الفصل السادس

تغير الشخصية

  • (١)

    التغير السليم للشخصية.

  • (٢)

    التغير المريض للشخصية.

  • (٣)

    الشخصية بعد الخمسين.

  • (٤)

    الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية.

  • (٥)

    الشخصية القلقة وكيف تغير.

  • (٦)

    تلخيص.

(١) التغير السليم للشخصية

للشخصية أسلوب معين يشبه الأسلوب الذي نتخذ في المشي أو الخط يصعب على غيرنا أن يقلده، كما يصعب علينا نحن أن نُغيره، ولكن التغيير مع ذلك ممكن، فإن الكاتب الذي بلغ الخمسين وهو يمارس الكتابة كل يوم يجد فرقًا بين خطه الراهن وبين خطه قبل ثلاثين سنة، وهو يجد هذا الفرق أوضح لو كان موظفًا بالحكومة عليه رئيس ينقد خطه ويطالبه بتحسينه.

وتغير الشخصية يأتي عفوًا وطبيعة كما يأتي إرادة وعمدًا، فنحن حين ننتقل من الصبا إلى الشباب نتغير، بل إن هذا التغير — مدة المراهقة مثلًا — يزيد في وضوحه إلى درجة تجعل الشاب أو الفتاة في حيرة وارتباك وخجل لم يكن أحدهما يحسها قبل المراهقة، ثم تستقر أصول الشاب، وتبني شخصية جديدة بعيدة عن أساليب الصبا، والمرأة عقب الخمسين وكذلك الرجل … كلاهما تتغير شخصيته، فتقل الرغبة في التأنق وتزول علامات النزق أو الخفة، ويرغب كلاهما في الوقار بدلًا من الجمال، وفي السكينة بدلًا من الحركة، ويتجه الذهن وجهات جديدة لم تكن واضحة أيام الشباب، وإن كان بعض جذورهما يرجع إلى عادات الشباب.

وفي هذه الحالات نجد أن التغير طبيعي يتسق وفسيولوجية الجسم، وما دامت النفس سليمة فإنه يحدث في يسر أو بأقل الصعوبات، ونرى الشخصية عندئذ تسير في نموها كالثمرة تسير نحو النضج والإيناع، ولكن النفس أحيانًا قد لا تكون سليمة فيشق عليها هذا التغيير، كالكهلة تلتزم أساليب الشباب في اللباس والحركة والإيماءة واللغة حتى لتكذب على نفسها بشهوات زائفة، ولا تجد عندئذ غير الاحتقار والسخرية، وكذلك الحال في الرجل يبلغ الستين ويسلك كأنه في العشرين يضحك ويزأط ويغازل، وفي هذه الحالات يحتاج الرجل أو المرأة إلى تصحيح شخصيته، على أننا مع ذلك يجب أن نمتدح بعض النشاط والهمة يبدوان من الكهل كأنه في الشباب؛ حتى لا يستسلم للركود والشيخوخة والخمول.

ولكن هناك نوعًا آخر من تغير الشخصية، نعني به التغير الإرادي الذي نطلبه نحن؛ لأننا نرغب في لون معين من الرقي، وهذا التغير نراه في مجتمعنا أو أي مجتمع آخر، فقد يكون أحدنا متدينًا بدين ما أو يُؤمن بمذهب معين ثم يرغب في تركه لاعتناق دين آخر، فهنا تتغير الشخصية بتغير النفس والعقيدة والعادات والأخلاق والوسط، وأحيانًا نجد رجلًا في الخمسين أو الستين كان مدمنًا للخمر ثم كف فجأة عنها والتزام الصحو، أو نجد شابًّا كان يستهلك عشرات السجاير كل يوم ثم انقطع عنها فجأة، وفي تاريخ المماليك في مصر كنا نجد المملوك ينشأ على الفسق ثم ينتهي آخر حياته ببناء المساجد وإقامة المبرات، بل كذلك يُثبت تاريخ القسطنطينية أن قياصرتها بعد حياة حافلة بالجرائم في القصور كانوا ينتهون إلى الرهبنة والتزام التقوى والصلاح.

ففي جميع الحالات قد رأينا الشخصية تتغير، ونحن حين نجد شابًّا يكف عن التدخين أو الشراب نتوهم أنه قوي الإرادة، وخاصة لأن هذا الكف هو — على الدوام — تام وفجائي، ولكن ما نزعمه عن هذه القوة في الإرادة يحتاج إلى تفسير، ذلك أن المدخن مثلًا حين يجد إسرافه في التدخين، يمارس التدخين ولكن على مضض، فهو كاره ساخط على عجزه عن إبطاله.

