الفصل الرابع عشر

التقاليد المصرية

بعد أن تنتهي الوليمة في الحفلات الاجتماعية لطبقة الأغنياء يمر خادم على الزائرين وهو يَحمِل نعشًا به تمثال خشبي منحوت ومطلي بالألوان ليحكي جثة طبيعية لشخصٍ ميت بقدر الإمكان. يبلغ طول التمثال ذراعًا أو ذراعين. ويقول الخادم وهو يُقدِّمُه لكل ضيف بدوره: «تأمل في هذا التمثال، واشرب وكن مرحًا، فعندما تموت ستكون على هذه الصورة.»

هناك عادة أخرى يحاكي المصريون فيها بعضًا من الشعوب الإغريقية يُعرَفون باللاكيدايمونيين. عندما يرى الصغار الكبار في الطريق يفسحون لهم الطريق وينتحون جانبًا. وإذا أقبل شخص كبير إلى حيث يوجد الصغار نهض هؤلاء الصغار من مجلسهم واقفين. ويختلف المصريون عن جميع الشعوب الإغريقية في نقطة ثالثة، فعندما يُقابل أحدهما الآخر في الطريق لا يتحدث كل منهما إلى الآخر، بل ينحني ويُخفِض يديه إلى ركبتيه.

يلبس المصريون جلبابًا من التيل ذا أهداب حول الأرجل يُقال له كالاسيريس، ويرتدون فوقه ثوبًا من الصوف الأبيض. وتُحَرِّم عليهم ديانتهم أن يذهبوا إلى المعبد مرتدين أي ثوب من الصوف أو يدفنوا به.

كذلك اكتشف المصريون مَن مِن الآلهة يُقدَّس كل يوم وكل شهر، وكانوا يعرفون منذ ولادة المرء١ ما سَيُلاقِيه طول حياته. كذلك اكتشف المصريون تنبؤات عديدة أكثر من بقية شعوب العالم. فكلما صادفوا أمرًا غريبًا لاحظوه ودونوا ملاحظاتهم عنه والنتائج التي ينتهي إليها. فإذا تكرر حدوث نفس الشيء توقعوا نفس تلك النتائج.

مارس المصريون الطب بطريقة استقل فيها كل فرع من فروعه عن بقية الفروع الأخرى، فكل طبيب يعالج نوعًا خاصًّا من الأمراض فقط ولا يُعالج غيره. وبذا كانت البلاد زاخرة بالأطباء، بعضهم متخصصون في أمراض العيون، وآخرون في أمراض الرأس، وبعض ثالث لا يُعالِج سوى أمراض الأسنان، ويختص غير هؤلاء في اضطرابات الأمعاء، وبعض آخر في أمراض غير موضعية، وهكذا.

سأبين لك، أيها القارئ طريقة المصريين في الحداد وإقامة الجنائز. عندما يموت أحد الوُجهاء تطلي نساء الأسرة رءوسهن بالطين، وأحيانًا يَطلِين وجوههن أيضًا، ويتركن الجثة خارج الدار، ويَطُفن بطرقات المدينة وقد ربطن أثوابهن بأشرطة، وتركن صدورهن عاريات، يلطمنها بأيديهن وهن سائرات، وينضم إليهن جميع النسوة قريباتهن فيفعلن مثلهن. أما الرجال فيفعلون مثلهن، ويلطمون صدورهم على انفراد، وبعد الانتهاء من هذه التقاليد تُنقَل الجثة للتحنيط.

