الفصل الخامس عشر

بعض ملوك مصر

تكلمت عن مصر في الأبواب السابقة تبعًا لمشاهدتي، فذكرت ما رأيته بعينَي رأسي، والآراء التي كونتها بنفسي، ونتائج أبحاثي الشخصية. أما المعلومات الآتية فاستَقيتُها من المصريين أنفسهم. وبناءً عليه أذكرها هنا كما هي، وأضيف إليها بعض الملاحظات التي استرعت انتباهي.

قال لي الكهنة: إن أول ملوك مصر هو مينا، وأنه هو الذي أقام الجسر الذي يقي مدينة ممفيس خطر فيضان النيل؛ فقد كان النيل قبل عهده يفيض على طول سلسلة من التلال الرملية التي تَحُدُّ مصر من ناحية ليبيا. فصنع سدًّا وسط النيل عند المُنحنى الذي يكونه النهر جنوبي ممفيس بحوالي مائة فورلنج، وبذا جفف مجراه القديم، وفي نفس ذلك الوقت حفر له طريقًا جديدًا في منتصف المسافة بين صفي التلال.

بعد هذا، قرأ لي الكهنة من أوراق البردي أسماء ثلاثمائة وثلاثين ملكًا خلفوه على العرش، تبعًا لأقوال أولئك الكهنة. وفي هذه الأجيال العديدة تولى الحكم ثمانية عشر ملكًا إثيوبيًّا، وملكة وطنية واحدة. أما بقية الملوك فكانوا رجالًا ومصريين. وكانت تلك الملكة تحمل نفس اسم ملكة بابل، أي نيتوكريس، فيقولون إنها خلَفت أخاها الذي كان ملكًا على مصر وقتله رعاياه، ثم أقاموها على العرش مكانه. ولما كانت قد صممت في قرارة نفسها على أن تأخذ بثأر أخيها، وضعت خطة بدهاء فأبادت عددًا كبيرًا من المصريين. شيدت قاعة واسعة تحت الأرض وبحجة تدشينها أقامت وليمة عُظمى دعت إليها أولئك المصريين الذين كانت تعرف أنهم قاموا بالدور الرئيسي في مقتل أخيها، وبينما هم يولمون أطلقت عليهم ماء النهر فجأة بواسطة سد سري بالغ الحجم. هذا هو كل ما أخبرني به الكهنة عن تلك الملكة، باستثناء أنها عندما فعلت هذا ألقت بنفسها في حجرة مليئة برماد النار هربًا من الانتقام الذي تتعرض له.

أما الملوك الآخرون، فبحسب أقوال الكهنة، لم يكونوا من المشهورين أو الجديرين بالذكر.

بعد إغفال الكلام عن أولئك الملوك الخاملي الذكر، أتحدث عن الملك الذي حكم بعدهم. كان اسمه سيزوستريس. قال الكهنة: إن أول شيء بدأ به هذا الملك هو أنه سار بأسطول من السفن الحربية من الخليج العربي بمحاذاة سواحل إيروثرايا (الخليج الفارسي)، فأخضع الأمم التي مر بها حتى وصل أخيرًا إلى بحر غير صالح للملاحة بسبب كثرة الأماكن الضحلة به، ثم عاد من هناك إلى مصر، حيث جمع جيشًا في عداد الحصى بحسب أقوال الكهنة، وتقدم به عن طريق البر إلى وسط آسيا، فأخضع جميع الأمم التي كانت في طريقه. وقد أقام أعمدة١ في البلاد التي قاومه أهلها وحاربوه بشجاعة مدافعين عن حريتهم، ونقش على الأعمدة اسمه واسم دولته، وأنه أخضع لحكمه أهل ذلك البلد بقوة السلاح. أما الأمم التي استسلمت له مباشرة بدون قتال فنقش على الأعمدة التي تركها ببلادهم، بالإضافة إلى ما سبق، شارة تدل على أنهم أمة من النساء؛ أي أنهم غير مقاتلين ومخنثون.

اختفت أغلب الأعمدة التي أقامها سيزوستريس في البلاد التي غزاها. أما التي أقامها في سوريا فقد رأيتُها قائمةً في المنطقة المعروفة بفلسطين، وعليها النقوش التي ذكرتها وكذلك الشارة، واضحةً تمام الوضوح.