وهو يتخيل حياته بلا تدخين حين تجود صحته وتتوافر نقوده، وهذا الخيال يتجسم له في كل وقت، بل هو قد يحلم به في النوم لرغبته في تحقيقه، وعندئذ تتكون الإرادة في قطع العادة، وهذه الإرادة ليست متعمدة كما نفهم من معنى التعمد؛ أي: أن الراغب في الكف عن التدخين لا يقول لنفسه: «أنا قوي الإرادة وسأمتنع عن التدخين هذه الساعة» ثم ينفذ؛ لأنه في هذا الحال لا يدوم التنفيذ سوى ساعات أو على الأكثر أيامًا ثم يعود لعادته.

وإنما الذي يحدث أنه يسخط أولًا على أنه أسير العادة، ويأسف على الخسائر التي تعود عليه منها، هذا أولًا، ثم ينشأ في ذهنه خيال عن حاله وهو منقطع عن هذه العادة، هذا ثانيًا.

ومتى نشأ الخيال تكونت عنده الرغبة في تحقيق هذا الخيال المحبوب، ثم تستحيل الرغبة العامة الضعيفة إلى إرادة خاصة قوية، ويتم كل هذا التطور وهو لا يكاد يشعر به، ثم يكون الانقطاع، وتتغير الشخصية.

وهذا هو ما يحدث في الرجل يترك دينه أو مذهبه، أو يكف عن الخمر، أو يقلع عن حياة الفسوق إلى حياة الصلاح، ففي كل هذه الحالات يجب أن يسخط أولًا على حالته الراهنة، ثم يتخيل حالًا أخرى أفضل، ثم تنشأ في نفسه الرغبة في تحقيق هذا الخيال، ثم يكون الإقلاع عن الحياة السابقة وابتداء حياة جديدة، وتتغير الشخصية عندئذ.

وكثير منا في حاجة إلى أن تتغير شخصيته، فيجب أن يسير نحو هذا التغير في الأطوار التي ذكرنا؛ وهي:
  • (١)

    يجب أن يجسم ويمثل لنفسه الأضرار التي تعود عليه من حاله الراهنة، وذلك بتعداد هذه الأضرار بالقول والكتابة والتفكير مع التبسط في شرحها؛ حتى يقتنع تمام الاقتناع بضررها.

  • (٢)

    إذا فعل ذلك نشأت في عقله الباطن — من حيث لا يدري — كراهة الحال حتى يسخط عليها.

  • (٣)

    بعد ذلك يجد — من حيث لا يدري — أنه يتخيل حالًا أفضل وأحسن.

  • (٤)

    وأخيرًا تنشأ في نفسه رغبة — تتحول إلى إرادة — لتغيير هذه الحال، ثم يتغير.

(٢) التغير المريض للشخصية

نحن نعالج في هذا الكتاب الشخصية العادية؛ أي: شخصية رجل المكتب والمتجر والمصنع، أو الأفندي العادي والبك والباشا وسيدة البيت والزوجة والأم والآنسة، ونفرض في هؤلاء جميعًا أنهم يعيشون في الوسط المألوف، ولذلك حين نبحث تغير الشخصية لن ندخل في التفاصيل الخاصة بالحالات التي تُؤدي إلى المارستان، فلن نتحدث مثلًا عن الشيزوفرنيا، وهي المرض الوبيل للشخصية، ولن نتحدث عن أمراض أخرى دونها؛ لأننا نفرض أن المنتفع بهذا الكتاب رجل سليم، أو هو ليس به من الزيع إلا أقله الذي تمكن معالجته بمجهود صغير.

وفي الفصل السابق تكلمنا عن التغير السليم للشخصية، وفي هذا الفصل سنتكلم عن التغير المريض للشخصية، ولكن المرض هنا مألوف يمكن معالجته؛ أي: أنه ليس خطيرًا يبعث على اليأس أو ما يقرب من اليأس،كما هي الحال في الشيزوفرنيا.

ولنبدأ بحال الشاب في المراهقة، فإننا نجد فيه تغيرًا طبيعيًّا في الجسم والنفس، ولكن قد يقع هذا الشاب في العادة السرية، ثم يسرف في ممارستها، وعندئذ تتغير شخصيته تغيرًا مريضًا؛ لأنه يحب الوحدة ويستسلم طول نهاره وبعض ليله لخواطر جنسية تناسلية، ويبتعد عن الواقع، ويهمل واجباته، وقد ينتهي بالخيبة في المدرسة لهذا السبب، فهنا تغيرت الشخصية تغيرًا مريضًا، والشاب يحتاج في هذه الحال إلى أن نرده إلى الواقع، ونحبب هذا الواقع إليه ونخفف من صعوباته، ولن يكون هذا بالقسر، ولكن بإيجاد المغريات من ألعاب رياضية إلى ملاه سينمائية أو مسرحية، إلى تشجيع هواية ما قد يتعلق بها مثل ممارسة أحد الفنون.