هناك فئة خاصة في مصر تمارس فن التحنيط، وتتخذه مهنة خاصة بها. وعندما يتسلمون جثة لتحنيطها يُقدِّمون إلى أهل الميت نماذج جثث من الخشب مطلية بالألوان المماثلة للألوان الطبيعية. وأجود هذه الطرق وأعظمها كمالًا طريقة مَن لا يسمح لي احترام الدين بذكر اسمه فيما يتعلق بهذا الأمر. أما الطريقة الثانية فتَقِل عن هذه في الجودة والنفقات. وأما الثالثة فأرخصها جميعًا .. يشرح أخصائيو التحنيط كل هذه الطرق لأهل الميت، ثم يسألونهم عن الطريقة التي يرغبون في أن تُحنَّط بها الجثة. وبعد الاستقرار على نوع التحنيط، والانتهاء من المساومة على الأجر، ينصرف أهل الميت ليبدأ خبراء التحنيط عملهم. وأجود تحنيط يكون هكذا: يأخذ المحنطون خُطَّافًا من الحديد٢ يسحبون به المخ من الخياشيم، وبذا يتخلصون من جزء منه. أما بقيته فيزيلونها بنقع الجمجمة في عقاقير خاصة. بعد ذلك يشقون أحد جانبي الجثة بحجر٣ إثيوبي حاد، ويستخرجون عن طريقه جميع محتويات البطن الذي يُنَظِّفونه بعد ذلك بأن يغسلوه جيدًا بكحول النخيل، ثم يغسلوه بعد ذلك عدة مرات بمحاليل العطور، بعد هذا يملئون تجويف البطن بأنقى أنواع المر المكي المجروش، وخيار الشنبر، وجميع أنواع التوابل ما عدا اللبان الذكر، ثم يَخِيطون الفتحة. وبعد كل هذا، يضعون الجثة في النطرون لمدة سبعين يومًا بحيث يُغطيها تمامًا، وبعد انقضاء هذه المدة التي لا يجب أن تزيد على هذا القدر يُغسل الجسم كله، ويُلَف من الرأس إلى القدم بمنسوج التيل الرفيع، ويُطلَى بالصمغ الذي يستعمله المصريون عادة بدل الغراء، ثم يُسلَّم على تلك الحال لأقاربه، فيضعونه في صندوق خشبي صنعوه خصيصًا لهذا الغرض على صورة إنسان، ثم يقفلون الصندوق ويضعونه في الضريح، ويسندونه رأسيًّا إلى الحائط. هذه هي أغلى الطرق لتحنيط الموتى.

أما إذا أراد أهل الميت الاقتصاد في نفقات التحنيط، واختاروا الطريقة الثانية فهاكھا: تُملأ عدة محاقن بزيت يستخرج من شجر الأرز، ثم يُحقن الزيت في بطن الجثة، وتُسَد الفتحة التي يعود منها هذا الزيت، وتُوضع الجثة بعد ذلك في النطرون مدة السبعين يومًا المعلومة. وبعد انقضائها يُترك الزيت ليَخرُج من الجثة. وهذا الزيت قوى المفعول لدرجة أنه يخرج معه كل المعدة والأمعاء في حالة سائلة، كما أنه يكون قد أذاب اللحم فلا يبقى من الجثة غير الجلد والعظام. ويُعَاد الميت وهو على تلك الحال إلى أقارب الميت دون عمل أي إجراء آخر.

وطريقة التحنيط الثالثة التي تستخدم في حالة الطبقات الأكثر فقرًا هي: تُزال الأمعاء بمحقن، ثم تُترك الجثة في النطرون مدة سبعين يومًا، ثم تُسلم بعد ذلك مباشرةً لمن يَحضرون لتَسلُّمها.

لا تُرسَل نساء الطبقات الراقية إلى التحنيط بعد موتهن مباشرة، ولا النساء الجميلات أو الجليلات القدر. لا يُؤخذ هؤلاء إلى متخصصي التحنيط إلا بعد أن يمضي على موتهنَّ ثلاثة أو أربعة أيام؛ وذلك لعدم الحط من أقدارهنَّ.

وإذا قتل تمساح شخصًا، سواء أكان أجنبيًّا أو مصريًّا، أو غَرِق شخصٌ في النهر فإن القانون يُحتِّم على سكان المدينة التي أُلقِيت الجثة بقربها أن يحنطوها ويدفنوها في أحد المقابر المقدسة مع القيام بكل ما يُمكِن من مظاهر التبجيل،٤ ولا يُسمح لأحدٍ قَط حتى ولا الأقارب أو الأصدقاء أن يَمسُّوا الجثة، وإنما يقوم كهنة النيل دون سواهم بإعداد الجثة بأيديهم للدفن — مُعتبرين إياها أكثر من جثة إنسان — ويضعونها في القبر بأيديهم أيضًا.

