الفصل الثالث عشر

تسلَّل فصل الصيف إلى إسطنبول تحت غطاء أمطار منتصف النهار، واتخذ مستقرًّا له بالقرب من قواعد جسر جالاتا، ثم اندفع في المدينة ككلب ضالٍّ. ظلَّ الفصل الجديد يدخل الممرات الضيقة ويخرج منها، وأعلن عن نفسه بوضوحٍ في عِناد ذبابة الفاكهة وهي تَحُوم حول جبلٍ من ثمار التين، وفي نبرة المؤذن ذات الثقة المُتزايِدة، وفي حدَّة الطبع المتزايِدة لأصحاب المتاجر في السوق التجارية. تفتَّحت براعم الأشجار وأزهرت وأثمرت، بينما امتلأ المضيق بالطيور المهاجرة، واحتشدت مَوْجة تِلْو الأخرى من الصقور واللقالق وطيور السنونو وغربان البحر في أسراب فوق البوسفور في طريقها إلى أماكن التكاثر في أوروبا. كان بوسع المرء أن يتبيَّن قُدُوم الصيف في رائحة شراب الكَرَز الدبق والحمام المشوي وثمار السفرجل الفاسدة. كما لو كان جلدًا مدبوغًا حديثًا يتم شده أكثر فأكثر، كان كلُّ نهار يزداد طولًا عن النهار السابق بفارق ضئيل، وكل صباح يأتي مبكرًا أكثر، ووطيس الشمس يصير أقوى.

حدَّقت إلينورا إلى تلك الممرات المائية البطيئة في تدفُّقها، فشاهدت مجموعة من الصقور التي يعلو رقبتَها ريشٌ أبيض تمتطي عصفات غير مرئية من الهواء الدافئ كما لو كانت مطبَّات في الطريق. ورأت هجمةً من الحِدْآن السوداء في الاتجاه بين قباب مسجد السليمانية، وحصارًا من طيور البلشون ذات الأعناق الشبيهة بالثعبان، التي تبسط أجنحتها على مداها كقوارب التجديف بالأسفل. كانت قد اكتشفت في ذلك الصباح في المواضع الخلفية من مكتبة البِك نسخةً مُغلَّفة بجلد العجل من كتاب «عن التاريخ الطبيعي وتصنيف الطيور» لويليام سوينسون. وعندما طابقت صورَ الكتاب بما رأته خارج النافذة، تمكَّنت من التعرُّف على الصقور والحِدْآن وطيور البلشون، بالإضافة إلى مجموعة من النسور ذات الذيول البيضاء، وصقر شاهين وحيد يحمل طائرًا بحريًّا في مخالبه.

بينما هدأت الشمس وانحدرت وسط الأشجار خلف أوسكادار، لمحت إلينورا وميضًا أُرْجوانيًّا بطرف عينها، وحطَّ هدهد أُرْجواني اللون ذو تاج من الريش المُخطَّط بالأبيض على حافة نافذتها. أمال الطائر رأسه إلى اليسار كما لو كان يشير إلى نقطة مهمة، وراقبتْ سِرْبها وهو يظهر حول انحناء القرن الذهبي. وبينما كانت أفراد السِّرْب تتوجَّه نحوها وهي تحلِّق وتنطلق عبر السماء التي يُراوِح لونُها بين البرتقالي والرمادي، شعرت إلينورا بشيء ينهار داخلها، كما لو كان تيارًا جليديَّا يتحطَّم. وعندما فتحت النافذة، حلَّق المستكشِف كي ينضمَّ إلى إخوته.

