي سليل الحجاب المادي لا يزال باقيًا، في صمتها حين تقعد كأنها تلميذة في فصل أمام معلم قاس مكتوفة اليدين تجيب في إيجاز، ولا تسأل ولا تناقش، وهي لا تُبالي للسياسة العامة عالمية أو وطنية، وهي لا تتحمل إلا أقل المسئوليات مما يسخر بها زوجها عليها.

والزوجية، ثم الأمومة، كلتاهما تُحمِّل المرأة مسئوليات جديرة بأن تُكوِّن لها شخصية محترمة، وهذا هو ما نرى في الزوجة الفلاحة وزوجة العامل، أما الزوجة «المخدرة» في الطبقتين المتوسطة والعالية فلا تتحمل هذه المسئوليات، ولا تتكون لها بها شخصية؛ لأن حبسة البيت من ناحية، وما تضطر إليه الزوجة من اعتزال كأنها راهبة ثم وفرة الخدم؛ كل هذا يجعل ميزتي الزوجية والأمومة غير مفيدتين في تكوين الشخصية الإفادة المنشودة.

ومع أننا نغبط المرأة الأوروبية على شخصيتها، فإن الأوروبيين أنفسهم لفرط احترامهم لها كثيرًا ما دعوا إلى زيادة استقلالها، ودراسة أبسن عن «بيت العروس» تدل القارئ على هذا النظر الذي يعده الشرقي كفرًا لقداسة الزوجية واحترام العائلة، ويجب علينا أن نذكر هذا الشرقي بأن لفظة «عائلة» هي لفظة حديثة لم تذكر قط في معجم عربي، وأننا وضعناها لكي نترجم المعنى الأوروبي للفظة «فاميليا» وهو معنى اجتماعي لم تعرفه الأمم الشرقية، ولذلك لم تسك له لفظته. نقول: إن الأوربيين مع هذا الاحترام للمرأة والعائلة ما زالوا يدعون دعوة الحرية للمرأة، ونجد نحن إسرافًا في هذه الدعوة للحرية عندما نقرأ أبسن ونجد أنه يدعو الزوجة إلى ترك زوجها؛ لأنه كان ينظر إليها نظرة الأطفال للعروس يلعبون بها ويلهون، فهذا الزوج يلعب ويلهو بزوجته، ويعاملها كما لو كانت طفلة غير مسئولة، كما هو الشأن عند كثير من الأزواج، فإذا عرفت هي هذه النظرة المهينة من زوجها لها تركت الدار وما فيها من زوج وأولاد، وخرجت هائمة على وجهها تريد أن تنفرد وتعيش وتعمل وتجد وتكون لها شخصية مستقلة ناشطة.

وأكثر إسرافًا في هذا النظر للمرأة المؤلف الفرنسي «فكتور ماجريت» الذي ألف قصة «الفتاة الغلامية» التي تسلك في الدنيا سلوك الشبان، تمارس كل ما يمارسون من أعمال، بل ترتكب زلاتهم؛ لأنها تريد أن تعيش مستقلة لها قياسها الأخلاقي الخاص الذي تضعه وفق ذهنها وآمالها في الرقي الشخصي.

