الفصل الثالث

على الرغم من جهود روكساندرا المتكرِّرة لترويع الهداهد، جَثَمت الهداهد التي شهدت مولد إلينورا على نحوٍ دائم في شجرة تين خارج منزل كوهين، فأصبح الممر الأمامي مغطًّى دائمًا بطبقة لَزِجة من فضلات الطيور الخضراء والبيضاء. في البداية لم يكن واضحًا سببُ الإصرار الشديد للسِّرْب على سُكْنى هذه الشجرة بعينها؛ لماذا يتحمَّلون المِكْنسة والمواد المبيِّضة والمياه المَغْلِية في حين كان يوجد عدد كبير من المآوي القريبة الأكثر ترحيبًا، ولكن أصبح جليًّا بمرور الوقت أن انجذابهم ارتبط بطريقة ما بإلينورا، كما لو كانوا يعتبرونها جزءًا من سِرْبهم؛ الملكة التي من دونها تصبح حياتهم بلا معنى؛ فهم ينامون عندما تنام، ويقفون حرَّاسًا لها عندما تستحمُّ، وينفصل جَمْعٌ صغير عن السِّرْب ليتبعها عندما تغادر المنزل. اتَّسمت هذه الطيور بالغرابة في مظهرها وسلوكيَّاتها، ولكن في نهاية المطاف بات سِرْب إلينورا جزءًا من الحياة اليومية؛ شيئًا ثابتًا ومألوفًا فوق إيست هيل. ولم يكن أهل المدينة يُعِيرونه انتباهًا أكثر من الذي يُعِيرونه للحَمام المُصطَفِّ بطول مَزارِيب فندق كونستانتسا. وفي نهاية الأمر استسلمت روكساندرا لتنظيف الممر الأمامي كلَّ أسبوع بالماء الساخن والمواد المبيِّضة.

ربما كان أمر الهداهد سيثير مزيدًا من الغرابة ما لم تكن إلينورا نفسها مخلوقًا استثنائيًّا. فعندما كانت رضيعةً بين ذراعَيْ مُرضعتها، كان يستطيع المرء أن يميِّز بالفعل اللمحات الأولى التي ستُزهِر فيما بعدُ وتتحوَّل إلى جمالٍ أخَّاذ هادئ؛ متمثِّلٍ في وجنتَيْها الجذَّابتين الحمراوين اللتين تُتوِّجُهما بضعُ خُصلات من الشعر المُجعَّد، وعينين خضراوين واسعتين بلون زجاج البحر، وأسنانٍ لبنية كمعكبات العاج الصغيرة. وقلَّما كانت تصرخ، وقد خَطَت خُطواتِها الأولى في الشهر الثامن، وفي عمر السنتين كانت تنطق بجُمَل كاملة. وكانت تؤثِّر على المحيطين بها بمنطق طفولي، مع أنه اتَّسم بالدقة على نحو مذهل، وجذبت قوةُ حضورها — ذلكم البهاء والنقاء الداخليَّان اللذان لا يمكن وصفهما — الناسَ إليها من كلِّ أنحاء السوق محمَّلين برغبةٍ لتقْبِيل جبهتها فحسب. ورغم هذا التفرُّد الذي لا شكَّ فيه، كان معظم طفولة إلينورا عاديًّا للغاية؛ فقد أمضت أيامها تنام وتأكل وتستكشف العالم من حولها، وتلعب باستخدام الملاعق الخشبية والأواني في المطبخ، أو تستغرق في تأمُّل نَقْش على إحدى السجاجيد في غرفة المعيشة.

ومن بين ذكريات إلينورا المبكِّرة الحكاياتُ التي كان والدها يقصُّها عليها أحيانًا بعد العشاء. فعندما كانت تتسلَّق حِجْرَه، كانت تستطيع أن تشعر بملمس سترته الصوفية الخَشِنة على ذراعها. صوت طقطقة النيران، ورائحة الجلد البالي للمقعد، وروكساندرا ترتق الملابس في زاوية الغرفة. وقبل أن يستهلَّ يعقوب قصَّته، يضع يده في جيب مِعْطفه، ويُخرج حَفْنة ضئيلة من قِطَع التوباكو الصغيرة، ثم يحشوها في غَلْيُونه بالجانب المسطَّح من إبهامه. وكانت فُوَّهة الغَلْيُون على شكل رأس أسد لونه بنيٌّ مُذهَّب، منحوت من حجر يُسمَّى المرشوم. حَبَست إلينورا أنفاسها، بينما أخرج والدها علبة الثقاب من جيب مِعْطفه، وأشعل أحد أعواد الثقاب، وقرَّبه من التاج الذي يعلو رأس الأسد. بدا هذا المشهد كما لو كان طقسًا من الطقوس القديمة وهم الوحيدون المتبقون لحراسة أسراره. وبعد أن سحب عِدَّة أنفاس من الغَلْيُون لإحمائه، وضع إحدى يدَيْه على كتفها وسألها إن كانت تبتغي أن تسمع قصَّة. وبالطبع، كانت توافق دائمًا.

