تمهيد

يمكن تحديد العصر الذي عاش فيه هيرودوت، والذي كتب فيه تاريخه إلى حدٍّ ما من الدقة من مؤلفه. فمن ناحية، يبدو أنه تحدث إلى شخص واحد على الأقل كان شاهد عيان لبعض الحوادث الهامة في الحرب الفارسية، ومن ناحية أخرى عاش هيرودوت بعد بدء حرب البيلوبونيز، وكان على إلمام بكثير من الأحداث التي وَقَعت في الجزء الأول منها، وعلى ذلك، لا بد أنه عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ولا بد أنه كتب بعض أجزاء من تاريخه في زمن مبكر يصل إلى سنة ٤٣٠ق.م. وبطبيعة الحال، لا بد أن يكون قد وُلِد في أوائل ذلك القرن، وأنه من الجيل التالي لجيل فاتحي سالاميس.

من ذلك يُمكننا أن نستنتج أن هيرودوت وُلِد في حوالي عام ٤٨٤ق.م. أما مسقط رأسه فلا يَحوطه أي شك، سواء في العصور القديمة أو في الحديثة. إنه من مدينة هاليكارناسوس، وهي مستعمرة دورية في آسيا الصغرى.

يمكن الحكم على درجة ثقافة هيرودوت من مؤلفه، ولم تصلنا عنها أية معلومات خاصة.

يبدو مما كتبه هيرودوت أنه عبَّ من المنهل الهوميري حتى ارتوى، ويتضح أنه تلميذ هومير من تصميم وخُطة مؤلَّفه، ومن ترتيب ونظام أجزائه، ومن روح وطبيعة أفكاره، ومن عشرة آلاف مصطلح صغير وكلمة استعملها، ويظهر جليًّا أنه كان مُلِمًّا بالملحمتين الإغريقيتين العظيمتين القديمتين بنفس إلمام الرجل الإنجليزي الحديث المثقف بشكسبير، ولم تكن معلوماته الواسعة هذه على حساب التضحية بالقراءات الأخرى، فيمكننا أن نتساءل عمَّا إذا كان هناك مؤلف هام واحد في جميع الأدب الإغريقي أمكنه الحصول عليه ولم يلم به إلمامًا مناسبًا.

إن كان هناك شيء محقق عن حياة مؤلفنا هذا فهو أنه عاش النصف الأول من حياته في آسيا الصغرى، والنصف الآخر في بلاد الإغريق الكبرى.

ومن الواضح أن زيارته لمصر التي تتصل بها رحلاته الأخرى ما في ذلك شك كانت بعد ثورة إيناروس (سنة ٤٦٠ق.م.) إذ يقرر أنه رأى جماجم من قُتلوا في معركة بابريميس Papremis الكبرى، التي تسلم بواسطتها إيناروس مقاليد الحكم، ومع ذلك فلا يمكن أن تكون بعدها بزمن طويل، وإلا لما استُقبل بذلك الترحاب الذي سمح له بحرية دخول المعابد المصرية والاطلاع على سجلاتها. فهناك كل دليل نستطيع به أن نستنتج منه أن زيارته لمصر كانت في فترة السنوات الست، من ٤٦٠–٤٥٥ق.م. بما فيها أول الفترة وآخرها، والتي خلالها احتلت الجيوش الأثينية تلك المملكة؛ حيث جعل معروفُها المصريين يرحبون بكل إغريقي يزور بلادهم، ويعاملونه بكل مودة على خلاف غيرتهم العادية من الأجانب، وعلى هذا يكون قد زار مصر بين الرابعة والعشرين والتاسعة والعشرين من عمره.

