الفصل السابع

خاتمة

الشخصية الجديدة للقرن العشرين

ليس هذا الفصل للمتواضعين ولا للقانعين، وإنما هو لأولئك الذين أدركهم روح العصر فأحسوا ناره ونوره، وهم لا يشبعهم حديثنا عن قيمة الملابس أو اللغة أو الهواية في تكوين الشخصية، بل يطلبون أكثر من ذلك.

وليس هناك قواعد مطلقة للشخصية تليق لجميع العصور، فنحن والعالم في تغير؛ لأن الإنسان ليس كائنًا وإنما صائر، والفلسفة الجديدة تدعونا إلى الإيمان بالصيرورة دون الكينونة، وما دامت الشخصية تنمو وتزكو بمقدار ما تتحمل من مسئوليات؛ فإن ممشكلات العالم التي تحدث هذه المسئوليات دائمة التغير، وهي لذلك تتطلب مسئوليات جديدة، وتقتضي شخصيات جديدة.

والشخصية الجليلة في عصرنا هي التي تتسم بالعقل العام فهي ليست شخصية قروية في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو العلم، نعني أن الذهن ليس محدودًا والنشاط ليس مقيدًا بسياسة القطر الذي نعيش فيه، ولا بقواعده الاجتماعية أو الاقتصادية، وأننا لنرى حتى في عصرنا علماء قرويين في أسلوبهم، يتخصصون تخصصًا أعمى، ويرفضون بحث الميادين العلمية التي لا تمت إلى موضوع تخصصهم، وليس لهؤلاء شخصيات مثلى.

فالشخصية الجديدة للقرن العشرين هي الشخصية العالمية، شخصية الشاب الذي يدرس مشكلات الولايات المتحدة والصين وألمانيا وروسيا وجاوه والهند وكينيا، كما يدرس مشكلات مصر؛ لأنه قد ربَّى نفسه حتى صار هذا العالم — عقلًا وعاطفة — وطنه.

وقد قلنا: «إنه قد ربَّى نفسه» والتربية الحقيقية لا تبدأ بالمدرسة ولا بالجامعة، وإنما هي تبدأ حين نشرع نحن في تربية أنفسنا؛ لأنها تصير عندئذ عضوية تسد نقصًا أو تتم وظيفة في النفس؛ لأننا حين نُربِّي أنفسنا نتحسس الدراسة بمقدار حاجتنا النفسية، كما نطلب الطعام بمقدار جوعنا، وإذا كان روح العصر ليس بعيدًا فإننا ننساق في تياره فنصبح عالميين.

وهذه العالمية تكسبنا الدين البشري الذي يحملنا على احترام الإنسان أينما كان، وعلى أن سعادته هي الغاية الأخيرة لكل رجل نبيل الذهن والقلب، وهو دين ينأى عن الغيبيات الصبيانية التي كان يؤمن بها الإنسان أيام الفراعنة والبابليين.

ومتى نضجت الشخصية العالمية فإن التدين البشري يصير ألمع صفاتها، يغمر جميع نشاطنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي؛ أي: أننا لا ننشط لعمل ولا نبذل أي مجهود إلا ولنا هدف واحد؛ هو الخدمة البشرية في وطن الإنسان، هذه الدنيا.

وعندئذ لن تصير الثقافة تسلية أو لهوًا، بل مجهودًا نجمع به المعارف كي نصلح به الدنيا، فالمعارف أدوات كفاحية غايتها تغيير هذا العالم الآسن الحافل بحشرات الاستبداد والثراء، وهي حشرات تفشي بيننا الفاقة والمرض والحرمان والجهل.

وهذه الثقافة هي التي تجعل كلامنا فنانًا وعالمًا وفيلسوفًا؛ لأن الفن والعلم والفلسفة هي جميعها بعض ما تتطلبه المسئوليات الجسيمة التي تتسم بها الشخصية الجديدة للقرن العشرين، فيجب على كل منا أن يكون موسوعي الذهن، يدرس جميع المعارف التي يحتاج الرقي البشري إليها، وليس هذا بالشاق على متوسط الذكاء فضلًا عن الذكي، وهذا يعني في النهاية أن يعيش كل منا طيلة عمره طالبًا دارسًا، ومتى وصلنا إلى هذه الدرجة فإن الفن عندئذ لن يكون محدودًا في قاعات نُسميها متاحف، بل هو ينتقل إلى لباب شخصياتنا كما إلى شوارع المدينة وجدران المنزل، والأسلوب الفني لن يقتصر عندئذ على الكتابة أو الرسم أو النحت، بل هو ينتقل إلى الحياة حين نعيش المعيشة الفنية التي تزكو بها الشخصية.

والشخصية الجديدة للقرن العشرين هي الشخصية الإيجابية الكفاحية التي تُجيب على أسئلة الحياة ومشكلاتها بنعم وليس بلا؛ أي: أنها تعمل وتبني، ولكنها مع ذلك قادرة على أن تنقض وتهدم، فيجب أن نبني الصحة والمعرفة والفن والرخاء، ولكن يجب أن نقف في وجه الظلمة شجعانًا قادرين على أن نهدم التزاويق الغالية التي تكلف مجتمعنا أعباء ثقيلة بلا أية فائدة للشعب، وكل ما يقال عنها تقاليد عريقة، وهي حقًّا تقاليد، ولكن ليس لرفعة الشعب بل لدوسه.

والشخصية الناضجة للقرن العشرين هي جماع الشجاعة والثقافة، هي شخصية الثورة الهادمة البانية، فإننا قد بلغنا نقطة طورية في تاريخ البشرية هي الانتقال من نظام المباراة الذي يحطم كفاءتنا ويهدم شخصياتنا إلى نظام التعاون الذي يبنيهما، وعلى الرجل الجديد أن يتحمل مسئوليات هذه الشخصية الجديدة.

والرجل الجديد هو الذي يحيا الحياة الابتكارية بدلًا من الحياة الأسلوبية، وهو الذي يحترف المجد ويمارس الشجاعة مع القداسة، وهو الشخص المتطور في الأمة المتطورة، وهو الذي يحس أن العالم في ارتباطه الجديد لا يحتاج إلى زعيم؛ لأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة لا تطلب زعيمًا للأمة أو زعماء أو ملوكًا أو أمراء، وإنما تطلب الديمقراطية الكاملة ليس في السياسة وحدها، ولكن في الثراء والتعلم والثقافة والفن والأدب، فهو يسعى لهذه العالمية، ويتصرف التصرف البشري العالمي، ولا يقتصر على التصرف الوطني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