الفصل الخامس

الشخصية والنجاح

  • (١)

    الشخصية الإنسيابية.

  • (٢)

    الشخصية الناجحة.

  • (٣)

    العادات والشخصية الناجحة.

  • (٤)

    كأنك ناجح.

  • (٥)

    ارسم خارطة حياتك.

  • (٦)

    اختر مهنتك.

  • (٧)

    الهواية والألعاب.

  • (٨)

    جيته: الشخصية الكاملة.

  • (٩)

    تلخيص.

(١) الشخصية الإنسيابية

نحاول في هذه الفصول التالية أن نصف الشخصية الناجحة، ونقصد من النجاح هنا النجاح المألوف في الطبقة المتوسطة، وهو يحتاج قبل كل شيء إلى التلاؤم مع البيئة التي يعيش فيها الإنسان، وهناك ألوان سامية من النجاح ليست موضوع هذا الكتاب؛ لأننا ننصب أمام ذهننا شابًّا عاديًّا لا يطمح إلى أن يكون نابليونًا، ولا يبغي أن يضحي بنفسه مثلًا من أجل السلام العام أو هيئة الأمم، فإن هذه التضحية قد تعد بمقياس آخر نجاحًا إنسانيًّا عظيمًا رائعًا، ولكنها ليست موضوعنا؛ لأننا نرمي إلى وصف الخصال التي يحتاج إليها التاجر الناجح والموظف الناجح ورب العائلة الناجح؛ ونحوهم.

والنجاح يحتاج إلى الشخصية الإنسيابية، فقد فشت هذه الكلمة في وصف الأتومبيل الذي لا تبرز له حروف كأنها سدود تواجه الريح وقت السير، فتؤخر السرعة للمقاومة التي يحدثها الأتومبيل للريح، ومن الحسن أن ننقل هذا المعنى إلى الشخصية، فإن هناك شبانًا يسيرون في حياتهم وكأن لهم حروفًا بارزة تصطدم بالوسط الذي يعيشون فيه، فهم ليسوا إنسيابيين يتخللون الوسط في سهولة بلا مقاومة، بل هم يصطدمون ويقاومون ويتأخر نجاحهم لهذا السبب.

وإذا عرف الشاب حروفه البارزة؛ أي: مقاوماته التي تُحدث الاصطدامات، فإنه يمكنه أن يعالج نفسه منها بالتنبه الدائم لها، والتفادي من الوقوع فيها، ونحن فيهما يلي نذكر بعض هذه المقاومات:
  • (١)

    فهناك مثلًا مركب النقص الذي سبق أن ذكرناه، فإن الشاب الذي يعيش بهذا المركب يخجل ويخاف ويعتزل ويكره الاختلاط، وينكمش أمام الفتيات أو السيدات، ويعد نفسه عاجزًا عن دراسة موضوع معين أو تحقيق غاية منشودة، مثل هذا الشاب قد وضع لنفسه سدودًا يقاوم بها أي نجاح؛ لأنه يجد أن الناس لا يثقون به، وأنهم يحسون فيه شخصية خشبية، ثقيل الروح، يتجنبونه ولا يجدون فيه أي مبرر لمساعدته، وهو لهذا السبب انفرادي في بيئة اجتماعية، وعزلته التي رسمها لنفسه بهذا المركب قد حملته على أن يُهمل شئونًا كثيرة ما كان ليهملها لو كان خاليًا من هذا المركب؛ فهو يهمل هندامه واعتدال قوامه ولغته، بل ربما نظافته، فضلًا عن أنواع الرقي الأخرى؛ لأن جميع هذه الصفات اجتماعية.

    فالشخصية الإنسيابية تحتاج قبل كل شيء إلى أن نتخلص من مركب النقص، وعلى كل شاب أن يعرف ما هو مركب النقص الذي يشكوه وأن يعالجه.

  • (٢)

    سبب آخر يعوق نمو الشخصية الإنسانية هو الرغبة في الخيبة، وهذا التعبير قد يدهش القارئ الذي يعتقد أننا جميعًا نرغب في النجاح ونتوقى الخيبة، ولكن حقائق التحليل النفسي تدلنا على أن الرغبة في الخيبة قد لا تقل في بعض الأحيان عن الرغبة في النجاح، بل أحيان تزيد، والبرهان على هذا أن هناك أشخاصًا يقدمون على الانتحار الذي يعد أعظم ضروب الخيبة؛ لأن المنتحر هو أبعد الناس عن التفكير في النجاح، ويرى «فرويد» بحق أن في كل منا نزوعًا إلى الموت، وأننا نطلبه بضروب مختلفة غير الانتحار الصريح، وهذه الضروب تتخذ الرغبة في الخيبة كأنها الموت الاستعماري أو المدني، وأي إنسان يتأمل نفسه في دقة يجد أنه في كثير من الأحيان قد لعبت به هذه الرغبة مستورة أو مكشوفة، فيكره النجاح كأنه شيء يلصقه بالحياة ويزيد نموه، فهناك مثلًا ذلك الزوج الذي يكره زوجته ثم يحس أن كل نجاح يحققه سوف يزيد رغد هذه الزوجة والأولاد، فهو يكره نجاحه ويتوقاه، ويُؤثر الفقر على الغنى؛ لأنه يتوقاه ويكره سعادة عائلته، فهنا رغبة واضحة للخيبة، وقد يرجع الانتحار إلى مثل هذا السبب؛ أي: أن المنتحر يريد أن ينتقم بأن يحرم زوجته أو أباه أو أمه وجوده، فالرغبة في الخيبة هنا واضحة.

    وكثيرًا ما يستر الراغب في الخيبة رغبته بزعمه أنه عاجز عن النشاط الذي يطلبه الجهد للنجاح، أو أن هناك أخطارًا متوقعة، وكل هذه أوهام ينصبها هو لنفسه؛ لكي يبرر موقفه.

وفي كل هذه الأحوال يحتاج الإنسان إلى أن يعرف الأسباب التي تحمله على توقي النجاح، واختلاق الأعذار للرضى بالخيبة.

ومما يعوق الشخصية الإنسيابية أن يتعود الإنسان عادات مؤذية تستهلك وقته وصحته وماله؛ مثل: القمار والشراب وقتل الوقت بألعاب الحظ على المقهى، أو في ميادين السباق، أو الصيد ونحو ذلك، وقد يرجع الابتداء في الوقوع في هذه العادات إلى الرغبة في الخيبة، فإن المقامر لا يطلب على الدوام الكسب؛ إذ هو يندفع إلى القمار بالرغبة في الخسارة من حيث لا يدري؛ لأن هناك اتجاهًا انتحاريًّا وإيثارًا للخيبة على النجاح، وكذلك الشأن في الخمر، فإن المبتدئ في الشراب قد تندس في أعماق نفسه شهوة للموت عن سبيل الخمر، ولكن بعد أن يعتاد هذه العادة، وحين تمضي عليها السنوات، لا يكاد يذكر أسبابها الأولى، وحتى عندما يعرف هذه الأسباب بالتحليل يحتاج إلى أن يتخلص من العادة باعتبارها عادة فقط، فيجب أن يعالج نفسه منها.

والعادات السيئة التي تعوق النجاح كثيرة، وهي تتفاوت في سوءها؛ مثل: الإدمان في التدخين أو الخمر أو الشهوات الدنيئة من الأكل الكثير، إلى قتل الوقت بقراءة القصص السخيفة والمجلات الأسبوعية، إلى المقامرة، إلى الالتذاذ من المشاجرات الصغيرة؛ إلى غير ذلك؛ فإن في كل هذه العادات رغبة أصلية في الخيبة، ثم بعد ذلك صارت العادة.

