الفصل العشرون

أعمال قمبيز

ترك قمبيز ممفيس بعد ذلك واتجه إلى سايس وهو ينوي في نفسه أمرًا. ما إن دخل قصر أماسيس حتى أمر في الحال بإخراج جثة الملك من قبره، فلما أخرجها الخدم أمرهم بأن يضربوا الجثة بالسياط، وأن يخزوها بالمناخس وينزعوا الشعر منها، وأن يُلحِقوا بها جميع صنوف الإهانات. ولما كانت الجثة محنَّطة فقد قاومت كل ذلك التعذيب، ولم تتفكك مهما فعلوا بها، غير أن الخدم تَعِبوا مما قاموا به، فأمرهم قمبيز بأن يأخذوا الجثة ويحرقوها. كان هذا أمرًا يتنافى مع أصول الدين حقًّا؛ إذ يعتبر أهل فارس النار إلهًا، ولا يحرقون موتاهم بحال ما. والحقيقة أن هذا الأمر لم يكن مشروعًا سواء للفرس أو للمصريين، لنفس السبب الذي ذكرناه؛ لأنه من الإثم لدى الفرس أن يُقدموا جثة الميت لأي إله. أما المصريون فيعتبرون النار حيوانًا حيًّا يأكل ثم يتخم من كثرة الطعام فيموت بالمادة التي يتغذى بها. ومما يتنافى مع تقاليدهم تقديم جثة شخص لحيوان كي يلتهمها. والحقيقة هي أن هذا هو السبب في أنهم يحنطون جثث موتاهم؛ أي ليمنعوا الديدان من أن تأكلها في القبر. وبالرغم من هذا فقد أصدر قمبيز أمرًا غير مشروع لكل من الفرس والمصريين. وتبعًا للرواية المصرية لم يكن أماسيس هو الذي عوملت جثته بتلك المعاملة المهينة، بل كان شخصًا آخر من شعبهم في حوالي طول أماسيس. وأما الفرس فاعتقدوا أن جثة ذلك الرجل هي جثة الملك فأهانوها بالطريقة التي أوضحناها. ويقولون إن وحيًا كان قد حذر أماسيس مما سيحدث له بعد وفاته، فلِكي يتحاشى المصير الذي قُدِّرَ له دفن الجثة، التي لاقت الضربات بعد ذلك في نفس قبره بجوار المدخل، وأمر ابنه بأن يدفنه في أقصى موضع بالضريح نفسه. أما أنا شخصيًّا، فلا أعتقد أن يكون أماسيس قد أصدر هذه الأوامر إطلاقًا، ويبدو لي أن المصريين يؤكدون هذا إنقاذًا لكرامتهم.

بعد ذلك اجتمع قمبيز بمستشاريه وعزم على القيام بثلاث حملات: واحدة على القرطاجنيين، وأخرى على الأمونيين، والثالثة على الإثيوبيين الطويلي الأعمار المُقِيمين في جزء ليبيا المتاخم للبحر الجنوبي … رأى قمبيز أن خير طريقة هي أن يهاجم قرطاجنة بالأسطول، ويرسل قسمًا من جيشه البري لمهاجمة الأمونيين، في حين يذهب جواسيسه إلى إثيوبيا بحجة حمل الهدايا إلى الملك، ولكن حقيقة مهمتهم هي أن يلاحظوا كل ما تقع عليه عيونهم، وخصوصًا ليروا ما إذا كان صحيحًا ما يُقال من أن بإثيوبيا ما يُسَمُّونه «مائدة الشمس».

أما وصف مائدة الشمس تبعًا للروايات التي يحكونها فهو أنها مرعى في ضواحي مدينتهم، مملوء باللحوم المطهوة لجميع صنوف الحيوان، ويهتم الحكام بملء ذلك المرعى باللحوم في كل ليلة، وأي فرد يرغب في أن يأكل منها يستطيع ذلك بالنهار. أما أهل تلك البلاد فيقولون إن الأرض نفسها هي التي تُنتِج الطعام. هذا هو الوصف الذي يقولونه عن تلك المائدة.