وهكذا أيضًا الأم عقب زواج ابنها فإنها إذا كانت تعيش معها، تنقلب حماة تكره رؤية ابنها مع زوجته، فهي تدق الباب عليهما في الصباح وتنهر الزوجة وتعزو إليهما الإهمال وتشكو وتتأفف، والحقيقة أن هذه الأم كانت إلى يوم زواج ابنها تعده كأنه زوجها، وقد جاءت هذه الزوجة الجديدة ضرة لها، فهي تغار وتغتاظ، وهي أيضًا — مثل الشاب المراهق — في حاجة إلى مغريات أخرى تسري بها عن نفسها هذه الغيرة، فيجب أن نشجعها على الزيارات حتى تترك البيت بعض الوقت كل يوم، ويجب أن يُفتح البيت لزيارات الضيوف حتى تُشغل بهم عن غيرتها، ويخشى أنها إذا تركت في الأسابيع الأولى من ممارسة غيرتها أن يستقر لها أسلوب في المعاملة يصير نكد العائلة ونغاصتها، فلا بد من معالجتها منذ البداية مع تبصرة الابن والزوجة بالحال التي وقعت فيها هذه الأم الحماة، والحال المثلى هنا هي بالطبع انفصال الزوجة من الحماة.

وهناك تغير مريض آخر، هو بلوغ المرأة سن اليأس حوالي الثامنة والأربعين من عمرها، فإنها تنتقل من الشباب إلى الشيخوخة، وهي تجاهد لكي تستبقي شبابها وتجاهد في أسف وحزن، وهذا وحده يحدث تغيرًا نفسيًّا سيئًا، ولكن هناك ما هو أخطر من ذلك، وهو أن هذا الانتقال يرافقه تغير فسيولوجي في الجسم هو سبب لتغير سيكلوجي آخر، والنساء يختلفن في درجة هذا التغير، فهناك من لا تكاد تحسه، وهناك من تجن منه، وبين الحالين درجات متفاوتة، وهنا تتغير الشخصية، وتحتاج المرأة إلى عناية كبيرة لكي تجتاز هذا التطور في سلامة وصحة.

وكذلك الرجل له سن يأس أيضًا، ولكنها ليست واضحة الحدود كما هي الحال في المرأة، وهو أيضًا عرضة لتقلبات نفسية في هذا التغير، وقد يقع في زيغ جنسي، أو هو قد تنعكس حالته النفسية في عمله فيفشل أو يُهمل فيه؛ لأنه يحس أن رجولته قد وهنت، وأنه لذلك لم يعد كفئًا لأن يتولى عملًا مثمرًا ناجحًا، وهذا أيضًا في حاجة إلى علاج.

وفي هذه الحالات الثلاث نجد تغيرًا سيكلوجيًّا قد نشأ في الشاب المراهق، أو في الرجل أو المرأة في سن اليأس، هو نتيجة التغير الفسيولوجي في الجسم، وهو تغير يتم في سلامة وصحة في كثير من الناس ولكنه يعد مرضًا، بل أحيانًا مرضًا خطيرًا عند غيرهم، فيجب أن نتبين هذه الحالات ونُعالجها، وقيمة المعالجة هنا تتوقف على المبادرة؛ لأن السلوك الشاذ يستقر بالمدة الطويلة، ويعود من الشاق جدًّا أن نرد المريض إلى حاله السابقة السوية المتزنة.

وهناك أنواع أخرى من التغير، فإن الشاب الطيب قد تمرض شخصيته وينتهي إلى الإجرام، أو قد يتمذهب بمذهب جديد ليس عليه غبار، ولكن الدوافع الباطنة التي دفعته إلى هذا التغير كانت زائغة، أو هو قد ينتهي إلى الانتحار، وأعظم ما يبعث على هذه الحالات أن الواقع غير محبوب أو غير مطاق، فيجب أن نلتفت إلى الوسط الذي يعيش فيه هذا الذي تغيرت شخصيته تغيرًا مريضًا، ونعالج الشخص من هذه الناحية.