والشخصية الإنسيابية تحتاج إلى التخلص من هذه الرذائل الثلاث: مركب النقص، والرغبة الخبيثة، والعادات السيئة.

وهذه هي الناحية السلبية للشخصية الإنسيابية، أما الناحية الإيجابية فتتضح لنا من الصفات التالية:
  • (١)

    تمتاز الشخصية الإنسيابية بالصراحة، فليس هناك تصنع في الكلام أو اللباس أو الإيماء في الحركة؛ لأن التصنع يدل على نقص مستور، وعلى حروف بارزة تحتاج إلى التمهيد.

  • (٢)

    وتمتاز أيضًا بالاتزان النفسي، ويجب أن نذكر أن من يشكو من النقص يشكو أيضًا قلقًا نفسيًّا.

  • (٣)

    والطموح المعقول الذي لا ينزل إلى القناعة بالحاضر، ولا يتجه إلى ما فوق السحب، هو أيضًا علامة إيجابية على الشخصية الإنسيابية.

  • (٤)

    وأهم علامة بالطبع لهذه الشخصية هي التلاؤم مع البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ أي: أنه لا يصطدم بالبيئة للمقاومات التي يخلقها في شخصيته.

(٢) الشخصية الناجحة

النجاح اجتماعي في بواعثه ونتائجه، فنحن نرغب فيه أولًا؛ لأننا نعيش في مجتمع نحس أنه يحترمنا أكثر إذا نجحنا، كذلك عندما نحصل على نتيجة النجاح من مقام أو مال نجد أننا لن ننتفع بهذا النجاح إلا بالوسائل الاجتماعية التي أقرها المجتمع، سواء من ناحية اقتناء المنزل الفخم أو الأثاث الثمين أو الولائم المطهمة أو ما هو أرقى من ذلك.

وللشخصية الناجحة خصال مختلفة ربما كان أخطرها قيمة القدرة على التعاون مع الآخرين والمصالحة؛ أي: فض النزاع بالطرق السلمية التي تنأى عن الخصومة، ونحن نحب أن نعتمد في هذا الفصل على المؤلف الأمريكي ديل كارنجي «كيف نصطنع الأصدقاء ونكسب الناس.» فإن هذا المؤلف يعيش في بيئة تقدس النجاح، وهو لذلك يدرس هذا الموضوع دراسة التجارب والاختبارات، وقد أسس معهدًا لهذه الغاية، وسننشر فيما يلي القواعد العشر التي يراها أنجع من غيرها لتحقيق الشخصية الناجحة في البيئة الأمريكية:
  • (١)

    خير الطرق للانتصار في المناقشة أن نتجنب المناقشة؛ وذلك لأن محدثك لا يطيق أن تنتصر عليه فهو يعاند ويكابر، ولو انتصرت عليه وأقنعته بحجتك لكرهك لهذا الانتصار، ولذلك لن يذعن بالتسليم بطلبك.

  • (٢)

    ابدأ الحديث بلهجة الصداقة.

    ذلك أن الحديث يتجه من بدايته اتجاهًا معينًا للصداقة أو لضدها، فإذا استعملت العبارات الودية في الأول اصطبغ سائر الحديث بالود، وأصبح من المستطاع أن تصل إلى إيضاح رغبتك بما يلائم محدثك ولا ينفره منك.

  • (٣)

    دع الحديث للشخص الآخر.

    وهذا؛ لأن الشخص الذي يتحدث ويجدك مصغيًا يرتاح إلى إصغائك له، وهو في حديثه سيندفع نحو سرد الحوادث الشخصية أو العائلية التي وقعت له، وهو يفخر بها ويتبسط فيها، وكل هذا مما يرتاح إليه، وفي هذه الحال يكره أن يرفض طلبك؛ لأنك أتحت له الفرصة للبوح والفخر.

  • (٤)

    اجعل محدثك يشعر بأن الفكرة التي تشرحها له هي فكرته الخاصة.

    وهذا بالطبع غش أبيض ولكنه مفيد، فإنك عندما ترتئي الرأي يمكنك أن تستدرج محدثك بحيث يتوهم أنه هو الذي ارتأى هذا الرأي، وعندئذ يقبله بل يستمسك به ولا يعارضه.

  • (٥)

    لا تقل لأحد أنه مخطئ.

    أي إذا رأيت أن محدثك قد أخطأ فلا تتعجل بإظهار خطأه؛ لأنك تهينه بهذا التصريح، وهو لن يغفر لك هذه الإهانة، بل عالجه بالرفق حتى تنتهي إلى إقناعه بالرأي الآخر وكأن هذا رأيه هو.

  • (٦)

    إذا أخطأت أنت فسارع إلى الاعتراف بخطأك.

    لأن هذا الاعتراف يسره ويجعله في موقف الظافر، وهو موقف يميل به إلى العطف عليك فيتقبل بعد ذلك رأيك.

  • (٧)

    اتبع طريقة سقراط في الحوار بأن تجعل محدثك يرد عليك بنعم وليس بلا.

    وذلك لأنه إذا قال: لا، فإن كرامته تقتضي بعد ذلك الثبات على الرفض، فاجعل الحديث بحيث يضطر إلى موافقتك في كل ما تقول؛ لأن نفسه عندئذ ترضى وتميل إليك.

  • (٨)

    حاول مخلصًا أن ترى وجهة نظره.

    وذلك لكي لا تتهمه بخطأ بلا حق، ولكي تقدر أعذاره، ولكي لا تقع في مناقضته بسرعة فيغضب منك.

  • (٩)

    اعطف على أفكاره ورغباته.

    ويجب أن تكون مخلصًا في هذا العطف، ولكل إنسان أسباب لها وجاهتها عنده لالتزامه آراء وعقائد معينة فلا تتعرض لمصادمتها، بل ابحث عن الأسباب التي جعلته يؤمن بها واعطف عليه لذلك.

  • (١٠)

    ناشد فيه البواعث السامية.

    كلنا شريف إلى حد بعيد، ولو أنك خاطبت في أحد الناس شرفه وناديته بما فيه من فضائل لوجدت الاستجابة النبيلة لما تناشد، بل هو يُسَر؛ لأنك قد توهمت فيه النبل والشرف، وأصررت على وزن موضوعك بهذا الميزان.

•••

هذه هي الوسائل التي يراها ديل كارنجي ضرورية للشخصية الناجحة، وغايتها — كما قلنا — أن نكون محبوبين يُعتمد علينا في الملمات، وقد يرى القارئ فيها اتجاهًا للتمويه، وهذا ما نراه نحن أيضًا، ولكن المجتمع الذي نعيش فيه قائم أيضًا على شيء كثير من التمويه، ولو كنا نعيش في مجتمع اشتراكي مثلًا لما احتجنا إلى هذه القواعد.

وأسمى من هذا النجاح نجاح الثائر على المجتمع السيئ الفاسد، ذلك الذي لا يُبالي المال والجاه، ولكنه يُبالي الإنسانية والشرف.