كانت قصص أبيها تدور حول الحُكَماء والرحَّالة والتجَّار والحمقى، وكانت قصصًا عن بوخارست وباريس وفيينا وجميع المدن البعيدة الأخرى التي زارها في ريعان شبابه، ومدن أخرى مثل لانتشو وأنديجان وبرسبوليس وسمرقند؛ مدن ذات حدائق معلَّقة، وبروج شاهقة تُطاوِل عنان السماء، وناس أكثر مما يمكنك أن تتخيل؛ مدن بها نمور تتربَّص في الظلال، وأفيال تدبُّ وسط الشارع؛ مدن قديمة قِدَم الجبال تعجُّ بالسحر الخيِّر والشرير. لقد زار والدها كلَّ أنحاء العالم، وشاهد أماكن أكثر مما يستطيع حصْرَها، لكن مدينته الفُضلى عن كل المدن الأخرى كانت محور ارتكاز القارات العريق، موطن آيو وجوستينيان، موضع حسد قنسطنطين وسليم، لؤلؤة البوسفور، الجوهرة المتلألئة في مركز الإمبراطورية العثمانية. كانت مدينته الفضلى هي إسطنبول، وهناك دارت أحداث أفضل حكاياته.

بخلاف قصص والدها، تمثَّلت أولى ذكريات إلينورا في واقعةٍ حدثت بعد عيد ميلادها الرابع مباشرةً. كان عصر يوم كئيب هادئ في مطلع الخريف، عندما لاحظت للمرة الأولى قوة تركيزها. جلست إلينورا القُرْفُصاء تحت أقدام الطماطم المعترشة، وهي حافية القدمين، ترتدي ثوبًا بسيطًا أحمر اللون مصنوعًا من القطن، تحفر بأصابعها حفرةً في الأرض الرطبة المتكتِّلة. هبَّ على التلِّ نسيمٌ دافئ، وكانت الهداهد تلغو فيما بينها، ومن الخلف يمكن للمرء أن يرى الطريق المؤدِّي إلى نافوداري. وكانت قد أمسكت لتوِّها بحشرة رماديَّة لامعة، وأخذت تشاهدها وهي تبسُط جسدها في راحة يدها، بينما تناهى إلى مسامعها صوت خشخشة قادم من حافة الحديقة. كان ظبي يُطِل في تردُّد برأسه من الغابة. شاهدته وهو يخطو خطوة للأمام نحو رقعة البصل، ثم نصف خطوة إلى الوراء. ولم تكن رؤية ظبي في الحديقة بالشيء الغريب، لكنْ ثمة شيء ما في هذا الظبي الصغير بعينه لَفَت انتباهها. وبعد مراقبته لبضع دقائق وهو يتحرَّك وسط أشجار الطماطم، قرَّرت أن تتبيَّن أمره.

أعادت إلينورا الحشرة إلى حفرتها، ثم نهضت وعبرت الحديقة. لم يتحرَّك الظبي، مع أنه بدت عليه أمارات القلق لكونه على هذه الدرجة من القرب من إنسان. وقفت إلينورا على حرف رقعة البصل، على مسافة أقل من ذراع من الظبي، فاستطاعت أن تشعر بأنفاسه الدافئة الرطبة على جبهتها. ونظرت إلى ثبات عينَيْه اللامعتَيْن، ثم مدَّت يدها ببطْء لِتضعها عند الجزء السفلي من رقبته. ظلَّ الظبي ساكنًا في مكانه. وبخلاف رَجْفةِ فَتْحَتَيْ أنفه وانبعاث نَفَسِها الخفيف، وقف كلاهما بلا حَراك تمامًا.

عندئذٍ، وفي حركة واحدة، أخذ الظبي خطوةً إلى الوراء وخَفَض قَرْنَيْه، رافعًا ساقه اليسرى كما لو كان جنديًّا يقدِّم سلاحه للمعاينة. وعلى الفور أدركتْ إلينورا سببَ انزعاج الظبي، وعرفت ما عليها أن تفعله. كانت تُوجَد فوق حافره مباشرةً شوكة؛ قطعة معدنية معقوفة مدفونة على عمق كبير داخل اللحم. بدا الظبي وكأنه قد اخترق أحد الأسوار، أو لعلها أداة صيد علقت به. أزاحت إلينورا خُصلة شَعر عن عينَيْها، ثم أمسكت بالطرف المجروح بيدها وتفقَّدت الجُرح. كانت الأوردة المحيطة به تنبض بشدة، وتجمَّعت رغوة بيضاء على القطعة المعدنية. انتصب شعر ساق الظبي حين قرَّبت إلينورا يدها الأخرى منها. ثم طرفت بعينَيْها، وبسحبة واحدة سريعة انتزعت الشوكة.

