المسرح الحديث

وسلسلة تطوراته السابقة

قبل أن أبدأ سلسلة محاضراتي هذا العام لأتمم بها محاضراتي السابقة عن مسرحيات أحمد شوقي الشعرية، أرى من الخير أن أستعرض — بسرعة وإيجاز — سلسلة التطورات التي طرأت على فن المسرح منذ ظهوره عند رُوَّاده من اليونان القدماء، حتى انتهى إلينا في عصر نهضتنا الجديدة؛ وذلك لنتبين وضع فنِّنا المسرحي الحديث في تلك السلسلة، وأنواع التأثُّرات التي لحقت به، والأصول التي يقوم عليها، فأقول:

المعروف أن المسرح نشأ في خدمة الدين وطقوسه؛ فقد وُلد عند اليونان القدماء — رواد هذا الفن — في كنف عبادة الإله «ديونيزوس» المُسمَّى أيضًا «باكوس»؛ إله الخمر والكَرْم، وكان يحكي في بدئه بعض التطورات في حياة هذا الإله من ذبول وجفاف على نحو ما يذبل الكَرْم ويجفُّ، ثم نضرة وانبعاث. وكانت هذه المسرحيات البدائية تُمثَّل أولًا بالريف في موسم جني العنب وعصره، ثم انتقل المسرح من الريف إلى الحضر حيث تطور، وألَّف فيه كبار الشعراء المسرحيات التي كانت تعقد لها مسابقات سنوية، تدوم ثلاثة أيام، يخصص كل يوم منها لشاعر يعرض فيه ما كانوا يسمونه «رباعية» مؤلفة من ثلاث مآسٍ؛ أي تراجيديات، ثم مسرحية رابعة هزلية تسمَّى «ساتير». ويستفتى الشعب في هذه المسابقة، ويُمنح الفائز غصن الزيتون، وينقش اسمه على لوحة الخالدين. وكانت كل رباعية تعرض أسطورة كاملة مقسمة إلى حلقات، ولم يكن دخول المسارح مجانًا فحسب، بل كانت الدولة الآتينية تمنح كل مواطن مكافأة كتعويض جزئي عمَّا يضيع عليه من كسْبٍ بسبب انقطاعه عن العمل لمشاهدة المسرح الذي يدوم اليوم كله، ويستمر ثلاثة أيام، وكانت هذه المكافآت تسمى «بدل مسرح».

وشيئًا فشيئًا أخذ المسرح ينفصل عن الدين؛ ليصبح فنًّا مدنيًّا يعالج مشكلات الحياة والمجتمع. وكان هذا التحلل من الدين أسرع في فن الكوميديا التي أصبحت نقدًا للحياة والأخلاق المعاصرة وما فيها من عيوب.

•••

ومصر القديمة يلوح أيضًا أن فن المسرح قد عُرف فيها، بل لعلَّه سبق المسرح اليوناني إلى الظهور، ولدينا من النقوش ما يعزز هذا الرأي. وكان هذا المسرح في خدمة الدين أيضًا كوسيلة لعرض الأساطير الدينية، مثل أسطورة إيزيس وأوزيريس، ولكنه لم ينشأ في الحقول كما نشأ عند اليونان، بل نشأ داخل المعابد، وظل فيما يبدو من أسرار الديانة التي يحتكرها الكهنة؛ ولذلك يظهر أنه لم يخرج من المعابد ولم يصبح فنًّا مدنيًّا شعبيًّا، وكان هذا سببًا أساسيًّا لانقراضه وعدم تأصُّله في مصر، على نحو ما تأصَّل عند اليونان، وانتقل منهم إلى الحضارات الأوروبية الأخرى كحضارة الرومان التي ازدهر فيها فن الكوميديا بنوع خاص، وإن لم يخلفوا في تراثهم تراجيديات ذات قيمة أدبية وفنية تُذكَر، وظلت تراجيديات الإغريق التراث الإنساني الوحيد من هذا الفن في العصور القديمة، واعتبر روَّادها العمالقة «أسكيلوس» و«سوفوكليس» و«يوربيدس» أساتذة هذا الفن.

•••

وبسقوط روما في القرن السادس الميلادي، انتهت الحضارة القديمة، وابتدأت حضارة القرون الوسطى ذات الديانات السماوية، واختفى المسرح الإغريقي والروماني القديم باختفاء الوثنية، ومع ذلك لم تختفِ فكرة المسرح التي التقطتها المسيحية، فنشأ مسرح ديني وأخلاقي واجتماعي في كنف المسيحية، واتخذ من ساحات الكنائس أمكنة لعرض المسرحيات التي تحكي مأساة المسيح وصلبه، وحياة القديسين، وعِبر الفضائل، وانتقاد المساوئ الأخلاقية والاجتماعية، وإن لم يصل هذا الفن إلى المستوى الأدبي والفني الذي وصل إليه عند اليونان بخاصة، ثم عند الرومان إلى حدٍّ ما.