يحتمل أن يكون هيرودوت قد ظل مُقِيمًا في هاليكارناسوس مع قيامه برحلات طويلة لجمع المعلومات التاريخية والجغرافية، حتى قرب عام ٤٤٧ق.م. حيث صار في حوالي السابعة والثلاثين من عمره، وقد وصل بمؤلفه إلى درجة معينة من التمام، ولو أنه كان أقل مما صار إليه أخيرًا. عندئذٍ انتقل إلى بلاد الإغريق نفسها، وأقام في أثينا، والظاهر أن هاليكارناسوس كانت قد طَرَدَت طُغاتها قبيل ذلك وانضمت إلى الحلف الأثيني؛ ولذلك رحب بمؤلفنا الصغير من أجل خاطر بلده، كما رحب به من أجل خاطره هو نفسه. وإذا كان لنا أن نثق بأقوال إيوسيبيوس فإن مجلس أثينا قرر في سنة ٤٤٦ق.م. مكافأة لهيرودوت عن مؤلفه التاريخي العظيم، الذي قرأه علنًا على أهل أثينا.

ليس من الصعب أن نستنتج السبب الذي دفع مؤلِّفنا إلى مغادرة أثينا مع إعجاب أهلها به، والإقامة في إحدى المستعمرات التابعة لها؛ فلم يكن يستطيع الحصول على حقوق المواطن في أثينا، وإن الإغريقي غيرُ المُولع بجمع الأموال أو المهتم بدراسة الفلسفة ليَشُقُّ عليه ألا تكون له حقوق سياسية كي يشترك فيما يكوِّن الحياة اليومية، ويشغل الفكر باستمرار فيما حوله، وقد قال أرسطو: «لا يكون الرجل رجلًا إلا إذا كان مواطنًا»، وهذا هو الشعور الذي كانت تُحِسُّ به جميع الأمة الإغريقية. وفضلًا عن هذا كانت الحياة في أثينا شأنها شأن سائر العواصم، باهظة النفقات، وإن الثروة التي كانت تُعتَبر طائلة في هاليكارناسوس إذا لم تكن قد نفدت في أثينا، فإنها لا تكاد تُمَكِّن الإنسان من الحياة فيها. ويدلُّ قبول هيرودوت مبلغًا من المال من الشعب الأثيني على أن موارد معيشته كانت قد انخفضت وقت ذاك. ربما تكون موارده قد نضبت من جراء نفقات رحلاته الطويلة. تأثرت بمغادرته هاليكارناسوس. وعلى أية حال دفعته ظروفه إلى الترحيب بالدعوة التي وجهتها أثينا إلى المغامرين في جميع أنحاء بلاد الإغريق كي يحصل كل منهم على قطعة أرض تجعله فوق مستوى الاحتياج، وينال فيها حقوق المواطن، وعلى ذلك انضم هيرودوت في سنة ٤٤٣ق.م. وكان قد جاوز الأربعين من عمره، بناءً على الشهادة الاجتماعية لقُدَامَى الكُتاب، إلى فئة المستعمرين الذين أرسلهم بيريكليس إلى إيطاليا، وصار من أوائل مستوطني ثوريوم.

يبدو أن هيرودوت انكبَّ على مؤلَّفه في ثوريوم، وكرَّس له وقته كله.

وفي الوقت عينه لا نِزاع في أنه كتب مؤلَّفًا منفصلًا عن تاريخ آشور، الذي مال الاتجاه الحديث إلى إنكار نسبته إليه.

أما زمان ومكان موته فموضعان للجدل؛ فلا توجد أية علامة في مؤلَّف هيرودوت تدل على أنه عاش بعد سن الستين، وفضلًا على هذا تُشير بقية الأدلة إلى أنه تُوفِّي في ثوريوم وهو في حوالي الستين من العمر، وبِذَا يكون قد تجنب الويلات التي مرت بوطنه الجديد أثناء الجزء الأخير من الحرب البيلويونيزية، ويكون قد تحاشى ألَمَ رؤية الولاية التي كان من مواطنيها وهي تنضم إلى صفوف أعداء بلده المحبوب أثينا.