بينما كانت إلينورا تشاهد الظبي وهو يقفز بعيدًا عبر الغابة، اقْشَعرَّ بدنها للتفكير فيما فعلته توًّا. راحت الهداهد فوقها تغرِّد بصوت مبحوح، وبدا صوت انسحاق الأعشاب تحتها كأنه تصفيقٌ خفيف، ولكن الاحتفاء بها لم يدُمْ طويلًا؛ فبعدها بلحظة أُمسِكت من تحت إِبطَيْها وحُمِلت إلى الحَمَّام.

قالت روكساندرا وهي تنزع عنها فستانها: «ممنوعٌ منعًا باتًّا أن تفعلي هذا مرة أخرى، فلو عُرِف هذا الخبر …»

وقفت إلينورا مُطأطِئةً رأسها ترتعش في منتصف الحمام، بينما كانت روكساندرا تُعِد لُوفةَ الاستحمام. لم يسبق أن رأت إلينورا خالتها في تلك الحالة؛ فقد بدت مرتجفة، بل كادت تكون مُرتعِدة.

«ماذا تقصدين يا روكساندرا؟ ما الذي جَنَيْتُه؟»

بدلًا من أن تُجِيبها، أخذت روكساندرا تحكُّ جسدها بقوة باستخدام لُوفة مُبلَّلة بالصابون، بادئةً بالذراعين ثم اليدين، ولا سيَّما بين الأصابع.

قالت إلينورا منتحبةً: «من فضلك، أخبريني ما الخطأ الذي اقْتَرَفْتُه؟ لا أستطيع أن أكون بحالٍ أفضل ما لم أعرف ما الذي جَنَيْتُه!»

توقَّفت روكساندرا عن حكِّ جسدها.

«ليس من الجيد أن نلهو مع الحيوانات. أخشى أن يراكِ أحد من الناس! كفانا ما لدينا من مشكلات بسبب شكوك الناس في اليهود واشتغال والدك في توريد السجاد باستمرار إلى إسطنبول. وآخِر ما نَرْجُوه هو لفت المزيد من الأنظار إلينا.»

قالت إلينورا: «لكنه كان مجروحًا. كانت تُوجَد قطعة معدنية مغروسة في ساقه، وأرادني أن أساعده.»

غَمَست روكساندرا اللُّوفة في الماء البارد، وأخذت تحكُّ جسدها مرةً أخرى.

«لا يعنيني ما ظننتِ أن هذا الظبي يريده. لا أريد أبدًا أن أراكِ تفعلين شيئًا كهذا مرة أخرى، ولا أريدك أن تخبري أيَّ شخص بهذا الموضوع، ولا حتى والدك. أتفهمينني؟»

كانت إلينورا أذكى من أن تعترض، وعندما فَرَغَت من الاستحمام اعتذرت بشدَّة لروكساندرا عما بَدَر منها، ووعدتها ألَّا تلهو أبدًا مع الحيوانات مرَّة أخرى. وظنَّت إلينورا أن الموقف قد انتهى عند هذا الحدِّ، وقد كانت مُحقَّة من ناحية ما في ذلك؛ إذ لم تأتِ خالتها قطُّ على ذكر الواقعة مرة أخرى، إلَّا أن إلينورا لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في أنَّ ثمة علاقةً ما بين الظبي وما أعلنته روكساندرا في صبيحة اليوم التالي وقت الإفطار؛ حيث قالت إنه آن الأوان كي تبدأ إلينورا في تعلُّم مهارات التدبير المنزلي. فهذه المهارات سوف تنفعها أيَّما نفع لبقيَّة حياتها، وسوف تساعدها في جذب زوج مناسب، والأهم أن اليد البطَّالة نَجِسة. ومع أن يعقوب أبدى بعض التحفُّظات بشأن هذه الخطة، فإنه خوَّل سلطته في هذه المسألة إلى روكساندرا، التي أكَّدت له أن إلينورا قادرة تمامًا على أداء المهمة. وهكذا حُسِم الأمر.

قالت روكساندرا: «سيكون الدرس الأول تعلُّم الحياكة.»

وضعت روكساندرا يدها في جيب مِئزرها الأمامي، وأخرجت أحد مناديل يعقوب القديمة وإبرةً وبَكرةَ خيط.

«أترَيْن هذا؟»

مالت فوق كتف إلينورا وأشارت إلى غُرَز عظام السمك الزرقاء بطول الحافة الخارجية للنسيج. أَوْمأت إلينورا برأسها إيجابًا، ثم سندت مِرْفَقَيْها على الطاولة وأسلمت ذقنها إلى راحة يديها.