(٣) الشخصية بعد الخمسين

في أغلب الأحيان يعود جمال الشباب إلى الاتزان الجسمي، ولكن جمال الشيخوخة يعود إلى الاتزان النفسي، أو بكلمة أخرى نقول: إن جمال الشاب أو الفتاة هو جمال الجسم، في حين أن جمال الشيخ أو السيدة المسنة هو جمال النفس، وليس شك في أن الغدد الصماء تؤثر في نمو الجسم نحو الشيخوخة، ولكن الأسلوب النفسي الذي نتبعه في حياتنا مدة الشباب والكهولة، بل قبل ذلك مدة الصبا والطفولة يؤثر في الشيخوخة، فنحن نتعود منذ الصغر والشباب عادات جسمية في الابتسام والتقطيب، ونتخذ إيماءة الوقار أو حركة التهكم، فيثبت كل ذلك في شيخوختنا، وهناك عادات نفسية كذلك ترسخ في الشيخوخة، مثل: التفاؤل أو التشاؤم، والفكاهة أو الاغتمام، والتصرف بالهموم أو الانقياد لها.

والشخصية الحسنة بعد الخمسين هي تلك التي اتفقت فيها الإرادة مع الذكاء، واتسق لها أسلوب نفسي لا تتعارض فيه الشهوات مع الفعل، فالطموح ليس بعيدًا يتجاوز القدرة الذهنية والانفعالات البدائية قد اندغم بعضها في بعض فصارت ميولًا لا تتغير بسرعة، وعندئذ لا ننساق بعواطفنا المجردة من غضب أو سرور، بل نثبت على ميول بطيئة التأثير نستطيع في بطئها هذا أن نستشير العقل ونصل إلى التسوية أو الاتزان، وإذا كنا قد ربينا أنفسنا مدة الشباب، وإذا لم يكن حظنا سيئًا جدًّا في أيام الطفولة والصبا فإننا في شيخوختنا نجد أن الذكاء والإرادة والأخلاق — أي: العقل والعواطف — كلها متسقة.

وقبل نحو سنتين كتبت مقالًا في مجلة الشئون الاجتماعية عن الموظف في المعاش شرحت فيه ما يجب أن يعده أيام شبابه؛ لكي يهنأ بشيخوخته، والحق أن سني الشيخوخة في مصر ليست هنيئة، وذلك لعيوب كثيرة، وهذا الفصل عن الشخصية بعد الخمسين قد قصدت منه إلى إعدادي القارئ لهذه السنين حتى لا يجد شيخوخته خواء يجعله يسأم الحياة ويركد، ويكون بمثابة من مات ولما يدفن، وكثير من شيوخنا في هذه الحال السيئة.

وفي مصر يصل الشاب إلى الشيخوخة وهو متضخم ثقيل الجسم كثير الشحم، وبعض هذا التضخم يعود إلى المطبخ الذي لا يزال شرقيًّا يعتمد على الطعام الدسم، ولو أننا أصلحنا مطبخنا وامتنعنا عن اختزان السمن، لأصبحت مائدتنا أكثر ملاءمة للصحة وأحفظ للنحافة الصحية، ولكن بعض هذا التضخم يعود أيضًا إلى علل نفسية، ذلك أن الشاب لا يجد في حياته من المشاغل اللذيذة ما يملأ فراغه ويعبئ عواطفه وذهنه، فهو يسأم ويفر من السأم إلى لذة المائدة فيسمن.

والسمن في ظاهره دمامة بغيضة، وهو في باطنه أفدح؛ لأنه يهيئ الجسم لأمراض كثيرة في الشيخوخة، وإذا كانت الصحة أول شروط الحياة الهنيئة، فإن على الشاب الذي ينشد الشخصية الحسنة أو العالية مدة الشيخوخة أن يُعنَى بصحته ويتوقى التضخم، بل عليه أن يعرف السبب لسمنه؛ هل هو الطعام الدسم الوافر أو سأم النفس والرغبة المستمرة في لذة المائدة؟ وكلنا يعرف الفرق بين شخصية الشيخ المترهل الخامل، وبين ذلك الآخر النحيف اليقظ.

