المسرح العربي الحديث
تلك كانت حالة المسرح والأدب التمثيلي في العالم الأوروبي في القرن التاسع عشر، عندما أخذت علاقتنا بذلك العالم تتوثق، وأخذنا ننقل عنه بعض فنونه، وبخاصة فن المسرح الذي يلوح أن أول محاولة لإيجاده في العالم العربي قد ظهرت في بيروت سنة ١٨٤٨، بفضل التاجر الجوال «مارون النقاش»، ثم انتشر في الشرق العربي بمُدن لبنان وسوريا إلى أن انتقل إلى مصر؛ حيث تأقلم وازدهر بفضل اتِّساع الإمكانيات وكثرة عدد الجمهور.
هذا، وفي اعتقادي أننا — نحن العرب — قد أخذنا فن المسرح عن أوروبا. ولست أرى جدوى في المماحكة التي يقوم بها بعض باحثينا عندما يروحون يلتمسون بذورًا لهذا الفن انحدرت إلينا من العرب القدماء، أو من الفراعنة، في صور أدبية أو شعبية باهتة.
فمن المؤكد أن العرب القدماء لم يعرفوا فن المسرح ولا حاولوه، وأن أساطيرهم الوثنية وغير الوثنية لم تتخذ قط صورة المسرح أو الأدب التمثيلي، كما أنهم لم ينقلوا هذا الفن عن اليونان في عصر الترجمة أيام العباسيين، كما نقلوا فلسفتهم مثلًا؛ وذلك لأن المسرح اليوناني كان وثيق الصلة بديانتهم الوثنية، وكان أبعد ما يكون عن الحياة الروحية للمسلمين. وإذا كان «متى بن يونس» قد نقل عن أرسطو كتابه عن «الشعر»، الذي يتحدَّث فيه الفيلسوف اليوناني عن فنون الشعر المختلفة، بما في ذلك فن التراجيديا والكوميديا، فإن «متى» لم يستطع فهم ما ترجم، ومن ثَمَّ لم يستطع نقله على نحو يمكن فهمه، ولا أدل على ذلك من أن نراه يترجم كلمة تراجيديا بكلمة «فن المديح»، ويترجم كلمة فن الكوميديا ﺑ «فن الهجاء»، وذلك نتيجة لتفسير خاطئ وفهم مضلل لتعريف أرسطو لفن التراجيديا بأنه فن جادٌّ يشيد بالبطولة والكوميديا، بأنها فن ضاحك ليسخر من العيوب والمثالب. وفضلًا عن ذلك كله، لم يكن ﻟ «متى بن يونس» ولا لغيره من المترجمين علم بصورة هذين الفنين، ولا بنماذج لهما. وقد ضللت هذه الترجمة الخاطئة كبار فلاسفة العرب أنفسهم على نحو ما نطالع في تعليقاتهم على كتاب «الشعر»، وهي التعليقات التي أعاد نشرها الدكتور عبد الرحمن بدوي مع ترجمة «متى بن يونس»، وترجمة جديدة لكتاب الشعر في كتاب ظهر في السنوات الأخيرة. وفي تعليق ابن رشد، نراه يجهد نفسه في البحث في قصائد المديح وقصائد الهجاء العربي عن أبيات تؤيد كل خاصية من الخصائص التي ذكرها أرسطو لفن التراجيديا والكوميديا.
وأما عن مصر الفرعونية وما يمكن أن يكون قد انحدر إلينا عنها من فن التمثيل، الذي يبدو أن أجدادنا الفراعنة قد عرفوه؛ فإن استمرار هذا الفن سرًّا من أسرار الكهنة، وعدم خروجه من المعابد، وعدم انفصاله عن الدين كما حدث عند اليونان، ثم انقطاع الصلة تقريبًا بين مصر الحديثة، التي أصبحت عربية في كل شيء، ومصر القديمة؛ كل هذا كان من شأنه أن يستبعد احتمال وراثة الشعب المصري لهذا الفن عن الفراعنة. وإذا كانت مصر والبلاد العربية الأخرى قد عرفت خلال العصور الوسطى، بل في العصر الحديث أيضًا، بعض الفنون الشعبية التي تشبه فن المسرح من قريب أو بعيد؛ مثل: «خيال الظل» و«القراقوز»، فإنه من الشاق أن نحدد أصل هذين الفنين؛ فهناك من الباحثين من يظن أن خيال الظل مثلًا نشأ أصلًا في الصين، والفرنسيون لا يزالون حتى اليوم يسمونه في لغتهم «الظل الصيني»، على حين يسميه الإنجليز «لعبة الظل» دون تخصيصه بمصدر معين، كما أن هناك من يزعم أن القراقوز فن تركي، وأن كلمة «قراقوز» مكونة من اللفظتين التركيتين: «قرا» أي أسود، و«كوز» أي عين؛ أي «العين السوداء»، بحجة أن من يعرضونه كانوا عادة من الغجر الجوالين ذوي العيون السود، وذلك على حين يزعم المستشرق الألماني المشهور «ليتمان» أن كلمة «قراقوز» تحريف تركي للاسم المصري «قراقوش»، وهو اسم لوزير من أيام صلاح الدين الأيوبي زعم المؤرخ «ابن مماتي» أنه كان وزيرًا مستبدًّا، وشاعت عنه تلك الشهرة السيئة بين عامة الشعب الذي أخذ يسخر منه، ومن ظلمه، ومن حكم قراقوش كله، بوساطة لعبة «قراقوش» التي تحوَّلت بتأثير اللغة التركية إلى كلمة «قراقوز». واتفق هذا التحريف مع المركب المزجي التركي «قرا» و«كوز». وعلى أية حال، ففي رأينا أنه من السخف الزعم بأن «القراقوز» قد تطور فأصبح فن المسرح، أو أن «خيال الظل» قد تطوَّر فأصبح فن