«كرِّري النقش نفسه بطول الحافة الداخلية. وإن كانت لديكِ أيُّ استفسارات، فأنا في المطبخ.»

نظرت إلينورا إلى الإبرة والخيط المُلتَف مثل ثعبان في منتصف النسيج. لن يكون هذا مُمتِعًا على الإطلاق، لكن لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء كي تعترض. أمسكت إلينورا بالإبرة بين إبهامها وسبَّابتها، ثم حدَّقت إلى ثَقْبها. وبعد أن أغمضت عينَيْها نصف إغماضة، ضغطت طرف الخيط بين الإبهام وسبَّابة اليد الأخرى، وبتركيز شديد تمكَّنت من أن تُدخِل الخيط في ثقب الإبرة. تصير الحياكةُ سهلةً بمجرد إدخال الخيط في الإبرة. صنعتْ إلينورا الغُرْزة الأولى وهي حَذِرة كي لا تُوخِز نفسها ثم سحبت الخيط بإحكام، ثم صنعت غُرْزةً ثانية، وثالثة، ورابعة. لم يكن النقش صعبًا للغاية؛ فكلُّ ما هنالك أنها تصنع الصفَّيْن نفسيهما مرارًا وتَكرارًا، ثم تُكرِّر الشيء نفسه حول حافة النسيج. كان عملًا مثيرًا للضجر، لكنه لم يكن شديد الصعوبة.

هكذا كان شكل حياة إلينورا في الأشهر التي أعقبت حادثةَ الظبي؛ كانت حياة مضجرة لكنها ليست بالغة الصعوبة. كانت تساعد روكساندرا في الأعمال المنزليَّة؛ تمارس الحياكة وتقشِّر الخضراوات، تنفِّض الأتربة وتنظِّف الممر الأمامي. وفي يوم الأربعاء من كلِّ أسبوع تنظِّفان معًا الأرضيات، وفي أيام الآحاد تغسلان الملابس، أما يوم الإثنين فتنزلان إلى أسفل التلِّ لارتياد السوق حيث علَّمتها روكساندرا للمرَّة الأولى فنَّ التفاوُض على الأسعار. لم يكن التدبير المنزلي بالسوء الذي توقَّعتْه إلينورا، وبصرف النظر عما كان يتعيَّن عليها القيام به في الصباح أو بعد الظهيرة، كانت على الدوام تتطلَّع إلى حلول الساعة السادسة، تلك الساعة المُبهِجة التي تسمع فيها دون أن يَخِيب أملُها أبدًا صوتَ مِقْبض الباب وصرير وَقْع أقدام والدها على العتبة. كانت إلينورا تركض نحوه وتدفن وجهها في سُتْرته، مُستنشِقةً الرائحة التي تبدو كغُبار الصوف الممزوج بشراب الكَرْكديه، وكانت تُوقِن في تلك اللحظات أن كلَّ شيء سيكون على ما يرام.

في الربيع الذي سبق عيد ميلاد إلينورا السادس، ذلك الوقت الذي كانت قد تعلَّمت بحلوله أساسيَّات التدبير المنزلي جيدًا إلى حدٍّ ما، اقترحت روكساندرا أنه ربما حان الوقت لأن تبدأ إلينورا تعليمها الأكاديمي؛ فرجال هذا الزمن يريدون امرأةً تستطيع القراءة والكتابة والحساب؛ امرأةً بمقدورها أن تراجع الحسابات وتُطْلَب من القوائم. لم يمانِع يعقوب في توسيع مدارك ابنته، وهكذا حُسِم الأمر. وعليه، فقد بدأتا في هذا الصباح نفسِه بأوَّل كتابِ قراءةٍ كانت تقرؤه روكساندرا في شبابها، وهو كتاب أخضر صغير كان بحالة جيدة على نحو مثير للدهشة. وفي وقت الغداء، كانت إلينورا قد تمكَّنت من تعلُّم الحروف الأبجدية، وشكْلِ كلِّ حرف، والأصوات المختلفة لكلِّ حرف طبقًا لموقعه في الكلمة. وبحلول وقت العشاء كانت قادِرةً على تركيب الجُمَل. وفي مساء هذا اليوم، حفظت درسها الأول، وكان محاضرةً حول عادات التماسيح. ردَّدت إلينورا، وهي تدير ظهرها للمِدْفأة ويداها متعانقتان أمامها، الدرسَ بأكمله أمام والدها وروكساندرا.

«أكان هذا صائبًا؟»

التفتت إلينورا إلى خالتها التي كانت تنظر في الكتاب لتتابع ما تقوله.