ومن السهل ألا نُبالي إغراء المائدة إذا كنا مدة الشباب نحتفظ باهتمامات نفسية وذهنية حسنة؛ لأننا بذلك نتجنب السأم، ونجد في هذه الاهتمامات ما يشغلنا عن لذة المائدة أو الخمر أو التدخين، وخير ما يشغلنا ويبقى لنا كبعض اهتماماتنا مدة الشيخوخة هو أن نجعل الثقافة عادة مدة الشباب، ذلك أننا إذا تعودنا القراءة والدرس عاشت معنا هذه العادة إلى الشيخوخة، ونمت بنمونا، وتفتحت أمامنا بها آفاق جديدة عامًا بعد آخر، وقيمة هذه العادة سلبية وإيجابية معًا؛ لأنها أولًا تكفنا عن عادات سيئة، وثانيًا تجعلنا نشتغل باهتمامات مختلفة، فقد كان جيته في الثمانين من عمره يشتهي أن يعيش خمسين سنة أخرى لكي يرى قناة السويس محفورة مسلوكة للسفن، وهذا الاهتمام بشئون العالم قد نشأ ونما عنده بالثقافة المتصلة، فاستطاع أن يحتفظ بشباب ذهنه إلى أن دخل في العقد التاسع من العمر، وكل منا قادر على ذلك إلى حد ما إذا هو استطاع أن يجعل القراءة والدرس عادته منذ الشباب، وأن يتخذ من درسه كفاحًا لخدمة البشر بمقاومة الاستعمار والاستبداد وتعميم الحرية والمساواة.

ولكن إذا لم تكن القراءة والدرس هوايتنا التي نصل بها إلى الشيخوخة، ونشتغل عن سبيلها بالسياسة والاجتماع والعلوم، فلا بد من هواية أخرى نتخذها مدة الشباب ولو كانت صناعة يدوية؛ لأننا على كل حال يجب أن نتجنب الركود وقضاء الوقت على القهوة في لعبة من لعب الحظ أو التطلع إلى السابلة أو القيل والقال؛ لأن هذا السلوك يشعرنا بخواء حياتنا، ويعجل وفاتنا النفسية والجسمية.

وعندي أن الثقافة هي خير الهوايات للشيخوخة، وهي وحدها التي نستطيع بها أن نصل إلى أعماق الدين، بل إني لا أكاد أعرف كيف أن يتدين الإنسان قبل الخمسين، وقبل أن تكون ثقافته قد انتقلت من طور التحليل والنقد إلى طور التأليف والبناء، ومتى صار لنا دين أصبحنا بشريين، وصار هذا العالم قريتنا الكبرى التي نجاهد فيها الظلمة أينما كانوا من أجل ترقيتها، وعندئذ نحس الإحساس الديني الذي أحسه جيته حين رغب في خمسين سنة أخرى بعد الثمانين؛ لكي يرى العالم موصولًا بقنوات تجعله قطرًا واحدًا.

ومن أعظم المقومات للشخصية بعد الخمسين أن يكون للإنسان نشاط اجتماعي يحمله على الاختلاط بالمجتمع، وعلى تحمل المسئوليات بالبر الاجتماعي، فإن هذا النشاط يشعره بالكرامة والمنفعة، وأن حياته ليست عبئًا عليه أو على المجتمع، وهذا الإحساس ضروري للصحة النفسية، بل للصحة الجسمية أيضًا؛ لأنه مرانة رياضية تنشط أجهزة الجسم.

وعلى كل رجل دخل في العقد السادس أو السابع من عمره ألا يستسلم لكلام من حوله بأنه ضعيف، وأنه يجب أن يستقيل من الحياة وشئونها كما استقال من الحرفة، فإنه إذا خضع لهذا الإيحاء فلن تمضي عليه سنوات بل أشهر حتى يجد أنه كتلة هامدة تعيش على ذكريات الماضي، ولا تتطلع إلى المستقبل، فواجبه هنا أن يرفض الاعتراف بالعجز.

وكل هذا الذي ذكرنا عن الرجل بعد الخمسين ينطبق أيضًا على المرأة بعد الخمسين، وللتلخيص نقول: إن الشخصية بعد الخمسين تحتاج إلى:
  • (١)

    أن يتعود الإنسان مدة الشباب عادة النحافة والصحة.

  • (٢)

    أن يتعود الإنسان مدة الشباب عادة الثقافة، وأن يكافح لتحقيق الخير.

  • (٣)

    إذا لم تكن الثقافة عادته فلتكن له هواية أخرى، ولكن الثقافة هي خير الهوايات للشيخوخة.

  • (٤)

    أي نشاط اجتماعي يجعله يتحمل مسئولية اجتماعية للبر والخير، والمسئولية — كما يجب ألا ينسى القارئ — هي فيتامين الشخصية.