دفعت إلينورا خُصْلة من شعرها بعيدًا عن عينَيْها، واستندت بمِرْفَقَيها إلى حافة النافذة، وراقبت الغَسَق وهو ينتشر أسفل منها. كانت المدينة ذلك المساء مَشحُونة بالطاقة التي تنبعث من هدف جديد؛ فبدلًا من أن تهدأ حركة السفن مع غروب الشمس — كما تفعل غالبًا — بدا أنها تزيد، وبدا المسافرون متلهِّفين على الوصول إلى وجهتهم، ولاحظت فريقًا من الرجال يعلِّقون المصابيح بين مآذن المسجد الجديد، ورست سلسلة من الزوارق البخارية بامتداد بيشكطاش بير. وعندما لمست الشمس قاع الأفق كانت المدينة قد أصبحت خالية، وتوقَّفت حركة السفن في البوسفور، وخلت الطُّرُق من العربات. صمت الباعة الجائلون، ولم تسمع صوتًا سوى ثُغاء خروف مقيَّد خارج مسجد بيشكطاش. وعندما هرب آخر ضوء للنهار أسفل منحنى الأفق فَوْر اختفاء الشمس، انطلق صوت مِدْفعٍ بالقرب من قصر توب كابي. سقطت إلينورا على الأرض خائفة، وغطَّت رأسها بيدَيْها وهي تقاوم أسفل مكتبها. فإذا كان ثمة المزيد من المدافع أو ثمة حرب، فهي ترغب في الشعور بأقصى قَدْر من الأمان.

كانت في نفس الوضع عندما أتى السيد كروم إلى غرفتها حاملًا العشاء.

سألها وهو يضع الصينية على المائدة الصغيرة المجاوِرة لفراشها: «هل كلُّ شيء على ما يرام؟»

مدَّت إلينورا يدها لأعلى، وأخرجت قطعة من الورق من الدرج العلوي، ثم كتبت:

«المِدْفع.»

فكَتَمَ السيد كروم ابتسامة.

قال وهو يساعدها في النهوض: «إن طلقةَ المِدْفع علامةٌ على انتهاء فترة الصيام؛ فاليوم هو الأول من رمضان. ألستِ تعلمين ذلك؟»

فهزَّت إلينورا رأسها. كانت تعلم بأمر رمضان؛ الصيام نهارًا والوجبات الفاخرة ليلًا، ولكنها لم تسمع قطُّ عن استخدام مِدْفع علامةً على انتهاء فترة الصيام، فمَنْ تبقَّى من المسلمين في كونستانتسا كانوا يُعيِّنون رجلًا صالحًا يطوف بالمدينة وهو يقرع طَبْلة كبيرة الحجم.

فقال السيد كروم وهو يتَّكِئ على النافذة المفتوحة ويحدِّق إلى الزوارق البخارية: «حسنًا، سوف تستمتعين برؤية الألعاب النارية.»

تناولت إلينورا حَساء العدس وهي تجلس وحيدة على مكتبها وتشاهد النجوم وهي تُضِيء الظلام الخالي كما لو كانت شموعًا صامتة. ظلَّت إسطنبول صامتة طوال الفترة التي تناولت فيها عشاءها، ثم دبَّت فيها الحياة فجأةً بينما كانت تتناول فطيرة التمر. أُضِيئت المصابيح المعلَّقة بين مآذن المسجد الجديد حيث رُسِمت عبارة «رمضان كريم»، ونصبَ باعة المشروبات وقارئو البخت المقاعد بامتداد المياه، ونُصِبت خيامٌ ذات قماش أزرق وأحمر في ساحة كلِّ مساجد الحي، وامتلأت الشوارع بالأطفال الصغار وذويهم والأعمام وأبناء الأعمام والأولاد الأكبر سنًّا حاملين حقائب مُهترِئة يشقُّون طريقهم وسط الحشود. وانطلقت أول مجموعة من الألعاب النارية مع صوت مُواء قطة، وكانت ذات ضوء أخضر، ثم انطلقت مجموعة أخرى بيضاء اللون، فأطلقت الحشود هتافًا فَرِحًا. وانطلقت من الزوارق البخارية أسفل نافذة إلينورا صواريخ حمراء وزرقاء وخضراء وبيضاء، فأضاءت سماء ليل رمضان بوَمِيض دُخاني، واستمرت الاحتفالات حتى الفجر.