قالت خالتها ووجهها يكْتسِي باللون الشاحب الذي يدلُّ على الدهشة: «أجل، بدقة متناهية!»

أخرج يعقوب الغَلْيُون من فمه، وأمعن النظر في ابنته في فضول، كما لو كانت شخصًا التقاه في مكانٍ ما منذ أمدٍ بعيد ويحاول أن يتذكَّر اسمه.

«متى تعلَّمتِ هذا الدرس يا إيلي؟»

«اليوم بعد العشاء يا بابا.»

«وتعلَّمتِ هذه الفقرة بأكملها الآن فحسب؟»

أخذت إلينورا تحوِّل نظرها من والدها إلى روكساندرا جِيئةً وذهابًا.

«هل قلتُ شيئًا خطأً؟»

شعرت إلينورا بدفء النيران في مؤخِّرتَي ساقَيْها بينما كانت تنتظر ردًّا منهما.

«لا يا إيلي، لم تقولي شيئًا خطأً على الإطلاق. كلُّ ما هنالك أننا شعرنا بالذهول، أو أنا على الأقل، من سرعة تعلُّمك للدرس.»

قالت روكساندرا وهي تقلِّب في صفحات الكتاب: «هذا غير مَعقُول، كان ينبغي أن يستغرق هذا شهرًا على الأقل، ربما أسبوعين بالنسبة إلى طفل شديد الذكاء.»

أخذ يعقوب نَفَسًا عميقًا من غَلْيُونه، ثم التفت إلى ابنته.

«أخبرينا كيف فعلتِ هذا يا إيلي؟»

لم تعرف بِمَ تُجيب. كيف لها أن تفسِّر شيئًا غايةً في البساطة؟ لقد تعلَّمتِ الحروف، وبشيء من التركيز قامت بذلك.

أجابت إلينورا وهي تخطو خطوة صغيرة مُبتعِدة عن المِدْفأة التي صارت شديدةَ السخونة على نحوٍ غير مريح: «فور أن تعلَّمتُ صوت كلِّ حرف، فور أن أَتْقَنتُ هذا، كنت أنظر إلى الكلمات وأسمعها في رأسي. وما إن استطعت سماع الكلمات في رأسي، حتى كان من السهل حفظ الدرس.»

في تلك الليلة تناهى إلى مسامع إلينورا شجارٌ دار بين والدها وخالتها، ولم تستطع أن تسمع بالتحديد ما كانا يقولانه، لكن بين صوت طَرْق القَبْضات وصَفْق الأبواب، فهمت أن والدها كان مع استمرار تعليمها، في حين أنَّ خالتها كانت تُعارِض ذلك. وفي صباح اليوم التالي عند الإفطار، صرَّح والدُها أنه سيتولَّى تعليمها الأكاديمي في حين أن روكساندرا ستظل مسئولة عن تعليمها المنزلي. أَوْمأت روكساندرا برأسها باقتضاب وهي تغطِّي قطعةً من الخبز بالزُّبد. ومنذ ذلك الصباح، صار يوم إلينورا مَقْسومًا بين هذين العالَمَيْن؛ ظلَّت أوقاتِ الصباح وبعدَ الظهيرة مشغولةً بالإبرة والخيط ومِنْفَضة الريش وفرشاة تنظيف الأرضيات، أما أوقات المساء فقد خُصِّصت للدروس الأكاديمية فحسب.

على مدار الأسابيع القلائل الأولى، انصبَّ تعليم إلينورا الأكاديمي في المقام الأول على حفْظِ الدروس من كتاب القراءة، ووصْفِ العواصم الشهيرة، ومحاضرات حول عادات الحيوانات المختلفة، وقصص قصيرة عن أطفالٍ تستهويهم إثارة المتاعب والأفعال المشاغبة. لكن سرعان ما بات جليًّا أنها على استعداد لتلقِّي مواد قراءة أكثر تقدُّمًا. وحينها انتقلا إلى المكتبة التي تقع في رُكْن غرفة المعيشة؛ وهي ذات تصميم فَخْم من خشب الدَّرْدار يُزيِّنه على كلا الجانبين زوجٌ من القطط الصينية الخزفية، وأَرْفُفها مليئة عن آخرها بفَيْض غزير من الكتب المجلَّدة بالأغلفة الحمراء والزرقاء والخضراء والسوداء، منها الطويل والقصير، والسميك والرفيع، وكعوبها مُزخرَفة بكلِّ أشكال الكتابة. وطوال الأشهر الستة التالية قرأت إلينورا الكثير من الكتب الموجودة بالرفِّ السفليِّ، فكانت تجلس على حِجْر والدها وهو يدخِّن غَلْيُونه ويتخلَّل شعرها بأصابعه بين الحين والآخر. قرأت إلينورا «خرافات إيسوب»، و«رحلات جليفر»، و«الفرسان الثلاثة»، و«روبنسون كروزو»، و«ألف ليلة وليلة». وبالإضافة إلى القراءة، علَّمها والدها الكتابة والحساب وأصول اللغة التركية، وقد أتْقنَتْها جميعًا بسهولة مُذهِلة.