لا جدال إطلاقًا في منزلة هيرودوت ككاتب، وإن الذين يَحُطون من مقدرته كمؤرخ .. ليشيدون بجمال إنشائه وأسلوبه ويعتبرونهما السبب الذي بهر النُّقَاد، وجعلهم يرفعون من قدرته على التأريخ، ويُبَالِغُون في دقة تاريخه، وقلَّمَا يوجد صوت ضد هذا الرأي بين عظماء النقاد، سواء أكانوا من القدامى، أم من المحدثين الذين يتفقون جميعًا على أن مؤلفنا مثالي في ترتيب تواريخه، وجودة إنشائه.

وحدة الموضوع أهم ضروريات كل عمل أدبي، سواء كان شعرًا، أو إنشاءً موضوعيًّا، أو تاريخًا، أو قصصًا. وإذ اختار هيرودوت موضوعًا لمؤلَّفه، جزءًا خاصًّا من تاريخ بلاد الإغريق، وقصر جهوده على سرد الحوادث المتعلقة بموضوعه: إما مباشرةً، أو عن طريق غير مباشر، فقد حصل بذلك على وحدة عمل كافية لإرضاء أقصى مطالب الفن، وهي في الحقيقة معادلة لصفات أبرع ما أنتجه الخيال. فبدلًا من أن يضطلع بالعمل المعقد الصعب، وهو كتابة تاريخ الجنس الهيليني إبان فترة بعينها، جلس وفي ذهنه هدف (أوَّلِي): أن يسجل بإخلاص جميع حوادث حرب معينة. لم يكن ما اختاره لموضوعه الأصلي هو النزاع بين جنسين، ولا تلك الخصومة في أعنف صورها — ذلك النزاع بين الأغارقة والفرس، بل كان قصده الحقيقي كتابة تاريخ حرب الغزو الفارسي لبلاد الإغريق — ذلك النزاع الذي بدأ بحملة ماردونيوس الأولى، وانتهى بهزيمة الأسطول العظيم والجيش الذي جمعه وقاده كسيركسيس Xerxes ضد الإغريق، هزيمة منكرة. وقد كتب الجزء الأول من سرده للأمور الداخلية لحملة ماردونيس في صور مقدمة يمكننا أن نستخلص منها غرضين؛ كان الغرض الأساسي لهيرودوت هو أن يروي قصة قيام ونمو وتقدم تلك الإمبراطورية العظيمة التي كانت خِصمَ بلاد الإغريق في ذلك النزاع، أما غرضه الثانوي فهو بيان الظروف التي دعت إلى قيام العداوة والحرب بين هاتين الأمتين، وكلا هذين الغرضين ذو علاقة وثيقة بالغرض الأصلي من ذلك التاريخ؛ فأحدهما ضروري للحصول على معلومات دقيقة لتقدير عظمة تلك الحرب والأمجاد التي يحظى بها مَن ينتصر فيها، والغرض الثاني ضروري لإبداء الأسباب التي دعت إلى نشوب الحرب، وليُلْقي ضوءًا هامًّا على سير الغزو وسلوك الغزاة.

لو اقتصر هيرودوت في كتابته على هذه العناوين الثلاثة، وهي: نمو الإمبراطورية الفارسية، والعداوة السابقة بين بلاد الإغريق وفارس، والسير الحقيقي لتلك الحرب العظمى، لكان تاريخه ضعيفًا هزيلًا يفتقر إلى التنوع، ولكي يتحاشى هيرودوت هذه النتائج تراه ينتهز كل فرصة تسنح له، فينحرف عن السرد الأصلي ويضمنه شيئًا من معلوماته الواسعة المتنوعة، سواء كانت تاريخية أو جغرافية أو علم الآثار. وهكذا، وضع أمام مواطنيه صورة عامة عن الدنيا وعن مختلف أجناسها، وعن التاريخ السابق لتلك الشعوب ذات التاريخ، وأضفى على مؤلَّفه عظمة واتساعًا وضعاه في مصاف تواريخ الدرجة الأولى. وقد اهتم في الوقت نفسه بتنويع صفحات مؤلَّفه، فنثَر بين قصصه الجديدة قصصًا قصيرة وأوصافًا من نوع أخف صارت تذييلات لطيفة للسرد الأصلي تُضفي روحًا تُخفِّف من ثقل النغمة العامة، ومن الخواص الرائعة الواضحة في هيرودوت، والتي لاحظها جميع النقاد، تنوُّع وجزالة مواد الحلقات التاريخية. لقد نجح هيرودوت في ربط حلقاته بالموضوع الأصلي، وذلك بدقته الفائقة، وحكمه العظيم على الأحداث، ومثابرته الفذة على العمل، وبذا حافظ على سلامة الموضوع من التعقيد والتضارب ومقاطعة السرد العام.