هذا هو نظر أديبين عظيمين من أدباء أوروبا يريان رؤيا المرأة الجديدة تعيش لترقية شخصيتها قبل كل شيء، وليس لخدمة زوجها أو أولادها، وإذا كان في هذا النظر إسراف فإننا يجب أن نضع إزاءه حال المرأة المصرية؛ حال الضعة والهوان والانحطاط الشرقي، حتى إن لفظة «عائلة» التي أوجدناها في مجتمعنا المصري لا تزال في كثير من أوساط هذا المجتمع اسمًا على غير مسمى؛ لأن الزوجة لم تتخلص من تقاليد «الحجاب الروحي» فهي خاضعة صامتة تعيش مع حماتها، وتقبل سيادة هذه الحماة عليها زيادة على سيادة الزوج، وليس الزواج عندنا مشاركة متساوية الحقوق بين الزوجين؛ إذ هو سيادة أحدهما على الآخر، فالبيئة المنزلية في كثير من بيوتنا لا تساعد المرأة المصرية على تكوين شخصيتها؛ لأن ظروفها لا تعينها على الاستقلال وتحمل المسئوليات، وشعورها بالمساواة مع زوجها، وبيئتنا الاجتماعية كذلك تردها على الدوام إلى الخلف وتوهمها العجز؛ لأنها محرومة الحقوق المدنية والدستورية الكثيرة؛ حتى إنها لتعد الاهتمام بشئون وطنها كأنه خارج عن واجباتها، وأنه واجب مقصور على الرجال دونها.

ولا علاج لهذه الحال إلا بإصلاح العائلة والمجتمع بمنح المرأة الحقوق التي تتساوى بها مع الرجل، وعندئذ يصبح الكلام عن شخصية المرأة مجديًا؛ لأنها في حالتها الحاضرة تكون معدومة الشخصية.

(٨) رواسب الطفولة

لكل طور من أطوار العمر أخلاق وعادات خاصة ينتفع بها الإنسان في الطور المعين، ولكنه يحتاج إلى أن ينسلخ منها في الطور التالي، فنحن أطفال ثم صبيان ثم شبان ثم شيوخ، فيجب أن يمحو صبانا طفولتنا، وأن تمحو شيخوختنا شبابنا، والشاب الذي يسلك سلوك الصبيان، بل الصبي الذي يتدلل كأنه طفل رضيع أو فطيم، والشيخ الذي يبدو كأنه شاب؛ كل هؤلاء يعيشون في غير أطوارهم، وهم سخرية الجمهور، وكلنا يعرف العجوز المبهرجة المعطرة وكأنها مومياء مزخرفة محنطة نحتقرها، بل أحيانًا نشمئز منها.

وليس الضرر هنا مقصورًا على احتقار الجمهور للشخص الذي يعيش ببقايا الطور السابق، فإن هناك ضررًا أفدح وهو أن هذا الشخص يخدع نفسه، فلا يستغل الطور الذي يعيش فيه فإذا كان كهلًا لم يستمتع بميزات الكهولة، بل جاهد يحاول استبقاء الشباب الماضي، والإنسان بطبيعته محافظ يكره التغير، فإذا تعود عادات الشاب واستقر عليها عشر سنوات أو أكثر رفض تغييرها، وهو محتاج إلى أن يتنبه إلى ضرورة التغيير أو إلى أن ينبهه صديق أو زوجة أو قريب.

ومن عوائق الشخصية أن يصل الإنسان إلى سن الشباب وهو لا يزال متمسكًا بشيء من طفولته حتى ولو بلغ السبعين من العمر؛ لأن ما يغرس في طفولتنا من أخلاق وعادات قلما نستطيع التخلص منه إلا إذا كان فاضحًا، فنحن مثلًا نستغني عن البنطلون القصير، ولكن من منا استطاع أن يستغني عن ألفاظ البذاء التي تعلمناها في الصغر، وخاصة حين تثار عواطفه، ولا يترك لعقله الوقت الكافي للتدبر؟

والطفل بطبيعته أناني نهم، يشره إلى الحلويات ويأكل في لهفة كأنه يخشى أن يعم القحط البلاد، ونحن نضحك من الأطفال حين نرى منهم هذا السلوك، بل ربما نستظرفه، ولكن الشاب النهم الذي يخطف الطبق ويبلع دون أن يمضغ، أو الذي يرتاد المحال يأكل أوان الفطير والكعك مثل هذا الشاب لا يطاق، وبعض الشباب يقعد إليك فيصف لك «أكلة» أو هو يضع تخطيطات لوليمة مطهمة، بل أحيانًا يمتد به الغرام بالطعام إلى أن يدخل المطبخ ويهيئ الطبيخ بنفسه، ويتحمل في ذلك احتقار زوجته.