عندما قرر قمبيز إرسال الجواسيس، بعث إلى مدينة فِيَلة يستدعي تراجمة معينين يعرفون اللغة الإثيوبية، وبينما ذهب البعض لاستدعائهم، أصدر أوامره إلى الأسطول بالإبحار لمهاجمة قرطاجنة. بَيْد أن الفينيقيين أبوا الذهاب، وقالوا إنهم مرتبطون بمعاهدة صداقة مع قرطاجنة، وقد عززوا تلك المعاهدة بالأيمان المغلَّظة، وإنه لَيصير شرورًا منهم أن يُهَاجِموا أولادهم. وإذ رفض الفينيقيون الإبحار أصبح باقي الأسطول غير ملائم لهذا العمل، وعلى هذا نجا القرطاجنيون من أن يستعبدهم الفرس. عندئذٍ رأى قمبيز أنه ليس من الحكمة أن يُجبِر الفينيقيين على القتال؛ لأنهم خضعوا لحكم الفرس بمحض اختيارهم، ولأن جميع العمليات البحرية تتوقف على أولئك الفينيقيين. كذلك انضم أهل قبرص إلى الفرس من تلقاء أنفسهم، واشتركوا معهم في الحملة على مصر.

بمجرد أن وصل التراجمة من فِيَلة أخبرهم قمبيز بما ينبغي عليهم أن يقولوه، ثم أوفدهم إلى إثيوبيا بالهدايا الآتية: ثوب من الأرجوان، وعقد، وأساور من الذهب، وعلبة للعطر مصنوعة من المرمر، وجرة من خمر البلح. ويُقال إن الإثيوبيين الذين ذهب إليهم أولئك السفراء، أطول الناس في العالم كله، وأكثرهم أناقة، كما أنهم يختلفون عن سائر البشر في عاداتهم، وخصوصًا في الطريقة التي يختارون بها ملوكهم، فهم يبحثون عن أطول رجل بين جميع المواطنين على شرط أن تتناسب قوته مع طوله، ثم يعينونه ملكًا يحكم عليهم.

لما وصل التراجمة إلى أولئك القوم، سلموا الهدايا لملك البلاد، وحدثوه قائلين: «يرغب قمبيز ملك فارس في أن يكون حليفك وصديقك؛ ولذا أوفدنا إليك لنخبرك بهذا ونحمل إليك الهدايا التي تراها، والتي يُعجب بها هو نفسه أيما إعجاب.» فقال لهم الملك الإثيوبي، الذي كان يعرف أنهم إنما أتوا كجواسيس: «لم يرسلكم ملككم الفارسي بهذه الهدايا رغبة في أن يكون صديقي، وليس صحيحًا ما تقولونه عن أنفسكم؛ لأنكم جئتم لتعرفوا أسرار مملكتي. كما أن ملككم ليس رجلًا عادلًا؛ فلو كان عادلًا لما طَمع في أرض ليست له، ولما استعبد قومًا لم يمسوه قط بأذى. احملوا إليه هذا القوس، وقولوا له: «ينصح ملكُ الإثيوبيين ملكَ الفرس بأنه عندما يستطيع الفرس أن يجذبوا وتر قوس قوية كهذه بنفس هذه السهولة؛ إذن فليأتِ بجيش يفوقنا قوة، ويُهاجم الشعب الإثيوبي الطويل الأعمار، وحتى الآن فليشكر الآلهة الذين لم يضعوا في قلوب أبناء إثيوبيا أن يطمعوا في بلادٍ ليست ملكًا لهم».»

ما إن قال هذا حتى نزع وتر القوس ووضعها في أيدي الرسل، ثم أمسك بالثوب الأرجواني وسألهم عن ماهيته وكيفية صنعه، فأجابوه بالصدق وأخبروه عن الأرجوان وعن فن الصباغة، عند ذلك أبدى ملاحظته قائلًا: «إن القوم مخادعون وكذلك ثيابُهم.» ثم التقط العقد والأساور وسألهم عنها، فشرح له أولئك التراجمة فائدتها كأدوات للزينة، عندئذٍ ضحك الملك؛ إذ ظنها أغلالًا، وقال: «لدى الإثيوبيين أغلال أقوى من هذه.» ثم سألهم عن العطر، فلما أخبروه عن كيفية صنعه، وكيف تُدعك به الأعضاء، قال ما سبق أن قاله عن الثوب، وأخيرًا جاء دور الخمر، فلما عرف طريقة صنعها، شرب منها رشفة فأعجبته كثيرًا، حينئذٍ سألهم عما تعوَّد الملك الفارسي أن يأكله، وعن العمر الذي بلغه أعظم مُعمَّر في فارس، فأخبروه بأن الملك يأكل الخبز، ووصفوا له القمح، وقالوا إن أطول عمر عاشه رجل في فارس هو ثمانون سنة. فقال: «لن يُدهشني أن تموتوا بهذه السرعة طالما تتغذون بالقاذورات، والحقيقة أنني لست متأكدًا من أنكم تبلغون عمرًا طويلًا كثمانين سنة، إلا بوساطة إنعاش ذلك الشراب (يقصد الخمر) الذي أعترف بأن الفرس يتفوقون به على الإثيوبيين.»