أما عن وحدة الأسلوب في خطة تاريخه فيمكننا أن نعترف بروعة رسمه للشخصيات، رسمًا ناجحًا قوي التأثير، سواء أكانت تلك الشخصيات شعوبًا أم أفرادًا. وأنَّ تصويرَه للشعوب الأصليين الذين تناولهم سرده، وهم: الفرس والأثينيون والإسبرطيون، لَتصويرٌ تسجيلي غاية في الإبداع، فنراه يصوِّر الشعب الفارسي القديم شجاعًا نشيطًا متوثبًا، قادرًا على قول الحِكَم والأمثال في مواضِعِها الحقة والردود المقنعة، غير أنه مع ذلك ضعيف، عاطفي، يُطيع حكامه طاعةً عمياء، فيوضح هذا هيرودوت في صفحات مؤلَّفه بأسلوب تصويري دُونه تصوير المصورَين الفرنسيَّين شاندان ومورييه، اللذين صوَّرَا الفُرس المحدثين في القرن الثامن عشر بعد الميلاد من نسل أولئك القدامى. وقد ميز هيرودوت هذا الشعب عن بقية الشعوب البربرية الأخرى، فأبَان رقة أخلاقه ومرحه اللذين يُقربانه من الجنس الهيليني، ولكنه يُناقض الأغارقة في هجرانه العاطفي، وخضوعه في ذلة لأوامر حُكامِه المُستبدين. كل هذا يتجلى بوضوح في ثنايا مؤلَّف هيرودوت، بأسلوب يؤكد صحة المعلومات، وينُم عن الحقيقة الخالصة، ويربط أولئك القوم بالمستشرقين الغريبي الأطوار، وهم «الفرنسيون المقيمون في بلاد الشرق»، الذين كانوا يعيشون في بلادهم وقتذاك. ولما كان الشعب الفارسي القديم نشيطًا، حيويًّا، ذكيًّا، ألمعيًّا، رشيقًا، ولكن في غير كرامة ولا كبرياء، بل كان ذليلًا متملقًا؛ فإمَّا أن يكون طاغية جبارًا، أو يكون عبدًا ذليلًا، فإنه يُناقض أمم الشرق الأخرى التي إما أن تتصف بالفظاظة، والجرأة، والغطرسة، وحب الحرية، كالأكراد والأفغانيين، أو بالخمول والاستهتار كالهندوس. وإن استمرار تصوير الشخصيات المُنقطع النظير هذا لَيؤكدُ إخلاص وصدق مؤلفنا الذي يبدو حتى في القسم الزُّخرفي من موسوعته التاريخية مقصورًا على ذكر الحقائق الواقعية.