(٣) العادات والشخصية الناجحة

العادات ضرورية للنجاح؛ لأن للعادة قيمة كبيرة في الاقتصاد النفسي كما في الاقتصاد الجسمي، فنحن حين نتعود عملًا ننفق عليه من الانتباه والمجهود أقل مما ننفق على أي عمل آخر لم نتعوده، ومهما يكن العمل شاقًّا فإنه يسهل بالعادة، ونحن نبدأ بالعادة نملكها ونتسلط عليها، ثم ننتهي منها بعد سنوات وقد تملكتنا هي وتسلطت هي علنا، فإذا كنا قد تعودنا عادات الفشل والخيبة فإن حياتنا تنساق فيها بسهولة، كما يشق علينا الخروج منها، وإذا كنا قد تعودنا عادات النجاح فإن حياتنا أيضًا تنساق فيها بسهولة، بل نحن عندئذ نجهل كيف نفشل ونخيب.

وعادات النجاح كثيرة جدًّا، وهي تختلف باختلاف المجتمع، ولكنها تتفق في الأصول، فإن الناجح مثلًا:
  • يتجنب العادة السيئة في التراخي والنوم الكثير في النهار.

  • ويتجنب العادة السيئة في إهمال هندامه.

  • ويتجنب العادة السيئة في لغته وحديثه.

  • ويتجنب العادة السيئة في الواجبات الاجتماعية.

  • ويتجنب العادة السيئة في الاعتزال.

  • ويتجنب العادة السيئة في الخمور والتدخين والمقامرة، وقراءة المجلات السخيفة.

  • ويتجنب العادة السيئة في كراهة المسئوليات.

وقد تكون هذه العادات قد نشأت من «مركب نقص» لم يعالجه حتى ثبتت فيه ورسخت، فهو في حاجة إلى معالجة هذه العادات، كما أنه في حاجة إلى عادات إيجابية للنجاح؛ مثل:
  • العناية بالهندام والحديث.

  • العناية بالواجبات الاجتماعية بالزيارات ونحوها.

  • الجد والمثابرة واليقظة.

  • الاختلاط بالمجتمعات الراقية والمجتمعات المختلطة.

  • الأخذ بالثقافة والهواية الراقية لملء الفراغ.

  • الاقتصاد المالي دون التقتير.

  • المصالحة والخدمة في جميع العلاقات العائلية والاجتماعية.

•••

وجميع هذه العادات عملية، تُمارس كل يوم تقريبًا، ولكن هناك نوعًا من العادات الكامنة هي الميل أو الاتجاه، وهو يبقى كامنًا إلى أن تتاح له الفرصة، فيطفو بل يطفر، مثل الشجاعة والإقدام والجلد والشرف والأمانة، فإننا لا نُمارس هذه الخصال كل يوم، ولكنها ميول أو اتجاهات كأنها العادات الكامنة، إذا وقعنا في أزمة أنقذتنا.

وعندما نتأمل أحد الناجحين نجد أنه قد تعود النجاح كما لو كان اتجاهًا معينًا له، فهو يميل إلى جميع الأسباب والوسائل التي تؤدي به إلى هذه الغاية.

والعادات العملية يسهل على الإنسان أن يتعودها؛ لأنها معينة بالعمل، ولكن كيف يمكن تعود الاتجاهات والميول؟

لا يكون هذا إلا بأن نستخدم أثر النفس في الجسم، ويجب أن نؤمن بأن النفس تتسلط على الجسم، وليس هذا محض عقيدة خرافية، بل هو ثمرة التجارب العلمية، فإن الجسم يبلى ويمرض إذا بليت النفس ومرضت، وهو يصح بصحة النفس، وهناك حالات مثبتة بالتجربة ظهر منها أن عقيدة النفس يمكن أن تحدث بالجسم جرحًا أو عاهة.

فإذا وجدنا شابًّا مترددًا خائفًا خجولًا، وأوضحنا له ضرر هذه الصفات في النجاح، فإننا لكي نعالجه، يجب أن نقوم له بتحليل نفسي لكي نصل إلى البؤرة التي أحدثت له هذه الصفات السيئة، فإذا لم يتيسر هذا التحليل لعوائق خاصة فإننا يجب أن نعمد إلى الاستهواء، بأن نجعله يخاطب نفسه وقت النعاس في المساء والصباح بقوله:

«أنا شجاع، أنا لا أخاف، أنا جريء، لا أخجل».

ويكرر هذه العبارات نحو عشرين مرة في المساء والصباح، ثم يمكنه أن يزيد على ذلك بأن يشرح لنفسه موضوعه كتابةً، وذلك بأن يقعد إلى مكتبه ويبين الأضرار التي تصيبه من التردد والخوف والخجل، ويبين الفوائد التي تعود عليه من الإقدام والشجاعة والجرأة، وهو هنا يقوم ببعض التحليل لنفسه، ولن تمضي مدة طويلة حتى تكون هذه الاتجاهات أو الميول قد انغرست في نفسه.

والشخصية الناجحة تحتاج إلى عادات النجاح، ويدخل في هذه الشخصية الاتجاهات والميول.

(٤) كأنك ناجح

إذا عشت كأنك ناجح فأنت ناجح؛ لأنك إذا ادعيت دعوى وثابرت عليها فإنك تنتهي بالإيمان بهذه الدعوى، وإليك البيان:

لكل عضو من أعضائنا وظيفة يؤديها، والنفس هي مجموعة متآلفة من الوظائف، والجسم هو مجموعة متآلفة من الأعضاء، والمعروف بين الناس أنه إذا تحركت الوظيفة تحرك العضو، ولكن ما ليس معروفًا أنه إذا تحرك العضو تحركت أيضًا الوظيفة.

فنحن نعرف أننا حين نخاف نجري، وحين نُسَر نبتسم، وحين نغضب نعبس ونقطب، فهنا وظائف نفسية في الخوف والسرور والغضب، حركت أعضاء في الجسم؛ مثل: الساقين بالجري، والشفتين بالابتسام، والوجه بالتقطيب والعبوس.

ولكن ما يجب ألا ننساه أيضًا أن تحريك العضو يُحرك الوظيفة، فإذا نحن جرينا خفنا، وإذا نحن عبسنا غضبنا، بل إننا نستطيع أن نقف إحساس السرور إذا وقفنا حركة الابتسام، ونستطيع أن نقف الغضب إذا تصنعنا الابتسام بدلًا من التقطيب والعبوس.

ومعنى هذا أن هناك تبادلًا بين الوظيفة والعضو، كلاهما يُحرك الآخر، بل هناك قول بأن العضو هو الذي يحرك الوظيفة، وليس العكس؛ أي: أننا نحزن لأننا نبكي، ولا نبكي لأننا نحزن.

ومعنى هذا أيضًا أننا إذا تصنعنا عاطفة وحركنا الأعضاء التي تؤديها، وإن كنا لا نشعر بها، لم نلبث بعد تحريك هذه الأعضاء حتى نشعر بها؛ أي: بالعاطفة، ومن هنا الظاهرة المألوفة حين نتضاحك فنضحك، وحين نتباكى فنبكي، وإذا وقفنا موقف الخشوع والوقار أحسسنا إحساس الخشوع والوقار، وإذا وقفنا موقف الخلاعة وحركة الأعضاء التي تؤديها أحسسنا إحساس الخلاعة, وإذا مارسنا الصدقة وأخرجنا القرش من جيبنا وسلمناه للمحتاج أحسسنا إحساس البر، وإذا سرنا في الشارع بجد واعتدال وسرعة أحسسنا إحساسًا يختلف عن ذلك الإحساس الذي نحسه حين نسير بضعف وتراخ وتمهل.

فالعضو يحرك الوظيفة، وما نمارس من عمل يحدث في نفوسنا مزاجًا معينًا يتجاوب مع الأعضاء التي تحركت في ممارسة هذا العمل، فإذا قصدنا إلى النجاح فيجب أن يتحرك الجسم حركات النجاح؛ كي يحدث في النفس مزاج النجاح، والسبيل إلى هذا أن نسلك كأننا ناجحون.