استطرد الكهنة يقولون إن سيزوستريس هذا عندما عاد إلى وطنه يتبعه جمع غفير من الشعوب التي أخضع بلادها،٢ استقبله أخوه الذي كان سيزوستريس قد أنابه عنه في حكم مصر إبان غيابه، وكان يقيم في دفنى قرب بيلوسيوم، ودعاه إلى وليمة حضرها سيزوستريس وأبناؤه. غير أن أخاه أحاط المكان الذي به الوليمة بالأخشاب وأشعل فيها النيران، فلما رأى سيزوستريس ما حدث استشار زوجته في الحال، وكانت برفقته في الوليمة، فأشارت عليه بأن يضع اثنين من أبنائه الستة فوق النيران ويتخذ منهما قنطرة يمر عليها بقية أفراد الأسرة. ففعل كما نصحته زوجته، وهكذا احترق اثنان من أبنائه وماتا ولكنه نجا هو وأبناؤه الباقون.
بعد ذلك عاد الملك إلى بلده وانتقم من أخيه. ثم شرع يستخدم الجموع الذين أحضرهم معه من البلاد التي غزاها في نقل كتل الصخر الضخمة التي نقلها إبان حكمه إلى معبد فولكان، وفي حفر مختلف الترع التي تخترق جميع أراضي مصر. وبهذه الأعمال الإجبارية تغير وجه المملكة تغيُّرًا كليًّا. فبينما كانت مصر قبل ذلك تَصلُح لسير كل من الخيول والعربات غدت غير صالحة لسير أيِّهما،٣ فعلى الرغم من أن رقعة أرض مصر كانت كلها سهولًا مستوية، إلا أنها أصبحت بهذا العمل غير صالحة لسير الخيول ولا العربات؛ إذ صارت تخترق أرضها الترع العديدة التي شُقَّت في جميع الاتجاهات، وكان غرض ذلك الملك من هذا العمل توصيل المياه إلى سكان المدن الكائنة في وسط المملكة والتي لا تقع على النيل؛ إذ كانوا يضطرون قبل ذلك بعد انحسار مياه الفيضان إلى أن يشربوا ماءً ملحًا يحصلون عليه من الآبار.٤

كذلك قسم سيزوستريس كما يُقرر الكهنة أرض مصر إلى قطع مربعة الشكل متساوية في المساحة، ووزعها على السكان، مانحًا كل فرد قطعة منها على أن يدفع له إيجارًا سنويًّا، وإذا محا النهر جزءًا من نصيب أي رجل ذهب إلى الملك وشكا إليه بما حدث، فيُرسِل الملك مندوبين ليقيسوا بالضبط مساحة الجزء الذي أزاله النهر، وبناءً على هذا التحديد يُخفَّض الإيجار، فلا يُطَالب ذلك الرجل إلا بإيجار قطعة الأرض الباقية له. وأظن أن تلك العملية هي التي أوجدت علم الهندسة لأول مرة في مصر، ثم انتقل منها إلى بلاد الإغريق. أما المزولة وتقسيم النهار إلى اثنَي عشر قسمًا فقد أخذهما الأغارقة عن أهل بابل.

لم يكن سيزوستريس ملك مصر فحسب، بل وملك إثيوبيا أيضًا. كان هو الملك المصري الوحيد الذي حكم ذلك القطر الأخير. ومن الآثار التي تركها تخليدًا لذكرى حُكمه تلك التماثيل القائمة أمام معبد فولكان؛ اثنان منها يُمَثِّلانه هو وزوجته، وارتفاع كل منهما ثلاثون ذراعًا. أما الأربعة الباقية فتمثل أبناءه وارتفاع كل منها عشرون ذراعًا. هذه هي التماثيل التي رفض كاهن فولكان بعد ذلك بسنوات عديدة أن يسمح لداريوس الفارسي بأن يقيم أمامها تمثالًا لنفسه؛ إذ كما قال ذلك الكاهن «لم يعمل داريوس أعمالًا كالتي عملها سيزوستريس المصري؛ لأن سيزوستريس أخضع جميع الشعوب التي أخضعها داريوس، وزاد عليها السكوثيين الذين أخفق داريوس في إخضاعهم. وعلى ذلك فليس من العدل أن يقيم لنفسه تمثالًا أمام تمثال ذلك الملك الذي لم يستطع داريوس أن يتفوق عليه في أعماله.» ويقولون إن داريوس عفا عنه من أجل ذلك الكلام.