أما الأغارقة فيختلفون عن الفرس اختلافًا صارخًا في كثير من الوجوه. نرى ذلك التناقض بوضوح في الخلق الإغريقي الذي يميز الأجناس الدورية الأصل Doric ويتخذ أكمل مظاهره بين الإسبرطيين. فتدل الصورة التي رسمها هيرودوت على القوة والمهارة، وصور الإسبرطيين أمام أعيننا بعدد قليل من اللمسات المتقنة، وببعض القصص المختارة، والملاحظات الحادة بين الفينة والفينة. بهذا يصورهم أمامنا كأفراد وكشعب بطريقة تسجيلية ربما تفوَّق فيها على أي كاتب آخر، فنلمس من خلال سرده اعتزازهم بأنفسهم، وروحهم المولعة بالاستقلال، وخضوعهم التام لقوانينهم عن رغبة خالصة، وشدة بأسهم وقوتهم كجيش محارب، وحكمتهم البالغة، كل هذا في أسلوب تتخلله بعض لمسات من الدعابة والمرح. وفي الوقت ذاته نراه لا يني عن إبداء الجانب الأسود من أخلاقهم، فيُبدي بجانب أنانيتهم، وتأخرهم، وشدة حذرهم في السياسة الشعبية، وخداعهم، ومرائهم، وتملقهم في بعض الأحيان، وعدم قدرتهم على مقاومة السلطات المحتلة، واستعدادهم لقبول الرشوة، وقسوتهم، وافتقارهم التام إلى الرأفة سواء نحو الأصدقاء أو الأعداء، يرسم لنا هيرودوت صورة كاملة لكل هذا، ليست أخاذة في مظهرها بأكثر مما هي رائعة في استمرارها، وتتفوق على كل ما نعرفه من المصادر الأخرى لأئمة رجال الإغريق.

يتجلى مثل ذلك الإخلاص والقوة الوصفية في الصورة التي يُقدمها لنا عن الأثينيين، فهم كالإسبرطيين يحبون الاستقلال والحرية، بواسل ماهرون في القتال، يتفانون في محبة وطنهم، ومنذ أن صارت لهم حكومة تتفق واحتياجاتهم أحبوها وتمسكوا بها. كذلك يُشبهون الإسبرطيين في القسوة وعدم الرحمة بخصومهم، ويختلفون عنهم في صراحة سياستهم الشعبية، ونشاطهم، وحبهم للعمل إلى درجة التهور، وثبات أخلاقهم، وهم يميلون إلى المباهاة أكثر من الكبرياء، ونراهم كجنود يتصفون بالإقدام أكثر من الثبات، أما أخلاقهم فرقيقة وعالية، وهم أذكياء، كُرماء للضيف، يحبون الأناقة وحُسن المظهر، ونراهم في بعض الظروف أكثر اعتدالًا وإنكارًا للذات من أغلب الأغارقة، ويملكون إلى حدٍّ معين روحًا كريمة من الهيلينية الكلية، وإذ أُعجب هيرودوت بالخدمات التي قدمها الأثينيون للفرض المشترك إبان الحرب العظمى، فربما يكون قد بالغ في ادِّعائهم بهذه الصفة الأخيرة، فعلى الأقل سنجد أن اهتمامه الشخصي بهم قد فسر سلوكهم إبان النضال تبعًا لميله إليهم. وتدل الظروف التي حدثت قبل الحرب وبعدها على أنه لم يكن لديهم أيُّ شكٍّ في استعداد الفرس لمقاتلة أبناء جلدتهم في الوقت الذي توقعوا فيه الربح من ذلك العمل. كما لا يجب أن ننسى — في أي تقدير للخلق الأثيني — أنهم ضربوا المثل في الاستعانة بالفرس ضد أعدائهم الهيلينيين. لا نزاع في أن الظروف كانت وقتذاك قاسية، وأن عزمهم على عدم قبول المساعدة على حساب التضحية باستقلالهم كان خليقًا بروحهم العالية كأمة. بَيْد أنه لا تزال هناك حقيقة أن العدو المشترك قد عرف عن طريق دعوة أثينا مقدار ما كانت تأمل فيه من وراء ذلك النزاع الداخلي والغيرة المتبادلة بين الولايات الإغريقية.

من الشخصيات الفردية التي أبدع مؤلفنا في تصويرها ملوك الفرس الأربعة الذين تناولهم سرده، والملوك الإسبرطيون؛ كليومينيس، وليونيداس، وباوسانياس، ورجال السياسة والقوَّاد الأثينيون؛ نيميستوكليس، وأرستيديس، والطغاة؛ بير ياندر، وبولوكراتيس، وبيزيستراتوس، وأماسيس ملك مصر، وكرويسوس ملك ليديا.