والناجح يبتسم ولا يقطب، وهو يجد في سيره معتدلًا، وهو يستجيب في لباقة ورقة لما يُطلب منه، وهو يُعنَى بلباسه كما يحاول أن يجعل عبارته وإيماءته رشيقتين، وكل هذه الحركات تُحدث في نفسه عواطف النجاح من التفاؤل إلى الاجتهاد إلى الملاطفة والمصالحة إلى النظافة والرشاقة، ثم لا تلبث هذه الصفات أن تصير عادات نفسية اتجاهية لا تكلفه تصنعًا أو ادعاء، بل هو يؤمن عندئذ بالنجاح ويتجه الوجهات التي تؤدي إليه وتحققه؛ لأنه يجد نفسه وقد مارس كل الصفات التي يترسمها الناجحون، وقد تجنب كل الصفات التي يتجنبونها؛ لأن النجاح عندئذ يصير مزاجه الخاص وسليقته الشخصية، فهو يتفادى كل ما من شأنه أن يضره، ويقبل على كل ما ينفعه.

ونحن نقصد بالنجاح هنا معناه العام، فالتاجر ورب العائلة والطبيب والخطيب والزوج، كل هؤلاء ينشدون النجاح، ولكل منهم طريقته التي تختلف عن الطريقة التي يتبعها غيره، وهو إذا مارس الحركات والإيماءات والعبارات التي تؤدي إلى النجاح؛ انتهى بتحقيق هذا النجاح.

وأسوأ شيء هو السلوك كما لو كنا مؤمنين بالخيبة والفشل والحظ السيئ؛ لأننا عندئذ نتحرك حركات الخيبة، فنبطئ نشاطنا ونهمل لباسنا ولغتنا وقوامنا، ولا نبالي مخاصمة من نحتاج إليهم، ولا نقتصد ولا ندرس، ونقف من العالم موقف الخيبة ونتجه إليها وتصير الخيبة عادتنا، من حيث لا ندري؛ لأن النفس والجسم قد تعوداها بدلًا من أن يتعودا النجاح.

والآن اذكر أيها القارئ أنك وأنت تلميذ كنت ترى بعض زملائك وقد تعودوا النجاح، فهم في الصفوف الأولى يحتفظون بها على توالي السنين، مع أنهم لم يكونوا أذكى من غيرهم، ولكنهم اتجهوا وجهة النجاح المدرسي، وصار هذا الاتجاه عندهم عادة لا تُكلفهم كثيرًا؛ لأن العنصر الآلي في العادة يجعل تنفيذها سهلًا، وهذا الاتجاه يهيئ النفس والجسم نحو النجاح بالسرعة في تحضير الدروس، وفي تجنب الفضول الذهني الذي يشطح ببعض الصبيان إلى الملاهي وغيرها، وكذلك هناك من تعودوا الخيبة، فهم في آخر الفصل ليس لقلة ذكائهم، بل لأنهم اتجهوا وجهة الخيبة فسلكوا كأنهم خائبون.

وإذا نحن أغضينا النظر عن العقبات الأصلية في المجتمع للنجاح، مثل: التعطل ونحوه، فإننا نستطيع أن نقول: إن كثيرًا من النجاح وكثيرًا من الخيبة يعزيان إلى الاتجاه إلى عادة الخيبة، وهذا الاتجاه، أو هذه العادة نستطيع أن نوجدها بأن نجعل الجسم يتحرك حركة النجاح أو حركة الخيبة، فتتألف لنا من ذلك الشخصية الناجحة.

(٥) ارسم خارطة حياتك

الشاب الذي يبني شخصيته ويتعهدها بألوان الرقي يجد أنه يرسم خارطة حياته بيده، وأنه لا يتسكع في الحياة، بل يعيش ببرنامج مرسوم قد امتد على خمسين أو ستين سنة.

وهناك بالطبع أحوال لا قدرة لنا على تغييرها، أو أن قدرتنا على هذا التغيير ضعيفة؛ مثل: العائلة والمدرسة والمجتمع، فإننا لا نختار عائلتنا أو مدرستنا أو مجتمعنا، وقد يكون بعضها أو جميعها سيئة نعيش ونحن نحمل لوثاتها أو أمراضها أو شرورها، وأساس شخصيتنا يُبنى من هذه المؤسسات الثلاث، ولا يكاد يكون لنا يد في بناء شيء منه، ومن الشاق جدًّا أن نهدم بعد ذلك هذا الأساس.

ولكننا حوالي العشرين نشرع في البناء فوق هذا الأساس، ومن هنا الاختلاف بين بعضنا البعض، فإن الشاب يكون قد نضج ذهنه، وقد اختبر إلى حد ما شئونًا مختلفة من المجتمع، وهو يفكر في اختيار حرفته، ونفسه تتجه إلى الحب والزواج وإيجاد عائلة جديدة في الدنيا، وهو يناقش الأخلاق في المجتمع الذي يعيش فيه ويأخذ ويرفض منها بقدر كفاءته الذهنية والثقافية، وهو يتطلع إلى المستقبل يحاول أن تكون له مكانة اجتماعية محترمة.

وهو في كل ذلك يرسم خارطة حياته بيده، وهو يضع — في عقله الباطن — برنامجًا يمتد سنوات، وقد يمتد إلى العمر كله، ولكنه قد يسير فيه على غير هدى، أو في توانٍ وتهاون، كأنه يتسكع، والأصل في هذا التواني أو هذا التسكع أنه لم يعين أهدافه، ولم يستقر على غاياته التي يُريد أن ينتهي إليها في طريق الحياة، فالبرنامج لم يتضمن معالمه وصوره.

وإذا شاء أحدنا أن يقضي في أوروبا ثلاثة أشهر للنزهة والتفرج؛ فإنه قبل الشروع في هذه السياحة يرسم لنفسه الخطة التي سيتبع من رؤية هذه العاصمة، إلى التجوال على ضفاف ذلك النهر، إلى زيادة هذه المتاحف، إلى حضور بعض الدرامات في ذلك المسرح؛ إلى غير ذلك، وهو ينتفع حين يضع هذا البرنامج؛ لأنه يُعين فيه حاجاته النفسية والذهنية ويزنها بكفاءته المالية، أما إذا قصد إلى أوروبا وشرع يسيح فيها جزافًا بغير برنامج؛ فإن نقوده لا تكفي جزءًا من عشرة مما كان يطمع في رؤيته واختياره.

وهكذا الشأن في الحياة، بل الحياة هنا أعظم وأخطر؛ لأننا لا نُبالي أن تضيع من حياتنا ثلاثة أشهر قضيناها جزافًا في أوربا، ولكن يجب أن نُبالي خمسين أو ستين سنة نعيشها على هذا الكوكب وكأننا ورقة جافة تحملها الريح، أو حطامة تنساق مع التيار في النهر، والشخصية الناجحة هي تلك التي يقف صاحبها من هذه الدنيا وهو يقول:

«إن لي حق تقرير مصيري، وإني سأبني شخصيتي وأضع برنامج حياتي وأرسم خارطتها».