(٤) الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية

في الجزء الأول من هذا الكتاب تحدثنا عن القواعد الوراثية للشخصية، وأشرنا بإيجاز إلى قيمة الغدد الصماء في صوغ الشخصية، وقلنا: إن معارفنا الضئيلة عن هذه الغدد تجعلنا نترك هذا الموضوع للمستقبل، فإن موضوع الغدد الصماء من أخصب الموضوعات الطبية في عصرنا، ولكن خصوبته واعدة أكثر مما هي ناجزة، والشخصية هي ثمرة الوسط والمجتمع والمجهود الفردي (الذي هو أيضًا ثمرة الوسط والمجتمع) أكثر مما هي ثمر الوراثة، ما دمنا نتحدث عن الشخصية السوية؛ أي: الشخصية المألوفة في أوساطنا الاجتماعية، بل ربما يكون للوسط الاجتماعي نحو ٩٠ أو ٨٥ في المئة من تكوين الشخصية السوية، ولا يكون للوراثة سوى ١٠ أو ٥ في المئة.

ولكن مع ذلك يبدو من الأبحاث السيكلوجية الحديثة التي قام بها يونج وكرتشمر أن هناك مكانًا للوراثة يستحق الدرس، وأنه يمكن الاعتماد على هذه الأبحاث إلى حد ما في دراسة الشخصية.

فإن يونج يجد أن هناك طرازين من الشخصية أحدهما الطراز الانطوائي والآخر هو الطراز الانبساطي؛ أي: أن هناك أشخاصًا ينطوون على أنفسهم ويتسمون بمزاج انفرادي، يكرهون الاختلاط أو مباشرة الأعمال التي تحتاج إلى التدخل والتعارف الاجتماعيين، وهم قليلو الكلام يرتاحون إلى أنفسهم حين يفكرون في عزلة أو ينساقون لخواطرهم، والانطوائي يُحسن الأعمال والواجبات التي تحتاج إلى التدبير والتفكير، وهو لا يتفتح للفكاهة، ولا يسرف في السرور.

ولكن الطراز الانبساطي يختلف؛ لأنه يهنأ بالاختلاط، ويجد جنته في المجتمع، ويُقبل على كل نشاط يحمله على التعارف، وهو محدث مسامر يفاكه ويضحك، ويسهل عليه أن ينتصر في الحب والصداقة، وهو ينبسط وينكشف ويفر من العزلة، بل حتى دراسته تتجه اتجاهًا اجتماعيًّا.

وليس الفرق بين الانطوائي والانبساطي في الذكاء، فإنهما قد يتساويان ويتفاوتان، ولكنهما يفترقان في المزاج وبناء الشخصية والاتجاه الاجتماعي.

وقد زاد كرتشمر هذا الموضوع إيضاحًا، فإنه يجد ثلاثة أطرزة جسمية تدل على ثلاثة أطرزة نفسية:
  • (١)

    الطراز الأستيني: أي ذلك الشخص النحيف الذي لا يسمن مهما التهم من طعام، وهو يعيش مدى عمره نحيفًا مديد القامة معروق الوجه له رأس مستطيل أو كالمستطيل، وهو الانطوائي عند يونج.

  • (٢)

    الطراز البكني: وهو القصير، أو بالأحرى الممتلئ المكلثم، الذي يكثر اللحم على وجهه وله رأس مستدير أو كالمستدير، وهو ينزع إلى التجهم والاستكراش، وهو عند يونج الانبساطي.

  • (٣)

    الطراز الثالث هو الرياضي: أي ذلك الذي تنمو عظامه ويتسم بالقوة العضلية.

ويهمنا في هذا الفصل الطرازان الأولان؛ لأن اختلافهما الواضح يُحدث اختلافًا واضحًا أيضًا في شخصيتهما، فالشاب الانطوائي تعرفه بسمات جسمية في النحافة والطول، وبسمات نفسية في النفور من الاجتماع، وهو حيي كثيرًا ما يقع في الخجل، وكثيرًا ما يسيء السلوك الاجتماعي، يُخاصم ولا يُصالح، ومثل هذا الشاب لا ينجح كثيرًا في كسب الفتاة إلا إذا كانت انطوائية مثله، وهو لهذا السبب يتأخر في الزواج، وإذا ساء حظه واقتضاه عيشه إلى أن يُؤدي واجبات اجتماعية فإنه لن ينجح فيها النجاح الكامل، وهناك أعمال اجتماعية كثيرة مثل: التجارة تحتاج إلى المزاج الانبساطي.

وهذا المزاج الانبساطي نعرفه في بيئاتنا الاجتماعية بذلك الشاب السمين أو كالسمين المستكرش الذي يفاكه ويتحدث كأنه ثرثار، وهو لا يطيق الانفراد، وهو كثير النكتة يحب الفكاهة والضحك، وهو أنيس مباسط مصالح، بل خير قوين وقت اجتماعات البهجة، وهو بالطبع يُحسن الأعمال التي تحتاج إلى اجتماع، والواقع أن لكل من المزاجين فضائله ورذائله.