ولم تصور شتى ألوان الخلق والذوق الشرقيين بأروع من الصورة التي قدمها لنا هيرودوت عن أربعة من الملوك الأخايمينيين الأوائل، وهم: كوروس الزعيم الجبلي الساذج، الشديد البأس، البالغ النشاط، والموهوب بالطموح البالغ والنبوغ الحربي العظيم، الذي تغير عندما اتسعت مملكته إلى ملك طيب القلب وصدوق يعتبر نفسه أبًا لشعبه … فكان حليمًا مؤدبًا في معاملة رعاياه. وقمبيز الذي كان الصورة الأولى لطغاة الشرق، ورث عن أبيه القوة وكثيرًا من مواهبه، غير أن ظروف مولده وتربيته العسكرية أفسدته، فصار قاسيًا متهورًا، عنيدًا، لا يكبح جماح نفسه، يثور إذا عُورِض، ولم يكن قاسيًا فحسب، بل ومتوحشًا أيضًا. وداريوس الذي كان مثال الأمير الشرقي، شجاعًا ذا عقل راجح وداهية، بارعًا في كل فنون الحرب والسِّلم، نظَّم ووحَّد إمبراطوريته، كما عمل على توسيع رقعتها، وعلاوة على ذلك كان رقيق الإحساس، محبًّا لأصدقائه، حليمًا، كريمًا في معاملته لأعدائه المدحورين، ولم يلجأ قط إلى القسوة إلا في مراعاة النظام عندما يحتاج كيان إمبراطوريته إلى قدوة. وكسيركسيس الذي كان الصورة التالية للطاغية وأقل منه، كان ضعيفًا، طائشًا في عقلية الأطفال، كما كان أنانيًّا، وقاسيًا، وجبانًا، ومتقلبًا، ومُنْحَل الأخلاق، ومُترفًا تلعب به النساء، وكذلك رجال الحاشية في سهولة، وعلاوة على ذلك كان يعتقد في الخرافات، مغترًّا بنفسه، خاليًا من الشهامة والنخوة الحقة، ولا يُبدي كرم الخُلق إلا في بعض المناسبات النادرة عندما لا يحدث ما يُعكر صفو مشاعره.

علاوة على مهارة هيرودوت في تصوير الشخصيات نراه قوي التأثير على العواطف، وهي ميزة لا يدانيه فيها إلا قليل من الكتاب، سواء أكانوا مؤرخين أم غير مؤرخين، ومن أمثلة ذلك قصة زوجة إنتافيرنييس وهي تبكي وتعول باستمرار أمام باب الملك، وقصة بساميتيخوس وهو جالس في ضاحية عاصمته يشاهد بعينَي رأسه ابنته تخدم كعبدة، وابنه يُساق إلى الموت، ومع ذلك «لا يُبدي أية علامة على الحزن»، وإنما ينخرط في البكاء عندما يمر به صديق قديم ويسأله صدقة. هاتان القصتان مَثَلان لروعته في ذلك المضمار، في محيط كتاب واحد، يصعب أن نجد لهما مثيلًا في جميع مؤلفات أي مؤرخ آخر. بَيْد أن أعظم نموذج لجدارته في هذا المجال موجود في قصة كرويسوس. ومما استرعى انتباهنا تمامًا أن المجلد الخاص بأشهر الروايات يتضمن حكايات جميلة القصص، علاوة على قصة موت آتيس.

وكذلك يشمل تقريظنا قصة حياة كرويسوس منذ زيارة سولون إلى منظر وضع الجثة فوق كومة الحريق، التي هي من أروع قصص إثارة العواطف؛ إذ تتجلى فيها قوة تراجيدية من الطراز الأول.