وهو إذا فعل ذلك على وعي (وليس في عقله الباطن فقط) فإنه يجب أن يبحث عن شخصيته بعد عشرين، بل خمسين سنة كيف تكون؟

هل هو حين يبلغ الشيخوخة سيكون سمينًا أم نحيفًا، مثقفًا أم جاهلًا، ثريًّا أم فقيرًا، محترمًا أم حقيرًا، حبيبًا إلى زوجته وأولاده أم مخاصمًا لهم؟

وهو عندئذ يضع البرنامج وفق الأهداف التي يرمي إليها، وقد يُجزِّئ هذا البرنامج فهنا أربع سنوات لدراسة اللغة الفرنسية، وهنا عشر سنوات للطمأنينة المالية، وهنا ثلاث سنوات للألعاب الرياضية … إلخ، وخير للشاب أن يضع مثل هذه البرامج ولا يبلغ من تحقيقها سوى النصف أو الربع من أن لا يكون له برنامج، وأن يتسكع في حياته ويسير جزافًا؛ ذلك لأن وضع البرنامج يكسبه عقلية الترتيب والاستعداد والتبصر.

وهذا البرنامج يجب أن يكون شخصيًّا، يرسمه كل شاب على قده الجسمي والنفسي، ولكن هناك أهدافًا عامة كلنا نصبو إلى تحقيقها، ومن الحسن أن نذكر ولو عناوينها؛ لكي نوحي إلى القارئ بعض الأبواب التي يجب أن تُطرق لإيجاد الشخصية الناجحة:
  • (١)

    فالشاب الذي سوف يعيش على هذا الكوكب نحو ٧٠ أو ٨٠ سنة يجب قبل أي اعتبار آخر أن يكون حاصلًا على صحة حسنة، والصحة الحسنة يجب أن نُعنَى بها قبل الوقوع في المرض وليس بعده، ومن هنا ضرورة الكشف الطبي مرة كل سنة أو سنتين؛ لكي نتعرف أمارات المرض البادئ حتى نعالجه قبل أن يتفاقم.

  • (٢)

    ما دمنا نعيش في مجتمع قائم على المباراة المالية ولا يعتمد على التعاون؛ فنحن مضطرون إلى أن نتوقى الفقر، وذلك بالادخار والتبصر للمستقبل، مع الالتفات للواجب البشري المقدس وهو العمل على إحالة هذا المجتمع الانفرادي إلى مجتمع تعاوني اشتراكي.

  • (٣)

    يجب أن نختار الحرفة التي نهوى، فإذا لم نفلح في هذا فيجب أن نختار هواية لفراغنا نمنحها الكثير من وقتنا ومالنا بسخاء.

  • (٤)

    يجب أن نختار الزوجة بحيث نجد أنها سوف تكون الأم التي تنجب لنا أجمل الأولاد وأذكاهم، وأصحهم وأعلاهم أخلاقًا.

  • (٥)

    يجب أن نفهم هذه الدنيا بالثقافة، نقرأ أحسن الكتب، ونشتري الجريدة أو المجلة التي ننتفع بها في إنارة أذهاننا وتكبير شخصيتنا.

  • (٦)

    يجب أن نشتري الاختبارات والمسئوليات إذا لم تصادفنا في حياتنا وأعمالنا؛ لأن الشخصية هي ثمرتها.

هذا كلام عام، ولكن العبرة التي قصدنا إليها من هذا الفصل ألا نعيش جزافًا وتسكعًا، بل يجب أن نقرر مصيرنا، ونرسم بيدنا خارطة حياتنا، ونضع البرنامج الذي يصل بنا إلى الغاية المنشودة.

(٦) اختر مهنتك

يتوقف النجاح في المهنة على شيئين: مقدار المهارة فيها، ومقدار الشخصية التي يمتاز بها محترفها.

فأما المهارة فتحتاج إلى الذكاء الذي يرث كل منا تراثه منه ولا نكاد نستطيع زيادته بما نكتسب من تعليم أو خبرة، ولكن ما يجب أن يُعرف عن الذكاء أنه عام وليس خاصًّا، بمعنى أن الذكي في الرياضيات هو أيضًا ذكي في الآداب، أو قادر على أن يكون كذلك، والذكي في الطب قادر على أن يكون ذكيًّا في التجارة والهندسة والكيمياء، فالذكاء لا يتخصص لمادة معينة، وإن كنا نحن نضطر إلى التخصص حين نحترف حرفة ما ومقدار ما عندنا من الذكاء لا يتغير، ونموه يقف عند السادسة عشرة من العمر، والفرق بين الشاب في العشرين من عمره (بل في السادسة عشرة) وبينه في الخمسين هو فرق في زيادة المعارف والاختبارات، وليس في زيادة الذكاء.

ولكن الشخصية ليست كذلك، فإنها مزاج واتجاه وتدريب، ولذلك يمكن ترقيتها، والمزاج يتكون بتربية العواطف في الطفولة، وليس لأحدنا سلطة أو تأثير فيما تسلمه من تربية عاطفية أيام طفولته، ولكنه — مع المشقة — يستطيع تغيير ذلك عندما يبلغ الرجولة.

والتفاوت في الذكاء ليس كبير القيمة في الشخصية الناجحة كالتفاوت في الشخصية؛ ذلك لأن أعمالنا العادية لا تحتاج إلى عبقرية فذة بمقدار احتياجها إلى شخصية لبقة، ونحن لا نطالب الناس بأن ينفقوا مئة في المئة من ذكائهم؛ لأن الحرف العامة لا تحتاج إلى ذلك، فالتاجر والصانع والمهندس والطبيب والموظف والقاضي قلما تعترضه مشكلة تطالبه بأن يرصد كل ذكائه لحلها، ويمكننا أن نتخيل بعض المواقف التي تطالبنا بأعظم مقدار من عبقرية الذهن، كموقف القائد يدرس المعركة بجميع عمومياتها؛ كي يصل إلى النصر، أو موقف السياسي يدرس الحال العالمية في السياسة؛ كي يضع دولته في مقامها اللائق منها، أو موقف الضال في الصحراء يحاول الاهتداء إلى طريق النجاة، أو موقف المخترع أو المكتشف؛ ففي كل هذه الحالات نحتاج إلى أن نستخدم كل ذكائنا والمتفوق هو العبقري.

ولكن ظروف حياتنا المألوفة، وصناعاتنا العادية في المدينة أو الريف، لا تطالبنا بكل هذا المجهود، وكثير من هذه الصناعات يمكن تأديته بنصف أو ثلاثة أرباع الذكاء عند من يمارسونها، ولكن من ينشد النجاح يجب ألا يُهمل الذكاء، بل يجب أن يمتحن ذكاءه قبل الإقدام على اختيار حرفته، ويحسن الآباء إذا ساعدوا أبناءهم بامتحان ذكائهم وهم في المدارس الابتدائية؛ لأن هذا الامتحان يوضح مقدار ما سوف يكونون عليه من الذكاء وهم في الأربعين أو الخمسين من العمر، ويمكن للقارئ أن ينتفع بالأرقام التالية؛ كي يعرف ما تحتاج إليه الصناعات من الذكاء.

فإن الذكاء العادي يرمز إليه برقم ١٠٠، والبلادة يمكن أن تحسب بنحو ٧٥ درجة، والبلاهة حول الـ ٦٠ أو الـ ٥٠، والذكي الممتاز يحصل على ١٢٠ درجة، والعبقري هو من يتجاوز ١٥٠ درجة.

وقد وُجد أن أرقام الذكاء في الصناعات التالية:
  • في ٣٠ مدرس ثانوي وجامعي كانت درجة الذكاء ١٥١ في المتوسط.

  • في ١٥ طبيب وجراح كانت درجة الذكاء ١٤٦،٥ في المتوسط.

  • في ٢٠ مهندس مدني كانت درجة الذكاء ١٤٢ في المتوسط.

