الفصل الحادي والعشرون

جنون قمبيز

هكذا كان جنون قمبيز حيال أقاربه. ولست أدري أكان هذا الجنون بسبب ما فعله مع أبيس، أم بسبب آخر من الأسباب الكثيرة التي تنشأ عنها المصائب. ويقولون إنه كان مصابًا منذ ولادته بمرض مُرِيع يُسمِّيه البعض «المرض المقدس».١ وعلى ذلك لا يكون غريبًا بأية حال أن تأثر عقله بدرجة ما. وقد عرفنا أن جسمه كان يعمل وهو مصاب بذلك المرض.

كان قمبيز مجنونًا أيضًا حيال الأغراب، علاوة على جنونه حيال أقربائه، ومن بين أولئك الأغراب بريكساسبيس الرجل الذي كان يُقدِّره قمبيز أكثر من سائر الفرس وهو الذي كان يحمل رسائله، والذي عين ابنه في منصب «حامل الكأس»، وهو منصب غير قليل الشأن في فارس. ويقال إن قمبيز سأله ذات مرة بقوله: يا بريكساسبيس، أي نوع من الرجال يظنني الفارسيون؟ وماذا يقولون عني؟ فأجابه بريكساسبيس قائلًا: «مولاي! إن القوم لَيُثنون عليك أجمل الثناء في كل شيء إلا شيئًا واحدًا؛ يقولون إنك مولع أشد الولع باحتساء الخمر.» هكذا أخبره بريكساسبيس بحكم الشعب الفارسي عليه. عندئذٍ ثارت ثائرة قمبيز وأرغى وأزبد وقال: «ماذا؟ أيقولون إنني أفرِط في شرب الخمر، ولذا فقدت إحساسي وجننت؟! إذن فقد كانت خطبهم السابقة عني كاذبة.» وذات مرة عندما كان الفارسيون جالسين معه، وكان كرويسوس جالسًا قريبًا منهم، سألهم قمبيز: «أي نوع من الرجال يظنونه لو قورن بأبيه كوروس؟» فأجابوه: «بأنه يفوق أباه؛ لأنه صار ملكًا على كل ما كان يحكمه والده، وزيادة على هذا فقد جعل نفسه سيدًا على مصر وعلى البحر»، وكان كرويسوس بقربه، واستاء من تلك المقارنة، فقال لقمبيز: «لست من هذا الرأي يا ابن كورومي؛ إذ أرى أنك لا تُعادِل أباك؛ لأنك لم تُخلِّف وراءك ابنًا كهذا الذي خلفه أبوك»، فسُرَّ قمبيز لسماع هذا الرد وأثنى على حكم كرويسوس.

تذكر قمبيز هذه الإجابات فتحدث إلى بريكساسبيس بخشونة قائلًا: «احكم بنفسك الآن، يا بريكساسبيس. إما أن الفرس يقولون الصدق، وإما أنهم ليسوا هم المجانين حتى يقولوا ما صدر منهم. انظر ها هو ابنك واقف الآن في هذه الردهة، فإذا سدَّدت الرماية إليه وأصبته في وسط قلبه كان من الجلي أنه ليس لدى الفرس ما يبرر قولهم، وإن أخطأته اعترفت بأن الفرس على حق وأنني مجنون.» وما إن انتهى من قوله حتى أمسك قوسه وجذب وترها إلى نهايته وأطلق سهمًا أصاب الغلام فسقط في الحال قتيلًا. بعد ذلك أمر قمبيز بشق صدر الجثة وفحص الجرح، فلما وجد أن السهم قد اخترق القلب سُرَّ سرورًا بالغًا، وقال للوالد وهو يضحك: «والآن ها أنت ترى يا بريكساسبيس أنني لست أنا المجنون، ولكن الفرس هم المجانين؛ إذ فقدوا إحساساتهم، أرجوك أن تُخبرني الآن، هل رأيت قط أحدًا من البشر يطلق سهمًا بدقة أفضل من هذه؟» فلما رأى بريكساسبيس أن الملك ليس متمالكًا لقواه العقلية خشي على نفسه فأجاب قائلًا: «مولاي لا أظن أن الإله نفسه يستطيع أن يرمي سهمًا بهذه المهارة.» هذه هي الحماقة التي ارتكبها قمبيز في ذلك الحين. وفي حين آخر، أخذ اثني عشر رجلًا من أعظم نبلاء الفرس، ودفنهم حتى أعناقهم دون أن يقترفوا إثمًا أو يتهمهم بشيء.