وهذا النَّهم إلى الطعام، والشَّره إلى الحلويات، هما بعض بقايا الطفولة التي لم يفطم منها الشاب؛ لأنه لم يجد الكفاية التي كان يستحقها أيام طفولته، وهو جدير بأن يعالج نفسه منها إذا شاء أن تكون له شخصية الشاب، فليس منا أحد يحتقر الطعام، ولكن يجب ألا ندأب في الحديث عنه كأنه ليس لنا هم سوى بطوننا.

ومن بقايا الطفولة الاستسلام للعواطف، كالغضب الهائج، والبكاء السريع، ونحوهما، فإن الشخصية السوية تحتاج إلى أن نضبط أنفسنا وقت الانفعالات، وأن يسود العقل على العاطفة، ونحن لا نُبالي الطفل يهيج ويضرب الأرض بقدميه؛ لأنه جائع أو لأن أمه لم تعطه قرشًا، ولكنا لا نطيق شابًّا يسلك هذا السلوك الفج في تحقيق أغراضه.

انظر مثلًا إلى بقايا الأخلاق الطفلية في الزوجين، فهنا زوج يجعل زوجته تنفجر من الغيظ والأسف؛ لأنه طفل كبير يقول لها عندما تطلب منه أمرًا: «انتظري حتى أسأل أمي».

أو هنا زوجة يطلب منها زوجها طلبًا حميمًا فترفض، وتلح في الرفض، كأنها طفلة تبخل بقبلة لوالدها إلا بعد أن يعطيها قرشًا.

وحين يختلف الزوجان؛ أي: حين يكون أحدهما ناضج الشخصية قد تخلص من بقايا الطفولة، وبقي الآخر فجًّا كأنه طفل كبير؛ حين تكون الحال كذلك يشقى كلاهما بالآخر.

وبقايا الطفولة تُرى في كثير من نسائنا، حتى إن مجتمعنا لا يستنكر أن تتدلل المرأة كما يتدلل الطفل، ولذلك نرى الزوجة تبكي لأقل استفزاز، وتحتاج إلى مصالحات متكررة؛ لأنها سريعة الغضب، وهذا هو النظر الشرقي المنحط للمرأة، وهو نظر يجب أن نتخلص منه، وأن نحاول تكوين الشخصية النسوية للمرأة المصرية بتعويدها عادات الجد والنظر السديد.

والشاب الذي يزهى ببزته الأنيقة، والذي يتحدث عن نفسه ويفاخر بمآثره، هو شاب قد استبقى الكثير من عادات الطفولة، والشاب الذي «ما يحملش هم»؛ لأنه لم يتعود تحمل المسئوليات، والشاب الذي يتزوج، ولكنه لا يزال منضويًا إلى أبويه؛ كل هؤلاء ليست لهم الشخصية الناضجة.

والشخصية الناضجة للشاب أو الفتاة تقتضي أن تكظم العواطف فلا تظهر عارية، فالطفل حين يجوع يبدي عاطفة الجوع عارية بل صارخة، وهو يشتهي الحلويات ويحب أن يملأ بطنه بها، ولكن الشاب الناضج يستبدل بالعاطفة المجردة للطعام ميلًا عامًّا للغذاء، ولذلك لا يصرخ من أجل الحلوى أو غيرها، وهذا الميل قد اكتسبه من المجتمع.

والحيوان يشتهي الأنثى، وكذلك الشاب المتوحش، كلاهما يُبدي العاطفة الجنسية عارية، ولكن الشاب المتمدين يكظم هذه العاطفة، ويُبدي ميلًا عامًّا للحب، وهذا الميل مؤلف من العاطفة البيولوجية والاعتبارات الاجتماعية والثقافية.