عندما استعد التراجمة للعودة إلى مصر، سألوا ملك إثيوبيا عن المدة التي يعيشها الفرد في بلاده، وعمَّا يأكلون، فأخبرهم بأن معظم شعبه يعيشون مائة وعشرين سنة، وبعضهم يُعمَّر إلى أكثر من هذا، ويأكلون اللحم المطبوخ، ولا يشربون غير اللبن. وعندما أبدى الرسل دهشتهم لعدد السنوات التي يعيشها الفرد هناك، أخذهم إلى ينبوع ماء حيث اغتسلوا، فوجدوا أن أجسامهم كلها قد غدت لامعة وناعمة، كما لو كانوا قد استحموا في الزيت، وانبعثت من الينبوع رائحة زكية تُشبِه رائحة البنفسج، وقد قال هؤلاء إن الماء كان خفيفًا بحيث لا يمكن لأي شيء أن يطفو على سطحه، لا الخشب ولا أية مادة أخف من الخشب، وإنما تغوص كلها إلى القاع. وإذا كانت رواية الينبوع هذه صحيحة، فإن استعمالهم لهذا الماء باستمرار هو السبب في أنهم يعيشون طويلًا. وبعد أن ترك الرسل الينبوع، قادهم الملك إلى سجن فأبصروا المسجونين مقيدين جميعًا بأصفاد من الذهب، وأن النحاس أندر المعادن وأغلاها عند الإثيوبيين. وبعد أن انتهوا من رؤية السجن، شاهدوا ما يُطلَق عليه «مائدة الشمس».

وأخيرًا سمح لهم الملك بمشاهدة نعوش الإثيوبيين، التي صُنِعَت (تبعًا للتقرير) من البلور، بالصورة الآتية: عندما يموت شخص، يَطلُون جثته بالجبس، إما بالطريقة المصرية أو بطريقة ما، ويزينونها بالدهان حتى تشبه الجسم الحي قدر المستطاع، ثم يضعونها داخل عمود من البلور مجوف الباطن بحيث يتسع للجثة. ويوجد البلور بكثرة بباطن الأرض في بلادهم، ومن نوع سهل الصنع. فيمكنك أن تُبصِر الجثة من خلال العمود الموضوعة فيه، ولا تنبعث من الجثة رائحة كريهة، ولا يتغير شكلها بحال ما، ومع ذلك فلا يوجد جزء من الجثة لا يُرى بوضوح، كما لو كانت الجثة عارية، ويحتفظ أقرب أقرباء الميت بالعمود البلوري في منزلهم لمدة سنة منذ يوم الوفاة، ويقدِّمون لذلك النعش باكورة الفاكهة باستمرار، ويُبجِّلونه بالتقدمات والذبائح، وبعد أن تنقضي السنة، ينقلون العمود ويضعونه بجوار المدينة.