  • في ٩٠ مدرس ابتدائي كانت درجة الذكاء ١٣٧ في المتوسط.

  • في ١٩ عامل تليفون كانت درجة الذكاء ١١٥ في المتوسط.

  • في ١٢ بائع في حانوت كانت درجة الذكاء ٩٩ في المتوسط.

  • في ٣٣ نجارًا كانت درجة الذكاء ٩٨ في المتوسط.

  • في ١٢ حلاق كانت درجة الذكاء ٨٩ في المتوسط.

وهذه الأرقام تدل على «المتوسط»؛ أي: أنه كان بين المحترفين من هم دونها أو فوقها، والأب الذي يرعى مصلحة أولاده يجب أن يمتحن ذكاءهم؛ كي يقدر نجاحهم في اختيار الحرفة في المستقبل، ويجب أن يعرف أنه لا يستطيع زيادة ذكاءهم مهما علمهم، وقد يحمله الطمع على أن يكون ابنه مهندسًا أو طبيبًا مثلًا وهو دون المئة في درجة الذكاء، وقد ينجح ابنه في الحصول على الشهادة بالمجهود العظيم، ولكنه لن ينجح في الحرفة وهو يعيش فيها خاملًا كارهًا.

وقد قلنا: إن مقدار الذكاء لا يتغير، ولا يزداد بالتعليم أو التدريب، ولكن الشخصية تتغير، فيجب أن يكون جل اعتمادنا عليها في تحقيق النجاح، والواقع أن النجاح يحتاج إلى الشخصية أكثر جدًّا مما يحتاج إلى الذكاء، ونحن في معاملاتنا قلما نلوم أحدًا على بلادته، ولكنا نلومه على ظله الثقيل أو كسله أو خجله، أو وقاحته أو الفوضى في عمله أو قلة رشاقته، أو إهماله في الأمانة أو النظافة أو الاستقامة؛ وكل هذه صفات خاصة بالشخصية.

واختيار الحرفة — فضلًا عن تعيين مقدار الذكاء — يحتاج إلى أن نعاين المجتمع، ونعرف ما فيه من صناعات يُرجى مستقبلها وأخرى لا يُرجى، والشاب حوالي العشرين أو قبل ذلك يحتاج إلى النصيحة ممن هم أسن منه؛ لأن اختباراتهم الاجتماعية أوسع من اختباراته.

ففي وقتنا هذا نجد صناعات راكدة لا تتقدم، وأخرى في سبيل الانقراض والزوال، وأخرى مقبلة يُرجى لها النجاح العظيم في المستقبل.

وفي مصر نجد أن الزراعة في ركود عظيم، وكذلك الصناعات اليدوية تكاد تدخل في طور الانقراض، إلا ما كان منها فنيًّا دقيًّا، بل إن الزراعة الدقية (على الطرق الدنمركية) لا يزال لها مستقبل في بلادنا، وصناعات اليد تتخلف وتنقرض أمام الآلات ولكن عصرنا يصرخ بأن المستقبل للصناعات الميكانيكية والكيماوية والكهربائية، فيجب أن يتجه الاختيار نحو هذه الصناعات الناجحة التي يُرجى مستقبلها.

وفي جميع ما كتبناه عن الشخصية قد فرضنا إمكان تغييرها وهي كذلك، ولكن مع صعوبات متفاوتة في التغيير، وهناك ما يمكن أن يُسمى «شخصية وراثية» حين نذكر المزاج الانطوائي والمزاج الانبساطي، فيجب على قارئ هذا الفصل أن يدرس هذا الموضوع.

(٧) الهواية والألعاب

في فصل سابق أوضحنا قيمة الإيحاء الذاتي، حين يسلك الشاب سلوكًا معينًا «كأنه ناجح» فتؤدي أعضاء جسمه وظائف النجاح، ويتجه هذه الوجهة، وفي فصل سابق أيضًا أوضحنا قيمة الهواية التي نتخذها ونملأ بها فراغنا بعمل نحبه ونتعلق به؛ لأن هذه الهواية تُصالح العقل الباطن على العقل الواعي، وتشبع شهوات خفية لو أنها بقيت بلا إشباع لقام صراع بين العقلين؛ فلا نُؤدي واجباتنا الحرفية والاجتماعية كما تطلب منا.

وفي هذا الفصل نحاول أن نمس الهواية والألعاب من زاوية أخرى تعد تكملة للفصلين السابقين، فإن العاطفة التي تنشأ في النفس لا تزول بزوال السبب الذي أحدثها، مثال ذلك قد تحدث بالمنزل في الصباح قبل أن نخرج إلى مكتبنا أو متجرنا حادثة معاكسة أو محزنة فتتكون عندنا عاطفة الغضب أو الحزن، ثم نترك المنزل ونقطع الطريق وندخل المكتب أو المتجر ونشرع في تأدية واجباتنا، ولكن كل هذه المدة التي قطعناها, وجميع المناظر التي التقينا بها في الطريق، بل بعد ذلك قضاؤنا نحو ست ساعات في تأدية واجباتنا، كل هذا التغيير لم يؤد إلى زوال العاطفة التي تكونت بالمنزل في الصباح، فنحن في غضب أو حزن طول هذه المدة، ولذلك لا نؤدي العمل على الوجه الذي يُطلب منا، فنحن نبطؤ في سرعتنا العادية، ونُقابل الرئيس أو الزميل أو الزبون في تجهم أو صمت يشبه التجهم، وخواطر الغضب أو الحزن تفتأ تغزو عقلنا بخيالات تخرجنا عن دائرة عملنا.

وهذا عكس ما يحدث لو أنه قبل أن نترك البيت، قد سمعنا خبرًا سارًّا أو صادفنا ظرفًا ملائمًا يبعث على الارتياح، فإن عاطفة السرور تلازمنا عندئذ طول النهار تقريبًا، فنُؤدي عملنا ونحن في ابتهاج ونشاط.

ومن شأن عواطف الغم وما إليه أنها تبطئ الحركة والنشاط، ومن شأن عواطف السرور وما إليه أنها تسرع الحركة والنشاط، ومن هنا ضرر الهموم؛ لأنها تجعل المهموم بطيئًا أو راكدًا، والشخصية الناجحة تحتاج لهذا السبب إلى عواطف تبعث النشاط والحركة، ومن هنا قيمة الهواية والألعاب.

ذلك أننا نهوى هواية ما ونُمارسها نُخرج منها وقد أشبعنا عاطفة سارة؛ لأننا أدينا عملًا نحبه, والسرور يلازمنا إلى ما بعد ذلك، وهو يبقى إلى ساعات العمل الحرفي فنؤديه في سرعة ونشاط وابتهاج.

ومن هنا فائدة الألعاب أيضًا، فإننا حين نلعب التنس أو أية لعبة رياضية أخرى لا ننتفع للقيمة الصحية في هذه اللعبة فقط، بل للقيمة السيكلوجية أيضًا، ذلك أننا ونحن نلعب نثير في أنفسنا عواطف الكفاح والرغبة في الغلبة والابتهاج، فتبقى هذه العواطف حية بعد اللعب نحو سبع أو ثماني ساعات، بحيث إذا تركنا الملعب لازمتنا في المكتب أو المتجر فنُؤدي واجباتنا بروح الكفاح والرغبة في الغلبة والابتهاج، وتكون هذه العواطف عونًا لنا على النجاح.

بل إن لعبة الحظ تُؤدي — إلى حد ما — هذه المهمة؛ لأنها تبعث مثل هذه العواطف، وهذا بصرف النظر عن الأضرار الأخرى التي تنشأ منها.