قال الكهنة: بعد موت سيزوستريس اعتلى العرش ابنه فرعون. ولم يُقِم هذا الملك بأية حملات حربية؛ إذ أصابه العمى بسبب هذه الظروف: في إحدى السنوات ارتفع ماء النيل ارتفاعًا غير عادي حتى وصل إلى ثماني عشرة ذراعًا، وأغرق الحقول. وتصادف أن هبت الريح فجأة فارتفعت المياه في موجات عظيمة. عندئذٍ استبدت بالملك نزوة إلحاد، فأمسك رمحه وقذفه وسط اللجج العاتية. وفي الحال أصابه مرض في عينيه انتهى إلى إصابته بالعمى بعد فترة وجيزة،٥ فظل محرومًا من قوة الإبصار عشر سنوات. وأخيرًا في السنة الحادية عشرة بلغته نبوءة من مدينة بوتو تقول:

«لقد انقضت مدة العقوبة ويجب أن يَسترد فرعون بصره بأن يغسل عينيه بالبول، ينبغي أن يبحث عن سيدة مُخلصة لزوجها، ولم تُفضِّل عليه قط أي رجل آخر.» وعلى ذلك بدأ الملك بتجربة بول زوجته، ولكنه لم يُفِد شيئًا، ظل أعمى كما كان من قبل، فكرر التجربة ببول سيدات أُخريات حتى نجح في النهاية واستعاد قوة إبصاره. وبعد هذا جَمَعَ كل النساء اللواتي استعمل بولهن ما عدا الأخيرة، وقادهن إلى المدينة التي تُسمَّى إيروثرابولوس (أي الأرض الحمراء)؛ حيث أحرقهن جميعًا مع المدينة نفسها. أما السيدة التي يدين لها بشفائه فتزوجها، وبعد تمام شفائه قدم الهدايا لجميع المعابد، ومن أهم هذه الهدايا مسلتان قدمهما لمعبد الشمس. إنهما من روائع الفن؛ إذ نُحِتت كلٌّ منهما من قطعة واحدة من الصخر عرضها ثماني أذرع وارتفاعها مائة ذراع.

١  توجد هذه الآثار الخاصة برمسيس الثاني في سوريا فوق الصخور القائمة على مصب نهر لوكوس (ويسمى الآن بنهر الكلب).
٢  كان من عادة ملوك مصر أن يحضروا أسراهم إلى مصر ويستخدمونهم في الأعمال العامة كما تدل على ذلك النقوش العديدة الموجودة على الآثار، وكما يقول هيرودوت (في الباب الثامن بعد المائة). وكذلك كانوا يستخدمون اليهود بنفس الطريقة. فبرغم أنهم حصلوا أولًا على مراعٍ لماشيتهم في أرض جوشن (التكوين، ١٦: ٣٤) أو البوكولبا؛ حيث كانوا يرعون قطعان الملك (التكوين، ٦٧: ٦، ٢٧) فإنهم أُجبروا أخيرًا على القيام بعدة أعمال كأسرى الحرب العاديين.
٣  كان من الممكن جدًّا أن يزيد عدد الترع في عصر رمسيس الثاني. ويدل هذا، كبقية رواية هيرودوت، على أن رمسيس الثاني هو نفس سيزوستريس الذي يصف أعماله هنا.
٤  يتسرب الماء خلال التربة الطينية إلى الآبار الموجودة في باطن الأرض حيث يصير عذبًا، ولو أنه في بعض الأحيان يكون عسرًا (الماء العسر هو المحتوي على أملاح لا تُحدِث رغوة مع الصابون).
٥  هذه إحدى روايات العرَّافين الأفارقة. قد ينظم الشاعر الأفريقي قصةً حسنة السبك عن أخيل أو عن نهر طروادة. أما كتبة النثر المصريون فلا يصورون ملوكهم يقومون بأعمال تناقض عاداتهم ومعتقداتهم الدينية. وكذلك قصة النساء هذه غير مصرية. أما ذكر العلاج الذي لا يزال يُستَعمل في مصر للرمد، فيدل على أن حقيقة بسيطة قد حُوِّلت إلى قصة غير محتملة الحدوث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