عاد الجواسيس إلى مصر بعد أن رأوا كل شيء، ثم قدموا تقريرهم إلى قمبيز الذي أرغى وأزبد وهاج لدرجة الغضب بسبب ما سمعه منهم، وعلى ذلك بدأ في الحال سيره لمهاجمة الإثيوبيين دون أن يعدَّ المئونة اللازمة لإطعام جيشه، ودون أن يفكر في أنه سيشن حربًا في أقصى أجزاء الأرض. وكرجل معتوه، كما كان وقتذاك، ما كاد يتسلم تقرير التراجمة حتى بدأ سيره آمرًا الأغارقة الذين كانوا ضمن جيشه أن يبقوا حيثُ هم، وصحب معه جنوده الفارسيين ليس غير. ولما وصل إلى طيبة التي كان عليه أن يمر بها في طريقه، فصل من جيشه الأصلي حوالي خمسين ألف جندي، وأرسلهم لغزو بلاد الأمونيين، وأمرهم بأن يأسروا أفراد الشعب ويحرقوا وحي جوبيتر. وفي الوقت ذاته سار هو مع بقية جيشه لمهاجمة الإثيوبيين، غير أنه قبل أن يقطع خُمس المسافة نفد جميع ما كان لدى القوة من مئونة، وعندئذٍ شرع الرجال يأكلون حيوانات الحمل التي كانت معهم. بيد أن هذه لم تلبث أن نفدت أيضًا. ولو رأى قمبيز ما حدث وقتذاك واعترف بخطئه ورجع بجيشه لفعل أحكم ما يُمكِن أن يعمل بعد الخطأ الذي وقع فيه منذ البداية، ولكنه لم يكترث لشيء، وواصل سيره بعد هذا. وطالما كان في الأرض ما يقتات به الجيش، وكان يأكله الجنود؛ إذ أكلوا الحشائش والأعشاب، غير أنهم عندما وصلوا إلى المنطقة الرملية القاحلة اقترف بعض الرجال أمورًا بشعة، كان كل عشرة منهم يختارون من بينهم رجلًا بالقرعة ويذبحونه ليكون طعامًا للتسعة الباقين. فلما علم قمبيز بهذه الأفعال اقشعرَّ بدنه لأكلهم لحوم البشر، فتنازل عن هجومه على إثيوبيا ورجع أدراجه من الطريق التي جاء منها، فوصل إلى طيبة بعد أن هلكت من جنوده أعداد كبيرة، ثم سار من طيبة إلى ممفيس حيث صرف الجنود الإغريق، وسمح لهم بالعودة إلى وطنهم. وهكذا انتهت الحملة على إثيوبيا.

بدأ الرجال الذين ذهبوا لمهاجمة الأمونيين رحلتهم من طيبة، وبالرغم من أنهم صَحِبوا معهم عددًا من الأدلَّاء، فلم يُمكِن اقتفاء أثرهم إلا إلى مدينة الواحة١ التي يسكنها الساميون، الذين يُقال إنهم من قبيلة أيسخريونيا Aeschrionia، وتبعد هذه المدينة عن طيبة القديمة بمسيرة سبعة أيام خلال الرمال، وتُسمَّى في لغة بعضهم: «جزيرة المباركين». ولا يُعرَف شيء إطلاقًا عن ذلك الجيش بعد أن وصل إلى هذه المدينة — كما لم يُسمَع عنه أي خبر سوى ما يرويه الأمونيون ومن يستقون معلوماتهم منهم — والمؤكد أنهم لم يصلوا إلى بلاد الأمونيين، ولم يعودوا إلى مصر. وعلاوة على هذا يقول الأمونيون سار الفرس من مدينة الواحة عبر الرمال حتى وصلوا إلى منتصف المسافة بين هذه المدينة وبين بلدهم، وحدث بينما كانوا يتناولون طعام الغداء في وقت الظهيرة، أن هبت ريح عاصفة من الجنوب، وكانت ريحًا عاتية قاتلة ترفع معها أعمدة من الرمال في صورة دوامات هائلة، فغطت الجيش كله تمامًا، ودفنت الرجال جميعًا. هذا هو ما حدث لرجال ذلك الجيش تبعًا لرواية الأمونيين.

في الوقت الذي عاد فيه قمبيز إلى ممفيس تقريبًا ظهر أبيس إلى المصريين، وأبيس هذا هو الإله الذي يسميه الإغريق أبافوس، وما إن عَلِم بظهوره المصريون حتى ارتدَوا جميعًا أفخر ثيابهم، وأخذوا يقيمون الولائم والأفراح مبتهجين مرحين. فعندما شاهدهم قمبيز على تلك الحال، أيقن أنهم إنما يفعلون هذا ابتهاجًا بفشله الذريع، فاستدعى إليه الموظفين المهيمنين على مدينة ممفيس وطلب منهم أن يُجِيبوا عن هذا السؤال: «لماذا لم يفعل المصريون شيئًا من هذا القبيل عندما كان في ممفيس قبل ذلك، بل انتظروا حتى عاد الآن وقد تكبد جيشه خسائر فادحة في الأرواح؟» فأجاب الموظفون بقولهم: «لقد ظهر لهم الآن أحد آلهتهم، وهو إله تعوَّد أن يظهر في مصر في فترات طويلة من الزمن، ومن عادة المصريين عند ظهوره أن يُولِموا ويُقِيُموا الحفلات والأفراح.» فلما سمع قمبيز قولهم هذا اتهمهم بالكذب، وحكم عليهم جميعًا بالإعدام.