لا يجتمع السمك بأية أعداد في الأنهار، بل يؤم البحيرات الساحلية ثم يهجرها وينزح إلى البحر في موسم التناسل قُطعَانًا وجماعات. وتتقدم ذكورها الإناث، وتفرز السائل المنوي في الماء وهي سائرة بينما تتعقبها الإناث مباشرة وتلتهم ذلك السائل في شراهة، وبهذا تَحبل تلك الإناث. وبعد أن تقضي مدة في البحر تتكون البطارخ في بطونها، وعندئذٍ تعود الجماعة كلها إلى موضعها القديم. وفي أثناء العودة تتقدم الإناث الذكور سابحة ككتلة واحدة وتفعل ما كان يفعله الذكور من قبل تمامًا. فتَسقُط حبوب البطارخ قليلًا قليلًا وهي سائرة، بينما تُسرِع الذكور السابحة خلفها بالتقاط تلك الحبوب التي هي عبارة عن أسماك؛ كلُّ حبةٍ سمكةٌ. وفي تلك الأثناء تهرب بعض الحبوب دون أن تبتلعها الذكور فتكبر وتصير سمكًا يافعًا. وإذا صِيدَ بعض هذه الأسماك وهي سائرة في طريقها إلى البحر، وُجِد الطرف الأيسر من رأس كلٍّ منها مشقوقًا. أما إذا صِيدَت وهي عائدة فالشَّق يكون في الجانب الأيمن؛ والسبب في ذلك أنها عندما تسبح ذاهبة إلى البحر تلتزم الشاطئ الأيسر للنيل، وعندما تعود تلتزم كذلك نفس ذلك الشاطئ لتتأكد من أنها لم تضل الطريق فتَحتك به باستمرار فيحدث بها ذلك الجرح. وعندما يبدأ النيل يفيض تمتلئ الأخاديد والمستنقعات القريبة منه بالماء قبل أي مكان آخر، بواسطة تسرب الماء خلال الشاطئَين. وعندما تُصبِح هذه بركًا تزخر بالأسماك الصغيرة. فعندما انحسر ماء النيل في العام السابق عادت الأسماك مع الماء المنحسر، ولكنها برغم هذا تكون قد وضعت أجنتها في الطين على الشاطئ. وهكذا عندما تعود المياه في موسم الفيضان تخرج الأسماك الصغيرة من بيض العام السابق. هذا كل ما يتعلق بالأسماك.

يدهن المصريون المقيمون بأراضي المستنقعات أجسامهم بزيت يستخرجونه من ثمار نبات ينمو بريًّا في بلاد الإغريق، ويطلق المصريون عليه اسم «كيكي»، فيزرعونه على شواطئ الأنهار والبحيرات حيث يثمر بغزارة، وتكون رائحة الثمار كريهة للغاية، فتُجمَع هذه الثمار وتُسحَق وتُعصَر أو تُسوَّى في الماء المغلي بعد تحميصها. ثم يُجمَع السائل المُستَخرج منها ويكون زيتي القوام، وصالحًا للإضاءة مثل زيت الزيتون تمامًا، بَيْد أنه يختلف عنه في رائحته غير المقبولة.

تزخر البلاد بالبعوض، فيتخذ القوم حياله الطرق الآتية: في بلاد مصر المرتفعة عن أراضي المستنقعات يقضي السكان ليلهم فوق الرُّبى؛ إذ لا يستطيع البعوض أن يطير إلى أي ارتفاع بسبب الرياح. أما الأراضي المنخفضة التي لا توجد بها الروابي فيشتري كل فرد لنفسه شبكة يستخدمها له كلة (ناموسية) بالليل، ويصيد بها السمك نهارًا. فيُغطي بها فراشه الذي يستريح فيه ليلًا، ويتسلل تحتها وينام هادئًا. أما إذا التفَّ بثيابه أو بملاءة من الموسلين دون استعمال الكلة فلا ريب في أن البعوض يلدغه من خلال المنسوج، ولكنه لا يستطيع المرور من ثقوب الكلة.

