تطور فنونه

كان الأدب التمثيلي عند اليونان وفي عصر النهضة الأوروبية ينقسم إلى فنين متميزين لا يجوز أن يختلط أحدهما بالآخر، ولا ثالث لهما؛ وهما: فن التراجيديا؛ أي «المأساة»، وفن الكوميديا؛ أي «الملهاة». وكانت التراجيديا تستمد موضوعاتها من أساطير الآلهة وحياة الملوك والأبطال والنبلاء، على حين كانت الكوميديا تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة عامة الشعب وأفراده. وبالرغم من أن النوعين كانا يُكتبان شعرًا، فإن لغة التراجيديا كانت تمتاز بنبلها وصفائها، على حين كانت لغة الكوميديا أحيانًا من اللغة الدارجة، بل من لغة الدهماء. وكان النوعان معًا لا يقتصران على الحوار التمثيلي، بل يجمعان إليه فنونًا أخرى، مثل الموسيقى والرقص وأغاني الجوقة وأناشيدها، التي كانت تعتبر عنصرًا أساسيًّا في المسرحية.

وفي عصر النهضة، رأى الأدباء أن يستقل فن التمثيل عن الفنون «الأخرى»؛ كالموسيقى والرقص والغناء، ومن ثَمَّ عن الجوقة، وبذلك نشأت المسرحية المكتفية بذاتها، المكونة عند الكلاسيكيين من خمسة فصول؛ أي من أجزاء الحوار القديمة بعد حذف أغاني الجوقة التي كانت تتخلل تلك الأجزاء. وفي الوقت نفسه، ظهر فن مسرحي آخر، ولكنه لا يعتبر فنًّا أدبيًّا، بل فنًّا موسيقيًّا؛ لأن الموسيقى والغناء هما مقوماته الأساسية. وهذا الفن هو فن الأوبرا، ثم فن الأوبريت التي تجمع بين الحوار التمثيلي والمقطوعات الغنائية الموسيقية. وكان ظهور هذا الفن في «فلورنسا» بإيطاليا أول الأمر، ومنها انتقل إلى بلاد أوروبا ومدنها كافة، وإن يكن الأدب التمثيلي قد ظل في عهد النهضة وفي المذهب الكلاسيكي يُكتب كله شعرًا، ولا يجوز أن يُكتب نثرًا.

ولما كان الأدب كغيره من الفنون يعتبر مرآة للحياة؛ فقد كان من الطبيعي أن يتطور الأدب التمثيلي مع تطور الحياة عبر القرون؛ ولذلك نرى القرن الثامن عشر — وهو قرن التفكير والنقد الفلسفي للحياة وألوان نشاطها — ينتقد الأدب التمثيلي، ويستنكر تقسيمه إلى فنين لا ثالث لهما: فن خاص بالنبلاء؛ وهو التراجيديا، وفن خاص بعامة الشعب؛ وهو الكوميديا، ويطالب بخلق نوع جديد من المسرحيات يعرض مشكلات وحياة الطبقة الجديدة الناهضة التي كانت تتحفز للثورة؛ وهي الطبقة الوسطى المعروفة «بالبرجوازية»؛ أي طبقة سكان المدن التي تكونت بنوع خاص من التجار والصناع والموظفين ورجال الفكر والفن في المدن، بعد أن ظل الريف الواسع ينقسم إلى سادة إقطاعيين هم النبلاء، وعبيد أو أشباه عبيد ملحقين بالأرض؛ وهم العمال الزراعيون، فنادى مفكرو هذا القرن، وبخاصة الفيلسوف الناقد «ديدرو» في فرنسا بنوع جديد من المسرحيات سمَّاه «الدراما البرجوازية»، ولم يكتفِ بالمطالبة بأن تستمد هذه الدراما موضوعاتها وشخصياتها من حياة الطبقة الوسطى وأفرادها فحسب، بل طالب أيضًا بأن تعالج هذه المسرحيات المشكلات التي تهم هذه الطبقة بنوع خاص؛ وهي المشكلات النابعة من الأوضاع الاجتماعية، ومن علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ومن مستلزمات المهمة المختلفة التي زاولها كل فرد في المجتمع، وذلك بدل أن يستمر المسرح في معالجة ما تسميه الكلاسيكية بالمشكلات الإنسانية العامة الخالصة؛ أي المشكلات النابعة من طبيعة الإنسان في ذاته، ولم يكتفِ «ديدرو» بهذا النقد وتلك الدعوة، بل ألَّف هو نفسه مسرحية من النوع الذي يدعو إليه؛ وهي مسرحية «الابن الطبيعي»، التي تعالج مشكلة لا تنبع من طبيعة بطلها كإنسان، بل من وضع هذا البطل الاجتماعي، وكونه ابنًا طبيعيًّا؛ أي ابنًا غير شرعي لأبوين لا يقوم مانع شرعي دون زواجهما.