ويمكننا أن نتعرف إلى هذين الطرازين في مجتمعاتنا العامة، ومن الحسن أن يعرف كل شاب إلى أي الطرازين ينتسب، حتى يختار العمل الذي يليق لمزاجه الذي يبدو من الأبحات الحديثة أنه موروث، بل من الحسن أن يعرف هذا حتى بعد اختيار العمل؛ لأنه عندئذ يمكنه أن يقف على علة خيبته ويعالجها على قدر ما يسمح له به مزاجه، أو يختار هواية تتفق وهذا المزاج حتى لا يبقى متعبًا كارهًا لعمله؛ لأن الهواية عندئذ تصرف نشاطه المكتوم إلى شيء محبب إلى نفسه.

ومن المستحيل أن نحيل الانبساطي إلى انطوائي أو العكس، ولكن التعرف إلى الداء هو بعض الدواء، ويستطيع الآباء أن يتقوا أخطار المستقبل بأن ينظروا إلى أولادهم، فإذا كان الشاب كثير اللحم له ميل إلى السمن أو الاستكراش يحب الفكاهة والاجتماع؛ فإنه يجب أن يوجهوه إلى عمل اجتماعي حيث يجد هناءته في الاجتماع، وإذا كان نحيفًا يُحب الانفراد والدرس، ويخجل ولا يحسن الاختلاط بالجنس الآخر أو بجنسه، فإنه يجب أن يختاروا له عملًا لا يحتاج للنجاح فيه إلى اختلاط دائم.

ولكن مع كل هذا الذي قلنا يجب أن ندرب الانطوائي على أن يكون انبساطيًّا إلى حد ما، والعكس كذلك؛ لأننا لا نعرف الظروف المستقبلة كيف تكون.

(٥) الشخصية القلقة وكيف تغير

في فصول سابقة تحدثنا عن الشخصية المريضة وكيف تغير، وعن العقبات الأصلية في المجتمع الحاضر، وهي التي تحول دون نمو الشخصية إلى الخصوبة والسمو.

ونحتاج إلى زيادة في البسط لهذا الموضوع حتى يقف القارئ على معظم هذه العقبات، ويتفادى منها أو يعالجها بعد الاصطدام بها.

وأكبر عقبة لنمو الشخصية هو القلق، ونعني هنا القلق الخطير وليس ذلك القلق الخفيف الذي نترجمه بالاهتمام، ويعد ضروريًّا للرقي؛ لأنه يشعرنا بالنقص ويحفزنا على النشاط، وحياة بلا اهتمامات هي حياة راكدة آسنة لا يمكن أن تنكشف عن شخصية نامية سامية، ولكن إذا كان القلق هَمًّا نجتره في الصباح والمساء ونشهد له؛ فإنه عندئذ يفتت قوانًا حتى لا نكاد نتوفر على أي مجهود يرقينا، ويجب أن نعرف هنا أن الهم لا يحل مشكلة ما؛ لأنه اجترار نفسي لا يجدي.

وفي هذا الحال؛ أي: عندما نجد أننا نستهلك الوقت بالاجترار في مشكلة ما يجب أن نلجأ إلى صديق، ونبسط له هذه المشكلة؛ لكي يحلها هو بوصف أنه أجنبي عنها، كما يفعل الطبيب حين يمرض، فإنه لا يشخص لنفسه الداء ولا يصف الدواء، بل يتركهما لغيره، ولكن إذا كان هذا متعذرًا فعليه أن يشرح المشكلة كتابة في إسهاب، ثم يضع لها الحلول كتابة أيضًا ويختار أحسنها.

وفي مجتمعنا الحاضر يجب أن نقلق؛ لأنه يحملنا جميعًا على المباراة الاقتصادية، ويجعلنا عرضة للتعطل والمرض والفاقة والحرمان والحرب، ويجب أن يكون الإنسان جمادًا؛ لكي لا يقلق في مثل هذا المجتمع، والرجل المتعطل مثلًا يجب أن يحس قلقًا خطيرًا، ولن ينجع فيه النصيحة بأن يحيل مشكلته على أي إنسان آخر؛ لأن التعطل أصيل في المباواة الاقتصادية، والعلاج الصحيح هو إحالة هذه المباراة إلى تعاون.

ولكن هناك صنوفًا أخرى من القلق يمكننا أن نعالجها حتى في مجتمعنا الحاضر، وقد مر بالقارئ بعضها في هذا الكتاب، ولكن في إعادتها تأكيد لقيمتها في صحة الشخصية أو مرضها.