بعد أن تم إعدام هؤلاء الموظفين، بعث قمبيز يستدعي الكهنة أن يَمثلوا بين يديه. فلما جاءوا سألهم نفس السؤال الذي ألقاه إلى الموظفين، فتلقى منهم نفس الاجابة، وعندئذٍ أبدى ملاحظته: «سرعان ما سيعلم هؤلاء ما إذا كان حقيقة قد ظهر إله أليف ليُقِيم في مصر.» وفي الحال دون أن يسمح لهم بأية كلمة أمر بإحضار أبيس إليه، فانصاعوا لأمره وخرجوا من عنده ليأتوه بذلك الإله. أما أبيس هذا، أو أبافوس، فهو عِجل تلده بقرة، يقولون إن نارًا تنزل عليها من السماء فتحبل في العجل أبيس، ويحمل العجل المسمى بهذا الاسم هذه العلامات: يكون أسود اللون، ذا بقعة بيضاء مربعة الشكل في وسط جبهته، وعلى ظهره صورة نسر، وعلى لسانه خنفساء.٢
لما عاد الكهنة وقد أحضروا معهم العجل أبيس، استلَّ قمبيز خنجره وسدَّده نحو بطن العجل، غير أنه أخطأ الهدف وأصابه في فخذه، ثم ضحك وقال للكهنة: «أيها الأغبياء! أتظنون الآلهة تكون على هذه الصورة من لحم ودم، وتتأثر بالأسلحة المصنوعة من الصلب؟ يا له من إله يُنَاسِب المصريين! ولتعلموا أن سخريتكم مني ستكلفكم كثيرًا.» وما إن انتهى من قوله هذا حتى أمر بعض رجاله المختصين٣ بأن يجلدوا الكهنة، وإذا وجدوا أي مصري يحتفل بمجيء ذلك الإله فليقتلوه. وهكذا أُوقِفت الولائم في جميع أرجاء مصر، وقاسى الكهنة العذاب. وإذ جُرِح أبيس في فخذه بقي راقدًا في المعبد فترة من الوقت يتلوى ويئنُّ من الألم، ثم مات بسبب ذلك الجرح، فدفنه الكهنة سرًّا دون علم قمبيز.
يقول المصريون إن قمبيز الذي لم يكن متزن العقل أُصِيب بعد ذلك بالجنون جزاء جرمه، فكانت أولى نوبات جنونه أنه قتل شقيقه سميرديس Smerdis الذي أمره قمبيز بالعودة ثانية من مصر إلى فارس بدافع الحسد؛ لأنه استطاع أن يَجذِب وتر القوس التي أحضرها التراجمة من إثيوبيا (والتي لم يستطع أي فرد من الفرس الآخرين أن يثنيَها) مسافة قيراطين. فلما رحل سميرديس إلى فارس رأى قمبيز حُلمًا في نومه، خُيِّل إليه أن رسولًا جاءه من فارس وأخبره بأن سميرديس تبوأ عرش المملكة وطاول برأسه السماء، فخاف قمبيز على نفسه وتصور أنه من الممكن جدًّا أن يقتله شقيقه ويحكم المملكة بدله، فأرسل بريكساسبيس الذي كان يثق به أكثر من سائر الفرس، وأمره بأن يقطع رأس سميرديس. ويقول البعض إنه قتله في حين كانا يصيدان معًا. ويقول آخرون إنه صحبه إلى الخليج الفارسي وأغرقه هناك.
يُقال إن هذه كانت أولى نوبات جنونه. أما النوبة الثانية فجاءته عندما قتل أخته التي صحبته إلى مصر، وعاشت معه كزوجته برغم أنها كانت شقيقته٤ ابنة كلٍّ من أبيه وأمه. وإليك كيف اتخذ قمبيز شقيقته زوجة له. لم يكن من عادة الفرس قبل عصره أن يتزوجوا أخواتهم، أما قمبيز فإذ وقع في غرام إحدى أخواته وأراد أن يتزوجها، وكان يعلم أن هذا مخالف للتقاليد الفارسية، جمع القضاة الملكيين وسألهم «عمَّا إذا كان هناك قانون يسمح للأخ بأن يتزوج أخته متى أراد ذلك؟» وكان أولئك القضاة الملكيون نخبة منتقاة من بين الشعب الفارسي، يشغلون منصب القضاء طيلة حياتهم إلا إذا اتُّهِم أحدهم بما يُخِل بالشرف، وبوساطتهم يُقام العدل في فارس. كما أنهم هم الذين يفسرون القوانين القديمة، وإلى حكمهم تترك جميع المنازعات، فلما ألقى قمبيز عليهم هذا السؤال، أجابوه إجابة فيها صدق وفيها أمان فقالوا: «إنهم لم يجدوا قانونًا ما يُجِيز للأخ أن يتزوج أخته، ولكنهم وجدوا قانونًا يُجِيز لملك فارس أن يفعل ما يشاء.» وعلى هذا لم يخرقوا القانون خوفًا من قمبيز، ولم يَضُروا أنفسهم بالتمسك الشديد بحرفية القانون، بل أوجدوا قانونًا واضحًا تمام الوضوح يفي بطلب الملك، ويُحقِّق له رغبته،٥ وبناء عليه تزوج قمبيز من موضوع غرامه،٦ ولم يلبث طويلًا إلا وتزوج أختًا أخرى، كانت صغرى هاتين الزوجتين، وهي التي ذهبت معه إلى مصر حيث لَقِيت الموت على يديه.