والطفل مثل الحيوان يُبدي عاطفة الغضب في ثورة هائجة، ولكن الشاب المتمدين يُبدي تماسكًا وتحفظًا يرجعان إلى أنه قد استبدل بالعاطفة ميلًا اجتماعيًا نحو خصمه، وهذا الميل مؤلف من الغضب العاطفي مع التماسك الاجتماعي.

والشخصية السوية تمتاز بأن الميل الاجتماعي يأخذ مكان العواطف البيولوجية، ومن هنا ثباتها أو اتزانها، فإن صاحب الشخصية الممتازة ثابت لا يتزعزع؛ لأن عواطف الطفولة عنده لم تعد لها تلك القدرة على الشبوب القديم؛ إذ هي اندغمت في ميول اجتماعية، ولا يمكن أن نحصل على شخصية عالية إلا بقدر كظمنا لعواطف الطفولة، واستبدالنا بها الميول الاجتماعية التي تجعل هذه العواطف خادمة لنا بدلًا من أن تكون سيدة.

(٩) مجتمعنا المصري يعوق الشخصية

يمتاز الشاب الأوروبي عن الشاب المصري بشخصيته اللبقة أو البارزة، فهو لا يخجل ولا يتردد ولا يخاف، بل يستقل في عمله ويجابه خصومه، ويتحدى القدر في كثير من الظروف التي نجد فيها الشاب المصري على خلاف أو على نقيض ذلك، والأصل في هذا الامتياز أن الشاب الأوروبي يعيش في مجتمع حر ديمقراطي مختلط مثقف.

المجتمع الأوروبي حر من حيث إن الجمهور في أوروبا يؤمن بالحرية ويدافع عنها، فلكل فرد فيه الحق في أن يكون جمهوريًّا أو ملوكيًّا أو اشتراكيًّا أو ملحدًا أو مسيحيًّا، ولو أن يدافع عن أية قضية اجتماعية دون أن يخشى غير المعارضة النزيهة، ومثل هذه الحرية تتيح لكل فرد أن يُنمي ملكاته ويُمرِّن ذكاءه ويستخدم إرادته، وهذا المجتمع له مؤسسات ديمقراطية تُشعر كل فرد بمسئوليته العامة للمجتمع، بل هي تكبره إذا كان كبيرًا، فالشاب الذي نشأ في الولايات المتحدة وتعلم منذ صباه أنه يمكنه أن يكون رئيسًا للجمهورية هو غير الشاب الشرقي الذي نشأ مثلًا في الهند، وحُكِمَ عليه بأن يكون منبوذًا، أو هو يرى المهراجا المستبد وعلى رأسه عشرة أرطال من الذهب والماس، ويقال له: إن هذا المهراجا يحكم عليه بالوراثة، الأول يعيش ونفسه في طموح وشخصيته في نمو، والآخر يعيش وهو منكسر القلب يائس ضامر الشخصية أو بلا شخصية.

وقد سبق أن وضحنا ضرر الحجاب للمرأة، ولكن مهما كررنا في إيضاح هذا الضرر فإننا لن نُبالغ، فنحن نفصل في المدرسة بين الصبي والبنت فينشأ كل منهما مربوك الحركة في حضرة الآخر وكأن به خبالًا؛ لأنه لم يعتد مجالسته، وهذا الخبال يصيب شخصيته سواء أكان رجلًا أم امرأة مدى حياته، وهو يسيء له أيام الخطبة قبل الزواج، ويخطئ التقدير في اختيار زوجته، أو بالعكس، لهذا السبب نفسه؛ أي: لأنه لم يتعرف قبل ذلك إلى المرأة في صباها وشبابها، ثم هو حتى بعد الزواج، لا يعرف كيف يُعاملها المعاملة الإنسانية القائمة على الشرف والحب والاحترام والكياسة والرشاقة؛ لأن الفصل بين الجنسين منذ الصغر حال بينه وبين هذه المرانة، ولذلك فإن كثيرًا من الخيبة في الزواج يعود إلى هذا الفصل بين الجنسين، ويجب ألا ننسى أن للرجل شخصية جنسية تُعجب بها المرأة وتحترمها، وهذه الشخصية لا تتكون إلا بمرانة سابقة يجدها الأوروبي ويحرمها المصري.