السينما، وإنما المعقول والتفكير السليم هو أن نعترف بأننا قد أخذنا فن المسرح أخذًا عن الغرب، بعد أن أخذنا في الاتصال به وتعرُّف آدابه وفنونه، ولا أدل على ذلك من أن هذا الفن قد ظلَّ زمنًا طويلًا جدًّا يعتبر دخيلًا على حياتنا وتقاليدنا وآدابنا، بل نابيًا إن لم يكن محتقرًا. وربما كانت هذه النظرة المريبة من الأمور التي عاقت تأصُّله وازدهاره عندنا بالسرعة والعمق والأصالة الواجبة، في حين نراه يتمتع بكل هذه الخصائص عند الغربيين، وفي بيئاته التي نشأ فيها وتأصل، بل اكتسبت نشأته ما يشبه القداسة، بحكم ازدهاره في كنف الديانات، واعتباره مظهرًا حضاريًّا وإنسانيًّا بالغ الأهمية في عصور التاريخ الأوروبي المختلفة. وإذن فقد وفد إلينا فن المسرح من أوروبا، ونظر إليه جمهورنا، وبخاصة الطبقات المحافظة منه، نظرة ريبةٍ وحذرٍ، بل نظرة احتقار له ولرجاله ونسائه؛ ولذلك ظل جمهورنا ينظر إليه نظرة التسلية الرخيصة إن لم تكن المنبوذة، ولم يكن من السهل أن يلازم ظهور المسرح عندنا ظهور أدب تمثيلي رفيع. وبالرغم من تعدد الفرق المسرحية ودُور المسرح، فإنه لم تطبع مسرحيات لتنشر وتصبح جزءًا من تراثنا الأدبي «كما هو الحال عند الغربيين»، بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، إلا في سنة ١٩٢٧، وهي السنة التي ابتدأ فيها شاعرنا الكبير أحمد شوقي ينشر سلسلة مسرحياته الشعرية المعروفة: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وعنترة، وقمبيز، وعلي بك الكبير، وأميرة الأندلس النثرية، ثم كوميديا الست هدى الشعرية، التي سبق أن تحدَّثنا عنها حديثًا مفصلًا في سلسلة محاضراتنا عن «مسرحيات شوقي».
هذا، ولقد أوضحنا في كتابنا عن «مسرحيات شوقي»، وهو الكتاب الذي نوصي بالعودة إليه وقراءته كمقدمة وأساس لمحاضرات هذا العام، أوضحنا أن أحمد شوقي لم ينتظر حتى سنة ١٩٢٨ لكي يفكر في كتابة الشعر التمثيلي، بل فكَّر في ذلك منذ سنة ١٨٩٣ وهو لا يزال يدرس في فرنسا مبعوثًا من الخديوي عباس الثاني، وقد كتب في تلك الفترة النسخة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير»، وأرسلها إلى الخديوي، ولكنها فيما يبدو لم تصادف من نفس الخديوي حماسة كبيرة؛ لأنه كان يفضل — بلا ريب — أن يرسل إليه شوقي قصيدة مدح لا مسرحية تمثيل؛ ولذلك لم يستمر شوقي في هذا الاتجاه، وإن يكن قد نشر هذه النسخة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير» التي كان قد كتبها شعرًا، ولكن في لغة قريبة من اللغة الدارجة. ولم يعد شوقي إلى الشعر التمثيلي إلا بعد أن تغيَّر وضعه الاجتماعي واقترب من الشعب، وابتعد عن السراي بعض الشيء، على أثر تلك الأحداث الجسيمة التي شهدها؛ من نفيٍ في إسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى، ثم عودة إلى الوطن بعد انتهاء تلك الحرب؛ ليشهد ثورة سنة ١٩١٩ الشعبية الكبرى، وهي تلك الثورة التي أشعرته وأشعرت الجميع بأن الشعب قد أصبح هو السيد الأول. ولم يلبث شوقي أن عاد في سنة ١٩٢٧ — كما قلنا — إلى الشعر التمثيلي؛ ليؤلف سلسلة مسرحياته المذكورة، ويعيد كتابة مسرحية «علي بك الكبير» بأسلوبه الشعري الجزل الذي اكتملت له أداته.
ولقد فصلنا في محاضراتنا عن مسرحيات شوقي مدى تأثره بالكلاسيكيين الفرنسيين، ومدى اختلافه عنهم، كما أوضحنا إلى أي حد استطاع شوقي أن ينقذ القيمة الدرامية لمسرحياته من طغيان طاقته الغنائية العارمة، بما لا نرى محلًّا للعودة إلى الحديث عنه.
وفي سلسلة محاضرات العام الحاضر — وهي السلسلة الثانية من حديثنا عن الشعر بعد شوقي — تحدثنا عن المسرحيات الشعرية التي كتبها رائد جماعة أبوللو الدكتور أحمد زكي أبو شادي لا كمسرحيات، بل كأوبرات تُلحَّن ويُتغنَّى بها، وفصلنا الحديث عن أربع منها؛ هي: «الآلهة، وأردشير، والزبَّاء، وإحسان»، كما تحدَّثنا أيضًا عن المسرحيتين الشعريتين اللتين ألفهما الشاعر علي محمود طه؛ وهما: «أرواح وأشباح» و«أغنية الرياح الأربع»، مما يقتضي العودة إلى تلك المحاضرات كحلقة سابقة على حلقة هذا العام، التي نواصل فيها الحديث عن المسرح الشعري في أدبنا المعاصر؛ أي المسرح الشعري بعد شوقي، على نحو ما تحدَّثنا في محاضراتنا الأخرى عن الشعر الغنائي بعد ذلك العملاق.