تُحكى روايتان مختلفتان عن موت هذه الزوجة وموت سميرديس. فتقول الرواية الإغريقية إن قمبيز أطلق جروًا ليُقاتِل شبل لبؤة، وكانت زوجته تراقب ذلك القتال، فتغلب الشبل على الكلب، فما كان من كلب آخر إلا أن قطع سلسلته وجرى لنجدة أخيه، وعندئذٍ قاتل الكلبان معًا الشبل وهزماه، فسُرَّ قمبيز من تلك الحركة أيما سرور، أما أخته التي كانت جالسة معه فأذرفت الدموع، فلما رآها قمبيز على تلك الحال، سألها عما يُبكيها، فأجابته بأنها عندما رأت الكلب الصغير يَهِبُّ لنجدة أخيه تذكرت سميرديس الذي لم يكن له من يساعده .. ويقول الأغارقة إن قمبيز قتلها بسبب كلامها هذا.

١  مدينة الواحة في مدينة الخارجة الحديثة، المدينة الرئيسية في الواحة الكبرى. وتبعد هذه من مدينة طيبة القديمة بمسيرة ٤٢ ساعة. من أحد الطرق، ومسيرة ٥٢ ساعة من طريق آخر «أي ستة أيام، وسبعة أيام ونصف على التوالي». قد يكون المصريون أطلقوا اسم الواحة على المدينة في عصر هيرودوت، وكذلك على الطريق المحيط بها.
٢  يُظَن أن أبيس هو صورة روح أوزيريس، وهو الشعار المقدس لذلك الإله. ولكنه يصور أحيانًا في صورة رجل ذي رأس ثور.
٣  يستخدم الفرس شأنهم شأن الأتراك وغيرهم من الأمم الشرقية، أشخاصًا مهمتهم الضرب والجلد وتنفيذ غير ذلك من صنوف العقاب. وإن معاملة المصريين لأعدائهم لتختلف تمام الاختلاف عن معاملة غيرهم من شعوب الشرق القدماء؛ لأنهم لم يفعلوا أكثر من قطع أيدي القتلى، ووضعها في «أكوام» أمام الملك (الملوك، ١٠: ٨؛ وصموئيل، ۱۸: ۲۷) لمعرفة عدد قتلى العدو. وإذا أُجبِر أسراهم على العمل فإنما كان هذا من شروط الإبقاء على الحياة في العصور الغابرة، ولم نرهم قط يُوقِعون العذاب المنظم بأعدائهم، ولا يسومونهم أية قسوة أكثر من معاملة فظة من جانب جندي جاهل. ومثل هذا الأمر معروف في حروب أوروبا المسيحية.
٤  كان مسموحًا للمصريين بأن يتزوجوا أخواتهم من نفس الأب والأم، ويُحرم قانون ليفيت Levit الزواج بالأخت سواء أكانت من الأب أو من الأم. أما في عصور البطريريكية فكان يجوز للرجل أن يتزوج أخته إذا كانت من أبيه فقط (التكوين، ۲۰: ۱۲). والعادة المصرية إحدى العادات التي أشير إليها في ليفيت، ۱۸: ۳.
٥  لا حاجة إلى التنويه بمشابهة وجهة نظر القانون الفارسي المذكور هنا والقانون الذي أوجده دان، الباب السادس، وهو: «لا تغيير في قانون الميديين والفارسيين.»
٦  كانت هذه الأخت هي أتوسا والدة كسيركسيس التي كانت زوجة قمبيز، وسميرديس الكاذب، وداريوس هوستاسبيس على التعاقب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