ربما كان أعظم مظهر جذاب في جميع مؤلَّف هيرودوت هو التنوع العجيب، فلا يسترسل قط في السرد مدة طويلة دون أن يُضمِّنه مادة استطراديه طريفة من غير أن يُطيل فيها إطالة تبعث على الملل، وكمؤرخ نراه يبزُّ غيره في تنوع معلوماته؛ إذ يحاول أن يضع العالم المعروف كله تقريبًا في نطاق قصته، ويُلقي نظرة على الماضي في بدء قصة كل دولة وكل إمبراطورية، فيضع أمام عيوننا منظرًا شاملًا للتاريخ، به محل لجميع الماضي والحاضر، والقريب والبعيد، والممالك المتحضرة، والقبائل البربرية، والملوك، والكهنة، والحكماء، والمشرِّعين، والقواد، ورجال البلاط، والأفراد العاديين … محل يصور ببراعة ما لهم وما عليهم، ويقدمهم لنا في مهارة جذابة. كذلك من أعظم ما يلفت الأنظار تنوع أسلوبه الذي استخدمه بنجاح متساوٍ في كل من الوصف والقصص، ونلاحظ فيه بوضوح علاجه الفذ للموضوعات العاطفية، وانهماكه بين آونة وأخرى في الموضوعات التراجيدية دون أن يكون عاطفيًّا كما في حالة أسطورة جوجيس، وقصة موت كوروس، وانتحار كليومينيس، وفوق كل هذا المشهد الرائع الذي يصور آخر لحظات في حياة بريكساسبيس؛ حيث بلغ هيرودوت الذروة في هذه، وفي روايته لقصة موت آدراستوس.

أعظم ميزة لمؤلفنا وآخر ما يستحق انتباهًا خاصًّا بساطته وسهولته، فسرده وأفكاره ينسابان في سلاسة طوال مؤلَّفه، فنراه يُكثِر من استعمال الكلمات الشائعة والمألوفة، ويتحاشى المحسنات اللفظية والصور البلاغية، الأمر الذي استرعى انتباه جميع النقاد ونال إعجابهم. ليس الإنشاء فنًّا عند هيرودوت، بل هو تدفق تلقائي للألفاظ والعبارات، فلا يُضفي رشاقة مصطنَعة على أسلوبه، ولا يتكلف العبارات البلاغية، بل يكتب كما يقوده موضوعه؛ يرتفع معه، ولا يعلو فوق مستوى الحشمة الطبيعية، أو يصل إلى حد الألفاظ الزخرفية، ليست كلماته بسيطة وعادية فحسب، بل وتركيب جُمَلِه في غاية البساطة والبعد عن التعقيد، وكما لاحظ أرسطو، لا يكتب هيرودوت بعبارات متكلفة، وإنما بجمل مستمرة التدفق لا تنتهي إلا عندما يتم المعنى. ولهذا كان أسلوبه واضحًا رقراقًا، ليس بمتكلف، ولا جاف، ولا يترك مجالًا للشك في معانيه.

لا تتطور بساطة أسلوب هيرودوت من عدم التكلف والعبارات المألوفة إلى الفظاظة والخشونة؛ فأسلوبه كامل حر متدفق، ونلمس فيه اختلافًا واضحًا عن الأسلوب الجاف والعبارات المقتضبة للمؤرخين السابقين. ولو ألقينا نظرة على بعض قطع من مؤلفات كُتَّاب الإغريق المبكرين التي وصلت إلينا لدهشنا لجفاف أسلوبها وبدائيته وعدم حيويته، حتى ولو كان ذلك من أعمال أشهر المؤرخين السابقين أو المعاصرين لمؤلِّفنا. وإذا قارنَّا أسلوب هيرودوت بأسلوب الكُتَّاب العاديين في عصره حصلنا على وسيلة دقيقة لتقدير الفترة التي تفصل بين هيرودوت ككاتب، وبين من سبقوه، وهذه فترة عظيمة بدرجة تجعل الأسلوب الإنشائي الذي كتب به هيرودوت نوعًا من الفن الجديد، وتجعله جديرًا حقًّا باللقب الذي لم يُنازِعه فيه أحد وهو «أبو التاريخ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