فالشخصية الحسنة لا تتلاءم مع القلق الذي ينشأ في التشطط في المطامع، وخاصة المطامع المالية؛ لأن انحصار النشاط في غاية معينة يجعلنا أسرى لهذه الغاية، فلا تجد الشخصية غذاءها للنمو الصحي والثقافي والاجتماعي والروحي، وأعظم المطامع التي تؤذي من ناحية تكوين الشخصية هي — كما قلنا — المطامع المالية، وهذه الظاهرة واضحة في كثير من الناس نجد أحدهم شحيحًا خائفًا مجدًا مثابرًا على العمل كأنه العبد المسخر، يبخل على نفسه وأهله؛ لأنه منهمك في اقتناء المال، وهو قلق، يتفاوت قلقه بين الهم المطبق والنيوروز المرهق.

وعكس هذه الحال نجده في الكساد النفسي، حين تركد النفس وتحجم عن الطموح، فلا تكون هناك رغبة في التوسع سواء أكان ماليًّا أم غير مالي، وبالطبع لا تنمو الشخصية مع هذه الحال.

وعلاج هاتين الحالتين هو التوسط، فلا شطط ولا ركود، أما الاختناق الاقتصادي الذي يؤدي إلى التعطل، وكذلك الاختناق الجنسي الذي يحول دون الزواج؛ فكلاهما عائق عن نمو الشخصية، بل كلاهما يدفع إلى الإجرام أو الرذيلة، والمجتمع الحاضر هو المسئول وحده عن هذا النظام، والنصح للفرد بأن يعالج هذه الحال بكيت وكيت هو كلام سخيف عقيم.

ونحن في هذا الكتاب لم نفرض المستحيل بالدعوة بأنه يمكن أن يكون لكل إنسان شخصية نامية راقية، فإن العيب الأصيل في المجتمع، وهو المباراة الاقتصادية، يحول عند آلاف من الشبان والفتيات دون صوغ الشخصية السامية، والواجب الديني على كل إنسان بار أن يغير هذا المجتمع إلى نظام التعاون.

وقصارى ما نستطيعه هنا أن ندعو القارئ الذي يحس قلقًا أن يتعرف إلى عقله الباطن، ويبرز شهواته ورغباته الخفية، ويسلم لها ببعض الشيء، حتى يخف الكظم، كما أنه يتجنب الكساد الذهني والنفسي بأن ينشط إلى تحقيق رغباته الذهنية والنفسية.

وفي حياة كل منا تمر أوقات يعد بعضها نقطة طورية؛ أي: أننا ننتقل فيها من طور إلى طور فتتغير شخصيتنا، فيجب أن نرضي هذا التطور ونتغير بلباقة وخفة، فالمراهقة مثلًا نقطة طورية خطيرة، وكذلك سن اليأس في الرجل والمرأة معًا، بل كذلك — في مصر — لقاء الزوجة بالحماة واضطرارها إلى معاشرتها، وأحيانًا لقاؤها بالضرة.

فجميع هذه الحالات تطالبنا بالتكيف الصحيح السليم، وهي بالطبع تبعث فينا قلقًا نتخطاه في سهولة أو نقع فريسة له، فيجب أن ندرس هذه الحالات جيمعها ونستعد فيها للتغير.

والقارئ الذي هضم الفصول السابقة يعرف أننا نُكبِّر من قيمة المسئولية في تكوين الشخصية، وكذلك الدراسة، ورسم المثليات، والانضمام إلى فريق يدافع عن قضية عادلة، وكذلك أوضحنا قيمة الهواية، وهذه جميعها تُخفف القلق، وتسري عنا الهموم الأصيله في مجتمعنا بعض الشيء؛ فيجب أن تكون جميع هذه الأشياء العلاج الإيجابي لتغيير الشخصية القلقة.

(٦) تلخيص

هذا الجزء الأخير قد خصصناه لتغيير الشخصية، فبينا في الفصل الأول أن التغير السليم للشخصية يحدث كجزء من طبيعتنا، وأن في عمر الإنسان نقط؛ أي: أوقات، ينتقل فيها من طور إلى طور، وأنه ما دامت الظروف حسنة فإن التغير يتم بلا ضرر أو خطر، ثم خصصنا فصلًا آخر للتغير المريض للشخصية، وكيف يمكن أن نتقيه ونعالجه، ثم تحدثنا عن الشخصية بعد الخمسين، وكيف يجب أن نستعد للشيخوخة حتى تكون حياتنا في هذه السن خصبة نافعة، وبينا بعد ذلك الصعوبة الأصيلة في طرازين مختلفين هما الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية، والفصل الأخير هو محاولة لمعالجة القلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