ينقل المصريون بضائعهم في سفن يصنعونها من خشب السنط، والسنط شجر كثير الشوك، عندما يكبر يكون قريب الشبه من شجر اللوتس الكوريني، ويفرز نوعًا من الصمغ، فيقطعون من هذا الشجر ألواحًا طول كلٍّ منها حوالي ذراعين، ثم يشرعون في صنع السفن، فيرصُّون تلك الألواح كما يُرَص الطوب، ويربطونها إلى دعامات طويلة أو قضبان حتى يتم صُنع هيكل السفينة. بعد ذلك يضعون الألواح المستعرضة فوقها، ممتدة من جانب إلى الجانب الآخر. ولا يتخذون ضلوعًا لسفنهم، بل يحشون الشقوق بأوراق البردي من الداخل. ولكل سفينة دفة واحدة تُغرس في قاع السفينة مباشرة. وتُصنع سارية السفينة من خشب السنط أيضًا، والشراع من ورق البردي. ولا تستطيع هذه السفن أن تسير إلى أعلى النهر ضد التيار إلا بمساعدة الريح، وعلى ذلك فهي تُسحَب من الشاطئ وهي متجهة إلى أعلى النهر. أما إذا سارت إلى أسفله مع التيار فتكون قيادتها هكذا: لكل سفينة طوف مصنوع من أخشاب الأثل المربوطة معًا بِعِيدان الغاب المضفورة، كما أن لكل سفينة حجر مثقوب من وسطه يبلغ وزنه حوالي تالنتين، ويُربط الطوف إلى السفينة بحبل ويُترك ليسير مع التيار أمام السفينة التي يُسميها القوم «باريس»، بينما يتدلى الحجر من مؤخر السفينة بحبلٍ مربوط به، فتكون النتيجة أن يُسرع الطوف مع التيار ويَجُر السفينة، في حين أن الحجر المتدلي عميقًا في الماء يسحب مؤخرها إلى أسفل فيعمل على الاحتفاظ بها أفقية. ويوجد بمصر عدد كبير من هذه السفن، تَبلُغ حمولة بعضها عدة آلاف من التالنتات.

وعندما يفيض النيل يُغرِق الأراضي، ويُحِيلها إلى بحر فلا يظهر منها شيء غير المدن التي تبدو كالجزر وسط بحر إيجة. وفي هذا الموسم لا تسير السفن في المجرى الأصلي للنيل، وإنما تسير في المياه التي تغمر السهل.

١  استعمل المصريون الأبراج السماوية منذ القدم. وقد تكلم شيشرون عن المصريين وعن الكلديين، فقال إنهم يتنبئون بالمستقبل وبمصير المرء منذ ولادته بمراقبتهم للنجوم.
٢  توجد آثار بالمومياء تَدُل على التَّخلُّص من المخ عن طريق الخياشيم. أما العقاقير فكانت تستعمل لإزالة الأجزاء التي لم يستطع الخُطَّاف الوصول إليها.
٣  وُجِدَت بالمقابر مومياء غير مشقوقة الجنب ولا مُفَرَّغة الأحشاء، بَيْد أن هذا الشق وُجِد في كثيرٍ منها، وحتى في أنواع من التحنيط الأقل من هذا، وعلى ذلك لا يقتصر شق الجنب على التحنيط الممتاز، والحقيقة أن هناك درجات كثيرة لكل نوع من أنواع التحنيط.
٤  القانون الذي يحتم على الأهلين تحنيط جثة من يوجد ميتًا بقرب مدينتهم وأن يدفنوها باحتفال عظيم وبأبهى مظاهر البذخ هو قانون الشرطة وقانون السلطات الصحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