عندئذٍ رأى كرويسوس الليدي أنه من الحكمة أن يُحَذِّر قمبيز عاقبة أفعاله، فقال له: «أيها الملك، لا تسمح لنفسك بالتمادي في نزق الشباب وفي حميَّة طباعك، ولكن اكبح جماح نفسك، واقبض على زمامها. فمن الخير للمرء أن ينظر إلى العواقب، وفي التروِّي حكمة حقة. إنك تقبض على الرجال من مواطنيك وتعدمهم بغير سبب ولا شكوى، وتقتل حتى الأطفال، تَرَوَّ الآن، وفكر في نفسك، هل إذا استرسلت في مثل هذه الأعمال، ألا يمكن أن يثور الفارسيون ضدك؟ إنني أقدم لك النصح تبعًا لرغبة والدك، لقد أمرني وشدد في الأمر بأن أنصحك كلما رأيتُ هذا في صالحك.» وبطبيعة الحال لم يقصد كرويسوس من نصيحة قمبيز إلا مجرد الإشفاق الودي. غير أن قمبيز رد عليه بقوله: «أتزعم أنك تسدي إليَّ النصح؟ وفِّر على نفسك هذا النصح لتحكم به مملكتك إذا قُدِّر لك أن تكون ملكًا. وبهذه النصائح الحكيمة التي أسديتها إلى والدي كوروس عندما أشرت عليه بعبور نهر أراكسيس ومحاربة الماساجيتيين في بلادهم في الوقت الذي أرادوا أن يأتوا فيه إلى بلادنا، جلبت الخراب على والدي كوروس بتلك المشورة السيئة. أما الآن، فلن تفلت من العقاب؛ لأنني من مدة طويلة أنتظر فرصة لأتمسك عليك بخطأ.» وبينما كان قمبيز يقول ذلك الكلام، سحب قوسه ليقتل بها كرويسوس، بَيْد أن كرويسوس جرى بسرعة وهرب. فلما رأى قمبيز أنه لم يستطع قتل كرويسوس بقوسه، أمر خدمه بأن يقبضوا عليه ويقتلوه، ولكن الخدم الذين كانوا يعرفون طباع سيدهم حق المعرفة، رأوا من الأوفق أن يُخفوا كرويسوس إلى أن تهدأ ثورة قمبيز ويسأل عنه، وعندئذٍ يمكنهم إحضاره والحصول على جائزة نظير إنقاذهم لحياته. أما إذا لم تلن قناته ولم يندم على فقده، استطاعوا أن يقتلوه وقتذاك. والحقيقة أنه لم يمضِ وقت طويل حتى ندم قمبيز على فقده كرويسوس، فلما رأى الخدم هذا منه، أخبروه بأن كرويسوس لا يزال حيًّا. فقال لهم: «إنني لمسرور من بقاء كرويسوس على قيد الحياة. أما أنتم يا من أنقذتم حياته؟ فلن تفلتوا من انتقامي وسأعدمكم جميعًا.» وفعلًا نفذ وعيده.

اقترف قمبيز في نوباته الجنوبية كثيرًا من الحماقات ضد كل من الفارسيين والحلفاء وهو لا يزال مقيمًا في ممفيس، ومن بين تلك الحماقات أنه فتح الأضرحة وفحص جثث من دفنوا فيها، كذلك ذهب إلى معبد فولكان وأخذ يرمي التمثال القائم هناك بعدد لا يحصى من السهام؛ لأن تمثال فولكان يشبه إلى حدٍّ كبير تمثال باتايكي الذي يبجله الفينيقيون؛ إذ يزينون به حيازيم سفنهم الحربية. وإذا تعذر على القراء أن يفهموا ذلك شرحته لهم بطريقة أخرى، إنه تمثال يُشبِه التماثيل الصغيرة. كما ذهب قمبيز إلى معبد الكابيرين المحرَّم دخوله على أي شخص سوى الكهنة. ولم يكتفِ قمبيز بأن رمى التماثيل هنا بالسهام، بل وأحرقها أيضًا. وقد صُنِعت تلك التماثيل على صورة تمثال فولكان الذي يقال إنه أبوها جميعًا.

إذن، يبدو لي من المؤكد أن قمبيز قد أصابته لوثة من الجنون. يؤيد هذا عدد كبير من الأدلة، وإلا لما أقدم على انتهاك حرمة الطقوس المقدسة والتقاليد المتبعة منذ غابر الأزمنة؛ إذ لو خيَّر المرء الناس بأن يتبعوا من العادات ما يرونه أصلحها، لدرسوا جميع العادات، واستقر رأيهم أخيرًا على أن عاداتهم تفوق ما سواها من العادات الأخرى بمراحل. إذن فلا يُقدِم المرء على العبث بمثل هذه الأمور إلا إذا كان مجنونًا. وهناك كثير من البراهين على أن الشعوب تشعر بهذه الإحساسات، ومن هذه البراهين: بعد أن تبوأ داريوس عرش المملكة، استدعى إلى حضرته بعض الأغارقة الموجودين، وسألهم: «أي مبلغ من المال أستطيع أن أدفعه لكم حتى تأكلوا جثث آبائكم بعد موتهم؟» فأجابه الإغريق بأنه لا يوجد مبلغ من المال مهما عظُم يستطيع إغراءهم على مثل ذلك الشيء. ثم راسل داريوس يطلب أن يحضر إليه بعض الهنود من الجنس الكالاتياني وهم قوم يأكلون جثث آبائهم، وسألهم: «كم أدفع لكم لتُحرِقوا جثث آبائكم بعد موتهم؟» فصاح الهنود بصوت مرتفع طالبين منه أن يحسن لغته. هذه هي عادات الإنسان. وإن بندار Pindar لعلى حق عندما قال: «القانون ملك الجميع.»
١  المرض المعروف بهذا الاسم هو الصرع، كما يتضح من كتاب أبوقراط بعنوان «عن المرض المقدس» ولا يزال الإيطاليون يطلقون عليه اسم Maljcnedetto «أي المرض المقدس». ويُعتَبر هذا المرض من أصل مقدس بسبب نوباته المفاجئة وطبيعته المفزعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