لم تعلم إلينورا ما إذا كان الأمر هو مرأى سِرْبها في ذلك المساء أو بداية الصيف أو قدوم شهر رمضان أو شيء آخر مختلف تمامًا؛ كل ما أدركته أنها يراودها شعور مختلف. وقفت أمام خِزانة ملابسها في الصباح التالي، ولمست أحد ألواح الأرض المكشوفة بطرف أصبع قدمها الكبيرة فارتجفت. كانت قد استيقظت متأخِّرة وما زال النوم يداعب عينَيْها، ولكنها لم تستطع أن تنكر أن شيئًا ما بداخلها قد تغيَّر. كان بحر الجليد يتفتَّت. ارتدت ثوبها الأُرْجواني الشاحب المُفضَّل وزوجًا ملائمًا من الأحذية، ثم استدارت كي تنظر إلى نفسها في المرآة. لا يمكنها إحكام ظهر الثوب بدون مساعدة السيدة داماكان، ولكنها هبطت الدَّرَج رغم ذلك. كان ثمة شيء تنوي مطالبة مُنصِف بِك بفعله الآن قبل أن تخونها جرأتها.

«صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»

كان البِك قد بدأ بالفعل في تناول إفطاره، وكان يضع مربى الكَرَز على قطعة من الخبز.

فكتبت على قصاصة من الورق: «صباح الخير.» ثم توقَّفت للحظة ونظرت إليه، ثم تابعت: «مُنصِف بِك، هل يمكنني أن أذهب معك اليوم إلى بيرا؟ أعدك أنني لن أسبِّب إزعاجًا.»

فضاقت عيناه ووضع السكين المغطَّى بالمربى على حافة طَبَقه.

وأجاب: «بالطبع، على الرُّحْب والسَّعَة. لستِ مصدر إزعاج أبدًا، ولكنني أخشى أن تشعري بالمَلَل فحسب.»

لن أشعر بالملل على الإطلاق، وسوف أظلُّ هادئة تمامًا.

فأمسك البِك بالسكين مرة أخرى ودهنَ ما تبقَّى من المربى على حافة الخبز، ثم قطع شريحة من الجبن الأبيض.

قال: «حسنًا، ولكن عليكِ أن تعديني بأن تظلِّي هادئة تمامًا.»

فهزَّت رأسها بالموافقة، واستدار البِك إلى السيد كروم.

«أخبِرْ عمَّال الإسطبل أن يعدُّوا العربة، فسوف تكون الآنسة كوهين في صُحْبتي.»

فأجاب كبير الخدم وهو ينحني خارجًا من الغرفة: «حسنًا يا سيدي.»

وقبل أن يغيِّر أيٌّ منهما رأيه، وجدت إلينورا نفسها جالسة في عربة البِك تشاهد العالم وهو يمرُّ عبر الحاجز الشبكي. وبينما تراجعَ اللون الأصفر المميِّز لمنزله خلف مسجد بيشكطاش، شعرت كما لو كان حبلًا داخلها يُشَد ثم ينقطع. لقد خرجت، والهواء البارد يداعب جبهتها، ورائحة البوسفور المالحة الحادَّة تملأ أنفها، والزهور البرية الأُرْجوانية تصطفُّ على حافة الطريق، والسُّحب في السماء بيضاء كحلوى القطن. طوت يديها في حِجْرها وهي تتابع المساجد والمباني المحلِّية والقصور والنوافير وأشجار الدُّلْب والصيادين، ومرَّا بحمار يجرُّ عربة مُحمَّلة بتلال من فاكهة البَشْمَلة البرتقالية اللامعة، ومجموعة من خيام رمضان، ومُخلَّفات احتفالات الليلة الماضية. ألقت إلينورا نظرةً على يديها، على راحتيها المفتوحتين، وغطَّت بهما وجهها ثم استنشقت رائحة الصابون الهادئة.

قال البِك والعربة تتوقَّف: «علينا أن نترجَّل هنا؛ فالشوارع بعد ذلك شديدة الانحدار.»

كانت محطَّة القطار الجبلي المائل بجالاتا على بُعْد بضع خطوات فحسب من مكان توقُّف العربة. وقفت السيدات الأوروبيات والحمَّالون التابعون لهم ومجموعة من الرجال المُرتَدِين زيًّا موحَّدًا في مجموعات من شخصين أو ثلاثة مُستظلِّين بكهف مَطْليٍّ بالذهب مكسوٍّ بالقِرْمَيد الوردي والأصفر. وكان المسافرون يختلسون النظر كلَّ فترة إلى الكهف المُظلِم الذي سيظهر منه قِطارهم، متحدِّثين بصوت خافت، ويراقب بعضهم بعضًا بارتياب. وبعد مرور بضع دقائق، ظهر مصباح غازٍ في الحافة العلوية للنَّفَق. وبصيحة من صفير الهواء المضغوط، توقَّفت العربة المَطليَّة باللون الأحمر أمامهما، فرَكِبَا في العربة الأمامية. ورغم أن إلينورا لم تستطع أن ترى سوى القليل في الظلام، فقد ظلَّت طوال الطريق تلصق أنفها بالزجاج، محاوِلةً قدْر جهدها أن تتبيَّن ما يُوجَد أمامهما.