وفي القرن السادس عشر، ظهرت بعد سقوط القسطنطينية وهجرة حفظة التراث اليوناني الروماني إلى إيطاليا وفرنسا وغيرهما من بلاد أوروبا، تلك الحركة العاتية المعروفة بحركة النهضة الحديثة أو البعث العلمي في أوروبا، فأعيد نشر التراث القديم، وترجم إلى اللغات الأوروبية الحديثة، بما في ذلك الأدب التمثيلي، وتخلت أوروبا عن حضارة القرون الوسطى وفنونها، وعادت تحاكي الفنون اليونانية والرومانية القديمة، وتستلهم ثقافاتها بما في ذلك فن المسرح الذي أخذ يستمد موضوعاته وأصوله من التاريخ والأساطير القديمة، مع استبدال إرادة الآلهة المتعددة بحقائق النفس البشرية ودوافعها الإنسانية، فكان ذلك الأدب الذي نسميه الآن بالأدب الكلاسيكي المستوحى من القديم، كما نسميه الأدب الإنساني؛ لأنه يعالج مشكلات الإنسان في ذاته، ويفسر سلوكه بحقائق النفس الإنسانية في ذاتها، وبما فيها من غرائز ومشاعر وعواطف وانفعالات.

وازدهر المسرح في العصر الكلاسيكي الذي بني على النهضة الحديثة ازدهارًا كبيرًا، واطرد ازدهاره، وتطورت اتجاهاته، وتنوعت فنونه، وتعددت أهدافه، وإن يكن قد تعرَّض أحيانًا لهجوم عنيف من بعض كبار الفلاسفة والمفكرين؛ مثل «جان جاك روسو»، البروتستانتي المتزمت، الذي ثار ثورة عنيفة عندما علم أن مدينة جنيف التي كان يقيم بها في القرن الثامن عشر قد اعتزمت أن تبني مسرحًا، فوجَّه خطابًا إلى أصحاب هذه الفكرة هاجم فيه المسرح هجومًا عنيفًا، وأخذ يُسفِّه الرأي القائل بأن المسرح دار ثقافة وتهذيب قائلًا: إن المتفرج لا يذهب إلى المسرح بنية التثقيف والتهذيب، وما دام خاليًا من هذه النية؛ فلن يستفيد من المسرح ثقافة ولا تهذيبًا. وهو لا يذهب إليه إلَّا التماسًا للتسلِّي والترويح الرخيص، وهربًا من التفكير الجدِّي في مشكلات حياته أو حياة مجتمعه، ثم أخذ يحلل بعض المسرحيات الكبيرة، مثل مسرحية «كاره البشر» لموليير؛ ليُظهر كيف أن هذا المؤلف العملاق قد أخذ يسخر في هذه المسرحية من تزمُّت بطلها الأخلاقي، فإن «ألسست»؛ بطل هذه المسرحية، رجل متزمت يَنفرُ، بل يثور من نفاق المجتمع وفساده وكذبه، ومع ذلك يجعل موليير منه سخرية للمشاهدين الذين يضحكون من تزمته. وإذن فالمسرح لا يهذب الأخلاق ولا يدعمها، بل يسخر منها ويجعلها أضحوكة للعالمين.

ومع ذلك، وبالرغم من سطورة «روسو» الفكرية في عصره، فإنه لم يستطع أن يحول دون بناء هذا المسرح وبناء غيره في بلاد أوروبا المختلفة، واستمرار هذا الفن، بل ازدهاره. وفي القرن الذي هاجم فيه «روسو» فن المسرح، استطاع أديب معاصر أن يقض مضاجع الملكية والأرستقراطية الظالمة المستبدة في فرنسا بمسرحية كتبها؛ هي مسرحية «زواج فيجارو»، التي دفعت الملك إلى أن يأمُرَ فيُلقَى في السجن بمؤلِّفها «بو مارشيه»، الذي يسخر في هذه المسرحية من حق قديم للنبلاء؛ هو الدخول بزوجات أتباعهم وقضاء ليلة الزفاف معهن، فيجعل الخادم «فيجارو» يتآمر هو وخطيبته الخادمة «سوزان» وزوجة الكونت الذي يريد أن يدخل ﺑ «سوزان»؛ لكي تتنكر زوجة هذا الكونت في ملابس الخادمة وتذهب إلى لقاء زوجها، الذي يأخذ في مغازلتها، ويستطيب جمالها، ويُفضِّله على جمال زوجته، ثم ينكشف أمره، ويسخر منه المشاهدون سخرية لاذعة، استطاع الخادم «فيجارو» وخطيبته الخادمة «سوزان» أن يكوياه بنارها. وهذا مثل يوضح إلى أي حدٍّ استطاع المسرح أن يساهم في تطوير الحياة، بل التمهيد القوي للثورة الفرنسية العاتية، كما ساهم مساهمات مشابهة في غير فرنسا. ولم تقتصر المساهمة على المجال السياسي، بل امتدت إلى مجالات الحياة الأخرى، اجتماعية كانت أم أخلاقية، عن طريق الكشف والنقد والتوجيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