وعلى هذا يمكن أن نقول: إن للهوايات والألعاب فائدتين:
  • الأولى: سلبية؛ وهي أنها تكفنا عن رذائل ربما كنا نقع فيها لكي نملأ بها فراغنا ونسري بها عن همومنا؛ مثل: الخمر، أو ما هو أسوأ منها.
  • والثانية: إيجابية؛ وهي أنها تُحدث لنا عواطف سارة تبعث فينا النشاط والابتهاج، وتخفف من أعباء الهموم، بل تشجعنا على مجابهتها وحلها.

ومن الاختبارات المألوفة أن الشاب المنغمس في العادة السرية مثلًا يقلع عنها أو يخفف منها حين يصرف بعض وقته كل يوم إلى الألعاب الرياضية، وذلك لأن السرور الذي أحسه مدة اللعب قد لازمه بعد ذلك ساعات وقت انفراده بغرفته، فلم يحتج إلى العادة السرية التي كان يلجأ إليها للتفريج ولإيجاد لذة عابرة يخفف بها من سأمه أو غمه أو همومه للمعاكسات أو الهزائم التي يلقاها، وقل مثل هذا في عادات أخرى يمكن استصلاحها بالألعاب والهوايات.

وثمة شيء آخر له قرابة بهذا الموضوع، فإن القارئ الذي عرف الآن أنه يجب أن يدير عواطفه حتى تخدمه يجب أن يذكر أنه حين يتكاسل في الفراش عند الاستيقاظ، ويقضي نحو ربع أو نصف ساعة وهو يتثاءب ويتمطى ويتقلب فاترًا حائرًا، سيترك البيت إلى مكتبه أو متجره وهو في هذا التكاسل أو التراخي؛ لأن إيحاء الكسل يبقى مدة طويلة، وهذا عكس ما يحدث لو أنه نهض مشمرًا يقظًا يلعب لعبة منشطة ثم يستحم، فإن روح النشاط يلازمه عندئذ طول النهار.

وكذلك على القارئ أن يذكر أن الأغاني التي يسمعها من مغنينا أو مغنياتنا إنما هي تنهدات منغمة وتأوهات ملحنة، وهي تحدث عواطف الاسترخاء والاستسلام، فيجب أن يتجنبها إذا أراد النشاط والهمة والتوفز.

(٨) جيته: الشخصية الكاملة

نظن أنه من حق القارئ أن يطالبنا بمثال للشخصية الكاملة، وفي التاريخ الماضي والتاريخ الحاضر شخصيات متعددة الألوان يمكن أن نختار منها، وليس من المفيد للقارئ أن نصف له شخصية الشباب في نابليون أو الإسكندر، ولا شخصية القداسة في غاندي، ولا أمثال هؤلاء من الزعماء والقادة؛ لأنه إنما يحتاج إلى مثال عملي يمكنه أن يقتدي به أو على الأقل يسترشد بحياته، وهو لا ينشد الزعامة السياسية أو القيادة الحربية.

وقد اخترنا «جيته» باعتباره الشخصية الكاملة، ولا نقصد أنه يمكن كل إنسان أن يقتدي به ويحتذي سلوكه، ولكن نرى أنه يمكن الاسترشاد بأشياء كثيرة في حياته ليست فوق مستطاع القارئ العادي.

ولد جيته سنة ١٧٥٩ ومات سنة ١٨٣٢، وكان أديبًا شاعرًا، كما كان سياسيًّا وإداريًّا، ملأ مناصب عالية في الدولة — دوقية ساكسي فايمار في ألمانيا — وألف القصص ومئات من المقطوعات والقصائد الرائعة، وكان مع ذلك عالمًا له مكتشفات في الجيولوجية والبيولوجية والبصريات، وبدهي أن هذه الحياة الحافلة بالاختبارات والمسئوليات جديرة بأن تُكوِّن الشخصية المثلى التي شرحناها في الفصول السابقة، فإن جيته كان أعظم رجل مثقف في عصره، وتحمل بثقافته همومًا بشرية جعلته رجل الدنيا، يهتم بما في وسط إفريقيا كما يهتم بما في ألمانيا نفسها، ويدرس البوذية الصينية كما يدرس أشعار بيرون، ثم هو كان يمارس الوزارة ويتحمل جميع مسئولياتها السياسية والاجتماعية، ويتصل عن طريقها بالمشكلات الأوروبية، وهو يُعرف الآن بمخلفاته الأدبية من قصص أو أشعار وحكم، ولكن آفاقه الذهنية كانت تتجاوز ذلك، فإن بيته كان متحفًا لعظام الحيوانات المنقرضة والأحجار التي سبقت التاريخ البشري، وكان كثيرًا ما يُنحي عن نفسه المشاغل السياسية أو يرجئ الفصل فيها؛ كي يدرس الأصل في زهور الشجر هل هي أوراق تطورت أم شيء آخر، وقد سُمِّي حجر باسمه برهانًا على فضله في الجيولوجية، ثم كان مع ذلك يسيح، ويختلط بالمجتمع، ويحب، بل لقد أحب وتألم من الحب بعد السبعين من عمره، وقد أسس عائلة ورأى أحفاده.

ونحن نعزو الكمال إلى شخصيته لكثرة هذه الاختبارات، فإنه مارس حياة العمل وحياة الذهن، ولم يتخصص، فهو ليس سياسيًّا فقط، وليس عالمًا أو أديبًّا فقط، بل كان كل هؤلاء، فامتدت شخصيته إلى آفاق بعيدة ومختلفة، وكثرت مسئولياته الوطنية والعالمية وتنوعت، ولم يكن مع ذلك ناسكًا من حيث الشهوات، فإنه كان يعب من الحياة عبًّا.

والعبرة لنا من حياة جيته هو أن نكثر آفاقنا ونتنوع كي نكبر شخصيتنا.

درس جيته القانون في الجامعة، ولكنه لم يجد فيه ما يشبع طموحه النفسي أو الذهني فكان يدرس وهو بالجامعة علومًا أخرى، وحدث عقب تخرجه أن زار فيمار، وهناك عرف دوق هذه المدينة الذي أحبه وطلب منه أن يبقى معه، وانتهى هذا الحب — الذي كان متبادلًا — إلى أن صار جيته وزير الدوقية يشرف على جميع إدارتها، ويسوي علاقاتها مع الدول الأوربية، وبين سنتي ١٧٨٦ و١٧٨٨ زار إيطاليا فكانت هذه الزيارة اختبارًا فنيًّا، كما كانت اختبارًا مناخيًّا، وتعرف إلى شيلر الشاعر وصادقه وانتفع بصداقته، واختيار الأصدقاء ركن مهم في تكوين الشخصية، فقد اعترف جيته بأن شيلر كان حافزًا فنيًّا لنشاطه.

وفي سنة ١٧٨٨ صادق كرستيانا فوليبوس، وتزوجها سنة ١٨٠٦، وشرع سنة ١٨٠٨ يُؤلف درامة فاوست التي تقرن الآن إلى اسمه، وأتمها بعد نحو ٢٧ سنة، وكان مكبًّا على دراسة العلوم فبحث البصريات والجيولوجية والنبات، وعرف نظرية التطور وآمن بها ودعا إليها قبل داروين، والمتأمل لحياته يرى أن العلم كان همه الأكبر، وأن الأدب همه الأصغر.