وعندما توقَّف القطار الجبلي المائل، أعلن البِك: «لقد وصلنا»، وتوجَّهوا في طابور إلى خارج المحطة.

كانت بيرا كما تَذْكُرها إلينورا بالضبط؛ فالأَرْوِقة مكسوَّة بلافتات مَطلِيَّة من القماش، وتسابقت نوافذ المحلات في الإعلان عن البضائع الصيفية الجديدة، والسيدات الأنيقات يتهادَيْنَ في سَيْرهن في الطريق مُرتَدِيات ثيابهن الأنيقة ذات اللون العاجيِّ. شعرت كما لو كانت تطفو أخيرًا على السطح بعد الغطس لفترة طويلة، كما لو كانت تخرج من أعماق نفسها الصامتة الرقيقة إلى عالَم تستشعر حرارته ومذاقه المالح. وبينما كانت تقف عند أسفل لو جراند رو دو بيرا تتأمله بعينيها، شعرت بثقل حُزْن جديد يسْحَقُها؛ كانت تقف مع والدها منذ بضعة أشهر في نفس هذا المكان، كان يمسك بيدها ويسير معها أعلى الطريق. تجمَّعت الدموع في عينيها وهي تتذكَّر رائحته، والشعور براحة يده خلف عنقها. وقفت هي والبِك صامتَيْنِ للحظة، وبعدها مسحت إلينورا دموعها بطرف كُمِّها. قدم لها البِك أصبعين، فأمسكت بهما وسارا معًا أعلى الطريق مُتجهَيْنِ إلى مقهى أوروبا.

أمسك البِك الأبواب الحمراء المزدوجة لها، وقادها عبر غرفة المقهى الرئيسة المزدحمة التي تملؤها سحب الدُّخان، وخرجا من الباب الخلفي، ثم هبطا دَرَجًا خشبيًّا منحدِرًا إلى رقعة مرصوفة من أوراق الشجر يُطلَق عليها الحديقة الخلفية. وبينما كانا يهبطان، لاحظت إلينورا قِطَعًا من القماش الأخضر والأبيض تتدلَّى من الدرابزين، ربما كانت البقايا المتناثِرة لأحد احتفالات رمضان. كان عجوزان ذاوِيان يرتديان الطربوش يدخِّنان النارجيل تحت شجرة لوز، وأسفل الدَّرَج مباشرةً جلس شابٌّ أوروبي يرتدي نظارة يقرأ الجريدة، بينما رفيقه يدوِّن ملاحظاتٍ في كتاب صغير. اختار البِك مائدةً بالقرب من مؤخِّرة الحديقة بجوار مِغْطسٍ خالٍ للطيور، وطلبا من النَّادل فنجانين من الشاي وقطعة من الكعك المُحلَّى. وعندما انصرف النَّادل، اقترب الشابُّ الذي كان يدوِّن ملاحظاتٍ من مائدتهما حاملًا لَوْح نَرْدٍ تحت ذراعه. كان رجلًا نحيلًا عصبيًّا، يرتدي سترة زرقاء قصيرة وسروالًا رماديًّا فاتحًا وقبعة تدخين مُخْملية مُزيَّنة بأزهار صغيرة. لم تتمكَّن إلينورا من تحديد لهجته بالضبط، ولكنها كانت قريبة من القوقاز. وبعد أن تبادل تحيَّاتٍ قصيرة مع البِك، جذب مقعدًا وأخذ يُعِد اللوح، وفي تلك الأثناء قفز قطٌّ ناصع البياض ذو عين زرقاء وعين صفراء في حِجْره، فداعبه وهو شارد الذهن بيد واحدة واستمرَّت الأخرى تُعِد اللعبة.