ومراعاةً لما أطلق عليه والدُها مخاوِف روكساندرا، أُخبِرتْ إلينورا مرارًا وتَكْرارًا أنه يحظر عليها تحت أيِّ ظرف التحدُّث عن دروسها خارج المنزل. ولم تعِ إلينورا الغرض من هذه القاعدة، لكنها التزمت بها على أي حال؛ حيث إنها تعلَّمت منذ زمن طويل أنه من الأفضل الامتثال لمخاوف روكساندرا، سواء أكانت منطقية أم لا. وعلى أي حال، لم تكن هذه قاعدة يصعب الالتزام بها كثيرًا؛ فبخلاف العُطْلات والنزهات التي يذهبون إليها بين حين وآخر، لم تكن إلينورا تغادر المنزل سوى مرة واحدة أسبوعيًّا عندما تذهب روكساندرا للتسوُّق في سوق يوم الإثنين.

وفي أحد أيام الإثنين، في مطلع الربيع في عام إلينورا السابع، كانت روكساندرا وإلينورا تُنْهيان تسوَّقَهما في متجر العادِيَّات الخاص بالسيد سيداميت عندما بدأت السماء تمطر. كانت عاصفة مفاجئة وشديدة، دفعت جميع مَنْ بالسوق إلى اللجوء إلى مأوًى من المطر. وَجَدَ باعة الفاكهة مأوًى لهم في رُواق صغير بعيدًا عن ساحة المدينة، أما الهداهد التي كانت تتبع إلينورا عبر التَّلِّ فقد جَثَمت تحت سَقِيفة فندق كونستانتسا. واحتشد عدد من الناس في متجر السيد سيداميت مُتظاهِرين بالتفكير في شراء برطمان الشمندر هذا أو علبة البطارخ هذه. وفاح المتجر برائحة السراويل المُبلَّلة، وامتلأ البرميل المُتاخِم للباب بالمظلَّات.

قالت روكساندرا وهي تجذب إلينورا نحو الخزينة: «مساء الخير.» ومدت إلينورا عُنقها فلفتت نظر موظف شابٍّ يُدعَى لورنتيو.

قال الموظَّف: «مساء الخير أيتها السيدة كوهين.» ثم انحنى فوق الخزينة وأعطى إلينورا قطعة حلوى قائلًا: «مساء كثير الخيرات أيتها الآنسة كوهين.»

يعمل لورنتيو — ذلك الصبي ذو الشعر الأشعث والابتسامة الودودة — في متجر السيد سيداميت منذ وقت طويل على قَدْر ما تستطيع أن تذكر إلينورا. وكان يتميَّز بروح طيبة، رغم أنه كان بطيئًا في عمله، وأكثر من مرة وضع بضاعةً أخرى خلاف ما تريدان في حقائبهما، وكانتا تضطران أن تهبطا التل مرة أخرى لاستبدالها.

قالت روكساندرا: «نريد كيلوجرامًا من الفاصوليا، وقطعتين من هذا الصابون الأخضر الموجود هناك بالأعلى، وكيلوجرامًا من العدس الأصفر، و…» ثم توقَّفت لتنظر في قائمتها، ثم استرسلت قائلة: «بَكرتَيْ خيط، وعلبةَ حلوى، ومائةَ جرامٍ من الكمون.»

«هل هذا كلُّ شيء أيتها السيدة كوهين؟»

«أجل.»

بعد أن كرَّر لورنتيو القائمةَ على مسامعه، راح في أرجاء المتجر يجمع كلَّ شيء طلبته روكساندرا، مكوِّمًا الأغراض في ذراعه اليسرى، بينما كان يضع البضائع الكبيرة في أكياسٍ بيده اليمنى. وبعدها بلحظات عاد محمَّلًا بالأغراض، ملفوفةً بإتقان في ورق بنيٍّ ومربوطة بحبل.

«روبِلَيْن بالتمام.»

أخرجت روكساندرا حافظة نقودها، وكانت تَعُدُّ النقود في يدها عندما رفعت إلينورا يدها كي تشُدَّ كُمَّ ثيابها.

«ينبغي أن يكون الحساب روبلًا ونصفًا يا خالتي روكساندرا.»

تظاهرت روكساندرا بأنها لم تسمع، وأعطت الفتى النقود.

«شكرًا لك لورنتيو.»

أصرَّت إلينورا وهي تشُدُّ كُمَّ ثيابها بقوة: «لكن يا خالتي روكساندرا ينبغي أن يكون الحساب روبلًا ونصفًا فقط.»