ولم يكتفِ نقد هؤلاء الفلاسفة للأدب التمثيلي بالمطالبة بالدراما البرجوازية، بل اعترضوا أيضًا على تقسيم فن المسرح إلى مأساة حالكة فاجعة، وملهاة ضاحكة صاخبة، وقالوا: إنه إذا كان المسرح يعتبر مرآة أو مجهرًا للحياة؛ فإنه لا يجوز أن يقتصر على الأمور الشاذة في الحياة كالفواجع والمهازل، ومن واجبه أن يُعنى بالغالب المطرد من شئون هذه الحياة. وهذا الغالب المطرد ليس الفاجعة ولا المهزلة؛ فهذه حالات شاذَّة وأحداث عارضة، وأما الحياة في نسيجها العام فهي ليست سوداء محزنة، ولا بيضاء مضحكة، وإنما هي شيء بين بين، لا إلى هذا ولا إلى ذاك. وإذا أردنا أن يكون المسرح محاكاة صادقة أو مرآة أمينة للحياة، فمن الواجب أن يعرض هذا اللون الغالب على الحياة، والذي يتكون نسيجها العام منه. ولذلك نادَوا بلون جديد من المسرحيات سمَّوه بالدراما الدامعة، وهي مسرحية قد تغرورق منها العيون، ولكنها لا تنهمر بالدموع، كما أنها قد تدعو إلى الابتسام، ولكنها لا تشق الأشداق. وهذا النوع قد يكون سليمًا في أساسه الفلسفي، ولكنه — لسوء الحظ — لم يستطع النجاح من الناحية الفنية ومن ناحية الجماهير؛ وذلك لأن الناس يلتمسون في المسرح عادة إما الانفعال القوي، وإما الضحك الصراح، وأما التأثر الخفيف، أو مجرد التأمُّل والأسى أو الابتسام، فكثيرًا ما يصيبهم بالسأم، حتى ولو كتبت المسرحية شعرًا كما كانت تكتب الدراما الدامعة.

•••

وإذا كانت الكلاسيكية قد حرصت — مُجاراةً للقدماء — على أن تفصل بين التراجيديا والكوميديا، وألا تجمع في مسرحية واحدة بين مشاهد فاجعة وأخرى ضاحكة، فإن هذا المبدأ لم يلبث أن تعرض هو الآخر لهجوم عنيف من الرومانسيين، الذين استندوا إلى شكسبير لكي يثوروا على هذا المذهب الكلاسيكي، وقالوا: إنه ما دامت الحياة كثيرًا ما تجمع في صعيدٍ واحدٍ، وفي وقت واحدٍ بين المآسي والمهازل، فإنه لا معنى لأن يتمسك الكلاسيكيون بضرورة فصل هذين النوعين من المشاهد على المسرح، الذي هو في جوهره محاكاة للحياة، أو على الأقل مجهر يرينا دقائقها مكبرة واضحة المعالم.

ولم يقف التطور عند هذا الحد؛ فبعد الثورة الفرنسية التي مكَّنت للطبقة البورجوازية، لم تلبث أن ظهرت مع المذاهب الاشتراكية طبقة أخرى أخذت تتكتل وتسيطر شيئًا فشيئًا على مصائر الحياة وألوان نشاطها، وتلك هي طبقة «البروليتاريا»؛ أي طبقة العمال التي تمثل الشعب. وبتأثير هذه الطبقة ظهر ما يسمى الآن ﺑ «الدراما الحديثة»؛ وهي مسرحية جدية كما كانت التراجيديا القديمة، ولكنها لم تعد تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة الملوك والأمراء والنبلاء وشخصياتهم، بل تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة عامة الشعب وأفراده، بعد أن كان هذا الشعب لا تُعرض حياته وشخوصه إلا في الكوميديا، كما أخذت الدراما الحديثة بالتطور الذي أحدثته الرومانسية، وتأصَّل في الأدب التمثيلي الحديث، وهو جواز الجمع في المسرحية الواحدة بين مشاهد المأساة ومشاهد الملهاة، بشرط ألا يخلَّ اجتماعهما ببناء المسرحية، وبوحدة الأثر العام الذي تريد أن تحدثه في المشاهدين.

ولم يقتصر التطور في وسائر التعبير على المسرح عند الاستقلال بفن التمثيل عن غيره من الفنون؛ كالموسيقى والرقص والغناء، بل إن فن التعبير اللفظي نفسه وإن كان قد ظل في عصر الكلاسيكية مقصورًا على الشعر، فإن المذاهب التي تلت الكلاسيكية — مثل الرومانسية وغيرها — لم تر التقيُّد بهذه الصورة من التعبير؛ وهي الشعر، وأخذت تكتب المسرحيات نثرًا؛ لأنه أكثر طواعية ومرونة في الحوار، كما أنه أكثر طبيعية ومشاكلة للحياة، وشيئًا فشيئًا أخذ النثر يطغى على الشعر في الأدب التمثيلي حتى كاد يستأثر به في عصرنا الحاضر، بل رأينا عددًا من الأدباء في بلاد العالم المختلفة يجنحون إلى استخدام اللغة الدارجة بدل اللغة الفصحى المنتقاة كأداة للحوار في المسرح، بل أيضًا في بعض أجزاء القصة أحيانًا، وبخاصة الأجزاء الحوارية منها، وإن يكن الأمر قد تجاوز عندنا بسبب الجهل والتخلف حدَّ ازدواج اللغة في فصيحة دارجة إلى ازدواجها في فصيحة وعامية، بل في عدة لهجات عامية في أقطارنا العربية التي كان الاستعمار قد نجح في تمزيقها وفَصْم عُرَى وحدتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