حدَّقت إلينورا إلى عينَي القط غير المتجانستين على نحو غريب، وجلست على يديها حتى غاص المعدن الأسود البارد للمقعد في راحتَيْها. لم يكن ذلك هو ما توقَّعت أن ترى عليه مقهى أوروبا، هذه اللوحة الهادئة من الأثاث الحديدي والكروم. ولم تكن على يقينٍ من تخيُّلها بالضبط، ولكنه لم يكن هذا. على أي حال، من اللطيف أنها خرجت. ثمة أشياء كثيرة كانت قد نسيتها؛ دفء الشمس على رقبتها ورائحة العنب. وبينما كانت تتأمَّل الأشياء المحيطة بها، تردَّد صوت الأذان عبر المدينة كسحابة رقيقة مُنخفِضة، وحطَّ أحد أفراد سِرْبها على حافة المائدة. ظلَّ واقفًا لحظة، ثم ارتجف رأسه ناحية القطِّ وحلَّق مُبتعِدًا، ولكن البِك وخَصْمه لم يلاحظاه.

قال الشاب وهو يقرع أحد قِطَع البِك خارج اللوح: «ثلاثة-أربعة.»

أمسك البِك بالنَّرْد ونفخ في تجويف راحة يده. كان بحاجة إلى خمسة أو واحد كي يُعِيد القطعة المطرودة إلى اللعبة.

قال خَصْم البِك مُشِيرًا على ما يبدو إلى محادثة سابقة: «إن نائب الملك لديه بعض الخيارات.»

فقال البِك: «بالفعل!» وقذف النَّرْد فحصل على ثلاثة-خمسة، ثم أعاد القطعة إلى اللوح، وتابع قائلًا: «ولكن ربما يكون الخيار الأفضل هو الانتظار.»

«لا يسعُ المرء سوى الانتظار.»

ظلَّ الرجلان يلعبان في صمتٍ عدة أدوار. كان البِك يكسب، فالقِطَع الخاصة به غير مكشوفة وتتحرَّك بثبات نحو الهدف. انحنت إلينورا وتركت نفسها تستغرق في إيقاع اللعبة وصوت حركة القطع وقرع النَّرْد، واختبأت فيه كما لو كان مناقشة فلسفية عميقة، تاركةً حوائط اللوح الخشبي البسيط تغلق عليها. وهبَّ نسيم عَبْر الكروم، فشعرت بدفء المقعد أعلى ظهرها.

قال الشاب وهو يشير إلى الشاي والكعك: «يبدو أنك لستَ صائمًا في رمضان.»

فقلَّب البِك الشاي وارْتَشف منه رَشْفة.

«كلَّا، لقد تركت تلك العادة منذ عدة سنوات، ولكنني أفضِّل ألَّا تُخبِر أيًّا من زملائي بعدم مراعاتي لها. فصوم رمضان تمامًا مثل عادة دفع العُشر للكنيسة؛ لا أحد يفعله في حقيقة الأمر، ولكن المجتمع يعتمد على الوَهْم بأن الجميع يفعلونه.»

«إن الطبقات المهمَّشة تصوم بالطبع.»

فقال البِك بعد تفكير وهو يفْرُك النَّرْد: «ربما، ولكنني أؤكِّد لك أنْ لا أحدَ ممن تعرفهم يصوم.»

«وماذا عن صديقتك الشابة؟»

كانت إلينورا تهُمُّ برفع قطعة من الكعك إلى شفتيها.

«ماذا عنها؟»

«أليستْ مُسلِمة؟»

فقال البِك: «نعم، إنها يهودية.»

وتوقَّف كي يفكِّر فيما إذا كان هذا الشرح كافيًا، وعندما رأى أنه غير كافٍ تابع قائلًا:

«إنها ابنة شريكي السابق في العمل يعقوب كوهين. هل تذكر حادث السفينة منذ بضعة أشهر؟»

«الحادث الذي أزعج القيصر؟»

فهزَّ البِك رأسه، ولم يكن بحاجة على ما يبدو لأن يوضِّح الأمر أكثر من ذلك. استمرت مناقشتهما بنفس الطريقة لعدة أدوار، هجوم ودفاع لم تفهم إلينورا معناه تمامًا، ثم استدار الشاب فأصبح في مواجهتها مباشرةً.