فمجتمعنا — للفصل بين الجنسين — يعوق نمو الشخصية، وهذا الفصل قائم في البيت والمدرسة والمجتمع، وصحيح أنه قد خف بعض الشيء في أوساطنا الراقية وعلى قدر خفته هنا نجد الشخصية الراقية، وإذا كان الحجاب قد محا شخصية المرأة محوًا يكاد يكون تامًّا، فإن الفصل بين الجنسين قد عاق تكوُّن الشخصية عند الرجل، وأفسد العلاقة بين الجنسين، وفتح أبوابًا للدمار في الزواج.

والمجتمع الأوروبي يُرَقِّي الشخصية — زيادة على ما فيه من حرية وديمقراطية واختلاط جنسي — بما يُتيح لكل فرد من فرص الثقافة المتعددة التي لا يحصل شبابنا إلا على القليل منها، والثقافة المتوسطة ضرورية لكل شخصية، والأوروبيون يتعلمون بمجتمعهم أكثر جدًّا مما يتعلمون بالمدارس والجامعات، بل إن منهم العلماء تخرجوا من المجتمع، وذلك لرقي الصحف ووفرة الكتب والمتاحف والمعارض، وما في الحياة من عبر دستورية واجتماعية وإصلاحية، فالشاب الأوروبي لم تُجرح كرامة أمته بيوم أسود مثل ذلك اليوم الذي تحالفت فيه القيصرية الفاتكة والاستبداد المتهتك؛ حين جمع من يدعى ريور باشا البرلمان في الصباح، ثم طرد أعضاءه في المساء كأن الأمة المصرية عزبة من ممتلكاته، ومثل هذا الحادث المهين ما كان ليحدث لو أنه كانت في الأمة المصرية شخصيات محترمة تبعث على الهيبة.

وخلاصة القول: إن مجتمعنا المصري قد أفسدته التقاليد الشرقية وطغيان القيصريين الأجانب والمستبدين المصريين، وقد حُرِمَ المؤسسات الديمقراطية فلم تستفض فيه الحرية، أو بالأحرى لم تجد فيه الحرية المجال لأن تتكشف وتنمو، وهذا إلى الكارثة الكبرى، كارثة الحجاب التي جعلت كثيرًا حتى من الأمم الشرقية يفضلنا في الذوق والكياسة وشرف العاطفة الجنسية، وجميع هذه الظروف تجعل تكوُّن الشخصية وترقيتها شاقين، ولكن القارئ الذي يدري هذه الظروف يستطيع أن يقدر صعوباته، وأن يعالجها بقدر ما تسمح به ظروفه، وهذه هي غايتنا من ذكرها.

(١٠) تلخيص

في الفصول الثمانية السابقة شرحنا العوائق التي تعوق تكوُّن الشخصية ونموها وترقيتها، ونحتاج إلى تلخيص ما شرحنا لكي يذكر القارئ حين يحاول ترقية شخصيته، وهذه العوائق جميعها بمثابة الأمراض تصيب الفرد أو المجتمع، ولا بد أن القارئ قد لمح في جميع الفصول السابقة أن أساس الشخصية هو المسئولية، وأن المسئولية تحتاج إلى الاختلاط الاجتماعي، وأن المجتمع الحسن لنمو الشخصيات السامية هو المجتمع الحر الديمقراطي؛ لأن الحرية والديمقراطية كلتاهما تؤدي إلى المسئولية.