قالت روكساندرا وهي ترفع صوتها: «لا تكوني سخيفة. أتظنِّين أنكِ تعرفين الأسعار أفضل من لورنتيو؟»

ولأنَّ روكساندرا كانت تَعِي وجودَ الزبائِن الآخرين، أَحْكَمت قَبْضتها على إلينورا من مؤخِّرة ياقة ثوبها، وهمَّت بجذبها نحو الباب، ولكنَّ صوتًا قادمًا من ناحية الخزينة الأخرى أَوْقَفَهما.

«كَمْ قُلْتِ إنه ينبغي أن يكون الحساب؟»

كان هذا صوت السيد سيداميت، وهو أحد أبناء إقليم دوبروجا، ذو وجه يُشْبِه سِدادة القِنِّينة، وكان يزورهم في المنزل بين الحين والآخر لاحتساء الشاي مع يعقوب بعد تناوُل العشاء.

كرَّر السيد سيداميت سؤاله وهو ينحني نحوهما بأَدَب: «كَمْ قلتِ إنه ينبغي أن يكون الحساب؟ لا نريد أن نُغَرِّمك سعرًا أكبر من السعر الحقيقي أيتها السيدة كوهين.»

شعرت إلينورا بارتخاء القبضة عن ياقتها.

قالت روكساندرا وهي تمطُّ شفتَيْها اسْتِهجانًا: «تكلَّمي، أخبريه ماذا قلتِ.»

رفعت إلينورا عينَيْها مرةً أخرى نحو خالتها قبل أن تهُمَّ بالكلام.

قالت إلينورا وهي تعدِّل ثيابها: «ينبغي أن يكون الحساب روبلًا ونصفًا فقط؛ فكيلو الفاصوليا ثمنه أربعون قرشًا، وثمن قطعة الصابون الواحدة عشرة قروش، والعدس الأصفر ثمنه خمسة وثلاثون قرشًا، وثمن بَكرتَيِ الخيط عشرون قرشًا، وعلبة الحلوى بخمسة عشر قرشًا، والمائة جرام من الكمون ثمنها ثلاثون قرشًا. إذن الحساب مائة وخمسون قرشًا.»

استغرق السيد سيداميت لحظةً ليُراجع الحساب في رأسه.

قال السيد سيداميت مخاطبًا المُتابِعين للموقف، وكذلك أولئك المستغرقين فيه: «إنها على حقٍّ. ينبغي أن يكون الحساب مائة وخمسين قرشًا. من فضلك يا لورنتيو، أعِدْ إلى السيدة كوهين نقودها.»

هزَّ لورنتيو مَنْكِبَيْه تعبيرًا عن اعتذاره، ومدَّ يده فأخرج عملةً قيمتها نصف روبل وضعها على الطاولة، ولكن السيدة روكساندرا كانت في طريقها بالفعل إلى خارج المتجر.

قالت وهي تجذب إلينورا وسط الجمع: «أنا آسفة، هي لا تعرف عمَّ تتحدَّث.»

كانت السماء لا تزال تهطل بشدة عندما غادرتا متجر السيد سيداميت، وقد غيَّمت السُّحب السماءَ، ووصل الطين الذي كسا الطريق حتى كاحِلَيْها، ولكن روكساندرا لم تكن في حالة مِزاجيَّة تسمح لها بملاحظة الأمطار، فقد أسرعت الخطى رافعةً رأسها وحاملةً أغراضها تحت إِبِطها، لا تُعِير الوَحْل أو إلينورا انتباهًا، ولم تلتفت للخلف قط، ولم تتفوَّه بكلمة حتى وصلتا إلى المنزل.

قالت روكساندرا وهي تصْفِق الباب بقوَّة هزَّت القطط الخزفية على قواعدها: «هذا ما عَنَيْتُه بالتحديد، هذا بعينه ما قلتُ إنه سيحدث. من أجل هذا تحديدًا قلتُ إنه لا بدَّ من القضاء على هذه الدروس في مهدها. الآن سنصير حديث المدينة بأكملها، وآخر شيء نريده هو لَفْت المزيد من الأنظار إلينا؛ الأرمل وأخت زوجته العاقر اليهوديَّان يزاولان أنشطة تجارية مع الأتراك، والآن الابنة تُجْري الحسابات في ذهنها مصحِّحة لعمال المتجر.»

«لكن يا خالتي روكساندرا، ظننتُ فقط أن النقود …»

قاطعَتْها روكساندرا مُطلِقةً ضحكة عبر أنفها: «النقود! لِتذْهبي أنتِ ووالدك والنقود إلى الجحيم. سأخبرك شيئًا واحدًا فحسب أيتها الآنسة كوهين. لقد انتهت دروسك. لقد أخللتِ بالقاعدة؛ كانت ثمة قاعدة واحدة وأنتِ أخللتِ بها.»