«ما اسمك؟»

فنظرت حولها تبحث عن ورقة، ولكنها لم تجد أوراقًا على المائدة.

فأوضح البِك: «إنها لم تتفوَّه بكلمة منذ الحادث، ولكنها تتواصل عن طريق الكتابة.»

«أيمكنها الكتابة؟»

فقال البِك بفخرٍ واضحٍ: «نعم، باللاتينية واليونانية والفرنسية والعثمانية.»

فقال الشاب: «حقًّا؟» وأخرج المفكِّرة من جيبه ثم أعطاها لإلينورا ومعها قلم قائلًا: «اكتبي شيئًا.»

فأخذت المفكِّرة وفتحتها على صفحة خالية.

ماذا تريدني أن أكتب؟

فقال: «أيَّ شيء يعجبك، فقرة من فرجيل مثلًا. هل تعرفين الإنيادة؟»

فهزَّت رأسها وبدأت تقرأ من البداية:

إنَّ حديثي يدور عن شخصٍ، بالقوة والحكمة يتَّصفُ، أجْبَره القَدَر،
وكراهية جونو المُتغطرِسة التي لا تلين،
على مغادرة شاطئ طروادة، منفيًّا ومطرودًا.

أعطت إلينورا المفكِّرة للشاب كي يراجعها، وبينما كانت تفعل ذلك لمحت اسم الكاهن جيمس مولر مكتوبًا بحروف صغيرة وتحته خطٌّ في أعلى الصفحة المقابِلة.

قال وهو ينظر إلى ما كتبته:

«حسنًا، إنه مؤثر للغاية.»

واستدار إلى البِك متسائِلًا:

«قلتَ كم تبلغ هي من العمر؟»

فقال البِك: «ثمانية أعوام، أو قاربت على تسعة أعوام.»

فهزَّ الشاب رأسه غير مصدِّق.

«لن تكفَّ عن إدهاشي أبدًا يا مُنصِف بِك.»

ثم نهض عن المائدة، واضعًا القطَّ تحت قدم إلينورا. لم تكن لعبتهما قد انتهت بعْدُ، ولكن لم يبدُ على أحدهما أنه يهتمُّ.

قال الشاب وهو يخلع قبعة التدخين: «سوف يقابلك صديقنا بعد ظهر الغد في طريق لو بيتي شون دو مورت.»

فهزَّ البِك رأسه وسلَّم له مظروفًا عبر المائدة. ودون أن يتفوَّه الشاب بكلمة أخرى، وضعه في جيبه وغادر الحديقة.

بعد أن رحل الشاب انتهت إلينورا من احتساء الشاي، ولعبت الطاولة بضع مرات مع مُنصِف بِك. لم تتوجَّه إليه بأيِّ سؤال عن ذلك الشاب الغريب، ولم تسأل لِمَ كان اسم الكاهن مكتوبًا في مفكِّرته، ولم تسأل أيضًا عمَّن سيقابله البِك في طريق لو بيتي شون دو مورت. لم تسأل عن أيِّ شيء، رغم أنها تعجَّبت من أمور كثيرة. تساءلت تحْدِيدًا عما إذا كان ثمة صلة بين الشاب والورقة التي أراها إيَّاها الكاهن، تلك الحروف اليونانية التي تقول: «الأربعاء فترة الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.» لم يكن اليوم هو الأربعاء، ولكنهما كانا خلف مقهى أوروبا. ربما تكون ثمة صلة بالفعل. فبقَدْر ما كانت تفهم عن العالم وتدرك الكثير، كان ثمة الكثير من الأمور التي لم تكن تفهمها.

انحنت إلينورا كي تُداعِب القطَّ الذي كان يذرع المكان جيئة وذهابًا عند قدميها، ونظرت في عينيه. كانت عيناه باردتَيْن كحال القطط عادةً، ولكنْ ثمة شيء غريب في سلوكه، وفي الطريقة التي يقفز بها إلى حِجْرها ويَمُوء لذلك الهدف. بدا الأمر كما لو كان القطُّ يستحثُّها على أن تتوقَّف عن الأسئلة، وأن تدع القلق وتنسى نفسها في فِرائه الأبيض الناصع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