والمتأمل لحياة جيته يجد أن أعظم ما صنعه ليس مؤلفاته في الأدب أو مكتشفاته في العلوم أو خدمته للدوقية، وإنما هو شخصيته فقد صنع نفسه، وهنا يجب أن نقف لعبرة أخرى، وهي أن الأديب الذي يؤلف كتابًا يجب أن يُعنَى بتأليف شخصيته، وأن أسلوب الحياة الذي نراه في المؤلف يجب أن يكون أكبر دلالة لنا من أسلوب الكتابة الذي يتبعه، ولو استقر عندنا هذا المقياس لطالبنا المؤلفين في مصر بواجبات خطيرة هم غير أَكْفَاء لها.

وقد أحس جيته نفسه دلالة حياته، فكان يقول: إن جميع ما تعلم وجميع ما اختبر إنما كان مواد بنى بها هرم حياته وشخصيته، وقد قال ذات مرة: «إن أي إنسان عرف وفهم حقًّا مؤلفاتي وشخصيتي؛ يضطر إلى أن يعترف بأني قد حققت لنفسي حرية الروح.».

وكانت اهتماماته عالمية؛ لأن الثقافة رفعته إلى مستوى عالٍ يتجاوز الحدود الوطنية، بل هو كان كذلك حتى في ديانته؛ إذ لم يكن مسيحيًّا فقط، بل كان يقول: إن ديانته مزيج من جميع الأديان أو هي البشرية كما نفهم الآن من مدلول هذه اللفظة، ولما كان حوالي الثمانين من العمر كانت أوروبا تتحدث عن ثلاثة شرايين كبرى للملاحة هي قناة السويس وقناة بناما وقناة الدانوب والراين، وكان جيته يذكرها بقوله: «إني أود لو أعيش خمسين سنة أخرى حتى أرى إتمام هذه المشاريع الثلاثة الكبرى.».

ومن هنا يمكن القارئ أن ينير بصيرته عن المعنى الأنيق للشخصية السامية، فإن الإنسان حين يُربِّي نفسه مدى ثمانين سنة وهو يحس أن هذه الدنيا وطنه الأكبر؛ يجد أن دراسة شئونها العامة هي دراسته الخاصة.

وأنه ليس قروي الذهن، كما هو الشأن في بعض الأدباء في مصر، والرجل الذي يشتهي إتمام مشاريع عالمية، ويود أن يعيش نصف قرن فوق الثمانين كي يراها محققة جدير بأن يقول عن نفسه أنه بنى «هرم» شخصيته؛ لأنها هي في الحق هرم.

وكان جيته يدون «يومية» يكتب فيها كل يوم ما مر بحياته مما يمكن أن يرقيه ويربيه، واليومية هي حساب يومي نُحاسب به أنفسنا هل قتلنا الوقت أم انتفعنا به؟

وكانت شهوته للقراءة والاختبار والحياة نشيطة قوية، فكان يخشى قصر النهار في الشتاء ويستعد له باستغلال النهار كله في الصيف بالقراءة، وكان يصل دراسته في الشيخوخة بدارسته في الشباب فكان يقول: «إني أمتاز بالحظ الحسن في شيخوختي؛ لأني أجد في نفسي أفكارًا لو شئت أن أواليها حتى تتكشف … لاحتجت إلى أن أعيش حياتي مرة أخرى.»!

ومن أقواله التي تدل على اتجاهاته النفسية: «وهل أنا بلغت الثمانين، وهل يجب عليَّ ألا أتغير، بل أعمل كل يوم مثل اليوم السابق؟ كلا إني أختلف عن سائر الناس وأبذل مجهودًا أكثر منهم كي أفكر كل يوم في شيء جديد حتى أتجنب السأم، أجل يجب أن نتغير على الدوام، وأن نجدد شبابنا على الدوام وإلا أصابنا التعفن.».

وكان متفائلًا حتى لقد بلغ تفاؤله أنه أسف على أنه ألف قصة «آلام فرتر» وهي لا تبعث على التفاؤل والأمل، بل تبعث على اليأس.

كان نابليون يُحارب الألمان ويذل ملوكهم وأمراءهم ومع ذلك كان جيته يحبه؛ لأنه رأى فيه رجلًا عظيمًا يُفكر في الولايات المتحدة للقارة الأوروبية، ويسن «القانون» وينشر مبادئ الثورة الفرنسية، ونظم جيته قصيدة في نابليون قال عنه في آخرها: «إن الذي يقدر على كل شيء يقدر أيضًا على السلام.»، وهذه الجملة الأخيرة تبين أن إعجابه به لم يكن لعبقريته الحربية.

وكان نابليون قد قرأ «فرتر» إحدى قصص جيته سبع مرات قبل أن يلاقيه، وكان يتتبعه في مؤلفاته وأفكاره، ولما كان في ألمانيا دعاه، فلما ذهب إليه جيته كان نابليون يتناول فطوره، فلما رآه رفع رأسه وقال: «أنت رجل.».

وكانت لذة التغيير والتطور كبيرة عند جيته حتى قال: «التطور أجمل من الكمال.» لأن الكمال راكد أما التطور فمتحرك، والشخصية النامية لا ترضى بالركود ولو كان هذا الركود كمالًا.

وفي صباح اليوم الذي مات فيه طلب كتابًا عن الثورة الفرنسية؛ لأن مزاجه النفسي كان مزاج الإعجاب بالثورات التي تُغير الدنيا، وتنقلها من القيود الروحية والسياسية والاجتماعية إلى الحرية.

وماذا نستفيد إذن من شخصية جيته؟

ليس كل إنسان قادرًا على أن يكون مثل جيته، ولكن يمكن كل إنسان أن يسترشد بحياته، فإنه رقى نفسه بدراسة العلوم والآداب، وكوَّن شخصيته بتحمل المسئوليات السياسية، ورفعته ثقافته إلى أن يكون رجلًا عالميًّا يتحدث عن قناة السويس، وفوائدها للملاحة، واتصال الأمم بعضها ببعض، كما لو كانت هذه القناة في وطنه، ويتحدث عن البوذية والهندوكية كما يتحدث عن المسيحية، ولم أقرأ في حياته أنه كان ينام في النهار؛ لأن شهوته لأن يعيش ويستغل النهار كله كانت تحمله على تجنب النوم إلا في الليل، وقد علَّمنا جيته على أن نؤلف شخصيتنا، وأن يكون لنا أسلوب في العيش يُرقينا، وعلمنا كذلك كيف نكبر من شأن التمرن للحياة بالتصدي للاختبارات.

(٩) تلخيص

في الفصول الثمانية السابقة عالجنا النجاح من حيث إنه الناحية الخاصة التي يلتفت إليها كثير من الشبان حين يذكرون الشخصية، وذكرنا الشخصية الإنسيابية؛ أي: التي طهرت من العوائق أو العراقيل النفسية، ثم أوضحنا وسائل النجاح كما تفهم في أمريكا وطن النجاح، وبينا أن النجاح يجب أن يكون عامًّا وليس خاصًّا في الحرفة؛ أي: يجب أن ينجح الشاب في الحرفة والعائلة والمجتمع وفي ثقافته وصحته … إلخ، وهذا هو النجاح الجامع، وبينا قيمة الإيحاء، فإن الناجح يجب أن يسلك كما لو كان ناجحًا، وقد توسعنا أيضًا في شرح الفوائد التي تعود من الهواية، كما أننا أوضحنا قيمة الاستقلال النفسي في تكبير الشخصية، وكيف يجب على كل منا أن يختار حرفته، وأن يرسم خارطة حياته بيده، مع بيان موجز لما تحتاج إليه بعض الحرف من الكفاءات.

والفصل الأخير هو مثال للشخصية الكاملة في جيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