اعترضت إلينورا وصوتها يرتعش: «لكنني لم أخِلَّ بالقاعدة؛ فأنا لم أتفوَّه بشيء عن دروسي.»

«لقد أخللتِ بالقاعدة نصًّا ورُوحًا. والآن اذهبي إلى غرفتك ولا تخرجي منها إلى أن أسمح لكِ بالخروج.»

عندما استيقظت إلينورا من نومها بعد مرور فترة غير معلومة من الوقت كانت مُستَلْقِيةً فوق لحافها، والوسادة فوق رأسها، وإبهامها لاصقة في سقف فمها. كان الطقس باردًا والسماء بالخارج زرقاء لامعة. شعرت إلينورا كما لو كانت في عالم مُختلِف، أو على الأقل كما لو كانت شخصًا آخر في العالم نفسه. وبعد أن أخرجت رأسها من تحت الوسادة، أخرجت إبهامها من فمها وابتلعت لُعابها الجافَّ. وبينما هي في غرفة المعيشة، استطاعت أن تشمَّ رائحة البطاطس المَقْلية وفطيرة اللحم المفروم، وتناهت إلى مسامعها ضحكات روكساندرا وصوت احتكاك المقاعد بالجدران. كانا يتحدثان، ولكنها لم تستطع أن تفسِّر تمامًا ما كانا يقولانه، ولكي تتمكن من السماع بمزيد من الوضوح، تسلَّلت من فراشها وألصقت أُذنها بالباب.

قالت روكساندرا: «والأهم أن هذا في مصلحتها. هل تذكر قصة عمَّتي الكبرى شايدل؟ لم أستطع أن أمنعها عن القراءة، وأمضت كلَّ وقتها في المكتبة. وعندما حان وقت العثور على زوج، لم يُرِدْها أحدٌ. فما كان من الخاطِبة إلَّا أن عاملتها كمعاقة. أهذا ما تريده لها؟ أهذا ما تريده لابنتك؟»

ساد الصَّمْت لبرهة، واستطاعت إلينورا أن تسمع صوت تقطيع اللحم.

«كلُّ ما أريده أن تكون إيلي سعيدة.»

«نريد جميعًا أن تكون إيلي سعيدة، ولكنها في حقيقة الأمر أخلَّت بالقاعدة.»

ردَّ والدها بفمٍ مُلِئ باللحم: «ربما نستمر في الدروس مرةً كلَّ يومين أو مرة واحدة في الأسبوع.»

«لقد أخلَّت بالقاعدة. كانت توجد قاعدة واحدة فحسب، وقد أخلَّت بها.»

لم يُجِب والدها.

«ثمة شيء غريب بها، وأنت قلْتَ هذا بنفسك. والآن الجميع يعرفون، والآن الكلُّ قد رآه.»

بعد لحظات من الصمت، سمعت إلينورا صوتَ جرِّ مقعد بعيدًا عن الطاولة، ثم تنحنح والدها.

«سأذهب إلى غرفة المعيشة.»

استمرت إلينورا تُنصِت عبر ثقب الباب، بينما امتزج الدخان المتصاعد من غَلْيُون أبيها بصوت غَسْل روكساندرا للأطباق. وبعد مرور بضع لحظات من هذا الصمت غير المريح، عادت إلى فراشها، وبعد أن رَقَدت على جانبها كالجنين جالت بنظرها في أنحاء غرفتها الصغيرة؛ فاتَّجهت نظرتها من حوض غَسْل الوجه المُتداعِي ذي الأرجل الثلاث إلى العَيْب الذي يشوب اللَّوح الزجاجي بالنافذة وخزانة الملابس القصيرة العريضة أسفله. إنها لم تكن تنوي الإخلال بالقاعدة، كما أنها لم تقصد أن تُضايِق روكساندرا. كلُّ ما هنالك أنها أرادت أن تفعل الصواب. اسْتَلْقت إلينورا على ظهرها، ثم حدَّقت إلى السقف وشاهدت الظلال تتحرَّك في أنحاء غرفتها. هل يشوبها شيء غريب حقًّا؟ هي لم تشعر بكونها غريبةً أو مختلفةً أو يشوبها أيُّ شيء بخلاف ما تظنُّه طبيعيًّا. أغمضت إلينورا عينَيْها وأنصتت إلى صوت الهدهدة الواهن الصادر عن سِرْبها، وانجرفت في أفكارٍ حول روبنسون كروزو العالِق وحيدًا على جزيرة اليأس المهجورة. إذا لم تستطِع أن تواصل دروسها، فسيظل هو حبيسًا هناك في عقلها إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