وفي هذا الضوء نقول: إن عوائق الشخصية كما نستطيع مشاهدتها في مجتمعنا هي:
  • (١)

    التربية المنزلية التي تعتمد إما على القسر والإجبار، ومطالبة الأطفال بالطاعة العمياء، وإما على التدليل الذي يحرم الطفل حرية العمل، والطفل في الحالتين يُحرم حرية العمل ومسئوليته، فلا تتكون له شخصية.

  • (٢)

    وحجاب المرأة هو وأد يكاد يكون تامًّا لشخصية المرأة؛ لأنه يحرمها الاختلاط الاجتماعي ومسئولياته، وهذا زيادة على أنه يؤذي الرجال الذين تربيهم هذه المرأة المحجبة، كما أن الحجاب ينقص قيمة المجتمع في التربية؛ لأن هذا المجتمع نفسه ناقص لوجود الحجاب.

  • (٣)

    والفصل بين الجنسين ينساق مع الحجاب في الضرر، وآثاره واضحة في ضعف الشخصية الجنسية في الشاب والفتاة؛ إذ إن الفصل بينهما قد حرمهما مبادئ المعاملة المهذبة الرشيقة والتكاليف المتعددة التي يتطلبها الاختلاط.

  • (٤)

    ثم هناك عادات خاصة يقع فيها الشاب، ومن المحال أو من الصعب أن يكون له شخصية معها، فالمدن الخمر أو القمار تنهار شخصيته لهذا الإدمان، وقد يبدأ الشاب عادة التدخين لكي يُكبِّر شخصيته، ولكنه حين يدمن هذه العادة يخسر كثيرًا من شخصيته لهذا الإدمان نفسه.

  • (٥)

    و«مركب النقص» من أعظم أمراض الشخصية، وهو أن ينشأ الطفل بعاهة أو عيب جسمي أو عائلي يبعث فيه الخوف أو القلق أو الخجل أو التردد، وتثبت فيه هذه العواطف في طفولته حين لا تكون له قدرة من ذهنه على التعقل والمقاومة الرزينة، ولا بد للشاب من أن يتعرف إلى مركبات النقص في نفسه، ويعالجها؛ لكي تستقيم له شخصية خالصة من هذه العواطف السيئة.

  • (٦)

    وفي نظامنا الاقتصادي الذي تعمه المباراة تقل الفرص لترقيه الشخصية التي ينميها التعاون والاشتراك، ويعطلها الحسد والانفراد، وأحيانًا يندفع أحدنا إلى جمع المال بقوة هذه المباراة، حتى يعيش كل لحظة من عمره وهو في هذا الجمع فلا يرقى ذهنه ولا ينمي شخصيته، وهذا النظام عائق كبير لتكوين الشخصيات السامية.

  • (٧)

    والمرأة على وجه عام لا تجد الفرص التي يجدها الشاب لتكوين الشخصية وترقيتها، ولكنها في مصر على وجه خاص تجد كل الظروف العائلية والزوجية والاجتماعية والدستورية والمدنية لوأد شخصيتها، وهذا الوأد يبدأ بالحجاب — المادي والروحي — وينتهي بحرمانها حقوقًا مدنية ودستورية، بل ومدرسية، يتمتع بها الشاب دونها.

  • (٨)

    وكثيرًا ما يحدث أن يبلغ أحدنا طور الشباب، ولكنه مع ذلك لم يكن قد تخلص من أخلاق الطفولة، وهذه الأخلاق بما فيها من كراهة لتحمل المسئوليات والاندفاع وراء العواطف تعطل نمو الشخصية.

  • (٩)

    ومجتمعنا المصري لا يزال إلى حد كبير مجتمعًا شرقيًّا يخلو من المؤسسات الديمقراطية، وهو بهذا وذاك يعوق نمو الشخصية؛ لأن الحرية والديمقراطية كلتاهما تؤدي إلى المسئولية، وهي — كما قلنا — فيتامين الشخصية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